علم

نظرة القديس إغريغوريوس النيسي لكمال الفضيلة[34]



نظرة القديس إغريغوريوس النيسي لكمال الفضيلة[34]

نظرة
القديس
إغريغوريوس النيسي لكمال
الفضيلة[34]

القمص
تادرس يعقوب ملطي

 

عصب
الفكر اللاهوتي عند القديس
إغريغوريوس هو دعوة الإنسان للتمتع
برؤية الله وشركة المجد الإلهي، وذلك بإعادة طبيعته إلى أصلها فتحمل صورة الله
وتتمتع بالتمُّثل به… فتنجذب إليه بكونه الأصل، وتعيش شاهدة له بحياتها الجديدة
الحاملة للقوة الإلهية، وتنعم بالسماويات.

المسيحي
مدعو للسلوك في طريق الكمال الأبدي، لا يعرف لكماله حدًا، ولا لطريقه نهاية، فإنه
يبقى سائرًا بفرح ليلتقي بمسيحه “الطريق” الأبدي!

[أما
بخصوص الفضيلة فإن التصميم على الكمال ليس له حدود. فالرسول الإلهي، الإنسان
العظيم والثابت في الروح، يسير في طريق الفضيلة ليمتد دائمًا إلى ما هو قدام (في
13: 3).

إنه
يشعر بأن التوقف في الطريق غير آمن. لأن كل صلاح بطبيعته غير محدودة، ولا يعوقه
إلا وجود ما هو مضاد له. فالحياة يوقفها الموت، والنور يحده الظلام.

هكذا
كل ما هو بالكلية صالح لا يتوقف إلا في النقطة التي يبدأ فيها ما هو ضده…

لقد
أظهرنا أن كل ما يمكن أن يُحد فهو ليس بفضيلة[35].]

[من
يسعى في حياة الفضيلة يكون له شركة مع الله، لأن الله هو مصدر الفضيلة.

الفضائل
غير محدودة، لهذا يستحيل علينا أن نبلغ الكمال، لأنه غير محدود، إذ هو من سمات
الله غير المحدودة…

لا
نستطيع بلوغ قمة الكمال، لأن الكمال هو الله، لكننا نجاهد حسب إمكانياتنا حتى لا
نسقط من الكمال، ونسعى أيضًا لكي نقترب من الكمال، ونحصل على ما يمكننا بلوغه. هذا
هو ما يمكننا أن نعبر عنه بالكمال البشري، وهو النمو المستمر في الفضيلة.]

 

لا
يُبنى برج بحجرٍ واحدٍ!

يرى
القديس
إغريغوريوس
أسقف
نيصص أن النمو الروحي لن يتوقف حتى يتحقق بناء البرج السماوي في المؤمن، وكما يقول
السيد المسيح: “ومن منكم وهو يريد أن يبني برجًا لا يجلس أولاً ويحسب النفقة
هل عنده ما يلزم لكماله” (لو 14: 28).

[لا
يحصن الجنود أجسادهم جزئيًا تاركين بقيتها بلا حماية، لأنه ماذا ينفع التحصين
الجزئي للجسم إذا ما صُوب الموت نحو الأعضاء غير المحصنة؟

وأيضًا
من يهتم بجمال هيئته جزئيًا إن تشوَّه بسبب حادث؟ أليس تشويه عضو من الجسم ينزع
جمال الأعضاء السليمة؟

جاء
في الإنجيل بأن الذين يحاولون بناء برج، فيقضون كل أوقاتهم في وضع الأساس ولا
ينتهون منه، هم بالحق جهلاء.

هكذا
نتعلم من مثل البرج أن نجتهد ونتمم غاية سامية حتى ننجز عمل الله خلال البنية
المتنوعة لوصايا الله. فمن المؤكد أن الحجر الواحد لا يقيم برجًا بأكمله. وهكذا
طاعة وصية واحدة لا ترفع النفس إلى الكمال المطلوب.

 على
أي الأحوال لابد من وضع الأساس أولاً، ولكن كما يقول الرسول يلزم أن يوضع عليه
بناء من الذهب والحجارة الكريمة (1 كو 11: 3-13). إذ يصرخ المرتل قائلاً:
“أحببت وصاياك أكثر من الذهب والحجارة الكريمة”[36].]

 

كمال
الإنسان

في
مقاله “عن خلقة الإنسان
On
the Creation of man

يتحدث بكل صراحة عن العطايا الإلهية التي قدمها الخالق للمخلوق العجيب: الطهارة
والحب والسعادة والتعقل وحرية الإرادة… هذه كلها مرتبطة بالطبيعة البشرية التي
أوجدها الخالق محب البشر[37].

أما
وقد دخلت الخطية إلى حياة الإنسان ففي مرارة يتساءل القديس عما بلغه الإنسان من
فقدان لأيقونة الله، قائلاَ: [أين هي السمة الإلهية في النفس؟ أين ذلك التحرر من
الألم؟ أين خلودنا؟[38]]

العماد
بدء طريق الجهاد

[من
يتقبل حميم التجديد يشبه جنديًا صغيرًا أُعطى له مكان بين المصارعين، لكنه لم
يبرهن بعد على استحقاقه للجندية[39].]

 

الروح
القدس وحياة الكمال

يعلق
القديس
إغريغوريوس
على
القول: “عيناك حمامتان” (نش 1: 14) قائلاً إن العريس السماوي يمتدح
النفس التي تظهر من الأهواء الجسدية قائلاً لها “عيناكِ حمامتان”، إذ
تحمل بصمات الروح القدس في عينيها، فتظهر صورته عليها، وبهذا العمل يمكنها في هذا
الكمال أن تنظر جمال عريسها[40].

[عندما
يدعو الكلمة نفسًا تتقدم نحوه، للحال تتقوى عند أمره، وتصير حسبما يشتهي العريس.
إنها تتحول إلى شيء إلهي؛ هذا تحول من المجد الذي توجد فيه إلى مجد أسمى خلال نوعٍ
من التغير الكامل[41].]

[نرى
الكلمة يقود العروس صاعدًا، فترتفع على سلم، كما إلى الأعالي بصعود الكمال… إنه
يجتذبها باستمرار للشركة في الجمال الفائق، كما لو كانت لم تذقه بعد. بهذا تنمو
رغبتها في حصتها في التقدم نحو مرحلة جديدة للنمو. وبسبب سمو النعم التي تجدها
دائمًا تسم عليها يبدو لها كما لو كانت في بداية جديدة. لهذا السبب مرة أخرى يقول
الكلمة لعروسه اليقظة: “قومي”، وعندما تأتي يقول لها “تعالي”.
وبالنسبة له فإن من يركض نحو الرب في حقل مفتوح التقدم في الإلهيات لن ينهك قط.
لذا يليق بنا أن نقوم ولا نتوقف من الاقتراب أكثر فأكثر في ميداننا. فإنه ما أن
يقوم “قومي وتعالي” يهبنا القوة للقيام والتقدم[42].]

 [إذ
يترك الإنسان (محبة) العالم المظلم يصبح نقيًا طاهرًا بعمل الروح وبالتصاقه
بالنقاء الحقيقي… تشِّع النفس ضوءًا، وتصير هي نفسها نورًا كوعد الرب (مت 43:
13)[43].]

 

النمو
الروحي صعود مستمر نحو السماوي

يجري
الإنسان نحو الله خلال الأبدية، ويتقدم نحو هذه العظمة. وكلما صعد إلى فوق نما في
النعمة، لكن يظل الله عاليًا جدًا، فلا نهاية للوصول إلى كل ما عنده، إذ يظل
عاليًا عن الذين يصعدون نحوه.]

[لا
تتوقف النفس عن الصعود والتحرك من بداية إلى بداية جديدة، فإن بداية النعم العظيمة
ليس لها نهاية، لأن اشتياق الذين يصعدون لا يتوقف عند حدود ما أدركوه، بل تسهر
الروح في طريقها إلى أعلى، إلى السماء، بلا توقف وبلا حدود.]

 

من
مجدٍ إلى مجدٍ

يرى
القديس
إغريغوريوس
أن
النفس المقدسة إذ صارت حمامة طاهرة يدعوها عريسها أن تكون حمامة أكثر طهارة، فهي
تنتقل “من حمامة إلى حمامة”، “ومن مجد إلى مجد” (2كو 3: 18)،
ومن كمالٍ إلى كمالٍ أسمى مما هي عليه، إذ يُظهر لها الكلمة ما هو فوق
استطاعتها[44].

ننال
نعمة جديدة أعظم مما كانت لنا قبلاً، لا تضع حدًا لهدفنا النهائي، ونتمتع ببداية
جديدة نكتشف فيها خيرًا أعظم. فلا نتوقف عن القيام بل نتحرك من بداية إلى بداية
أخرى بلا حدود[45].

 

الكمال
وخلع ثوب الإنسان القديم المستمر

[بعد
نزع ثوبها القديم، وتجرد نفسها من كل ملبس آخر، تصير (عروس النشيد) أكثر نقاوة مما
كانت عليه. ومع هذا بالمقارنة مع هذه النقاوة الجديدة المطلوبة، تبدو كما لو أنها
لم تنزع غطاء رأسها. حتى بعد هذا التجرد الكامل تشعر أنه لا يزال يوجد ما يجب
التجرد منه. هكذا مع صعودنا نحو الله، في كل مرحلة نبلغ إليها نظهر دومًا شيئًا
ثقيلاً على النفس. هكذا بالمقارنة مع طهارتها الجديدة التي أوجدتها أن كل تجرد
لثوبها يصير نوعًا من الثياب كل من يجدها أن ينزعه[46].]

 

حرية
الإرادة وحياة الكمال

يرى
القديس
إغريغوريوس
في
القميص الجلدي الذي ارتداه الإنسان الأول إعلانًا أن الإنسان الذي خُلق ككائن روحي
صار في حياته وفكره وسلوكه جسدانيًا. وكأنه بهذا القميص يتعرف على ما بلغ إليه في
أعماقه، فيشتاق للرجوع إلى ما كان عليه قبل السقوط. يقول القديس أن الله لا يرغب
“أن ينسحب الإنسان من الخطية لاإراديًا، ولا أن يُلزم بالصلاح عن
ضرورة[47]”.

فإنه
إلزام الإنسان بالصلاح يحطم فيه حرية الإرادة ويفقده بالأكثر صورة الله، لكن خلال
القميص الجلدي ينفر الإنسان من الأمور الزمنية “وبإرادته يشتهي العودة إلى
حالته الأولى الطوباوية[48]”.

 

حياة
الكمال وقيامته السيد المسيح

يكشف
القديس
إغريغوريوس
عن
الموت الداخلي الذي حلّ بالنفس البشرية بفقدانها صورة الله واهب الحياة، وصار
عودتها للكمال ليس سلوكًا معينًا مجردًا، لكنه تمتع بالقيامة في المسيح المخلص،
هذا الذي جاء بالحق ليحطم الموت ويقيم محبوبه الإنسان.

[لم
يذق المسيح الموت لأنه وُلد؛ بالحري من أجل الموت وُلد. الحياة الأبدية ليست في
حاجة إلى الحياة، إنما دخل في وجودنا الجسدي، ليعيدنا من الموت إلى الحياة.
طبيعتنا بكاملها يلزم استدعائها من الموت، إذ بسط يده، كما إلى الجسد الميت، وجاء
ليرى الموضع الذي فيه نحن سقطنا بالحقيقة جاء ملاحقًا للموت لكي ما يلمس موتنا
نفسه، لكي ما يجعل من طبيعتنا – في جسده – أساس القيامة[49].]

 

الكمال
والحياة الجديدة

[أعبر
الأردن! أسرع نحو الحياة الجديدة في المسيح، إلى الأرض التي تثمر سعادة، تفيض
لبنًا وعسلاً للوعد. اطرح أريحا، طريقك في الحياة السابق… هذه كلها رموز للحقيقة
التي تعلن الآن[50].]

 

الانشغال
بالسماويات وحياة الكمال

[من
الأفضل أن نتطهر من أي انجذاب نحو الأمور الأرضية فننجذب نحو الأمور الفائقة على
الحواس. عندئذٍ لا نكف عن الإعجاب بجمال السماء ونورها، وكل جمال إلهي، يجذبنا نحو
الأمجاد السماوية ويشجعنا على ذلك. “السماوات تحدث بمجد الله، والفَلك يُخبر
بعمل يديه” (مز 1: 19).

هكذا
يليق بالنفس أن تترك كل شهواتها لكي تتأمل في السماء والنجوم حتى نستطيع أن تدرك
كل شهواتها لكي تتأمل في المساء والنجوم حتى تستطيع أن تدرك عظمة ما فوق الكواكب.

لكن،
كيف يمكننا أن نبلغ هذا ونحن لا نزال نشتهي الأرضيات؟!

كيف
يمكننا أن نطير إلى السماء بدون الأجنحة الإلهية، خاصة إن كنا نسلك في طريق تعلم
المعيشة. فإنه في الواقع لا يتأهل أحد لكي يصعد بفكره إلى السماء إلا إذا نال
معونة الروح القدس الذي يُرمز له بالحمامة، كقول داود النبي: “فقلت ليت لي
جناحًا كالحمامة فأطير وأستريح” (مز 6: 55). فإن الحمامة تطير بسهولة إلى
فوق، وتهرب من كل رائحة العفونة والفساد. هكذا حينما يتجنب الإنسان كل شهوات
الجسد، يرتفع إلى فوق بأجنحة حمامة “معونة الروح القدس”، ويسلك مجاهدًا
ضد هذا العالم. ويكتشف أنه لا يوجد ما يستحق أن يهتم به ويتعلق به، ويصير جميلاً
إذ يقترب من الجمال الحقيقي الذي هو الله، ويُضيء مثل النور، إذ تصير له شركة مع
النور الحقيقي.]

 

الجهاد
الروحي وحياة الكمال

يقول
القديس
إغريغوريوس
إنه
[لا يقوم التطويب على التعرف على الله بل على اقتنائه كقول الرب (مت 8: 5)[51].]

لكي
تقتنى الله في الداخل يليق بالنفس أن تتشبه بالمسيح الذي مات من أجل العالم، فإنها
[إن لم تمت تبقى ميتة تمامًا، فقط بالإماتة ونزع كل ما هو مائت عنها تقتنى
الحياة[52].]

[النفس
في رحلة حب دائم لكنها “رحلة مطوَّبة مع الله لا تتوقف[53].]

جهاد
النفس دائم ومستمر، رحلة ممتعة لا تتوقف، تجاهد لا بذاتها بل بالله العامل بنعمته
فيها، إذ يقول: [يجب أن تقودنا اليد الإلهية إلى غير المرئي.]

 

الشهادة
لله وحياة الكمال

[ليس
هناك طريق آخر يمكن به أن يمجد الإنسان الله غير فضيلته التي تحمل شهادة عن القوة
الإلهية كعلة صلاحه[54].]

 

الدعوة
لرؤية الله وحياة الكمال

[لا
ليقودنا إلى جبل (سيناء) بل إلى السماء عينها التي جعلها سهلة المنال للبشر
بالفضيلة.

ثانيًا
لا ليهبنا رؤية القوة الإلهية بل المشاركة فيها، حيث يحضرهم كمن هم في قرابة مع
الطبيعة الإلهية.

أضف
إلى ذلك أنه لا يخفي المجد الفائق في ظلمة ليجعله صعبًا للذين يريدون أن يتأملوه،
بل أولاً ينير الظلمة بنور تعليمه الإلهي، وعندئذ يمنح نقاوة القلب لرؤية المجد في
إشراق بهائه الذي لا يُوصف[55].]

يدعو
الإنسان المسيحي للصعود على سلم رؤية الله الروحي، إذ يقدم عدة درجات للرؤية:

الدرجة
الأولى: أن نرى الله خلال أعماله الإلهية وطاقاته، إذ يقول: [إنه غير منظور
بالطبيعة، لكنه يصير منظورًا بطاقاته[56]
His energies.]

أما
الدرجة الثانية فهي أن نرى الله في داخلنا، نرى أنفسنا كما ينبغي فنتمتع بملكوت
الله فينا، وتنجذب صورة الله إليه بكونه الأصل.

[إن
كان الإنسان نقى القلب يرى نفسه، فيرى في نفسه ما يشتهيه، وهكذا يصير مطوّبًا،
لأنه عندما يتطلع إلى نقاوته يرى أصل صورته[57].]

[ما
هي هذه الرؤية؟

إنها
النقاوة والقداسة والبساطة وما إلى ذلك من انعكاسات مثيرة للطبيعة الإلهية، التي
فيها يُرى (يُتأمل في) الله[58].]

[“ملكوت
الله داخلكم” لو 21: 17.

بهذا
نتعلم أن قلب الإنسان إذا تنقى من كل خليقة، ومن كل ميول جامحة، يرى صورة الطبيعة
الإلهية في جماله (أي في جمال الإنسان الداخلي)…

بالحقيقة
في قدرتك أن تحمل في داخلك المستوى الذي به تدرك الجمال الإلهي. لأن الذي خلقك وهب
طبيعتك هذه السمة العجيبة، إذ طبع الله عليها مثال أمجاد طبيعته. وكأنه قد شكل
الصورة منحوتة بالشمع، لكن الشر الذي صببته حول الطبيعة التي تحمل الصورة الإلهية
أفقدتك هذه الميزة العجيبة المخفية تحت أغطية فاسدة.

إن
غسلت بالحياة الصالحة الدنس الذي التصق على قلبك كلزقة، يشرق الجمال الإلهي فيك من
جديد[59].]

 

الدعوة
للحياة الملائكية وحياة الكمال

[لأتأمل
في الأمور العلوية،

ولأستهن
بما هو أرضى،

مظهرًا
طريق الحياة الملائكي[60].]

 [لا
يصلى الملاك إلى الله من أجل خبز الكفاف، لأنه لا تحتاج طبيعته إلى مثل هذه
الأمور…

الإنسان
الذي يقدم للطبيعة مجرد كفافها، ولا يترك أفكاره الباطلة تجول إلى ما وراء احتياجه
ليس بأقل من الحالة الملائكية بكثير، فإنه يتمثل بعدم احتياجهم إلى شيءٍ، ما دام
مقتنعًا في داخله بالقليل[61].]

 

 الكمال
ورؤية الله

[بدأت
رؤية موسى لله بالنور، بعد ذلك تحدث الله معه في السحاب. لكن عندما ارتفع موسى إلى
أعلى بالأكثر صار أكثر كمالاً، فرأى الله في الظلمة[62].]

[الطبيعة
الإلهية منيعة تمامًا من أية شركة في الشر، وهي بهذا تحمل الصلاح بلا حدود… لذلك
عندما تجتذب طبيعة بشرية للشركة في كمالها، فإنها من أجل السمو الإلهي يلزمها أن
تكون دومًا أسمى من طبيعتنا في ذات الدرجة. تنمو النفس بالشركة الدائمة مع تلك
التي يسمو عنها، غير أن الكمال الذي تشارك فيه النفس يبقى كما هو (بلا تغير)،
ويُكتشف دومًا بواسطة النفس لكي تسمو إلى ذات الدرجة[63].]

[إنه
بعد الإنصات إلى سرّ أسرار السماء، لم يسمح بولس للنعم التي ينالها أن تُحد من
شهوته، إنما يستمر دومًا يسير صاعدًا فصاعدًا دون توقف. هكذا يعلمنا – كما أظن –
أنه في شركتنا الدائمة في الطبيعة المباركة للصلاح، النعم التي ننالها في كل نقطة
عظيمة بالحق، لكن السبيل الذي وراء إدراكنا المباشر غير محدود. هذا يحدث على
الدوام للذين يشاركون في الصلاح الإلهي، فينعمون دائمًا بشركة أعظم فأعظم في
النعمة خلال كل الأبدية[64].]

 

حياة
الكمال حياة فردوسية داخلية

[يمتلك
الإنسان في داخله المواهب التي هي الأبدية والسعادة والحرية والإرادة الحرة ورؤية
البرّ بعقل غير مظلم، بل نقي من كل شهوة؛ وهذه هي صورة الإنسان التي عاش بها حين
كان في الفردوس. كان يتمتع بالخيرات الموجودة هناك، وكانت ثمار الأشجار التي يأكل
منها هي الحياة والمعرفة والحب.]

 

[يوجد
بالطبيعة البشرية المتغيرة الخير والشر ويتبادل وجودهما لأن عندنا القدرة على
اختيار أيّا منهما، وهما متناقضان. والنتيجة أنه يتبادل وجود الخير فينا مع الشر،
ويُصبح الشر حاجزًا للخير. فجميع نشاطات نفوسنا تظهر متعارضة، وهي تشجب وتحدد
بعضها البعض. وعلى الجانب الآخر تظهر الطبيعة الإلهية بسيطة، نقية، متجانسة
(متوافقة) ثابتة، غير متغيرة وهي دائمًا على ما هو عليه (غير المحوى غير المستحيل)
وهي تستمر غير محدودة في الخير، لأنها لا يمكن أن تشترك مع الشر. وهي لا تعرف
حدودًا لأنها لا تحتوى على متناقضات أو مضادات، لذلك حينما يجذب الله نفسًا بشرية
لكي تتحد معه، وذلك لما له من وفرة السمو في الخير، تستمر النفس أولاً في النمو
باشتراكها فيما هو أعظم منها، ولا تقف أبدًا عن النمو. والناحية الثانية التي
تستفيد منها النفس هي أن الخير الذي تشارك فيه النفس يظل كما هو (غير محدود). لذلك
فكلَّما استمرت النفس في المشاركة تعرف أكثر وبوضوح أن هذه المشاركة جعلتها ترتفع
في السمو إلى أفاق عُليا[65].]

 

[نحن
نرى الآن العروس والكلمة يقودها إلى أعلى درجات الفضيلة، إلى علو الكمال.

في
البداية يرسل لها الكلمة شعاعًا من نور من خلال شبابيك الأنبياء وكوى الوصايا. ثم
يشجعها على أن تقترب من النور وتصير جميلة بواسطة تحوّلها إلى صورة الحمامة في
النور. وفي هذه المرحلة تأخذ العروس من الخير بقدر ما تستطيع. ثم يرفعها الكلمة
لكي تشارك في جمال أعلى لم تتذوقه من قبل. وبينما هي تتقدم تنمو رغبتها في كل
خطوة، لأن الخير غير محدود أمامها. وتشعر باستمرار مع حلول العريس معها أنها قد
ابتدأت صعودها للتوّ فقط. لذلك يقول الكلمة للعروس التي اقامها من النوم:
“انهضي”. وإذ جاءت إليه يقول لها: “تعالي”، لأن الشخص الذي
دعاها للنهوض بهذه الطريقة في استطاعته أن يقودها إلى الارتفاع والنهوض بها إلى
مستوى أعلى.

الشخص
الذي يجري نحو الله ستكون أمامه مسافات طويلة. لذلك يجب علينا أن نستمر في النهوض
ولا نتوقف أبدا عن التقرب من الله. لأنه كلما قال العريس “انهض”
و”تعال” فإنه يعطى القوة للارتفاع لما هو أفضل. لذلك لابد أن تفهم ما
يأتى بعد في النص. عندما يحفز العريس العروس الجميلة لكي تكون جميلة فهو يذكرنا
حقًا بكلمات الرسول الذي يطلب منا أن نسلك سلوكًا فاضلاً لكي نتغير من مجدٍ إلى
مجدٍ (2 كو 18: 3). وهو يعني بكلمة “مجد” ما فهمناه وحصلنا عليه من بركة
في وقت من الأوقات، ولا يهم مقدار ما حصلنا عليه من مجدٍ وبركةٍ وارتفاعٍ، لأنه
يُعتقد أننا حصلنا على أقل مما نأمل في الحصول إليه. ولو أنها وصلت إلى جمال
الحمامة بما قد حققه إلا أن العريس يأمرها بأن تكون حمامة مرة أخرى بواسطة تحوّلها
إلى شيء أحسن. فإذا حدث ذلك فإن النص سوف يُظهر لنا شيئا أحسن من بهذا الاسم
“حمامة”[66].]

[عندما
يرتفع العقل إلى أعلى من خلال فهمه للحقيقة السامية، يجب عليه أن يعلم أن أي كمال
للحقائق التي وصلت إليها الطبيعة البشرية ما هي إلا بداءة لأمورٍ أكثر علوًا[67].]

[لا
يمكن لأحد أن يعيش معي دون أن يتغير بواسطة الموت بالمرّ إلى الحياة في القداسة
محوطًا بالأعشاب العطرة والبخور. ولا يتوقف عن الصعود بعد أن تصل إلى هذا المستوى
من الارتفاع، وكأنك حصلت على الكمال. فالأعشاب العطرة والبخور ترمز إلى بداية
الإيمان الذي حصلت عليه بالقيامة من الأموات، إنه بداية التقدم إلى مستويات عليا
من السمو. من هذه البداية وهي الإيمان “سوف ستتحرك إلى الأمام” أي أنك
ستواصل تقدمك في الارتفاع[68].]

[جهز
العريس ببعد نظره نعمة أخرى لعروسه. أراد لنا كلمة الله نحن المتغيرين بالطبيعة أن
لا نسقط في الشر، وأن نستخدم قدرتنا على التغيّر كطريق في صعودنا إلى مستويات أعلى
باستمرار التقدم إلى الكمال. وهكذا يمكن أن نظل ثابتين في الخير. لذلك يذكر
النشيد، وكأنه المدرس أو الحارس من الشر، هذه الحيوانات المفترسة التي تم هزيمتها
فيجب أن نزداد قوة في التمسك بالخير بعد أن نبذنا الشر. وبينما نتقدم باستمرار نحو
السمو والخير لا توجد فرصة للسقوط في الشر لذلك يطلب العريس من العروس أن تأتي
إليه من لبنان ويذَّكرها بالأسود التي قضت وقتا في ارتباطها معها[69].]

[قالت
العروس النقية الغير ملوثة: “أنا لحبيبي وحبيبي لي” (نش 3: 6). هذا هو
مقياس رباط الكمال في الفضيلة. نحن نعرف هنا أن النفس النقية تتمسك بالله وحده ولا
تنظر لأي شيء غيره. لذلك يجب أن تغسل نفسها من أي عمل أو فكر مادي وتتحول إلى
الروحانية واللامادية. وهكذا تُصبح صورة من الجمال الأصلي الأبدي[70].]

[يستمر
الخلق منذ بدأ بواسطة القوة الإلهية، لذلك فنهاية كل كائن ترتبط ببداية، فكل شيء
خُلق من لاشيء جاء إلى الوجود ببدايته. خُلقت أيضًا الطبيعة البشرية ولكنها لا
تتقدم إلى كمالها مثل بقية المخلوقات لأنها منذ البداية خُلقت كاملة: “وقال
الله نعمل الإنسان على صورتنا على شبهنا” (تك 26: 1). هنا توجد أعلى قمة في
الكمال والرفعة. ماذا يُوجد أعلى وأرفع من التشبه بالله؟ لذلك آخر الخليقة الأولى
هي في نفس الوقت بدايتها، لأن الطبيعة البشرية ابتدأت بالكمال. ولكن لما أصبحت
الطبيعة البشرية خاضعة للموت لجنوحها إلى الشر تحطم الاستمرار في الخير. فلم تأخذ
الطبيعة البشرية كمالها للمرة الثانية مباشرة كما يحدث في البداية، ولكنها تدرجت
في الخير بواسطة أمر الذي أزال عنا تدريجيًا ميولنا نحو الشر. لم يكن هناك عوائق
مع ميلاد طبيعتنا البشرية لأنها كانت كاملة وخالية من الشر. ولكن في التجديد
الثاني، لزم أن تكون هناك فترة من الزمن رافقت هؤلاء الذين ساروا في درب الخير
الأول. ولما كانت عقولنا تميل إلى الشر، فارتباطنا ومشاركتنا للشر يمكن أن يُنزع
منا مثل القلف الذي يغلف ساق الشجرة بواسطة سلوكنا في حياة الفضيلة[71].]

[إذ
تحقق النفس هذه الغاية (الحب)، لا تحتاج إلى آخرين، حيث تحتضن كمال الأشياء
الموجودة وتبدو بطريقة ما وحدها لتحفظ في ذاتها التطويب الإلهي. حياة الطبيعة
الفائقة هي الحب، حيث أن الجميل محبوب بكل وجه ممن يعرفه، والإلهي يعرف ذاته. تصير
المعرفة حبًا، لأن ما هو معروف جميل بالطبيعة.]

 

الكمال
وسرّ الإفخارستيا

[كما
أن جزءً قليلاً من الخميرة، كما يقول الرسول، يغير العجين كله، هكذا هذا الجسد
الذي اُحضر إلى الموت بواسطة الله، ما أن يدخل فينا حتى يحولنا ويغير كل ما فينا
ذاته[72].]

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى