علم

إغريغوريوس النيصيصى



إغريغوريوس النيصيصى

إغريغوريوس
النيصيصى

 

القديس
إغريغوريوس النيسي[1] أحد الآباء العظام، دعاه القديس إغريغوريوس النزينزي: “عمود
الكنيسة كلها”، ولقبه الأب مكسيموس المعترف: “معلم المسكونة”، كما
دُعي “أب الآباء”، و”كوكب نيصص[2]”.

 

مقالات ذات صلة

نشأته

وُلد
من أبوين مسيحيين تقيين غنيين حسني الصيت، في مدينة قيصرية الكبادوك، يُسميان
باسيليوس وإميليا. وكان باسيليوس هذا محاميًا وخطيبًا، ذا مركز سامٍ في المجتمع،
له خمسة أبناء وخمس بنات، وكان أكبرهم القديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية بعد
القديسة ماكرينا، يحمل اسم أبيه.

 

وُلد
أصغر الأبناء حوالي سنة 335 أو 336م، لذا غالبًا ما ُولد إغريغوريوس “الابن
الثالث” حوالي سنة 329 أو 330م، وكان باسيليوس يكبره كثيرًا في السن، إذ كان
إغريغوريوس يتحدث معه كابن مع أبيه أو تلميذ مع معلمه، ويتطلع إليه وإلى أخته
ماكرينا بكل وقارٍ وتكريمٍ.

 

في
أيام الاضطهاد الذي أثاره دقلديانوس
Diocletian
Persecution
هرب أجداده إلى منطقة
بُنطس
Pontus الجبلية لأجل الأمان، وقد عانوا متاعب كثيرة. قيل إن جده لأمه قد
استشهد وفقد ممتلكاته. لكن بعد سنوات قليلة يبدو أن العائلة عادت إلى العاصمة
“قيصرية الكبادوك” أو في “قيصرية الجديدة” في بنطس واستقرت
هناك.

 

مات
والده باسيليوس في سن صغير، تاركًا أبناءه وبناته تحت رعاية جدتهم ماكرينا وأمهم
اميليا. وقد عُرفت الجدة والأم بحياتهما المسيحية الملتهبة بالروح والتقوية. وقد
ساهمت معهما الابنة ماكرينا الحاملة اسم جدتها في تربية وتعليم إخوتها، وقد دعيت
ملاك الأسرة.

 

دراسته

تربى
إغريغوريوس على أيدي نساء تقيات: جدته وأمه وأخته، لكل منهن بصمات التقوى والورع
انطبعت على حياته. نستطيع أن نقول إن قليلين حظوا بما ناله إغريغوريوس من بركة
الدفء الأسري العجيب، الذي ألهب فيه حب الله، وقدم له صورة واقعية حيّة عن السماء
ولغتها: لغة الحب والعبادة المفرحة التقوية!

 

يبدو
أنه لم يُنفق عليه الكثير في تعليمه مثل أخيه الأكبر القديس باسيليوس. فإننا لم
نسمع قط أنه التحق بجامعات أجنبية، وقد اعترف بنفسه أنه لم يتتلمذ على أيدي معلمين
مشهورين[3]. وإنما كثيرًا ما كان يكرر الإشارة إلى معلمٍ واحدٍ هو باسيليوس، الذي
امتدحه كثيرًا، وحسبه “أعجوبة العالم كله”، والمثل الأعلى للفيلسوف
الحقيقي[4]. وضعه مع القديسين واعتبر كتاباته مُوحى بها. يقول عنه إنه
“بالحقيقة خُلق حسب إرادة الله، وتشكلت نفسه على صورة الخالق[5]”. من
يقرأ كتاباته يشعر أنه يعتمد على باسيليوس حتى ولو لم يشر إليه بالاسم[6].

كان
منذ صباه مولعًا بالدراسة، لكنه كان خجولاً ضعيف البنية[7].

 

اهتمامه
بالعلم الزمني

أراد
في البداية أن يكون كاهنًا مثل أخيه القديس باسيليوس، وقد صار بالفعل في صباه
واعظًا
lector لكنه لم يشعر بأن هذا العمل يناسب شخصيته وميوله فتركه. وكما أعلن
القديس إغريغوريوس النزينزي بغضبٍ في رسالة له إنه قد سمح لنفسه أن يستبدل الكتب
المقدسة بكتب العالم المُرة والبغيضة، وقَبِلَ أن يُدعى “خطيبًا أكثر منه
مسيحيًا[8]”. لقد صار يمارس حياته الزمنية العالمية كخطيب أو كمدرس للبلاغة
rhetor، يطلب المجد الزمني.

 

زواجه

يبدو
أنه قد تزوج، كما يظهر ذلك من مقاله “عن البتولية”، إذ نجده يتأسف أنه
لم ينل مجد هذه الفضيلة[9]. غير أن البتولية في فكره ليست امتناعًا عن الزواج، ولا
مجرد طهارة للجسد، وإنما هي نقاوة تشمل الحياة كلها: بتولية الجسد والنفس والفكر والأحاسيس.

 

في
خطاب صديقه القديس إغريغوريوس النزينزي[10] جاء الحديث عن ثيؤسيبيا
Theosebia في عبارات تُظهر بقوة أنها زوجة إغريغوريوس أخ باسيليوس الكبير،
وإن كان البعض يرى أنها مجرد شمّاسة؛ عُرفت بفكرها الراجح ومحبوبة جدًا.

مدحها
القديس إغريغوريوس أسقف نيصص فيما بعد حتى عندما كتب عن البتولية، ودعاها القديس
إغريغوريوس النزينزي صديقته القديسة وأخته الطوباوية، بل وعند نياحتها رثاها،
قائلاً: “فخر الكنيسة وبركة جيلنًا”… هكذا كان ينظر إليها القديس
بإجلال وإكرام.

 

رهبنته

بعد
أن قطع إغريغوريوس شوطًا كبيرًا في البلاغة والأدب، طموحًا نحو مراكز هذا العالم
وشهرته كان صديقه القديس إغريغوريوس النزينزي يحثه على تكريس حياته للعبادة
والخدمة الإلهية كأخيه باسيليوس وأخته ماكرينا، فتأثر جدًا بكلماته.

 

يبدو
أن إغريغوريوس سيم كاهنًا، وأن زوجته بقيت معه في الخدمة يسلكان كأخٍ وأختٍ. مدحها
القديس إغريغوريوس النزينزي وتحدث عن تقواها وتكريس حياتها للأعمال الصالحة،
فاستحقت أن تُدعى “زوجة كاهن” وكما قال عنها “ثاؤسيبياه
his Theosebia“، حاسبًا أن علاقتها بزوجها علاقة روحية أكثر منها طبيعية،
خاصة وأننا لم نسمع أنها قد أنجبت أطفالاً[11].

 

يرى
البعض أنها انضمت إلى القديسة ماكرينا في ديرها، عاشت حتى بعد رسامة زوجها أسقفًا.

انطلق
القديس إغريغوريوس المتزوج ولكن بقلب ملتهب بالبتولية إلى فلسطين ومصر لزيارة
الآباء الرهبان والنساك المتوحدين، والتحق بالدير الذي أسسه أخوه القديس باسيليوس
في بُنطس
Pontus على نهر Iris بجوار أناسيس Annesi حيث وُجد دير الراهبات تحت قيادة أخته ماكرينا.

 

استراحت
نفسه تمامًا، وتحول طموحه للمجد الزمني والمعرفة الزمنية إلى شوقٍ شديدٍ إلى
الحياة الرهبانية الهادئة النسكية ودراسة الكتاب المقدس وتفاسيره، وتتلمذ إلى
سنوات على كتب العلامة أوريجينوس.

 

كانت
الحياة الرهبانية تناسب مواهبه وقدراته وأيضًا شخصيته. فمن ناحية لم يكن له أصدقاء
كثيرون خارج أقربائه الملتصقين به. خطاباته المعروفة صمتت عن أن تذكر الكثير عن
أصدقائه. لقد مارس حياة الرهبنة منشغلاً بدراسة اللاهوت والفلسفة[12].

 

لقد
بقي القديس إغريغوريوس على اتصال دائم بالرهبنة (حتى بعد أسقفيته) ويبدو أنه كان
يقيم في الدير من حين إلى آخر.

 

كانت
أخته الكبرى ماكرينا رئيسة دير للراهبات هناك، وكان ملتصقًا بها جدًا. لقد دعاها
“معلمته”، وخصص كتابًا سجل فيه حياتها، وخاصة ساعة نياحتها حيث كان حاضرًا
معها. فيما بعد كتب حوارًا على شاكلة
Phaedo لأفلاطون، يحوى حوارًا “عن النفس والقيامة”، مظهرًا أن
هذا الحوار قد تم بينه وبين أخته في لحظاتها الأخيرة على الأرض[13]، كما سنرى
بأكثر توسع.

 

أسقفيته

في
عام 370م سيم القديس باسيليوس الكبير أسقفًا على قيصرية الكبادوك، ولما كان
الإمبراطور فالنس الأريوسي قد بدأ يشن حملة اضطهاد ضد السالكين حسب إيمان مجمع
نيقية أراد القديس باسيليوس أن يحيط نفسه بمجموعة من الأساقفة المستقيمي الرأي،
فأنشأ أسقفيات جديدة قدر المستطاع. سام أخاه إغريغوريوس أسقفًا على نيصص. بعد قليل
سام القديس إغريغوريوس النزينزي أسقفًا على ساسيما
Sasima،
جنوب قيصرية، على الطريق إلى كيليكيا
Cilicia.

 

في
خريف سنة 371م قبل إغريغوريوس بغير إرادته الأسقفية على إيبارشية نيصص، وهى مدينة
صغيرة مجهولة تبعد حوالي عشرة أميال غرب العاصمة، قيصرية الكبادوك.

 

كما
نعلم من إحدى رسائل القديس باسيليوس[14] أن أخاه لم يكن يرغب في استبدال حياته
الرهبانية المكرسة للدراسة والتأمل في هدوء وسلام بالتزامات الأسقفية الضخمة.

 

كانت
المدينة مجهولة حتى أن صديقهما يوسابيوس الساموساطي كتب إلى القديس باسيليوس
يعاتبه لأنه يدفن شخصًا مشهورًا في إيبارشية مجهولة. فأجابه القديس أنه لم يفعل
ذلك بسبب نقص في إمكانيات أخيه أو لعدم استحقاقه، فإنه يستحق أن يتسلم خدمة
الكنيسة كلها مجتمعة معًا، وإنما ستنال الإيبارشية شهرة بأسقفها لا الأسقف
بإيبارشيته[15]. وبالفعل تحققت نبوته هذه واشتهرت نيصص بسبب أسقفها.

 

بالرغم
من قبوله الأسقفية بغير إرادته إلا أنه لم يتضايق من أخيه القديس باسيليوس كما فعل
القديس إغريغوريوس النزينزي بل ذهب بالفعل إلى نيصص، وبقي هناك.

 

لم
يكن مُوفقًا في عمله الأسقفي، وقد انتقده أخوه على عدم حزمه في معاملاته مع الناس
وفي تدبير الأمور المالية، وحسبه عاجزًا عن التصرف بما يناسب السياسات الكنسية[16].

 

يرى
البعض أنه لم يُعَّد إغريغوريوس ليكون أسقفًا بل مفكرًا وفيلسوفًا؛ كانت له العين
الفاحصة المدققة، وُهب وزنة غير عادية في نظام تفكيره[17]، كأنه قد خُلق ليكون
لاهوتيًا أكثر منه أسقفًا.

 

ربما
في بداية أسقفيته حدث خلاف بين باسيليوس وعمه (أو خاله) إغريغوريوس أحد الأساقفة
الكبادوك. وبنية صادقة وبساطة شديدة حاول إغريغوريوس أسقف نيصص أن يصالحهما فسقط
في خطأ غير لائق به كمسيحي. لقد بذل كل جهد للمصالحة، وإذ فشلت كل مجهوداته زوَّر
رسالة كما لو كانت من عمه، وجهها إلى أخيه، فيها يعلن عن شوقه الشديد نحو المصالحة.
لكن الأمر انكشف فاتسع الخلاف بالأكثر، وسقط إغريغوريوس في حرجٍ شديدٍ ووبخه أخوه
بعنف. على أي الأحوال، إن كان قد أخطأ بتزويره الرسالة، لكن من أجل محبته الشديدة
للسلام، وبصلواته تحققت المصالحة فيما بعد.

 

نفيه

لم
تكن الأسقفية بالنسبة له طريقًا مفروشًا بالورود، بل بالعكس كانت سلسلة لا تنقطع
من المتاعب والاضطهادات. قلنا إنه بطبيعته الهادئة كان يميل إلى حياة الرهبنة
والدراسة، فكان عميقًا في دراسته اللاهوتية، خاصة عن الثالوث القدوس. لهذا بدأ في
أسقفيته يقدم دراسته في هدوء وبعمق، الأمر الذي أثار الأريوسيين وأتباع
سابليوس[18]. لقد أدركوا خطورته اللاهوتية على بدعهم وسط هدوئه والذي يجتذب
الكثيرين؛ فبعلمه اللاهوتي وتقواه يحطم فساد معتقداتهم.

 

من
جانب آخر واجه القديس مقاومة عنيفة منهم (من قادة كنسيين شبه أريوسيين
Semi-Arians) كنوع من الانتقام من باسيليوس[19].

 

حاول
الإمبراطور الأريوسى فالنس
Valens التخلص من الأساقفة المخلصين لمجمع نيقية. في نهاية عام 375 عُقد
مجمع في أنقرة
Ancyra من الأساقفة الأريوسيين، موجهين اتهامين رئيسيين ضد القديس
إغريغوريوس:

1.
بطلان سيامته لأنها تخالف القوانين الكنسية.

2.
تبديد أموال الكنيسة التي تركها سلفه، وجه هذا الاتهام شخص يُدعى فيلوخاريس
Philocharis.

 

أُرسلت
فرقة من الجند للقبض عليه واقتياده إلى موضع المحاكمة. في الطريق حلت به قشعريرة
شديدة، وشعر بآلام مرض حاد، فطلب من الجند أن يسمحوا له بالعلاج، لكنهم صموا
آذانهم عن طلبه، وعاملوه بشيءٍ من القسوة، وكانوا يسرعون به. بطريقة غامضة هرب من
بين أيديهم بالرغم من مراقبتهم له بحرصٍ، واختفي في موضع للعلاج.

 

جمع
القديس باسيليوس مجمعًا من الأساقفة الكبادوك الأرثوذكس، وباسم المجمع بعث رسالة
جريئة ووقورة إلى ديموسثينيس
Demosthenes، يعتذر فيها عن عدم حضور إغريغوريوس أمام المجمع، مظهرًا بطلان
الاتهامات الموجهة ضده. أما بخصوص بطلان سيامته، فيجب ألا يُوجه إليه الاتهام بل
إلى من ساموه، فإنهم هم المسئولون عن سيامته. كما كتب رسالة لحساب أخيه وجهها إلى
شخص له تقديره يدعى أستورغوس
Astorgus يرجوه التدخل ليخلصه من مأساة محاكمته أمام القضاء.

 

بعدم
ظهور القديس إغريغوريوس لم يحقق المجمع هدفه. يبدو أن الرسالة أيضًا لم تحقق هدفها،
فقد أقيم مجمع آخر بأمر ديموسيثنيس
Demosthenes وذلك خلال تحرك قوى من جانب إيوستاثيوس أسقف سبسطية Eustathius of Sebaste، لكن رفض القديس الظهور أمامه.

 

في
سنة 376م عُقد مجمع في نيصص بواسطة أساقفة أريوسيين، وعُزل القديس من إيبارشيته في
غيبته، بأمر الإمبراطور.

 

هرب
القديس من إيبارشيته، إلى موضع غير معروف. لكنه من الأكيد لم يذهب إلى منطقة
أناسيس
Annesis، لأنه ذكر في كتابه “عن حياة ماكرينا”، انه لم يذهب
هناك ما بين عامىْ 372 و380. واضح مما جاء في بعض رسائله أنه إلتجأ إلى بعض
أصدقائه ويرى البعض انه ذهب إلى سيلوكية. من الملاحظ أنه في هذه الفترة بدأ ينشغل
بأفكار أخيه باسيليوس الخاصة بالإصلاح الروحي. بدأ يساعد أخاه في تأسيس الرهبنة في
كبادوكية، وفي النهاية كتب مقاله “عن البتولية”. كتبها كإنسان سبق له
الزواج وارتبط بزوجته في علاقة مقدسة ومحبة روحية؛ لكنه شعر بسمو الحياة البتولية
التي خلالها يتفرغ القلب والفكر وكل الطاقات للعبادة والخدمة خارج الالتزامات الأسرية.

 

عاش
القديس هذه الفترة في حياة تأملية ودراسة ممتعة للكتاب المقدس، لكن نفسه أيضًا
كانت مُرة من جهة شعبه وإيبارشيته، كما لم يتركه الأعداء في راحة، بل كانوا
يتعقبونه من موضع إلى آخر، ويسببون له متاعب جسدية.

 

هنا
يلزمنا أن نقف قليلاً لندرك أنه حتى العظماء من القديسين كانوا يمرون بلحظات ضعف.
فإن كان القديس إغريغوريوس قد قبل الآلام بشكر، لكنه في لحظات ضعفه كان يئن ويصرخ،
بل ويشكو إلى صديقه إغريغوريوس النزينزي الذي بعث إليه رسائل تعزية تسنده وسط
محنته.

 

للأسف
فقُدت رسائله إلى القديس إغريغوريوس النزينزي، لكن أمكننا التعرف على ما ورد فيها
من خلال إجابات صديقه عليها.

 

كتب
إليه صديقه إغريغوريوس النزينزي يقول له إنه وإن كان قد حُرم من تحقيق شهوة قلبه
أن يصحبه في منفاه، لكنه يشعر أنه حاضر معه في الروح. وأنه واثق في الله أن عاصفة
شديدة لابد أن تجتاح الموقف، وأن الله يعطيه حتمًا النصرة على مقاوميه، ويسنده
بسبب استقامة إيمانه[20].

 

إذ
كان يهرب من موضع إلى آخر شبَّه نفسه بقصبة على سطح مجرى المياه تتحرك من هنا
وهناك بلا هدف. أما القديس إغريغوريوس النزينزي فأجابه بأن تحركاته في الواقع كشبه
الشمس التي تبعث الحياة لكل من حولها أو كالكواكب التي تتحرك بقانون ثابت[21].

 

بمعنى
آخر بينما كان القديس إغريغوريوس أسقف نيصص في وسط آلامه يحسب هروبه مضيعة للوقت،
وخسارة وحرمًانا من الخدمة، إذا بصديقه يرى يد الله الحكيمة التي تحوِّل حتى ما
نحسبه خسارة نفعًا. وأن ما يحل بنا من متاعب هو بسماح إلهي لبنيان أنفسنا والكنيسة.
وكأننا في يديه كالكواكب المنيرة التي يحركها بخطة إلهية فائقة.

 

إذ
كان صديقه في ثقة كاملة أن الله لابد أن يحطم الهرطقة الأريوسية أمر صديقه أن يحيا
بفرح وبهجة، مؤكدًا له أن أعداء الحق أشبه بالحيات التي تخرج من جحرها في وسط الظهيرة
معتمدين على السلطان الإمبراطوري المساند لهم، وبالرغم من حفيفهم المستمر، لكنهم
في الوقت المناسب يعودون إلى جحورهم ويظهر الحق. هذا يتحقق إن تركنا الأمر في يد
الله[22].

 

لقد
تحققت كلمات القديس إغريغوريوس النزينزي[23]، إذ لم يمضِ عامان حتى مات الإمبراطور
الأريوسى فالنس
Valens سنة 378م، وتولى الإمبراطور جراتيان Gratian
– صديق القديس أمبروسيوس وتلميذه [24] الحكم، فأصدر أمره بعودة الأساقفة المنفيين
والمُستبعدين من كراسيهم.

 

في
رسالة[25] ربما كتبها لأخيه القديس باسيليوس وصف استقبال الشعب له. كان الشعب يخرج
من القرى ليستقبلوه بكل حفاوة كغالبٍ ومنتصرٍ؛ كانوا يهتفون ويهللون، وكانت دموع
الفرح تنهمر من عيونهم.

 

قبل
وصوله إلى نيصص هطلت أمطار غزيرة جعلت كثيرين يلتزمون بالبقاء في منازلهم، لكن ما
أن سمعوا بأن مركبته قد بلغت الطريق حتى تجمهر الكل حوله، حتى ساخت نفسه من الازدحام
الشديد. كما شاهد بجوار الكنيسة أشبه بنهرٍ من النار، وذلك من كثرة المشاعل التي
حملتها العذارى القديسات أمامه.

 

نياحة
أخيه

لم
يدم فرح الشعب كثيرًا، ففي أول يناير سنة 379م تنيح القديس باسيليوس، فتأثر جدًا،
إذ كان يتطلع إليه كأب ومعلم.

 

إن
لم يكن قد حضر لحظات نياحته فعلى الأقل حضر صلاة الجناز، وألقى كلمة؛ ونحن مدينون
لها في معرفتنا الكثير عن حياة القديس باسيليوس[26].

 

لم
يستطع صديقه إغريغوريوس النزينزي أن يشترك في الجنازة بسبب ثقل مرضه، فبعث رسالة
عزاء وامتدح فيها القديس إغريغوريوس بإطراء، وقال فيها إن عزاءه الرئيسي أنه يرى
كل فضائل باسيليوس منعكسة على حياته كما في مرآة[27].

 

شعر
القديس إغريغوريوس أسقف نيصص بالالتزام أن يضاعف جهده ليكمل رسالة أخيه من جهة
نشاطه الرعوي وعمله اللاهوتي وتنظيم الحركة الرهبانية.

 

شهرته
اللاهوتية

نال
القديس شهرة فائقة بسبب كتاباته اللاهوتية، فاشترك في مجامع كثيرة لحل مشاكل
لاهوتية.

أصدر
ثيؤدوسيوس الكبير قرارًا بتعيين القديس إغريغوريوس أسقفًا مركزيِّا لكل إيبارشية
بُنطس. هذا القرار يعنى أنه وإن كان مركزه الكنسي ليس بذي أهمية لكنه صار المشير
الموثوق فيه للحكومة، له الكلمة الأخيرة في استبعاد الأريوسيين وإقامة أساقفة جدد
يتبعون الإيمان النيقوي[28].

 

في
سبتمبر سنة 379م اشترك في مجمع أنطاكية الذي انعقد لغرض مزدوج:

1.
الانقسام الأنطاكي، الذي لم يستطع المجمع معالجته.

2.
تأكيد الغلبة على الأريوسية.

 

في
رجوعه من المجمع وقف في أناسيس ليلتقي مع أخته ماكرينا في الساعات الأخيرة من
حياتها على الأرض.

 

في
قصة حياة أخته ماكرينا التي كتبها، جاء على لسانها أنها قالت بان شهرته قد انتشرت
وتألقت، فصار اسمه يتردد في المدن والكنائس وبين الأمم وكانت “الكنائس تدعوه
وترسل إليه ليقف بجوارها في جهادها ولتنظيمها[29]” وقد سبق لي عرض بعض رحلاته
واشتراكه في كثير من الجامع الكنسية.

 

آخر
مرة ظهر فيها في القسطنطينية عام 394 حيث اشترك في مجمع هناك، غالبًا ما تنيح في
نفس العام.

——————

[1]
مختصر عن: القديس إغريغوريوس أسقف نيصص، القمص تادرس يعقوب ملطي، 1993.

[2]
Nicene & Post-Nicene Fathers,
Second Series, Vol. 5, p. 1
.

[3]
Ep. 13: 4 ad Liban.

[4]
Orat. in XL mart. PG 46: 776 .

[5]
De Hom. Opif. PG 44: 125 B.

[6]
De virginitate, Praef. PG 46: 320;
CF. Hans Von Campenhausen: The Fathers of the Greek Church,
London 1963, p.116-117.

[7]
Stanley M. Burgess: The Spirit
and the Church: Antiquity, 1984, p. 144
.

[8]
Greg. Naz.: Ep. 11 ad Greg.

[9]
Virginity, chapter 3. PG 46: 32 A,B.

[10]
Ep. 197. PG 37: 324.

[11]
Smith & Wace: A Dictionary of
Christian Biography, London 1984, vol. 2, p. 762
.

[12]
Hans Van Compenhausen, p.116.

[13]
Hans Van Compenhausen, P.118.

[14]
Ep. 225: 385..

[15]
Ep. 98: 259.

[16]
Ep. 100; 58; 59; 60.

[17]
Hans Von Compenhausen, p. 115.

[18]
N.& P N. Frs., P. 5.

[19]
Smith & Wace, p. 763.

[20]
Greg. Naz. Ep 1F2.

[21]
Ibid 34 32, p.798.

[22]
Ibid 35: 33; p. 799.

[23]
Smith & Wace, P.764.

[24]
N. & PN. Frs. , P. 6.

[25]
Ep. 6 PG 46: 1033A -1036B.

[26]
Smith & Wace, p.764.

[27]
Greg. Naz. Ep. 37: 35; P.799.

[28]
Hans Von campenhausen , p. 119.

[29]
Hans Von campenhausen , p. 119.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى