علم

الكتاب الرابع



الكتاب الرابع

الكتاب
الرابع

حياة
أغسطينوس من التاسعة عشرة حتى الثامنة والعشرين
.

إغواءه
الناس لاعتناق مذهب المانويين
.

انقياده
انقياداً جزئياً للزهو وحب الأثم
.

استشارته
للعرافين
.

فقده
صديقاً قديماً ورثاءه له
.

تأملات
في الأحزان والصداقة الحقة وغير الحقة وسعيه وراء الشهرة0

أقوال
عن (الحسن والمناسب) وهو كتاب ألفه القديس
.

قبوله
بعض التصورات الخاطئة عن الله
.

 

-1-

إغواء
الناس لاعتناق مذهب المانويين

 لقد
قضيت السنوات التسع التالية من عمري – ما بين التاسعة عشرة والثامنة والعشرين –
ضالا ومضلا، خادعاً ومخدوعاً في شهوات مختلفة كنا ندعوها علانية باسم (العلوم
الحرة)، وسراً ندعوها باسم ديني مزيف
.. لقد كنت في ذلك الوقت
متكبراً ومنساقاً وراء الخرافات، مفتخراً ومزهواً بنفسي في كل مكان ساعياً وراء
المديح العام عن طريق الفوز بجوائز الشعر والمناظرات لأحصل علي أكاليل الزهر
الخضراء، وحماقات المناظر الباطلة وفجور الشهوات
. ولما كنت
أريد أن أتطهر من هذه النجاسات فقد كنت أحمل الطعام لأولئك الذين كنا ندعوهم
(مختارين) و (قديسين) حتى إذا تناولوا تلك الأطعمة تحولت إلي ملائكة وآلهة قد
نتطهر بها، وهكذا اقتفيت أثر هذه البدعة ومارستها مع أصدقائي المخدوعين بواسطتي
والمخدوعين معي بها
.

 ليتك
كنت يا رب قد سمحت لأولئك المتكبرين أن يهزأوا بي ولكنهم لأجل فائدتهم لم يهزأوا!!
ليتك قد تركتهم يهزأون بي أنا المضروب و المذلول منك يا إلهي، فإنني مازلت اعترف
أمامك بفضيحتي، وأتوسل إليك، أن تحتملني وأن تهبني نعمة لأعبر عما بخاطري من
ضلالات ذلك الزمن الماضي وأقدم ذبيحة الشكر لك لأن نفسي بدونك لم تكن تحمل سوي
دليل سقوطها إنني الآن أمامك وبالجهد لست إلا طفلا يمتص اللبن الذي أعطيته إياه
ويقتات بك أيها الطعام الذي لا يفني
. إن أي رجل منا مهما كان
الجنس البشري الذي ينتسب إليه ليس إلا رجلا ضعيفاً يضحك منه الأقوياء والمقتدرون
وأما نحن المساكين فدعنا نعترف بإثمنا لك.

 

-2-

انقياده
انقياداً جزئياً للزهو وحب الأثم
.

 في
تلك السنين كنت أُعلم علم البيان، ولما كنت طماعاً فقد أقمت للثرثرة سوقاً عظيمة،
ومع ذلك فإنني كما تعلم يا رب فضلت الطلبة الأمناء – حسب ظني – وهؤلاء علمتهم
الخداع بدون قصد لا لكي يستعملوه في إهلاك البرئ وإنما لكي يستعملوه أحياناً في
إنقاذ المذنب
.
وأنت
يا الله قد لاحظت من بعيد كيف كنت أتعثر في تلك المسالك الزلقة فأرسلت إليَ أشعة
إيمانك – وسط دخان كثيف- لتهديني وخلصتني من محبة الزهو الكاذب
.

 لقد
كنت أعاشر في تلك السنين امرأة بلا زواج، وكانت تلك المرأة لا تميز في عشقها
الجامح بين إنسان وإنسان ومع ذلك فلم يبق وفياً لها سواي
. وبواسطة هذه
المرأة اختبرت الخلاف القائم بين الميثاق اللازم لإنجاب النسل وبين محبة الشهوة
حيث يولد الأطفال ضد إرادة والديهم مع أنهم يجبرون علي محبتهم عندما يولدون
.

 

-3-

استشارته
العرافين

 إنني
أتذكر كيف أنه في ذلك الوقت وعندما أردت أن أتقدم لكتابة قائمة إحدى الجوائز
التقليدية، أتذكر أنه جاءني أحد العرافين سائلاً إياي ماذا أعطيه لكي يرشدني إلي
ما أعمله لكي أربح تلك الجائزة
. ولما كنت أبغض ذلك العراف وأبغض كل
أسراره القبيحة فقد أجبته بأنه لو أمكن أن يتحول إكليل الزهر الذي يُمنح جائزة إلي
إكليل من الذهب الخالص فإنني لا أقبل أن أربحه عن طريق القتل حتى ولو كان ما يقتله
ليس إلا ذبابة واحدة، ذلك لأن عادته كانت أن يستعين بقتل بعض المخلوقات الحية
ليقدمها ذبائح للشياطين ليدعوها لمساعدتي
.

 لقد
رفضت هذا الشر العظيم، ولم يكن هذا الرفض خالصاً من أجل محبتك يا إله قلبي لأنني
لم أكن بعد قد عرفت كيف أحبك أنا الذي لم أكن أعرف كيف أتخيل إمكان وجود أي شئ خلف
مادة منيرة!! أفلا يمكن أن ترتكب الفسق مثل هذه النفس المتنهدة علي تلك الخرافات،
أو تعتقد في أمور باطلة وتتغذى بالهواء؟؟
.. إنني مازلت
إلي الآن أرفض أن تقدم عني ذبائح إلي الشياطين ومع ذلك فإنني قدمت نفسي ذبيحة لهم
باعتناقي تلك الخرافة لأنه ليس هناك ما هو أشر ممن يقتات بالهواء لكي يشبع الشياطين
بزيغانه ويصبح تسليتهم وهزئهم
.

 

-4-

 في
ذلك الوقت وبلا أدني تردد استشرت أولئك المحتالين الذين أطلق عليهم اسم علماء
الرياضيات، لأنهم حسب عقيدتهم – كما كان يظهر لنا – لا يقدمون ذبائح ولا يصلون إلي
أي روح
.
إن
هذه العقيدة كانت مشجوبة من كل المسيحيين، لأنها تتنافى مع كل صلاح حقيقي
. إنني أعترف
بأنني قد استشرت هؤلاء المحتالين لأنه من الخير لي أن أعترف بذلك قائلا ارحمني
واشف نفسي لأنني أخطأت إليك، من أن استهين برحمتك متذكراً كلمات الرب (ها أنت قد
برئت فلا تخطئ أيضاً لئلا يكون لك أشر)
.

 لقد
جري مذهب أولئك المحتالين علي الاجتهاد في هدم كل رأي سليم إذ أنهم يقولون (إن سبب
الإثم مقدر من السماء، وهو من عمل الزهرة {وهي آلهة الحب} وزحل {وهو إله الزمان}
والمريخ { وهو إله الحرب })، فأخذاً بهذا الرأي يكون الإنسان الفاسد المتعجرف،
والمخلوق من دم ولحم، بلا لوم، لأن اللوم يقع علي خالق السماء والنجوم
. ومن هو
الخالق إلا إلهنا، الذي هو العذوبة الحقة ومنبع الصلاح، الذي يعطي كل إنسان بحسب
أعماله، ولا يرفض القلب المنكسر والمنسحق؟؟

 

-5-

 في
تلك الأيام أيضاً قابلت رجلاً حكيماً وماهراً جداً في الطب، حتى ذاعت شهرته بين
الناس
.
ولم
يكن سبب هذه الشهرة هو طبه، بل كان سببها أنه كان حاكماً رومانياً
. لقد وضع هذا
الرجل بيده إكليل الكفاح فوق رأسي السقيمة بذلك المرض، الذي لا يستطيع شفاءه سواك
وحدك، يا من تقاوم المتكبرين، أما المتواضعون فتعطيهم نعمة0

فهل
استخدمت أنت هذا الرجل العجوز لإهلاكي، أم أنك امتنعت فقط عن شفاء نفسي؟؟

 لقد
لازمت هذا الرجل عندما عرفته، وكنت أواظب علي سماع أحاديثه الطلية، وعباراته
الواضحة القوية
.
لقد
استنتج من حديثي معه، إنني كنت مغرماً بكتب علماء الفلك، فنصحني بلطف وكأب أن أنبذ
هذه الكتب، وأن لا أقيم وزناً لهذه الأباطيل، وأن أعتني وأجتهد بما هو ضروري
ولازم، قائلاً لي إنه درس في صغره الطب ليتخذ منه مهنة يعيش منها، ظاناً إنه بدرسه
كتب” ابقراط ” يمكنه أن يفهم سريعاً علماً كهذا
. ومع ذلك
فإنه لم يلبث أن نبذها وتركها لا لسبب سوي أنه وجدها ملفقة تلفيقاً، وإنه كرجل لا
يود أن يكسب عيشه بإغواء الناس، حتى لقد قال لي: (إن لديك علم البيان ومن ورائه
تستطيع أن تكسب عيشك فعليك بتعليم هذا العلم المباح، وأعطني شهادة بأنني قد درسته
– أنا الذي قد تعبت في إجادة تحصيله – كي أربح من ورائه عيشي) ولما سألته كيف يمكن
لعلم البيان أن يوصلني إلي حقائق الأمور، أجابني علي قدر استطاعته قائلاً (أن قوة
الصدفة الكائنة في نظام الكون، كفيلة لأن توصلك إلي الحقائق، وذلك إنك عندما تقلب
صفحات ديوان أحد الشعراء الذين نظموا الشعر، وفكروا في أشياء تخالف ما تفكر فيه،
فإنك كثيراً ما تجد بيتاً من الشعر يطابق تمام المطابقة وبنوع عجيب لما يجول في
فكرك، ويدور في ذهنك، وهذا لا يمكن أن يكون مجرد صدفة تثير عجبك! أما الإنسان الذي
لا يدرك من روحه ما يحل محل الصدفة، فكثيراً ما ترشده غريزته الطبيعية إلي الإجابة
الواضحة، ويكون هذا عن طريق الصدفة لا بمهارة السائل في حرفته أو عمله)
.

 

-6-

 وهكذا
يا رب أعطيتني عن طريق هذا الرجل، ما أفحصه في ذاكرتي فيما بعد
. ومع ذلك فإن
هذا الرجل لم يستطع هو و نبرودس { أحد أصدقاء القديس أغسطينوس وكان محبوباً لديه
جداً، كما كان صالحاً صلاحاً كبيراً وله مهابة ووقار وكان يحتقر جماعة العرافين }
أن يستميلاني إلي أن أطرح جانباً نفوذ الفلكيين، الذي كان سائداً، ومع إنني حتى
الآن لم أجد أي برهان حقيقي لما كنت أظن أن الشك لا يمكن أن يتطرق إليه
. حقاً إن ما
أنبأني به هذان الرجلان المعتبران كان نتيجة الصدفة وليس من فن مراقبي النجوم
.

 

-7-

حزنه
لموت أحد أصدقائه

 في
تلك الأيام عندما بدأت في تعليم علي البيان في وطني اتخذت لي صديقاً، وكان هذا
الصديق دون جميع الأصدقاء عزيزاً جداً عندي، وكان في مثل سني في بداءة مطلع الصبا
. لقد نشأنا
معاً أطفالاً، كما كبرنا نحن الاثنان معاً وتزاملنا في الدرس و اللعب
.

 ولكن
صداقة اليوم لم تكن كصداقة الأمس غير مؤكدة، لأن الصداقة لا يمكن أن تكون قوية ما
لم تأتلف بصديقك وتلتصق به بتلك المحبة التي يسكبها الروح القدس المعطَي لنا
. ولقد نشأت
تلك الصداقة مجرد صحبة رقيقة، ثم زاد من حرارتها تلك الدراسات، التي كانت من نوع
واحد وكنا ندرسها معاً ولم يلبث أن أرتد عن الإيمان الصحيح – لأنه إذ كان شاباً
فإنه لم يدرس حقائق الإيمان جيداً وتماماً – إلي بدعة أولئك المحتالين بسبب إغرائي
له بها، الأمر الذي تأسفت من أجله أمي
.

 لقد
ضل هذا الشاب في الطريق الذي ضللت فيه، وارتبطت نفسي به ارتباطاً قوياً، ولكنك يا
رب يا من لا تتخلى عن أبنائك الذين يبتعدون عنك، أنت يا إله النعمة ونبع المراحم،
رددته إليك بوسائلك المحيية، أنت أخذته من هذه الحياة عندما أتم سنة كاملة معي في
صداقة نادرة، حتى كانت حلاوته عندي أحلي من كل حلاوة ذقتها في حياتي
.

 

-8-

 من
يقدر أن يحصي كل الأعمال التي يختبرها الإنسان في نفسه ويسبحك من أجلها؟ ماذا فعلت
معي يا إلهي في ذلك الوقت؟ حقاً ما أبعد آراءك عن الفحص وحكمتك عن الاستقصاء، لقد
تركت صديقي نائماً فوق فراش المرض بلا حراك، بين الحياة والموت، وقد جعلته الحمي
في غيبوبة طويلة، فلما يئسوا من شفائه عمدوه دون أن يدري
. أما أنا فلم
أهتم بمعموديته، معتقداً أن نفسه ستُحفظ سالمة بفضل ما تعلمه مني لا بما ناله وهو
في غيبوبته، ولكن الذي حدث كان علي عكس ذلك تماماً، فإنه عندما تقوي وابتعدت عنه
الحمي وأصبحت قادراً علي أن أتكلم معه بعد أن استطاع أن يتكلم، لأني لم أفارقه
مطلقاً أثناء مرضه، في ذلك الوقت أردت أن أمزح معه ظاناً أنه هو أيضاً يريد أن
يمزح معي بتلك المعمودية التي حصل عليها عندما كان لا يعي شيئاً، ولكنه إذ كان قد
عرف أنه قد تعمد احتقرني كأنني عدوه، وطلب مني بصراحة عجيبة وغير متوقعة، بأنني
إذا أردت أن أحافظ علي صداقته، فيجب علي ألا أتكلم بهذه اللغة معه
. ولما كنت في
غاية الدهشة والعجب، كظمت ما بنفسي حتى يشفي تماماً ويكون في صحة تامة تمكنني من
أن أعاتبه كما أريد
.

 ولكنك
يا رب أبعدته عن هذياني، وأخذته لتحفظه معك لأجل راحته، إذ بعد أيام قليلة عندما
كنت غائباً بعيداً عنه، عاودته الحمي ثانية ومات0

 

-9-

 لقد
نزلت علي نفسي تلك المصيبة نزول الصاعقة، فأنقبض لها قلبي انقباضاً شديداً، فما
كنت أبصر أمامي سوي ظلام الموت، لقد صارت مدينتي لي ألماً وصار بيت أبي لي غماً
وهماً، وأصبح كل شئ كنا قد اشتركنا فيه معاً عذاباً أليماً
. لقد فتشت
عنه في كل مكان ولكني لم أره، ولم تستطع عيناي أن ترشداني إلي أنه قادم كما كان
يحدث في غيابه عندما كان حياً
.

 لقد
أصبحت لي نفسي لغزاً معقداً، وسألتها (لماذا هي هكذا حزينة ولماذا تئن في)؟ ولكنها
لم تكن تعلي بماذا يجيب، وعندما كنت أقول لها (ترجي إلهك) كانت لا تطيعني، وكانت
علي حق، لأن ذلك الصديق العزيز جداً كان رجلاً مخلصاُ ن وكان من ذلك الطيف الذي
زادت نفسي في الاعتقاد به
.. إن الدموع وحدها هي التي استعذبتها
فكانت حلوة لي، لأنها حلت محل صديقي في أثمن عواطفي
.

 

-10-

 والآن
يا رب، وقد اجتزت هذه الأمور، وقد سَكَن الزمن جراح قلبي المصدوع
. أفيمكن أن
أتعلم منك أيها الحق؟ أيمكنني أن أقرب أذني فؤادي نحو فمك، لعلك تخبرني لماذا يحلو
البكاء للحزين؟ وهل أنت أيها الموجود في كل مكان رميتني في تعاستي وحزني بعيداً
عنك؟
.. أنت وحدك
الدائم في نفسك، أما نحن فتتقاذفنا مصائب كثيرة، وإن لم نبك في أذنيك فلن يكون لنا
رجاء.

 إن
الثمار الحلوة لا تُجمع إلا من شجرة الحياة المرة، ومن الأنين ومن الدموع ومن
التنهدات ومن الشكايات! فإذا كان لنا رجاء في أنك تستجيب لنا، فإن هذا يجعل الحياة
حلوة في أنظارنا. وهذا لا يأتي إلا من الصلاة إليك، التي توجد فينا الشوق للاقتراب
منك، ولكن أيوجد هذا الشوق عندما نفقد أحداً؟ أكان هذا الشوق موجوداً في الحزن
الذي كنت مغموراً فيه في ذلك الوقت، الذي لم أكن أتوقع فيه عودة صديقي ثانية إلي
الحياة ولم أبك من أجل عودته إليها؟! إنني بكيت وحزنت لأنني كنت تعيساً وفقدت كل
سبب للفرح، فهل يكون البكاء حقاً أمراً محزناً، وهل نبكي من أجل محبة الأشياء التي
كنا نُسر بها قبلاً، وهل عندما نشمئز منها نُسر في ذلك الوقت؟!

 

-11-

 بماذا
أجيب عن كل هذا؟ لأن هذا وقت الاعتراف وليس وقت السؤال!! لقد كنت تعساً وكانت نفسي
كذلك تعسة لأنها كانت مرتبطة بحب أشياء فانية، فلما فقدتها شعرت بالبؤس الذي كانت
فيه قبل أن تفقدها
.

 هكذا
كان الأمر معي لذلك بكيت مر البكاء، ووجدت الراحة في الحزن فشقيت ن لقد اعتبرت هذه
الحياة التعسة أغلي من صديقي، لذلك فإنه رغم أنني كنت أود أن أغيرها عن طيب خاطر،
فإنني لم أود أن أتركها، وكنت أفضل البقاء فيها علي أن أكون حيث هو
. وفي الحقيقة
إنني لا أدري هل كنت أود أن أترك الحياة لأجله كما قيل – إن كان ذلك صدقاً –
” بيلادوس ” و ” أورستس ” اللذين كانا يودان بكل سرور أن
يموتا لأجل بعضهما ومع بعضهما، لأنهما كانا يعتقدان أن حياة أحدهما بدون الآخر
أسوأ من الموت
.
ولكن
شعوراً خفياً اشرق في قلبي متعارضاً مع هذا العمل حتى إنني بالرغم من كراهيتي
للحياة فقد خشيت الموت وكرهته كعدو قاس جداً أبعدني عن صديقي، الذي أحببته كثيراً
وتصورت أنه سيقضى علي جميع الناس سريعاً ما دام قد قضي علي صديقي
.. هكذا كانت
حالتي
.

 هوذا
قلبي يا إلهي، أنظر إليه وافحصني، لأنني أتذكر ذلك جيداً يا رجائي، يا من تطهرني
عندما أتطلع إليك بكلتا عيني من دنس هذه العواطف، أخرج من الشرك قدمي لأنني ضللت
عندما وجدت أناساً كثيرين كانوا علي شفا الموت ونجوا، ومات صديقي الذي كنت أحبه
وكنت أتمني ألا يموت أبداً
.

 إنني
أتعجب من نفسي كيف تمكنت أن أعيش بعد موت صديقي الذي كنت له أشبه بظله، لقد قال لي
أحد أصدقائنا (أنت نصف روحه)، لأنني كنت أشعر أن نفسينا كانتا (روحاً واحداً في
جسدين)، لذلك فإن حياتي بعده كانت مروعة لي، لأنني لم أكن أود أن أعيش مشطوراً، كما
أنني خفت أن أموت، لئلا يموت كل الذي أحببته!!

 

-12-

 آه
من غباء الإنسان الذي لا يعرف كيف يحب أصدقاءه كما يحب بقية الناس بعضهم البعض!!
كم كنت غبياً في ذلك الوقت، وكم كنت أكابد من أحزاني وآلامي!! لقد اضطربت وتنهدت
وبكيت، لقد كنت مضطرباً وحائراً دون أن أعثر علي شاطئ أرسو عليه، وكانت نفسي
منزعجة ومنتفخة ودامية، فلم تستطع أن تنال الراحة
.. إن الغابات
الهادئة لم يكن فيها ما يطمئنني، والموسيقي العذبة لم يكن فيها ما يشجيني، كذلك لم
يكن في جمال البساتين ما يسرني، ولم يكن في بهجة الحفلات ما يطربني
. أما الكتب
والأشعار فكنت لا أجد فيها عزاء، والانغماس في إرضاء الشهوات لم يكن لي فيه متعة
أو لذة
.

 إن
كل شئ – حتى منظر الضوء – كان يبدو أمامي مشابهاً لمنظر الموت، وكل ما كنت أراه
كان يظهر علي غير حقيقته، أما نفسي فكانت تكره كل شئ ما عدا الدموع والأنين
والتأوهات فهي وحدها التي كنت أجد فيها بعض الراحة والعزاء، حتى إذا ما تخليت عنها
شعرت بأني أنوء تحت ثقل جميع بلايا العالم وأرزائه، وإن هذه البلايا والأرزاء تغوص
بي إلي أعماق الهاوية
.

 

 إنني
لو تطلعت يا رب إليك، لوجدت الفرح بقربك، لقد أدركت هذا، ولكن نفسي لم ترغب في أن
تذهب إليك، فلما فكرت فيك لم يكن لهذا التفكير صدي في نفسي، لأنها لم تعرفك علي
حقيقتك، بل كنت عندها مجرد خيال عابر
.. لقد ضللت لعدم معرفتك،
ولهذا فشلت عندما حاولت أن أزيح عن عاتقي ثقل أحزاني، وكان الثقل ينزلق متسللاً
إلي أسفل مطبقاً علي قلبي! فيزيد ألمي وتعبي.

 آواه
من تلك الأحزان
.. لقد صارت
رقعة سوداء أمامي! لا أستطيع أن أجد لنفسي منها مهرباً
.. لأني لا
أستطيع أن أهرب من قلبي ونفسي
..!! ومع ذلك فقد هربت إلي خارج وطني.. إلي قرطجنة
حيث لم تكن عيناي قد اعتادتا أن تنظراه، فكان سعيهما إلي التفتيش عنه أقل من
سعيهما للتفتيش عنه في وطني” ثاجستا.

 

-13-

 إن
الأزمنة لا يمكن أن ينقص منها زمان، كما لا يمكن أن يطوي باطلاً أي زمن من
الأزمنة، وليس هناك ما يفعل بأفكارنا أو يؤثر تأثيراً عجيباً في احساساتنا خير من
الزمان
.. إن زمن
الأحزان أخذ يمر يوماً فيوماً، وبمروره بدأ زمان جديد يحل محله، وبدأت ترتسم في
عقلي تصورات أخري وخواطر أخري، وهكذا أخذت أعود شيئاً فشيئاً إلي حياتي القديمة
وأفراحي القديمة، وانفثأت أحزاني فلم أسر وراء أحزان أخري، وإن كنت قد سرت وراء
بواعث الأحزان
.

 إن
الحزن القديم قد وصل إلي أعماقي، حتى سكبت نفسي في التراب محبة في ذلك الإنسان
الذي كان لابد أن يموت، ومع ذلك فإني حزنت عليه كأنه لا يموت أبداً
. لقد أبرأني
من حزني القديم علي أصدقاء آخرون، فأحببت معهم ما أحببت دون أن نحبك يا إلهي، لأن
نفوسنا كانت مدنسة بخرافة عظيمة و أكذوبة شائعة، وهي أن ندع المذاهب وراء ظهورنا،
وأن نكتفي بعمل الخير
.. فكنا ندنس أنفسنا بالفسق الذي كانت آذاننا
تشتاق إلي التلذذ بالتحدث عنه، وكنا نداعب بعضنا بعضاً، ونقرأ معاً كتباً كلها
ملق، كما كنا نمزح مع بعضنا، ونغار علي بعضنا، فتارة نفترق وطوراً نجتمع، فإذا
افترق أحد عنا اشتاقت إليه نفوسنا، وإذا عاد إلينا رحبنا بعودته لنا
.

 

-14-

 هذا
ما منا نحبه نحن الأصدقاء، ولهذا كانت ضمائرنا مستريحة، ما دمنا نحب من يحبنا، ولا
نحب من يبغضنا، غير مهتمين بهذا الشيء أو ذاك، بل كنا مهتمين بما يربطنا من روابط
الألفة والمحبة، فإذا مات أحدنا انغمست قلوبنا في الأحزان، وغرقنا في النواح
والكدر، وتحول كل ما كان عذباً إلي مرار، فيعيش الحي ميتاً بعد فقد الذي كان حياً
.

 ولكن
طوبى لمن يحبك يا إلهي، ويجعلك وحدك صديقه فيعادي من يعاديك، ويحب من يحبك، فمثل
هذا الإنسان لا يموت لديه أبداً عزيز، لأن من يحبهم إنما يحبهم فيك، أنت الذي لا
تموت
.. أنت وحدك
إلهنا!!! أنت وحدك الإله الذي يملأ السماء والأرض، ومادمت تملأهما فأنت هو
خالقهما، وأنت وحدك الذي لا يخسرك إلا من يبتعد عنك، ولكن إلي أين يذهب وإلي أين
يهرب؟ هل يمكن أن يُسر بالبعد عنك؟ أو يحزن بالقرب منك؟!! أنت وحدك هو الحق
وناموسك هو حق
.

 

-15-

كتابات
عن الحَسن والمناسب

 أيها
الرب إله الجنود تطلع إلينا، وأرنا وجهك فنحيا0 إن نفوسنا ستظل قلقة ما دامت
منحرفة عنك، كما ستظل مثقلة بالأحزان ما بقي تعلقها بحب الكائنات الجميلة ومع ذلك
فإن هذه الكائنات هي منك لأنها لا تقدر أن تكون ما لم تكن آتيه منك
. إن هذه
الكائنات الجميلة تظهر و تتكاثر ولكنها لا تلبث أن تزول، إنها تنمو ويستمر نموها
حتى يبلغ حد الكمال، ولكنها لا تلبث أن تفني، إنها جميعاً لا تبلغ مرتبة الشيخوخة،
ولكنها جميعاً لابد أن تموت
. إن كل كائن منها يرغب في أن يكون جميلاً،
بل يرغب في أن يصل إلي أعلي مراتب الجمال بسرعة حسب الناموس الذي أعطيته
، ومع ذلك
فإن جميع أجزائه لا تظهر دفعة واحدة، ولابد أن يزول جزء قبل أن يظهر جزء آخر، ومن
تعاقب أجزاء بعض الكائنات وزوال غيرها يتم تكوين عالمنا هذا، مثل ذلك مثل الكلام
الذي ننطق به فإنه لا يظهر إلا عندما ننطق به علانية، ومع ذلك فإنه لا يتم إلا
عندما ننطق بآخر كلمة لئلا يكون هناك كلام بعدها
.

 دع
نفسي تسبحك من أجل هذه الكائنات يا خالق الكل، ولكن لا تدعها متعلقة بحبها، لأنها
إذا تعلقت بحبها فإن هذا الحب سيفسدها ولا يجعلها تستريح إلا من دوام وجودها، وهي
لن تدوم لأنها لابد أن تمضي إلي حيث يجب أن تكون في المكان الذي حددته لانطلاقها
لأنها بكلمتك أبدعت وبكلمتك تسمع الحكم عليها بأن تمضي إلي نهايتها المحتومة (من
هنا إلي هنا)
.

 

-16-

 آه
يا نفسي كوني عاقلة ولا تدعي غوغاء الحماقة تغلق أذني قلبك، فإن الكلمة يناديك أن
ترجعي إليه حيث ركن الراحة الركين
..

 إن
جميع الكائنات تزول وتخلفها كائنات أخري تحل محلها ليكتمل نظام هذا الكون، ولكن
إلي أين تنطلقين يا نفسي؟ إن كلمة الله يقول لك: (هناك يثبت مسكنك
. ثقي يا نفسي
بكل ما هناك، إنك ألان تنوئين بالأباطيل فثقي بالحق، وثقي بأنك لن تفقدي شيئاً
هناك، لأن كل ما هناك هو من الحق
. هناك سوف تزدهر شيخوختك،وتشفي كل أمراضك،
وتتجدد كل أطرافك الميتة فتحيين وتبقين إلي الأبد أمام الله الذي يدوم ويثبت إلي
الأبد).

 

-17-

 لماذا
تضلين يا نفسي وتتبعين أهواء الجسد؟ توبي وأتبعي ربك فإنه يعلم كل ما تعملين،وإن
ما تعملينه ليس إلا جزءاً مما يعلمه هو ومع ذلك فإنك تبتهجين بما تعملين0

 أن
الله يعاقب الإنسان بعل عندما يحرمه من بعض ما يريده، لأن كل ما هو موجود في
العالم مصيره إلي الزوال ولن يتبقى إلا الكل، الذي به يكون فرح الإنسان فرحاً
حقيقياً
.
لأن
الإنسان إذا استمع إلي كلمة من الكلمات فإنه لا يدرك المقصود بها، إذا كان هناك
نقص في مقاطع هجائها، فهو لذلك لا يود سماعها إلا وقد اكتملت مقاطعها، وهكذا شأن
الإنسان بالنسبة لما في العالم من كائنات، فإنه لا يسر إلا بوجودها معاً، وسروره
بوجودها معاً يكون أكثر من سروره بواحد منها، أو سروره إذا نقص شئ منها
.. إن الله هو
خالق جميع الكائنات وهو أفضل من هذه الكائنات، إنها تزول لتحل محلها كائنات أخري،
أما هو فإنه لا يزول ولا يوجد من يستطيع أن يحل محله
.

 

-18-

 إذا
كان هناك بين الكائنات ما يسرك، فسبح الله من أجله وأرجع محبتك له لأنه هو الذب خلقه،
وإلا انقلب سرورك حزناً إذا فقدته
.

 إذا
كانت هنالك روح تسرك فأحببها باعتبارها جزءاً من روح الله، لأن أرواح الكائنات
متقلبة ولا ثبات لها إلا في روح الله، وبدونه يكون مصيرها إلي الفناء
. فلتحب ما
تحب في الله ولتحمل إليه معك ما تقدر أن تحمله من الأرواح ولتقل لها فلتحبي الله،
فلتحبي الله ن إنه هو خالق كل شئ، إنه ليس بعيداً عنا، إنه لم يمت بعد أن خلق ما
خلق ولكنه لا يزال باقياً، وكل شئ منه وفيه يظل باقياً أيضاً
. انظري فإن
الله موجود في كل مكان يحب فيه الحق، إنه داخل القلب ومع ذلك فهل يزوغ القلب عنه؟
ارجعوا إلي قلوبكم أيها الخطاة وتمسكوا بثبات في الله الذي خلقكم. قفوا معه
فتثبتوا، اسكنوا معه فتكونوا في سلام
. إلي أي سبل وعرة تمضون؟
وإلي أين تذهبون؟ إن الحسن الذي تحبونه هو من الله وهو الحسن والسرور وإذا ابتعدتم
عنه وأحببتم غيره، فإن الحسن الذي تحبونه يكون ممزوجاً بالمرارة، لأنه ليس من
العدل أن نحب شيئاً ونرفض الله بسبب محبتنا لهذا الشيء
. إلي متي
تودون أن تسيروا في تلك المفاوز المتعبة التي مازلتم تسيرون فيها، إن الراحة لا
توجد في أي مكان تبحثون عنه في تلك المفاوز
. فتشوا
وابحثوا عما تريدون، ولكن أعلموا أنه لا توجد راحة حيث تفتشون وتبحثون، لأنه لا
توجد حياة سعيدة في أرض الموت، إن الحياة السعيدة لا توجد هناك، إذ كيف يمكن أن
توجد الحياة السعيدة حيث لا يمكن أن توجد الحياة ذاتها؟!

 

-19-

 إن
الله الكلمة – حياتنا الحقيقية – نزل إلي الأرض وأنزعج ملاك الموت وزلزل سلطانه
بقوة حياته، لقد نادي بصوت عال كالرعد، لقد نادانا بأن نرجع من أرض الموت، إلي ذلك
المكان الخفي الذي أتي منه متجسداً في الحشاء البتولى، خاطباً إليه الخليقة
البشرية – التي هي جسدنا المائت – حتى لا نموت إلي الأبد
. إنه كالعريس
الخارج من خدره وكجبار راكض في طريقه غير متردد بل اندفع منادياً بصوت عال، بكلام
وأعمال، بموت وحياة، بنزول وصعود، آمراً إيانا بأن نعود إليه ثم غاب عن أعيننا
لعلنا نرجع إلي قلوبنا، وهناك نجده وإن كان قد مضي
. لأنه لم يرد
أن يمكث معنا علي الأرض طويلاً، ومع ذلك فإنه لم يتركنا، لأنه ذهب إلي ذلك المكان
الذي لم يفارقه مطلقاً مع كونه كان علي الأرض، لأن العالم به كون وهو كان في
العالم، وقد أتي إلي هذا العالم ليخلص الخطاة، وله تعترف نفسي وهو يبرئها، لأنها
أخطأت إليه
.

 آه
يا بني البشر، حتى متى تثقل قلوبكم؟ وحتى بعد نزول الحياة إليكم لا تنهضون وتحيون؟
إلي أين تصعدون عندما تتشامخون وترفعون أنوفكم نحو السماء؟ تواضعوا لعلكم ترتفعون
وتصعدون إلي الله، لأنكم لم تسقطوا إلا لأنكم تشامختم0 فليصغ المتشامخون إلي هذا،
لعلهم يبكون في وادي الدموع فيرتفعون إلي الله، لأني إذ أتكلم معهم فإني أتكلم
بروح الله متقداً بنار المحبة
.

 

-20-

 في
ذلك الوقت لم أكن قد أدركت هذه الأشياء، فأحببت الكائنات الجميلة الأرضية، فهبطت
إلي قرار الأعماق قائلاً لأصدقائي: لا نحب شيئاً سوي الجميل، فمن هو الجميل وما هو
الجمال؟ وما هي الأشياء التي تغوينا و تستميلنا إلي الكائنات التي نحبها؟ لأنه إن
لم يكن في الكائنات التي نحبها حسن وجمال، فإنها لا تقدر أن أبداً أن تجذبنا إليها
.

 لقد
فطنت ولاحظت أنه يوجد جمال في أجساد الكائنات، لأنها مكونة من طبقة من الكل،
ولأنها تكون طبقة أخري من الأشياء المتفقة والمتشابهة و المتبادلة معها مثلما
يتطابق أحد أعضاء الجسد مع الجسد كله، أو مثلما يتطابق حذاء مع قدم أو ما شابه ذلك
.. لقد نبت
هذا التأمل في عقلي، نابعاً من أعماق قلبي، وأتذكر إنني كتبت كتابين أو ثلاثة عن
(الحسن و المناسب)، وأنت تعلم يا رب أن هذه الكتابات قد فُقدت مني لأنها لا توجد
عندي ولا أعلم كيف فُقدت
.

 

-21-

 ولكن
ما دفعني أيها الرب إلهي أن أهدي هذه الكتب ل “هيريوس ” وهو أحد خطباء
روما الذي أحببته دون أن أقابله بسبب ما أشتهر به من علم؟ لقد سمعت بعض كلماته
فأعجبتني0 لقد أبهجني كثيراً ما سمعته عنه كما أبهج آخرين سواي فمجدوه كثيراً،
وأدهشوا لأنه وهو سوري الجنس قد تملك أعنة البلاغة اليونانية، ثم أصبح فيما بعد
خطيباً لاتينياً لا يشق له غبار، كما أصبح أكبر عالم في العلوم و الفلسفة، حتى
مدحه الجميع، مع أن أكثر من مدحوه وأحبوه لم يشاهدوه
.

 ولكن
أيمكن أن تدخل المحبة في قلب السامع من فم المادح؟ إن الأمر ليس كذلك إذ أن المحبة
تدخل بواسطة أحد المحبين الذي يضرم الآخرين بمحبته، ولذلك يُحب الممدوح بتمجيد
المادح المخلص عندما يمدح من أحبه
.

 

-22-

 في
ذلك الوقت أحببت أولئك الناس الممدوحين من البشر، وليس الممدوحين منك يا إلهي، يا
من لا ينخدع فيك إنسان، ومع ذلك لم أحب أولئك الناس بسبب ما تميزوا به من الصفات
العامة التي أحبهم الناس من أجلها في كل جهة وكل جانب، مثل ما يحبون الحوذي
المشهور أو مصارع الوحوش في الملعب إذ أن الأمر عكس ذلك إلي حد بعيد، فإنني وإن
اشتقت أن أمدح فإنني لم أرغب في مديح مثل ذلك المديح الذي يكال للممثلين الذين وإن
كنت قد أحببتهم ومدحتهم، فإنني كنت أود أن أكون مغموراً من أن أشتهر كما اشتهروا،
وكنت أود أن أكون منبوذاً من أن أكون محبوباً مثل حبهم0

 وإذا
كان الأمر كذلك فما هي الأسباب التي تحرك أنواع الحب المختلفة في النفس الواحدة،
وإذا كنا جميعاً بشراً متساوين، وإذا كنت لا أبغض أحداً، فلماذا أحب صفة في شخص
آخر لا أود أن يكون لي مثلها؟؟ إن هذا الأمر لا يُحتمل!! لأنه إذا كان كل جواد يود
أن يكون مثل ذلك الجواد الأصيل المحبوب من الجميع فهل أكون أنا وحدي الإنسان الذي
يحب في إنسان صفات يكره أن تكون له
.حقاً إن الطبيعة البشرية لغز يعسر حله؟
ولا يستطيع أحد أن يسبر أغوارها سواك ن يا من تحصي شعورنا فلا تسقط واحدة منها علي
الأرض إلا بإذنك، ومع ذلك فإنه قد يسهل علينا أن نحصي شعور رؤوسنا، دون أن نستطيع
إحصاء احساساتنا وضربات قلوبنا
.

 

-23-

 ولكن
ذلك الخطيب الذي أحببته، كان من النوع الذي كنت أنا نفسي مشتاقاً لأن أكون مثله،
حتى لقد ضللت في إعجابي العظيم به، وتقاذفتني الرياح من كل جانب، ولكنك أنت يا رب
كنت في الخفاء جداً تدبر أموري
.

 من
أين أعرف، وكيف أعترف لك بأنني أحببت ذلك الخطيب بسبب حب مادحيه له، أكثر من حبي
له، بسبب الصفات التي مدحوه من أجلها، فلما ذمه مادحوه أنفسهم وأخبروني عن سبب ذمه
وازدرائه، فترت محبتي له وصرت غير متأثر به، ومع أن السباب التي ذموه من أجلها لم
تكن جديدة عليه، كما أنه لم يصبح شخصاً آخر، ولكن الذي تغير هو شعور المتحدثين عنه
.

 تطلع
يا رب وأنظر إلي نفسي الضعيفة، لأنها حتى الآن لم تتدعم بعدالة الحق، بل هي مثل
تلك الثورة التي تقوم في صدر الحقود فيندفع لسانه في هذا الاتجاه أو ذاك، نافثاً
سموم حقده تارة بسرعة وطوراً ببطء، قالباً النور ظلاماً حاجباً الحق عن العيان0

 لقد
كنت مهتماً اهتماماً كبيراً بأن يعرف ذلك الرجل مقالتي ومقدار ما عانيت في
تسطيرها، وكنت مضطرباً جداً، لمعرفة ما يستحسنه خاشياً أن يستقبح عملي فيجرح قلبي
الخالي من حكمتك0 ومع ذلك فإني تمعنت وعاينت كتابي الذي كتبته إليه (الحسن
والمناسب) الذي لم يعن إنسان بالالتفات إليه حينذاك
.

 

-24-

قبوله
تصورات خاطئة عن الله

 ومع
هذا فإنني لم أتحول بسبب ذلك الأمر الخطر إلي حكمتك، أنت أيها القادر علي كل شئ،
وصانع العجائب وحدك
. لقد طافت بعقلي صور جسدية، وأدركت السر فيما هو
(حسن) و (مناسب) اللذين لا يكون لهما جمال إلا في مطابقة الشيء للشيء الآخر
.

ولقد
دعمت هذا الرأي بأمثلة جسدية، وكنت منقاداً في هذا بعقلي، ولكن الشعور الكاذب عن
الأشياء الروحية الذي كان مسيطراً علي لم يدعني أري الحق، ولكن قوة الحق ذاتها قد
بهرت عيني وأبعدت من نفسي التفكير في الأجسام غير المادية إلي المناظر والألوان
والأشياء كثيرة الأهمية
. ولكوني كنت عاجزاً عن إدراك هذا بعقلي،
ظننت إني لا أقدر أن أدرك كنه عقلي
. لقد أحببت في الفضيلة السلام، وكرهت في
الشر الخصام، لأني لاحظت في الأول اتفاقاً، ووجدت في الثاني انشقاقاً
. وفي ذلك
الاتفاق أدركت النفس العاقلة، وطبية الحق، وطبيعة الخير الرئيسي الذي يجب أن أتحصل
عليه، كما أدركت وجود الطبيعة الأولي للشر، التي لا يمكن أن تكون مادة، بل هي
أيضاً حياة حقيقية، وقد أدركت أن هذه الحياة لم تؤخذ منك يا إلهي، يا من أُخذت منك
كل الأشياء لقد دعوت طبيعة الخير (موناد) { ومعناها جزء لا يتجزأ} و اعتبرتها
روحاً بلا جسد، ودعوت طبيعة الشر (دوؤاد) { وهو الذي يرتكب أعمال العنف والقباحة
بغضب } غير عالم بحقيقة ما كنت أتكلم عنه، لأنني لم أكن أعلم أو أعرف أن الشر هو
مادة، ولا أن نفوسنا هي في ذلك الحسن الرئيسي الثابت
.

 

-25-

 إن
أعمال العنف لا تظهر إلا عندما تفسد النفس وتضطرب، وحينئذ تنشب معركة شديدة تهيج
النفس بعتو وعناد، كذلك تثور الشهوات عندما يختل توازن هوي النفس، فتجد الملذات
الجسدية ما يغذيها ويقويها
.

 إن
الضلالات والآراء الفاسدة تفسد النفس العاقلة، كما أفسدت نفسي في ذلك الوقت، إلي
أن أدركت إنني في حاجة لأن أضيئها بنور آخر، لعلها تكون مشاركة للحق، وأنت أيها
الرب أضأت سراجي وأنرت ظلمتى، لأن من امتلائك نحن جميعاً أخذنا، لأنك أنت هو النور
الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان آتياً إلي العالم، ولا يوجد فيك تغيير أو ظل دوران
.

 

-26-

 لقد
سعيت إليك مدفوعاً بك لعلي أعرف طريق الموت فأتجنبه0 إنك يا رب تقاوم المتكبر، فهل
كان هناك من هو أكثر تكبراً مني أنا الذي أردت – بنزق مكروه – أن أجعل نفسي علي
طبيعتك ومثالك
.

 لقد
كنت أرغب بشدة في أن أكون حكيماً، واشتقت لأن أصير في حالة أفضل من حالة الشر التي
كنت فيها، لذلك كنت مضطراً لأن أغير طبيعتي فاخترت أن أتصورك معرضاً للتغيير، من
أن أتصور نفسي علي غير طبيعتك
. أما أنت فقد قاومتني وقاومت قساوة نفسي
الباطلة، لقد تصورتك نفسي في صور وأشكال مادية، ولم أرجع إليك، بل صرت مثل ريح
عابرة، وسبح تفكيري في أشكال ليس لها ظل منك أو من الناس، ولم تخلقها لفائدتي،
وإنما اخترعتها في صور وأشكال مادية
.

 لقد
اعتدت أن أسأل – بغباوة – أولئك المؤمنين الذين كانوا يقيمون في بلدتي والذين لم
أكن أعرفهم، لقد اعتدت أن أسألهم أسئلة كثيرة تافهة، مثل (لماذا تخطئ النفس التي
خلقها الله؟) وذلك لأني لم أجرؤ أن أسأل (لماذا إذن أخطأ الله؟)0 وبهذه الأسئلة
أكدت أن جوهرك غير المتغير قد أخطأ في إكراهنا علي عمل الشر0 وهكذا كنت أفضل هذه
الأسئلة علي أن أعترف بتقلب طبيعتي الضالة، وإنك لأجل تأديبي قد أسلمتني إلي
الضلال
.

 

-27-

 لقد
كنت في سن السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين تقريباً عندما كتبت تلك المجلدات،
وقد ترددت في داخلي ورنت في أذني قلبي تخيلات جسدية، ولكني لم ألبث أن رجعت عنها
إلي نعمتك الباطنة يا أيها الحق العذب0

 لقد
تأملت في (الحسن والمناسب) استطعت أن أقف وأستمع إليك وأبتهج بصوت العريس، ولكنني
لم أقدر أن أدخل العرس، لأن نغمات ضلالاتي أسرعت وألقت بي خارجاً، فهبطت سريعاً
إلي أعماق الهاوية بتأثير ثقل كبريائي، إنك لم تدعني أسمع فرحا وسروراً، ولم تبهج
عظامي لأنها لم تتواضع إلي الآن
.

 

-28-

 في
الثامنة والعشرين من أيامي القليلة، وقع في يدي كتاب لأرسطوطاليس يدعي (الأحوال
العشرة) فتعلقت نفسي بذلك الكتاب، كما لو كان شيئاً نفيساً سامياً
. إن أستاذي
في علم البيان في قرطجنة قد نبذ هو وعلماء آخرون – بعجرفة وكبرياء – هذا الكتاب
. أما أنا فقد
قرأته وفهمته، دون أن أستعين بأحد، ولما تفاوضت مع آخرين فيه قالوا إنهم لم يشرحوه
شرحاً لفظياً فقط، ولكنهم شرحوه مستعينين في شرحه برسومات علي الرمال، ولهذا كان
في مقدورهم أن يفهموني ما لم أستطع أن أفهمه بمفردي
.

 لقد
كان هذا الكتاب، كما بدا لي، يتكلم بوضوح عن الأجسام مثل رجل، وعن الصفات مثل شكل
الرجل، ومن أي نوع هو، وعن القامة أي مقدار ارتفاعه، وعن نسبه من هو أخيه، وعن
مسكنه أين يقم وغير ذلك من الأحوال أين ولد، وهل هو واقف أم جالس، وهل ينتعل
شيئاً، وهل يتسلح بشيء، وهل هو يعمل عملاً، وهل يتألم من شيء
. كما كان هذا
الكتاب يتكلم عن الأشياء الفائقة الحصر، التي تندرج تحت تلك الحالة الرئيسية
للمادة التي أعطي لها بعض النماذج
.

 

-29-

 ماذا
استفدت من هذه الأشياء التي كنت أنظر إليها، وكانت تعيقني عنك؟ إنني كلما كنت
أتصور أن كل ما في الإنسان يندرج تحت هذه الأحوال العشرة كنت أحاول أن أختبر وأدرك
وحدانيتك العجيبة الدائمة يا إلهي، كما لو كنت أنت أيضاً قد أخضعت نفسك لعظمتك أو
لجمالك، كأحد الأجسام التي تندرج تحت تلك الأحوال العشرة، غير عالم أنك أنت نفسك
هو عظمتك وجمالك، أما الجسد غير العظيم والجميل فهو جسد، حتى إنه لسبب عدم عظمته
وجماله يجب ألا يكون جسداً
.

 إن
ما تصورته عنك يا إلهي كان كذباً ولم يكن حقاً، لأن ما تصورته لم يكن سوي خرافات
تناسب تعاستي، دون أن يكون حقائقاً تلائم سعادتك، لأنك قد أمرت – وما قد أمرت به
قد نفذ في – إنه يجب علي الأرض أن تخرج لي شوكاً وحسكاً، وأنه بعرق جبيني آكل
خبزي!

 

-30-

 ماذا
استفدت من تلك الكتب التي قرأتها والتي كانت خاصة بالمهن التي كانت تُعرف بالمهن
الشريفة؟ لقد قرأت هذه الكتب بنفسي، وفهمتها أنا الخبيث الأسير للأميال القبيحة
. لقد قرأت
هذه الكتب وفرحت بها لأن ما فيها كان محققاً ومؤكداً دون أن أعلم من أين أتي الكل؟
لأن ظهري كان نحو النور أما وجهي فكان نحو الأشياء المنيرة، لذلك كلن وجهي الذي
كنت أنظر به الأشياء المنيرة غير مضيء!!

 لقد
قرأت من نفسي وبدن أستاذ، كل كتب العلوم، من بيان ومنطق وهندية وموسيقى وحساب، وقد
فهمت كل هذه بلا صعوبة كبيرة، كما تعلم أنت أيها الرب إلهي، لأن كل ما كان لدي من
مواهب الذكاء وسرعة الفهم، كان منك يا إلهي
. ومع ذلك
فإنني لم أقدم مواهبي قرياناً لك، لذلك لم تجعلني أستخدمها لفائدتي، بل بالأحرى
لهلاكي، عندما مضيت لأحصل علي نصيب وافر من هذه العلوم لأخبئه في ذاكرتي، دون أن
أحفظ طاقتي لك، بل زغت عنك إلي كورة بعيدة لأتلف طاقتي في الفسق، دون أن أستفيد من
القوي الحسنة التي لم أستخدمها في الأعمال الحسنة
.

 إنني
لم أشعر أن تلك العلوم صعبة، حتى إنه لا يمكن للمُجد في الدروس أن يتحصل عليها إلا
بمشقة، إلا بعد أن حاولت أن أفسرها لذلك الإنسان الذي عندما برع فيها تركني ولم
يقبل في الاستمرار معي لسيري البطيء
.

 

-31-

 ما
الذي دعاني أن أتخيلك يا إلهي جسماً عظيماً مضيئاً، وأن أتخيل نفسي جزءاً من ذلك
الجسم؟ إنه ضلالي الكبير، لأنك لم تكن هكذا!!
.. إنني لا
أستحي أن أ‘ترف لك يا إلهي بمراحمك نحوي، وأن أدعوك أنا الذي منت أعوي مقابلك
وأجدف عليك
.
ماذا
استفدت من ذكائي الخارق في هذه العلوم؟ و ماذا استفدت من كل تلك المجلدات المعقدة
جداً التي فسرتها بدون مساعدة أحد؟ لقد أدركت الآن إنني كنت ضالاً عن تعاليم
التقوى، وانتهكت بخزي حرمة الأشياء المقدسة
. إن صغارك
الذين كانوا أقل ذكاء مني لم يضلوا بعيداً عنك، بل كانوا يطيرون بأمان في صحن
كنيستك بأجنحة المحبة، ويتغذون بطعام الإيمان السليم
.

أيها
الرب إلهنا دعنا نستظل تحت ظل جناحيك، احفظنا وضمنا لأنك تضمنا جميعاً إليك إذا
تواضعنا،
،أيضا تضمنا
إلي أن تشيب شعورنا
. إنه حينما تكون أنت ثباتنا فعندئذ يكون هناك
الثبات، ولكن عندما يكون الثبات ثباتنا فعندئذ يكون القلق والاضطراب
.

 لا
صلاح لنا إلا منك، فإن أعرضنا عنك فإننا ارتد عن الصلاح
.

 دعنا
الآن نعود إليك يا رب لئلا نضل0 لأن فيك يدوم صلاحنا بلا انحلال
. وإذا كنت
أنت هو صلاحنا فلا نخشى الفاقة
.

 دعنا
نرجع إليك لئلا لا نجد مكاناً نرجع إليه
. لقد سقطنا من صلاحك،
وفي خلال غربتنا علي الأرض حفظت لنا مسكننا الذي هو أبديتك
.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى