علم

الكتاب الثالث



الكتاب الثالث

الكتاب
الثالث

1-
إقامة القديس في قرطجنة عندما بلغ السابعة عشرة من عمره وظل فيها حتى التاسعة عشرة
.

2-
مصادر ارتباكاته:

أولا
– حب المناظرات
.

ثانياً
– التقدم في الدراسات ومحبة الحكمة
.

ثالثاً
– عدم التلذذ بالكتاب المقدس
.

رابعاً
– الضلال مع المانويين ودحض بعض عقائدهم
.

3-
حزن أمه مونكا علي ضلاله
.

4-
صلواتها من أجل هدايته
.

5-
الله يوحي لها بهدايته في حديث لها مع أحد الأساقفة
.

 

-1-

(أغسطينوس
يبحث عن العشق)

 في
السابعة عشرة من عمري ذهبت إلي قرطجنة وقد كانت تدوي في أذنيِ مجموعة من أصوات
غرامياتي الدنسة، ومع أنني لم أكن قد وقعت في شباك الغرام إلا أنني رغبت في أن
أعشق حتى كرهت حياتي لأنني لم أجد فيها ما أعشق رغم إني أبحث عن العشق
.. لقد أبغضت
أن أهيم بالعشق وأبغضت كل طريق توجد فيه مكائده، لأنه كانت توجد في نفسي مجاعة إلي
ذلك الطعام الروحي الذي هو أنت يا إلهي
. ومع ذلك فإنني لم أطلب
هذا الطعام لا لأنه كان لدي منه ما يكفيني بل لأنني لم أكن أشتهيه، لم أكن أشتهي
ذلك القوت الذي لا يفني بل اشتهيت كل ما كان باطلاً لأن نفسي كانت عليلة وغارقة في
أحزان كثيرة
.

 لقد
ابتعدت نفسي التعيسة بعيداً عنك يا إلهي! لقد ضلت في هوي حواسها، تلك الحواس التي
كانت بلا روح
..! إن لذاتي
كانت في أن أعشق وأُُعشق، وكانت هذه اللذة تزداد كلما كنت أخضع نفسي لشهوات الجسد
ودنست أصل الصداقة وبهائها بنجاسة الشهوة وسعيرها
.. وهكذا كنت
أنا التعيس القبيح أفٌرَح نفسي بلا لياقة لأكون محتالا ولأكون أديباً في الزهو
الفائق حتى لقد سقطت بنزق في شراك الهوى الذي اشتهيت أن أقع فيه وبلغت أقصي ما كنت
أتمناه من متعة جسدية
. ولكنك يا إلهي يا رحمتي قد مزجت هذه المتعة
بمرارة لطفك، وأوثقتني بأربطة الحزن، فتمنيت أن أجلد بسياط ملتهبة من الحديد
لتحترق أغصان الحسد والشكوك والمخاوف والسخط والمنازعات
.

 

-2-

(الأحزان
التي تسببها التمثيليات المسرحية)

 كم
من أفكار محزنة كانت تجيش بنفسي بسبب تلك التمثيليات التي كنت أشاهدها علي المسرح،
تلك التمثيليات التي سلبتني شقاوتي، وخففت من وقيد تأججي
.

 يرغب
الإنسان في بعض الأحيان أن يبدو كئيباً شاغلاً عقله بتلك الأفكار السوداء التي
تؤلم نفسه وتثيرها فيها مشاهدة هذه الروايات المحزنة حتى تكون لذته في الحزن الذي
ينجم عن المشاهدة
. لماذا كل هذا؟ أليس هذا نزق وضيع لأنه كلما
ازداد الإنسان تأثراً بما هو محزن فقلما يستطيع أن يحرر نفسه من العواطف الحزينة،
وكلما تألم في نفسه فإن نفسه تستعذب التعاسة والألم، وكلما أشفق علي آخرين فإنه
يصبح رحيماً!! ولكن أي حزن وأي شفقة تسببها تلك الآلام المسرحية الملفقة؟؟

 

 إن
الإنسان عندما يدعي لمشاهدة تلك الروايات، لا يذهب إليها ليروح عن نفسه بها ولكن
لقبضها
.
وكلما
زيد في مدح ممثلي تلك الخزعبلات كلما ازداد انقباضها وإذا كانت مصائب أشخاص
الرواية – سواء أكانوا خياليين أم حقيقيين – لا تهيج الدمع في مقلتيه، فإنه ينطلق
بعد مشاهدتها، ضجراً مندداً بها
.

 

-3-

 ولكن
أهكذا يحب الإنسان تلك الأحزان؟ الواقع أن الجميع يحبون الأفراح ولا يوجد إنسان
يرغب في أن يكون تعيساً، بل كل إنسان يرغب أن يكون مسروراً ومع ذلك فإنه يحب أيضاً
أن يكون رحيماً
.
ولما
كان لا يمكن أن يثير الرحمة في قلب الإنسان سوي آلام أخيه الإنسان لهذا فإن
الإنسان يحب هذه الآلام، التي تثير الرحمة في قلبه
.

 ولكن
هذه الرحمة التي تثيرها الآلام الملفقة أيمكن أن تكون قد نبعت من شريان الصداقة
ألحقه؟ لا يمكن هذا لأن منبع هذه الرحمة هو المجاري غير الطبيعية للشهوة الدنسة
التي تغير الصداقة وتدنس بهاءها الفائق فتجعل الإنسان يحب مشاهدة آلام الغير
وأحزانهم لأنها تثير الحزن في نفسه
.. أحذرى يا نفسي الدنس لأنك تحت حراسة
إلهك، إله آبائنا، الذي به يليق التسبيح والتعظيم إلي الأبد فوق كل شئ
. لذلك فاحذري
الدنس
.

 

 إنني
إلي الآن لا أكف عن الرثاء من أجل ذلك الوقت الذي كنت أبتهج فيه مع العشاق الذين
يمثلون فوق المسارح عندما كنت أراهم فرحين باجتماع شملهم حتى إذا افترقوا وأضناهم
الفراق وأحزنهم، حزنت أنا أيضاً معهم، لقد كنت أتلذذ بالفرح والحزن علي حد سواء،
مع أن هذا كله تمثيل وهراء في هراء
.. إنني الآن لا أحزن علي الإنسان الذي يظن
أنه يتألم لفقده لذة قصيرة أو مسرة صغيرة قدر حزني علي ذلك الإنسان الذي يفرح
بفجوره، وحزني هذا ليس مصدره الحزن ولكن مصدره الرحمة الحقيقية
.

 إن
الإنسان الذي يحزن مع الحزانى يٌمدح علي عمله باعتباره رحمة!! ومع ذلك فإن هذا
الإنسان لا يُعد رحيماً حقاً إلا إذا كان حزنه من أجل أحزان الغير صادقة وبنية
خالصة
.
الأمر
الذي لا يكون عندما يتمني أن يوجد الحزن كي يحزن من أجله
.. أنت وحدك
أيها الرب الإله هو الذي يحب الأرواح أكثر من حبنا لها، وترحمها رحمة دائمة لأنك
تحبها حباً طاهراً، إلا أنها مع ذلك تجلب لنفسها الأحزان (ومن هو كفء لهذه الأمور)
.

 

-4-

 لقد
كانت نفسي – أنا التعيس – تبحث في ذلك الوقت عما يحزنها، وتحب أن تكتئب من أجل
كآبة غيرها، تلك الكآبة التي تلفق تلفيقاً وتمثل تمثيلاً يسيل الدمع من العين إلي
أكبر حد
.
فمثل
هذا التمثيل هو التمثيل الذي كنت أشتاق إليه كثيراً
. لذلك فلا
عجب أن يضل ذلك الحمل – الذي هو أنا – من قطيعك ويجزع من حراستك ويمرض بأمراض
قبيحة
.
لقد
أفسدته محبة الأحزان، وسيطرت علي نفسه الرغبة في مشاهدة الآلام، حتى أنه عندما كان
يسمع هذه الخزعبلات التي تنشب مخالبها المسممة في وجهه، كانت نفسه تنتفخ انتفاخاً
وتلتهب التهاباً حتى يصبح كقرحة عفنة
. فهل كانت مثل هذه
الحياة معتبرة حياة يا إلهي؟؟

 

-5-

 ومع
ذلك فإن رحمتك الصادقة قد رفرفت عليَ من بعيد
.. لقد أفنيت
نفسي في خطايا أليمة، لقد نبذتك وانتهكت حرمة مقدساتك و أشبهت المشرفين علي هاوية
الموت، وعبادة الشياطين الخادعين التي قدمت سيئاتي ذبيحة لهم!! ومع ذلك كله فإنك
لم تنسني، بل عاقبتني
.

 بينما
كان أبناؤك يحتفلون بخدمة الأسرار المقدسة داخل كنيستك تجاسرت وعملت عملاً استوجب
قصاص الموت من أجل نتائجه
.. ولكنك لم تميتني بل عاقبتني بعقوبات
صارمة
.
ولكن
تهون بجوار خطيئتي
. إنك رحمتي الفائقة يا إلهي.. إنك منقذي
من كل تلك المهالك الفظيعة، التي كنت فيها هائماً برقبة غليظة، ومبتعداً بعيداً
عنك، عاشقاً طرقي لا طرقك، عاشقاً حرية زائفة
.

 

-6-

اشتغاله
ناظراً لمدرسة البيان

 إن
البشر الأغبياء لم يكن لديهم من الدراسات ما يستوجب المدح والثناء سوى تلك
الدراسات التي قصد بها التفوق في ميادين المجادلات، حيث يكون أكثرهم خبثاً هو
أكثرهم مدحاً
.
إنهم
لغباوتهم يفتخرون بجهالاتهم
.. لقد كنت في ذلك الوقت ناظراً لمدرسة
البيان فانتفخت أوداجي وكنت أتيه عجباً
. ومع أنني كنت بعيداً عن
تخريبات المخربين { لقد كانت خطيئة التخريب دليل الشجاعة في ذلك الوقت } الذين كنت
أعيش بينهم إلا أنني لم أكن مثلهم، ملطخاً بالعار بلا خجل
.

 لقد
كنت أعيش بين هؤلاء مسروراً بصداقتهم، ولم أبغض أبداً أعمالهم أو تخريباتهم عندما
كانوا يمزحون بالاعتداء علي عفة الغرباء، مشبعين رغبات الشر الكائنة في نفوسهم،
بأعمال ليس هناك ما يشابهها سوي أعمال الشياطين أنفسهم، فهل هناك لفظ يستحق هؤلاء
أن نطلقه عليهم سوى لفظ (المخربين) لأنهم كثيراً ما خربوا، لقد كانت أرواح الظلمة
تسخر بهم في الخفاء وتضللهم، وكانوا يبتهجون بأن يسخروا من الآخرين ويخدعوهم.

 

-7-

ما
سببته دراسته للفلسفة

 في
وسط تلك الأمور وفي ذلك السن المضطرب، حفظت كتب البلاغة، وتمنيت أن أكون مشهوراً
في غرض غير مجيد ومرذول، في الفرح بأباطيل البشر
. وفي أثناء
فترة الدراسة السنوية هاجمت كتاباً لسيكيرو الذي كان كل حديثه – تقريباً – حكماً
. هكذا كان
حديثه وأما قلبه فلم يكن كذلك
.

 لقد
كان هذا الكتاب يحوى أسرار الفلسفة وكان يدعي (هورتنسنس)
. هذا الكتاب
غير أميالي
.
وأعاد
صلواتي إليك يا إلهي، وجعلني آمل في آمال أخري
. لقد صارت
الآمال الباطلة خسيسة أمامي
. واشتهيت برغبة لا تُُصدق أن تدوم لي
الحكمة
.
فابتدأت
أن أستيقظ لعلي أرجع إليك، لقد استخدمت هذا الكتاب انتفعت بموضوعه دون أسلوبه، حيث
كنت في سن التاسعة عشرة من عمري وكان أبي قد مات منذ سنتين
.

 

-8-

 في
ذلك الوقت التهبت نفسي بالرغبة في أن أرتقي إليك وأن ارتفع فوق هذه الأشياء
الأرضية دون أن أعلم ما أردت أنت أن تفعله بي
. إن معك
الحكمة، ومحبة الحكمة تدعي باليونانية (فلسفة) وتلك هي التي أضرمني بها ذلك الكتاب
.. ومع هذا توجد
في الحكمة أشياء مضللة مخيفة تحت أسماء شريفة وعظيمة وهادئة لتحجب ما فيها من
أخطاء
.
حتى
إن كل الذين عاشوا في تلك الأحقاب وما قبلها لم يجدوا ما يخفون به أخطاءهم سوي
ستار الفلسفة وإن كانت الفلسفة في ذلك الكتاب ملومة لوماً واضحاً
.. في ذلك
الكتاب قد فسرت تلك النصيحة الشافية التي لروحك بواسطة خادمك الصالح والتقي الذي
قال (انظروا أن لا يسبيكم أجد بالفلسفة وبغرور باطل حسب المسيح الذي فيه يحل كل
ملء اللاهوت جسدياً)
.

 وأنت
يا ضياء قلبي تعلم أن رسائل الكتاب المقدس لم تكن في ذلك الوقت معروفة لديَ
فابتهجت بذلك واستيقظت بقوة عزم كي أحب وأجتهد وأتحصل وأملك دون أن أقبل هذا
المذهب أو ذاك بل قبلت الحكمة نفسها مهما كانت
.. ولما كانت
الحكمة خالية من اسم المسيح فقد حملني هذا علي أن أقف أمامها مضطرباً
. لأن هذا
الاسم – تبعاً لرحمتك يا رب – هو للمخلص ابنك – ملك فلبي الحنون، الذي امتصصته
بورع مع لبن أمي الذي كنزته لي بكثرة فائقة فلم أقبل مطلقاً كل ما كان بدون ذلك
الاسم مع أنه لم يكن أبداً حاذقاً أو ظاهراً أو حقيقياً
.

 

-9-

 في
ذلك الوقت عزمت علي مطالعة الكتب المقدسة لعلي أستطيع أن أدرك كنهها ولكني لم
أستطع أن أفهمها لأن ما فيها لم يكن يتفق مع طبائع المتكبرين أو حديثي العهد
بالإيمان، لقد كانت معانيها سامية، ومنطوية علي أسرار خفية لم أقدر أن أصل إليها
أو أحني هامتي لأتتبع خطواتها
.

 عندما
بدأت في مطالعة الكتب المقدسة لم أكن كما أنا الآن حتى لقد كانت تبدو أمامي أنها
غير جديرة بأن تقارن بمفاخر (توللي)، إن وداعتها لا تليق بانتفاخ كبريائي وتواضعها
المتزايد كان أسمي من أن يتغلغل فيه ذكائي الذي كان خارقاً
. لقد كنت
أحتقر أن أكون متواضعاً لأني وقد كنت منتفخاً بالكبرياء قد أردت أن أجعل نفسي
عظيماً

 

-10-

انحرافه
وراء الأباطيل

 لذلك
لم يكن عجيباً أن أقع بين أناس أولعوا بالكبرياء، وانصرفوا إلي إرضاء شهواتهم
ومهذارين، حتى لقد كانت تبدو في أفواههم مكائد إبليس مسربلة بخليط من مقاطع اسمك
واسم يسوع المسيح ربنا واسم الروح القدس معزينا
.. إن أفواههم
لم تكف عن ترديد هذه الأسماء ولكن قلوبهم كانت خالية من الحق ويصيحون (الحق
. الحق) دون
أن يكون الحق فيهم، بل كانوا يتكلمون كذباً عنه، عنك أنت أيها الحق كما كانوا
يتكلمون كذباً عن عناصر العالم التي هي خلائقك
.

 كان
يجب عليَ أيضاً أن أجتاز بالفلاسفة الذين تحدثوا بالصدق عن خلائقك، محبة فيك يا
أبي يا فائق الصلاح، وجمال كل الأشياء الجميلة، أنت أيها الحق
. حتى لقد لهث
جوهر روحي كثيراً في باطني سعياً وراء معرفتك، عندما تكلموا عنك كثيراً في أذني
بأشكال مختلفة ولكن ما كانوا يرددونه عنك في أحاديثهم أو كتاباتهم الكثيرة لم تكن
إلا صدي الحق
.

 

 هذه
هي الأطباق التي كانت تقدم إلي أنا الجائع إليك، أما هم فبدلاً من أن يعبدوك قد
عبدوا الشمس والقمر وأعمالك الجميلة ولم يعبدوك أنت صانع هذه الأعمال
. إن أعمالك
الروحية كانت قبل أعمالك المادية ولكني لم أجع ولم أعطش حتى إلي أعمالك الروحية
ولو كانت سمائية ومضيئة، لأن شوقي كان متجهاً إليك وحدك أنت أيها الحق الذي لا
يمكن أن يعتريه تغيير ولا ظل دوران
.. كم كانت تبدو أعمالك الروحية متلألئة
أمامي في تلك الأطباق التي كانت تُقدم لي، لقد كانت عبادتها برغم ما فيها من ضلال
أفضل عندي من عبادة الشمس لأنني ظننت أنك هو أعمالك الروحية لذلك تغذيت بها دون أن
أكون راغباً فيها، لأنك لم تكن تلك الأباطيل التي لم أشبع بها ولم ألبث أن لفظتها
ونبذتها
.

 لقد
كان مثلي في هذا الشأن مثل الجوعان الذي يحلم بأنه يأكل الطعام، فمع أن الطعام
الذي يراه في النوم يشبه الطعام الذي يراه في اليقظة، إلا أن الجائع لا يشبع بما
يحلم أنه يأكله أثناء النوم، كذلك لم أشبع بتلك الأباطيل لأنها كانت شيئاً آخر
خلافك كما أدركتك بعد هدايتي
.. تكلم الآن معي يا رب.. إن تلك
الأباطيل كانت مجرد أجسام خيالية اشتهاها جسدي الذي لم يشته تلك الأجسام المادية –
سمائية كانت أو أرضية – التي كنا نراها بأعيننا، والتي لم يكن هناك شك في وجودها،
لأننا نحس بها كما تحس بها الحيوانات والطيور، ولا جدال في أن الإيمان بما هو
موجود أفضل من الإيمان بما ليس له وجود حتى ولو تخيلناه جسماً عظيماً لا حد له ولا
نهاية
.

 لقد
كانت تلك القشور التي تغذيت بها في ذلك الوقت عديمة القيمة، لذلك لم أشبع، ولكن
عندما فتشت عنك يا حبيب قلبي وجدت فيك شبعاً ورياً
.. أنت شئ آخر
غير تلك الأجسام المادية التي نبصرها في كبد السماء، ما ظهر منها وما أستتر لأنك
خالقها جميعاً دون أن تفضلها بشيء عن سائر مخلوقاتك
.. إنك فوق كل
ما يمكنني أن أتصوره عن تلك الأجسام المادية التي كنت أسبح بخيالي فيها دون أن
يكون لما تخيلته عنها ظل من الحقيقة لأن هذه الأشياء لم تكن سوي أجساماً جامدة،
ولا يمكن أن تكون أنت هي كما لا يمكن أن تكون الروح التي هي حياتها، لأن حياة تلك
الأجسام وإن كانت أعظم من الأجسام ذاتها، إلا أنك لم تكن أنت هي لأنك لست حياة
الأجساد بل حياة الأرواح وحياة الأحياء التي حياتها فيك يا من لا تتغير يا حياة
نفسي
.

 

-11-

 أين
كنت مني في ذلك الوقت؟! وعلي أي بعد كنت؟!

 لقد
كنت تائهاً بعيداً جداً عنك وكنت محروماً حتى من الخرنوب الذي تقتات به الخنازير
التي كنت أطعمها
.. لأنه حتى خرافات الشعراء وعلماء اللغة كانت
أفضل من تلك الأشراك التي وقعت فيها
. أجل إن دراسة النظم
والشعر
.. وميديا
الطائر هي أنفع بلا شك من دراسة عناصر البشر الخمسة المستترة تحت أقنعة مختلفة،
مناسبة للكهوف الخمسة المظلمة التي لا وجود لهل ومع ذلك تٌهلك من يعتقد بها!! { لا
نعرف ما يقصده المؤلف بخمسة عناصر البشر المستترة تحت أقنعة مختلفة للكهوف الخمسة
المظلمة، ويظهر أنها إحدى الأساطير المعروفة في ذلك الوقت.}
.. إن الإنسان
عندما يدرس النظم والشعر قد يجد فيه غذاء نفسياً حقيقياً، بالرغم من عدم إيمانه
بوجود الكائنات، موضوع هذه الأشعار كميديا الطائر وغيرها التي يتغنى بها أو قد
يستمع إلي إنشادها
.. بعكس عناصر البشر الخمسة التي كنا نؤمن بوجودها
دون أن يكون لها في الحقيقة ظل من الوجود
.

 

ويل
لي
.. ثم
ويل00إلي أي درجات الهاوية كنت مُساقاً
.. وكم تعبت وتلفت سعياً
وراء الوصول إلي الحق
.. وأخيراً حصلت عليك يا إلهي. إنني أعترف
بذلك أمامك يا من رحمتني
.. ولم أكن من قبل معترفاً كما أنا الآن.. إنني أعترف
بسعي في سبيل الوصول إليك دون أن أهتدي في ذلك بعقلي البشري الذي جعلني أعتقد بأني
أسمي من الحيوانات، ولكن الذي هداني هو روحك الذي كان في داخلي مستتراً أكثر من كل
ما هو مستتر جداً وأعلي من كل ما هو عال
.

 

 وقبل
ذلك كنت أسير مندفعاً وراء شهوات جسدي، فصادفتني تلك المرأة الشريرة
. ولما كنت
جاهلا وغبياً، فإنني لم أدرك أنها تلك المرأة التي عناها سليمان بقوله (إنها جالسة
عند الباب تقول كُل خبز الخفاء طوعاً وأشرب المياه المسروقة فهي حلوة) لقد أغوتني
تلك المرأة لأنها أدركت من عينيَ أنهما زائغتان وأن نفسي تشتهي طعاناً كهذا الطعام
الذي كنت أتلذذ به
.

 

-12-

بعض
مشاكل الكتاب المقدس التي اعترضته

 هنالك
شئ آخر قد صنعته ولم أكن أدري أكان صواباً أم خطأ
..! لقد كنت
في حدة الذكاء وكنت في خطر الوقوع في أحابيل المضللين الأغبياء عندما سألوني:

-1-
من أين أتي البشر؟

-2-
هل الله – سبحانه وتعالي – جسم محدود وله شعر وأظافر؟

-3-
كيف يمكن أن يكون باراً ذلك الذي يتزوج عدة نساء في وقت واحد معاً؟ وكيف يمكن أن
يكون باراً ذلك الذي يقتل النفس التي حرم الله قتلها أو يقتل نفساً حية ليقدمها
ذبيحة لله؟؟

 لقد
أزعجتني هذه المشاكل لجهلي ورغم إنني كنت بعيداً عن الحق فقد سعيت إلي معرفة هذه
الأشياء وكل ما استطعت أن أعرفه عن الشر والخير في ذلك الوقت لم يكن سوي أن الشر
هو عدم الخير و أنه سوف يأتي ما يبطل الشر والخير فلا يكون لهما وجود
. كذلك كنت
أظن في ذلك الوقت أن الله جيماً وأن هذا الجسم قد أمتد فقط إلي الأجسام كما أمتد
من عقلي إلي خيالي ولم أكن أعلم أن الله روح وليس جسماً له أطراف ممتدة طولاً
وعرضاً بشكل جسيم
.. ذلك إن كل قطعة في الجزء هي أصغر من كل قطعة في
الكل، فإذا كان الله غير محدود فإنه إذا وجد في مكان محدود فإن الجزء الموجود في
المكان المحدود يكون أصغر من الجزء الموجود في المكان غير المحدود ولا يمكن أن
يقال هذا القول بالنسبة للروح القدس أو الله الأب!!
.. ونحن ماذا
وجد فينا مشابهاً لله حتى يصدق القول الإلهي (ليكون الإنسان علي صورة الله)
. لقد كنت في
ذلك الوقت أجهل كل هذا
.

 

-13-

 إنني
لم أكن أعلم أن الخير هو في البر الذي لا يقاس بمقياس عادات الناس بل يقاس حسب
الناموس الذي لا حد لكماله الذي لله القادر علي كل شئ
. وأن هذا
الناموس الذي وضعه الله وإن كان واحداً إلا أنه كان يختلف باختلاف الأماكن
والأزمنة لأن عبارة (أثناء ذلك) إن كان لها نفس المعني الذي لعبارة (في كل حين)
إلا أن عبارة (في كل مكان) ليس لها نفس المعني الذي لعبارة (شئ واحد في مكان واحد
وشئ آخر في مكان آخر)
.. فتبعاً للناموس الذي وضعه الله كان إبراهيم
وأسحق ويعقوب وموسى وداود أبراراً لأن الله مدحهم بفمه وإن كان البشر الأغبياء قد
حكموا عليهم بأنهم أشرار فذلك لأنهم حكموا حسب ناموس البشر، وقارنوا عاداتهم
الحقيرة بالعادات الصالحة للجنس البشري بأكمله. مثلهم في هذا مثل إنسان لا دراية
له باستعمال الأسلحة فمثل هذا الإنسان إذا دخل مخزن أسلحة فإنه قد يغطي رأسه بأذرع
وقاية الساقين أو ينتعل في قدميه الخوذة التي يُغطي بها الرأس ثم يشكو بعد هذا أن
تلك الأسلحة غير صالحة للاستعمال
. أو مثل إنسان يفتح حانوته بعد ظهر أحد
الأيام التي يجب أن تقف فيها جميع الأعمال بعد الظهر حتى إذا أمروه بغلق محله
استشاط غضباً لأنه لم يُسمح له بالاستمرار في فتح حانوته الذي كان مفتوحاً من قبل
. أو مثل
إنسان غريب لم يأذن له أمين أدوات الموائد والمشروبات بأن يتداخل إذا وجد الخدم
يتداولون استعمالها فيغضب هذا الإنسان إذا رأي أحدهم قد حمل بعض هذه الأدوات خارج
المنزل أو خارج غرفة الأكل بحجة أنه ما كلن يصح أن تنقل الأدوات الخاصة بأحد
المنازل أو إحدى الأسرات إلي غيرها
.

 هذه
هي حالة من يغضبون عندما يسمعون أن أناساً أبراراً عملوا أعمالاً كانت محلله في
أيامهم وقد أصبحت الآن محرمة أو يغضب لأن الله لأجل اعتبارات زمنية أمر بعض الناس
بأمر مخالف لما أمر به غيرهم مع أن كلا الأمرين خاضع لبر واحد
.

 لقد
كان يكفي لإقناع هؤلاء المعارضين أنهم يشاهدون دائماً اختلاف الأشياء في الإنسان
الواحد وفي اليوم الواحد وفي البيت الواحد وما في هذا الاختلاف من تناسب مع
الأشياء المختلفة
. فإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن لا يباح اليوم
ما كان مباحاً بالأمس و لا عجب أن الشيء الذي كان مسموحاً ومأموراً به في زمان ما
قد أصبح ممنوعاً ومحرماً في زمن آخر فإذا عمله إنسان عوقب عليه
.. أيمكن أن
يقال بعد هذا أن العدل متقلب أو متغير؟

 كلا
ولكن الأزمنة التي تسود عليه هي المتغيرة
. ولأن البشر
قصار الأعمار والأفكار لا يقدرون أن يوفقوا بين أسباب الحوادث التي وقعت في أجيال
سابقة مع شعوب آخرين، كما لا يقدرون أن يدركوا بسهولة ما هو مناسب لكل عضو وجزء
وفرد وشخص لعدم إلمامهم بهذه الأسباب أو تلك البواعث بالنسبة للشخص الواحد وفي نفس
الجسم الواحد أو الأسرة الواحدة أو اليوم الواحد ومع ذلك فهم يعترضون علي هذا
ويسلمون بذاك
.

 

-14-

 في
تلك الأوقات لم أكن أعلم كل هذا ولم ألحظه لأنني كنت أحارب وحدي في جميع الميادين،
لقد نظمت قصائد مختلفة من الشعر، ولكنني لم أستطع أن أضع وزناً شعرياً واحداً لها
جميعاً، لأن القصائد كانت مختلفة في أوزان مختلفة ولم يكن لها وزن واحد، وذلك
بخلاف كتبك المقدسة التي صيغت بمهارة فائقة حتى إنه بالرغم من احتوائها علي حالات
مختلفة، فإن أساسها ليس مختلفاً، لأنها جمعت كل هذه الحالات في وزن واحد حتى إنني
إلي الآن لست أفهم كيف يمكن أن يكون البر الذي أطاعه بشر صالحون وقديسون قد تضمن
في أمر واحد كل هذه الأشياء التي أمر بها الله دون أن يكون هناك أي اختلاف في أي
جزء من أجزاء هذا الأمر، بالرغم من أن التشريعات التي صدرت في الأزمنة المختلفة لم
تصدر في مجموعة واحدة ولكنها صدرت علي دفعات متعددة إذ كان يؤمر في كل زمن من الأزمان
بما يلائمه ولأنني كنت أجهل هذا فإنني قد لمت الآباء القديسين لا لأنهم استفادوا
بأوامر الله أو بما أوحي إليهم به ولكن لأنهم تنبأوا بأوامر مستقبلة كان الله قد
أوحي لهم بها
.

 

-15-

 ولكن.. أيمكن من
الظلم في أي زمان وأي مكان أن (تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك
وتحب قريبك كنفسك) كلا بالطبع ولذلك كانت تلك الخطايا البشعة التي هي ضد طبيعة
البشر كخطايا رجال سدوم مكروهة ومبغوضة حتى إن العقاب واجب لكل من يرتكبها في كل
زمان وكل أمة كناموس الله الذي لم يأمر البشر بأن يهتكوا بعضهم بعضاً
.

 ليس
ذلك فحسب، بل إن تلك الصلة التي يجب أن تقوم بيننا وبين الله لا يوجد ما يقطعها
قدر تدنيسنا تلك الطبيعة بزيغان الشهوة، لأن تلك الطبيعة قد أبدعها الله فينا وتلك
الآثام التي تدنسها هي ضد طباع الرجل حتى إن شرائع البشر تقاومها وتعمل علي
استئصالها ولو باستعمال العنف مع من يرتكبها
. وتأسيساً
علي هذا فإن كل ما هو متفق عليه طبقاً للعرف الجاري أو الشرائع السائدة عي آية
مدينة أو أمة لا يمكن التحلل منه لمجرد لذة غير مباحة لأي إنسان سواء أكان وطنياً
أم أجنبياً لأن كل ما لا يتفق مع العرف أو الشريعة فإنه يزعج المجموع
.

 أما
الله فإنه عندما يأمر بأي عمل فإن هذا العمل يجب أن ينفذ، حتى ولو كان هذا العمل
ضد عوائد الناس، أو ضد الاتفاقات التي عقدوها مع أي شعب من الشعوب حتى ولو لم يكن
قد سبق عمله أو سبق فرضه أو كان قد سبق فرضه ثم أوقف تنفيذه، فهذا العمل يجب أن
ينفذ من جديد وأن يعتبر مفروضاً من وقت صدور الأمر به لأنه إذا كان من المقرر أن
لكل ملك في مملكة أن يأمر بما لم يأمر به أحد أو بما لم يأمر هو به من قبل ومع ذلك
تكون طاعة هذا الأمر واجبة تحقيقاً للأمن والسلام اللذين لا يسودان إلا بطاعة
أوامر الحكام، لأن طاعة الحكام هي الميثاق العام للهيئة الاجتماعية فمن باب أولي
تكون طاعة أوامر الله واجبة علينا، لأن الله هو المتسلط وحده علي كل الكائنات،
وكما أنه في سيادات البشر تكون السلطة الأعظم سيادة واجبة الطاعة والتفضيل علي ما
هو دونها فكذلك يجب أن يطاع الله ويفضل علي كل شئ لأنه فوق الجميع
.

 

-16-

 لا
يلجأ الإنسان إلي العنف إلا عندما تثور في نفسه الرغبة في الإيذاء والإضرار بالغير
لذلك فهو يلجأ إلي القتل أو التخريب
.. كذلك قد يدفع حب
الانتقام الإنسان إلي استعمال العنف مع عدوه كما قد مدفعه إلي ذلك رغبته في الحصول
علي فائدة من إنسان آخر كما يحدث من اللص مع المسافرين
. بل إن أعمال
العنف قد تُرتكب لشر يخشى وقوعه كما يحدث من الإنسان الخائف، أو لمجرد الحسد كما
يحدث من الحسود عندما يجد غيره أكثر سعادة منه
.

 ليس
ذلك فقط بل إن أعمال العنف قد تُرتكب لمجرد بعث السرور في نفوس الغير كما يفعل
مصارعو السيوف أو الذين يسخرون بغيرهم ويعيرونهم
.. إن من
يعملون هذه الأعمال هم الزعماء الذين تأصل في نفوسهم الشر نتيجة لشهوة الجسد أو
شهوة العين أو شهوة حب الرئاسة، سواء أكانوا فرداً أم جماعة، متفرقين أم متحدين
. وهكذا يعيش
البشر سقماء لعدم إصغائهم للثلاثة والسبعة التي تكون القيثارة ذي العشرة أوتار
التي هي وصاياك يا الله يا من كلك حلاوة وأعلا من كل ما هو عال
.

 

 ولكن
أيمكن أن يلحقك شئ من هذه القبائح يا من لا يمكن لأحد أن يدنسك؟ وهل توجد هنالك
أعمال عنيفة يمكن أن تضرك يا من لا يمكن لأحد أن يضرك؟ وإذا كان لا يوجد هنالك شئ
من هذا، فلماذا إذن تنتقم من البشر عندما يخطئون؟
.. إنك تنتقم
من البشر لأنهم يرتكبون ما يضرهم، ناظراً إلي أنهم عندما يخطئون إليك إنما يخطئون
أيضاً ضد أنفسهم، وهم بإفراطهم في استعمال أشياء مباحة أو ليست مباحة كتلك العادة
التي هي ضد الطبيعة، إنما يسيئون إلي أنفسهم، لأن هذا الشر يفسد طباعهم التي
خلقتها أبدعتها
.

 كذلك
عندما يكفر الناس بألسنتهم وقلوبهم بك، رافسين المناخس وكاسرين وتد الهيئة
الاجتماعية، بسعيهم في إثارة الفتنة طمعاً في فائدة يربحونها، أو ضرر يسيئون به
إلي الغير إنما يسيئون إلي أنفسهم بعملهم هذا، وفي الوقت نفسه يعتدون عليك يا مصدر
الحياة، لأنك أنت وحدك الخالق الوحيد وأنت وحدك الإله حاكم المسكونة
..

 لذلك
يجب علينا أن نصلي بكل تذلل لنرجع إليك، لتطهرنا من خطايا عاداتنا الشريرة

 لأنك
رحوم وتغفر خطايا الذين يعترفون لك وتسمع أنين الأسير وتحلم من قيوده التي يقيد
بها نفسه، إن كان لا يضادك ولا يرفع أعلام الحرية الباطلة، فيخسر كل شئ عندما
يشتهي ما لغيره، ويحب خيره الخاص أكثر من حبك يا خير الجميع
.

 

-17-

 زيادة
علي آثام القباحة والعنف والمظالم يوجد هناك آثام أخري يعملها الناس جملة بمهارة
ويذمها أولئك الذين يحكمون بعدل حسب ناموس الكمال
. ومع ذلك فإن
الناس عندما يرتكبون هذه الآثام يُمدحون باعتبار ما سوف يعملونه مستقبلاً من خير،
شأنهم في هذا شأن من يرجو القمح من السنبلة إذا نمت واخضرت
.. كذلك توجد
أعمال أخري تشبه أعمال العنف، ومع ذلك فإنك لا تعتبرها خطايا، لأنها لا تغيظك أيها
الرب إلهنا، ولا تضر الهيئة الاجتماعية، ومن هذه الأعمال اقتناء الأشياء والأموال
وادخارها لمستقبل الأيام، لاستخدامها في شئون الحياة0 كذلك من بين تلك الأعمال
العقوبات، التي توقعها السلطة الزمنية بالمجرمين، لتقويمهم لا لضررهم
.

 إذن
توجد هناك ثمة أعمال يذمها البشر وتمدحها شهاداتك يا رب، كما توجد أعمال كثيرة
يمدحها البشر وأنت تشهد بأنها مذمومة، لأن غرض العمل ورأي من يعمله واختلاف
الأزمنة المجهولة كلها تتناقض مع بعضها
. لذلك فلا عجب إذا ما
أمرت الناس بأمر شاذ أو غير مألوف لأنك سبق أن نهيت عنه في وقت من الأوقات دون أن
تبين سبباً لهذا الأمر الذي قد يكون ضد شرائع فريق من البشر ولا عجب إذا ما خالف
الناس هذا الأمر وامتنعوا عن تنفيذه مبررين مخالفتهم له بأنهم لا يريدون مخالفة
شريعتك السابقة لأنهم متفانون في عبادتك
.

 يا
رب إن الذين يعرفون وصاياك هم السعداء، وكل ما يعمله خدامك إنما يعملونه ليظهروا
علانية ما هو ضروري وجدير بالاتباع في الوقت الذي يعيشون فيه والأزمنة المستقبلة
التي يتنبأون عنها
.

 

-18-

 ولكوني
كنت جاهلاً بهذه الأمور، فقد هزأت بأبنائك وخدامك القديسين، ولكني لم أربح من وراء
هذا سوي ازدرائك بي
.. لقد كنت مدفوعاً إلي تلك الجهالات تدريجياً
ورويداً رويداً، حتى لقد كنت أعتقد أنني إذا قطعت شجرة التين فإنها تبكي عند
قطعها، وأنه إذا فُصل غصن عنها فإنها تريق من أجله دموعاً لبنية وتظل حزينة منتحبة
حتى يأتي قديس مانوى ويأكل منها ويمزجها بأحشائه فعندئذ تجف دموعها ويخف حزنها إذ
أن القديس المانوى عندما أكل منها قد حلل ذرات اللاهوت الموجودة فيها، في كل تأوه
أو أنين يصدر منه في صلاته (لقد كانت العقيدة أن ذرات اللاهوت محجوزة في شجرة
التين حتى يعتقها منها أسنان أو جوف قديس مانوى مختار)
.

 لقد
اعتقدت أنا التعيس أن الرحمة واجبة لثمار الأرض أكثر من وجوبها للبشر الذين خلقت
من أجلهم هذه الثمار، فإذا وجد إنسان – غير مانوى – جائع والتمس تينة ليأكلها فإني
كنت أشفق علي تلك التينة التي كانت تظهر في عينيَ كأنها محكوم عليها بالموت0

 

-19-

الله
يوحي إلي أمه في رؤيا بهدايته

 أما
أنت يا رب فقد أرسلت لي معونتك من الأعالي وخلصت نفسي من تلك الهاوية العميقة لأن
أمي المؤمنة بك كانت تبكي إليك من أجلي، وكان بكاؤها يفوق بكاء الأم الثكلى علي
فقد وحيدها
.. لقد كانت
أمي مؤمنة بك وممتلئة من روحك القدوس، فأدركت خطر الموت الذي كنت متمسكاً به، وأنت
يا رب قد استجبت لها، ولم تهزأ بدموعها، لأنها عندما كانت تصلي كانت تروي بدموعها
أرض المكان الذي تصلي فيه0

 لقد
استجبت لها يا رب، وأريتها تلك الرؤيا التي عزيتها بها، وعندما تعزت سمحت لي بأن
أعيش معها، وآكل علي مائدتها في ذلك المنزل الذي كانت قد بدأت في كراهيته كارهة
معه تجديفي وضلالي
.. لقد كانت رؤيا أمي أنها وجدت نفسها جالسة علي
قاعدة خشبية ثابتة فلم يلبث أن ظهر أمامها شاب مشرق بهيج يبتسم لها آخذاً في
الاقتراب منها
.

 لقد
كانت نفسها مكتئبة غارقة في الأحزان، حتى إذا ما سألها إنسان عن سبب حزنها ودموعها
التي لا تنقطع، كانت تجيب أنها تندب هلاكي، أما هم فكانوا يعزونها ويقولون لها –
وهم في غاية السرور – بأن تتأمل جيداً في رؤياها وكيف أنني كنت في المكان الذي هي
كانت فيه، وكيف أنها عندما تطلعت إليَ وجدتني واقفاً بجوارها، في نفس النظام الذي
كانت تقف هي فيه
.. من أين كانت لأمي هذه التعزيات إلا منك، لأن أذنيك
مالتا إلي قلبها حقاً، لأنك صالح جداً وقادر علي كل شئ، يا من تعتني بكل واحد منا
كما لم يكن لك أحد آخر تعتني به غيره، وتعتني بنا جميعاً كما لو كنا فرداً واحداً
فقط
.

 

-20-

 لقد
أخبرتني أمي برؤياها فقلت لها (إن تلك الرؤيا تعني أنه يجب عليها ألا تيأس من أن
تكون ذات يوم حيث كنت أنا) فلم تلبث أن أجابتني في الحال وبلا أدني تردد (كلا إنني
لم أُخبر بأنني سأكون حيث يكون هو ولكنني أُخبرت بأنه حيثما تكونين أنت سيكون هو
أيضاً)
.

 أعترف
لك يا رب علي قدر وعي ذاكرتي – وطالما تحدثت عن هذا – بأن إجابتك لأمي كانت في
الوقت الذي كانت فيه مستيقظة، حتى إنها لم ترتبك بتعليل تفسيري غير الصحيح، وأبصرت
سريعاً ما يجب رؤيته وما لم أفطن إليه قبل أن أتكلم معها حتى إنني تأثرت في ذلك
الوقت بكلامها أكثر من الرؤيا نفسها، تلك الرؤيا التي أفرحت أمي القديسة، ولم يلبث
فرحها أن صار كاملاً لأجل تعزية ألمها الذي ظل وقتاً طويلاً لأني ظللت بعد ذلك تسع
سنوات كاملة متمرغاً في حمأة الهاوية العميقة ورغم إنني كثيراً ما حاولت أن أنهض
ولكنني في كل مرة كنت ازداد هبوطاً إلي أغوار الأحزان وظلمة النفاق وكانت تلك
الأرملة الوديعة التقية الوقورة التي أحببتها حزينة في كل حين من أجلي ولكنها لم
تلبث أن صارت فرحة برجاء خلاصي مستقبلاً
. وإن كان هذا لم يقلل من
دموعها إذ لم تنقطع عن النواح إليك من أجلي فدخلت صلواتها إلي حضرتك ومع ذلك فقد
سمحت لي بأن أكون محاطاً وغارقاً في بحار الظلمة
.

 

-21-

 لم
تكن وحدها إجابتك لأمي، فقد أجبتها إجابة أخري لا أتذكرها جيداً، لأنني كنت أمر
مراً سريعاً بتلك الأشياء التي دفعتني علي أم أعترف لك بها، وكثيراً من الأمور
الأخرى غيرها
.. لقد أجبتها
في ذلك الوقت بواسطة أحد خدامك، وهو أسقف أمين تربي في كنيستك، وقد درس جيداً في
كتبك
.
لقد
توصلت أمي إلي مقابلة ذلك الأسقف وطلبت إليه أن يتنازل ويحدثني ويفند ضلالاتي
وينهاني عن شري ويعلمني أشياء نافعة لحياتي لأن هذه كانت عادته عندما يجد في بعض
الناس رغبة في الإصغاء إلي حديثه
. ولكونه كان حكيماً فقد رفض – كما لاحظت
بعد ذلك – وأجابها قائلاً (بأنه مازال غير قابل للتعليم) ذلك لأنني كنت أبالغ في
مدح تلك البدعة التي كنت أعتقد بها حتى لقد أجبرت أناساً كثيرين غير حاذقين علي أن
يعتقدوا هم أيضاً بها عن طريق مناقشتي معهم فيها
.

 لقد
أخبرتني أمي بأنه قال لها (دعيه وحده، وصلي إلي الله لأجله وسوف يعرف من نفسه
حقيقة تلك الضلالة وسوف يعرف بالقراءة ما فيها من إلحاد عظيم)
. لقد قال لها
في نفس الوقت كيف أنه هو نفسه عندما كان صغيراً قد أسلمته أمه المخدوعة إلي
المانويين، وإنه لم يقرأ كتبهم فحسب بل قرأها كلها تقريباً
. ولكن لم
يلبث ودون أن يناقش أحداً من الناس فيها أو يسمع منهم دليلاً أو برهاناً يفندها لم
يلبث أن شعر أن واجبه يحتم عليه أن يبتعد عن تلك الشيعة وقد أبتعد فعلاً عنها
.. ولكن أمي
لم تقتنع بهذا بل زادت في إلحاحها عليه بتوسلات ودموع كثيرة عله يراني ويتحدث معي،
حتى إذا أزعجته لجاجتها أجاب قائلاً لها:

 (انصرفي
إلي سبيلك
.
الله
يباركك
.
إنه
غير ممكن أن يهلك ابن هذه الدموع)

 أية
إجابة رائعة حصلت عليها أمي – كما ذكرت مراراً في حديثها معي – لقد كانت تعتقد
أنها قد التقطها من السماء
.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى