علم

ثانيا – الاباء المدافعون



ثانيا – الاباء المدافعون

ثانيا
– الاباء المدافعون

لقد
وجد الدفاع- في معناه الواسع- قديما قدم المسيحية ذاتها، إذ بذل الكارزون بالإنجيل
كل جهدهم في البرهنة على حق الإنجيل والإجابة على الاعتراضات الموجهة ضده. كان
حديث الشماس الأول إسطفانوس أمام مجمع السنهدريم (أع6، 7) حديثا دفاعيا، وهكذا
أيضا خطاب الرسول بولس أمام فستوس (أع 24)، وجاءت أعمال الشهداء أمثلة حية في
الدفاع عن الإيمان المسيحي مجاهرة أثناء محاكماتهم.

 

بقدر
ما اتسمت المسيحية- منذ بدء انطلاقها- بالروح المسكونى، فلم ترتبط بثقافة معينة أو
أمة خاصة… وجدت نفوس عطشى للإيمان من أصل يهودي ورومانى ويونانى ومصرى وسريانى
الخ. هذا الأمر شكل خطرا يهدد كيان الدولة الرومانية التي وإن أظهرت تسامحا في ترك
الدول التابعة لها أن تمارس عبادتها المحلية ونشاطها الثقافي المحلى، لكنها أرادت
أن تسود بعبادتها الرومانية وثقافتها لكي تضمن ولاء الدول لها. لهذا اتهم
المسيحيون بالخيانة للإمبراطور… خاصة وأنهم كانوا يرفضون السجود لتمثال
الإمبراطور والتعبد له. ومن جانب آخر، هاجت الجماهير على المسيحيين إذ رأوا فيهم
احتقارا لمشاعرهم الشعبية بسبب إحجامهم عن المشاركة في الاحتفالات الدينية العامة.
هذا وقد كرس بعض الكتاب والفلاسفة من يهود وأمميين جهدهم للهجوم على المسيحية
والمسيحيين، يتهمونهم بالكفر والإلحاد، ويفترون على إنجيلهم، وينسبون إليهم
اتهامات أخلاقية، بجانب الخيانة للإمبراطور واحتقار الجماهير. لعل أهم هؤلاء
الكتاب هم لوسيان الساموساطى والفيلسوف فرنتو معلم الإمبراطور ماركوس أوريليوس
والأفلاطونى كلسس..

 

وكما
تقدم كثير من المسيحيين من كل الفئات والأعمار والثقافات للاستشهاد بفرح، انبرى
أيضا بعض الكتاب المسيحيين يدافعون عن الإيمان المسيحي والمسيحيين، هؤلاء دُعوا
” المدافعين “، ظهروا على وجه الخصوص في القرنين الثاني والثالث، وقد
وضعوا أمامهم ثلاثة أهداف:

 

ا-
الرد على الاتهامات العامة، خاصة الاتهام بأن الكنيسة تمثل نكبة على الدولة. فقد
أكد هؤلاء المدافعون أن الإيمان المسيحي يمثل قوة تسند سلام الدولة وتعمل على
رفاهيتها، لا لصالح الإمبراطور والدولة فحسب بل والحضارة أيضا.

 

2-
كشفوا عن لا أخلاقيات الوثنية وضلال أساطيرها، كما أعلنوا عن الإيمان المسيحي
بكونه وحده القادر أن يقدم فهما صحيحا بخصوص الله والعالم والإنسان. لقد دافعوا عن
العقائد الرئيسية مثل وحدانية الله، لاهوت السيد المسيح، قيامة الموتى.. الخ…
كما حملت كتاباتهم روحا كرازيا فاهتمت بجذب القارئ ليقبل الحق ويتفهمه، ودعته بلغة
ذلك العصر أي خلال الفلسفة، لقبول الإيمان الجديد وكشفت له عن جمال الحياة
المسيحية وعفتها…

 

3-
تحدثوا عن الفلسفات بكونها اعتمدت على العقل البشرى وحده، فحملت جانبا من الحق،
لكن ليس كل الحق، كما امتزج هذا الجزء من الحق بأخطاء كثيرة. أما الإيمان المسيحي
فقدم الحق خلال اللوغوس ” كلمة الله ” الذي نزل على الأرض معلنا الحق
الإلهي للبشر. لهذا فلا وجه للمقارنة بين المسيحية والفلسفة اليونانية، فالأولى
إلهية والثانية بشرية.

 

وفيما
يلى صورة مختصرة جدا عن أهم المدافعين المسيحيين الأولين:

ا-
القديس كوادراتس
Quadratus: يعتبر أقدم المدافعين المسيحيين، كتب دفاعه عن الإيمان المسيحي
في آسيا الصغرى، موجها إياه للامبراطور هادريان في هذا الدفاع هاجم آلهة اليونان
ومصر الوثنية، كما ذم الأخلاق اليونانية الوثنية.

 

2-
أرستيديس الأثينى
Aristides of
Athens
: من رجال القرن الثاني،
فيلسوف مسيحي ومدافع من أثينا. قدم دفاعه لهادريان.

في
دفاعه أوضح أن المسيحيين لهم إدراك لطبيعة الله بطريقة أكمل مما للبرابرة واليونان
واليهود، وأنهم وحدهم يحبونه حسب وصاياه. دافع فيه عن وجود الله وأبديته، كما شمل
التماسا وجهه إلى جميع الذين ليس لهم معرفة الله أن يقتربوا إلى الإيمان المسيحي
ليكونوا مستعدين للظهور أمام قضاء الله.

 

3-
أرسطون البيلى
Aristo of Pella: يبدو أنه أول مسيحي دافع عن المسيحية ضد اليهود كتابة. وقد جاء
دفاعه (حوالى عام 140 م) في شكل حوار بين جاسون المسيحي من أصل يهودي وبابيسكوس
يهودي إسكندرى ولا نعرف إن كانت هاتان الشخصيتان حقيقيتين أم رمزيتين.

 

4-
تاتيان السريانى
Tatian the Syrian: ولد عام 130 م من أبوين وثنيين، وتعلم البلاغة والفلسفة، وقبل
الإيمان المسيحي في روما ما بين 150 و165 م، وتتلمذ على يدى القديس يوستين، لكنه
اختلف عنه في آرائه.

 

عرف
بالتطرف في آرائه، فقد علم بالرفض التام لكل فلسفة يونانية، وأظهر امتعاضه حتى
للحضارة اليونانية من فن وعلم ولغة، لكنه لم يقدر أن يتخلص من الفكر اليونانى
تماما. وإذ عاد إلى الشرق حيث أسس جماعة الإنكراتيين، أي “المتقشفون”
التي تنتمى إلى جماعة الغنوسيين المسيحيين.

وقد
رفضت الزواج على اعتبار أنه زنا، وأدانت استعمال اللحم بأي شكل، وشرب الخمر، بل
استبدلوا الخمر بالماء في سر الأفخارستيا. لذلك دعى أتباع هذه البدعة
“المائيون”.

 

5
– القديس يوستين الشهيد (حوالى 100م- 164م)ولد في فلافيا نابوليس بفلسطين من أبوين
وثنيين. ومنذ حداثته كان يميل إلى التفكير العميق والبحث عن الله. التحق بمدرسة
أحد الرواقيين أتباع زينون وتركها لأنه لم يستطع أن يفسر له وجود الله، ثم أحد
الرواقيين المشائيين (الذين يمشون) أتباع أرسطو (كان يمشى وهو يعلم ويدرس) وتركها
لأنه أصر على دفع الرسوم أولا، والتحق بمدرسة فيلسوف فيثاغورثى وتركها لأنه أوجب
عليه أن يدرس الموسيقى والفلك والهندسة بينما هو لم يكن يميل إلى هذه الدراسات،
ومازال يسعى في طلب المعرفة وإشباع عقله حتى اهتدى إلى أحد الفلاسفة الأفلاطونيين
فتتلمذ له فترة من الوقت.

غير
أن هذه الفلسفات لم تكن لتشبع عقل وقلب يوستين، إذ لم يكن له عقل متفتح وحسب، لكن
كانت له روح جائعة متعطشة للنور والحق، وبينما كان يسعى وراء الوحدة حتى يتمكن من
التأمل بعقل غير مرتبط بالأشياء الخارجية، وفيما هو مستغرق في تأملاته، وهو يسير
على شاطئ البحر في بلده، قابله شيخ مهيب تبدو على محياه الجاذبية والعذوبة، وبدا
ليوستين كما لو كان فيلسوفا وجد الراحة والسلام في فلسفته، وتحدث هذا الشيخ مع
يوستين في شئون الفلسفة وأقنعه أن الفلسفة الأفلاطونية تعجز عن إشباع قلب الإنسان،
فسأله يوستين في لهفة وتعجب: أين إذن أجد الحق إذا لم أجده بين الفلاسفة؟ ”
فأجابه الشيخ: قبل الفلاسفة بزمان طويل عاش في الأزمنة الغابرة رجال سعداء أبرار
هم رجال الله، نطقوا بروحه وسُمّوا أنبياء، وهؤلاء نقلوا إلى البشر ما سمعوه وما
تعلموه من الروح القدس، وكانوا يعبدون الله الخالق أب جميع الموجودات، وعبدوا ابنه
يسوع المسيح، فاطلب أنت حتى تنفتح لك أبواب النور الآن.

وبعد
أن قال له الشيخ هذا الكلام، توارى عنه، ولا شك أن هذا الطريق الذي أرشده إليه ذلك
الشيخ بكلامه، كان أمله منذ شبابه، وبعد أن استمع إلى الفلاسفة، تحول إلى
الأنبياء، بل إلى ذاك الذي هو أعلى من أعظم الأنبياء علو السموات عن الأرض، الكلمة
الأزلى، الذي أصبح يوستين منذ ذلك الوقت الشاهد الأمين له، ويروى يوستين أثر
مقابلته مع الشيخ: “عندما تحدث معى عن هذه الأمور وعن الكثير من الأمور
الأخرى، ليس هناك وقت لذكرها الآن، رحل عنى بعد أن جذب انتباهي إليها، ولم أره
ثانية منذ ذاك الحين، وللوقت اشتعلت نار في نفسى، وتملكتنى محبة للأنبياء ولهؤلاء
الذين كانوا أتباع المسيح، وفيما كنت أتأمل في كلماته في ذهنى، وجدت أن هذه
الفلسفة وحدها يمكن أن تكون آمنة ونافعة، وهكذا صرت فيلسوفا لهذا السبب، وأتمنى لو
أن للناس جميعا نفس فكرى، وأن لا يضلوا عن تعاليم المخلص ”

وانكب
يوستين على قراءة تلك الكتب التي أرشده إليها ذلك الشيخ المجهول، فتوصل إلى أن
الفلسفة المسيحية هي الوحيدة التي تستطيع أن تشبع عقله، فآمن بالسيد المسيح
واعتمد، وبدأ يحيا منذ ذلك الحين حياة الفيلسوف الحقة، كما يقول هو عن نفسه، وقد
ذكر في دفاعه الثاني أن الشجاعة البطولية التي كان المسيحيون يواجهون بها الموت
لعبت دورا كبيرا في قبوله للإيمان:

“لقد
اعتدت أنا نفسى أن أسر بتعليم أفلاطون، وأن أسمع الأحاديث الشريرة عن المسيحيين،
لكن عندما رأيتهم لا يهابون الموت ولا أي شئ آخر مرعب، أدركت أنهم لا يمكن أن
يكونوا أشرارا أو محبين للشهوات “.

فسعيه
الصادق لبلوغ الحق، وصلاته المتواضعة، جعلاه في النهاية يقبل الإيمان بالمسيح:

“عندما
اكتشفت ما حاكته الأرواح الشريرة حول تعاليم المسيحيين الإلهية، كي تعيق الآخرين
عن الانضمام إليهم، سخرت من أصحاب هذه الأكاذيب ومن الرأي السائد، وأنا أعترف أننى
صليت وجاهدت بكل قوتى لكي أصير مسيحيا”.

وبعد
قبوله للإيمان، والذي حدث في الغالب في أفسس، كرس حياته كلها للدفاع عن الإيمان
المسيحي، وإذ كان يعتبر الفلسفة الأفلاطونية بمثابة إعداد العالم الوثني لقبول
المسيحية، لم يكف بعد إيمانه عن تقدير الفلسفة، بل ظل يرتدى الباليوم (عباءة
يرتديها الفلاسفة اليونانيون)، ولكنه لم يفعل ذلك هروبا من أن يظهر كتلميذ للمسيح،
فهو يقول عن نفسه:


لقد طرحت جانبا كل الرغبات البشرية الباطلة، ومجدى الآن في أن أكون مسيحيا، ولا شئ
أشتهيه أكثر من أن أواجه العالم كمسيحي.

ويقول
عنه يوسابيوس القيصرى في تاريخه الكنسى:

“وفي
تلك الأيام اشتهر يوستين بصفة خاصة، وإذ تنكر في هيئة فيلسوف، بشر بالكلمة
الإلهية، وناضل عن الإيمان بكتاباته “.

وكان
يوستين يجول من بلد لآخر يعلن الحق الكتابى، ووصل إلى روما أثناء حكم أنطونيوس
بيوس (سنة 138- 161 م) وأسس مدرسة هناك، وكان تاتيان- الذي صار مدافعا فيما بعد-
أحد تلاميذه فيها، واتخذ يوستين من الفلسفة وسيلة للتبشير بالمسيحية والدفاع عنها،
وكان يعقد مقابلات عديدة مع اليهود والوثنيين، وكذلك مع الهراطقة، وفي هذه
المناقشات أظهر صبرا وثباتا عجيبين، وقد لاقى في روما مقاومة عنيفة ممثلة في
الفيلسوف الكلبى كريسنس الذي وصفه يوستين بالجهل.

وقد
رفع الفيلسوف المسيحي دفاعيه إلى الإمبراطور أنطونيوس بيوس وأبنائه، ونجد دفاعه
هذا ملئ بالشجاعة والكرامة الإنسانية، فقد كان اتجاهه في دفاعه هو عدم التوسل
والخوف من القوة الغاشمة، ويقول في دفاعه موجها الكلام للإمبراطور:

“أنتم
تدعون في كل مكان “بيوس” (أي تقى)، حارس العدالة، صديق الحق، وستظهر
أعمالكم، إذا كنتم جديرين بهذه الألقاب، ولست أقصد من وراء ذلك أن أتملقكم، أو أن
أحصل منكم على إحسان ما، إننى ببساطة أسألكم أن تعاملوننا بقوانين العدالة المدققة
المستنيرة، وليس بمجرد الحدس، أو تحت تأثير خرافة تصدقونها بقصد إدخال السرور على
الناس… فان هذا يدينكم “.

وقد
نال يوستين إكليل الاستشهاد في روما في ولاية الحاكم يونيوس رستيكوس (163- 167) في
عهد الإمبراطور أنطونيوس بيوس، ولدينا وصف موثوق به يروى وقائع استشهاده، وهو وصف
يعتمد على تقرير رسمى خاص بالبلاط الإمبراطورى، وبحسب هذه الوثيقة، استشهد يوستين
ومعه خمسة رجال وامرأة حوالى عام 165 م، ويروى لنا المؤرخ يوسابيوس القيصرى أن
يوستين استشهد “نتيجة لمؤامرة دبرها ضده كريسنس الفيلسوف الذي اقتدى بحياة
وعادات الكلبيين الذين حمل اسمهم، وبعد أن هزمه يوستين مرار في مناقشات ومناظرات
عامة، نال إكليل الظفر باستشهاده، مائتا دفاعا عن الحق الذي كرز به “.

وقد
توقع يوستين هذا مسبقا اذ يقول:

“لذلك
فإننى أيضا أتوقع أن تدبر ضدى المؤامرات وأوضع في المقطرة على يدى أحد الذين
ذكرتهم، أو ربما على يدى كريسنس، ذلك الرجل الجاهل الأحمق، لأنه لا يستحق أن يدعى
فيلسوفا ذاك الذي يشهد علنا ضد من لا يعرف عنهم شيئا، مصرحا بأن المسيحيين كفرة
أشرار، وذلك لمجرد تملق الجماهير وإرضائهم، وبذا أخطأ خطأ عظيما.

لأنه
إذ هاجمنا دون قراءة تعاليم المسيح، برهن على تردى أخلاقه، وعلى أنه أجهل من غير
المتعلمين، الذين كثيرا ما يتحاشون أن يناقشوا أمورا لا يعرفون عنها شيئا، أو أن
يشهدوا عنها شهادات كاذبة، أما إن كان قد قرأها ولم يدرك مقدار ما فيها من سمو، أو
إن أدرك وفعل هذه الأمور لكي لا يظن الناس أنه مؤيد لنا، فقد صار أكثر رداءة،
لاستعباده للمديح الباطل، والخوف غير المعقول.

لأننى
أريدكما أن تعلما أننى عندما اقترحت أسئلة معينة ووجهتها إليه، علمت وبرهنت على
انه لا يعرف شيئا”. وروى تاتيان أن يوستين استشهد نتيجة لمؤامرات كريسنس،
وذلك في مؤلفه ضد اليونانيين، إذ يقول:

“وذاك
الذي نادى باحتقار الموت (أي كريسنس) كان هو نفسه في أشد الفزع منه، حتى أنه سعى
للحكم بالموت- وهو أمر في غاية الشر- على يوستين، لأن هذا الأخير برهن- عند
الكرازة بالحق- على أن الفلاسفة شرهين ودجالين”.

كتابات
يوستين

كان
يوستين كاتبا خصبا، بيد أنه لم يصلنا إلا ثلاثة من أعماله التي ذكرها يوسابيوس
القيصرى، وهي موجودة في مخطوطة نسخت سنة 1364 م, وهذه الأعمال هي:

*
الدفاع الأول ضد الوثنيين.

*
الدفاع الثاني ضد الوثنيين.

*
حواره مع تريفو اليهودي.

وكتاباته
تعلن عن شخصية صريحة صادقة تسعى للوصول إلى اتفاق وتفاهم مع من تناقشه، وكان
يوستين مقتنعا بأن “كل من يستطيع أن يتكلم عن الحق، ولا يتكلم، سيدان من الله
” وهو يعد أول كاتب كنسى حاول التوفيق بين المسيحية والفلسفة، ويقول يوسابيوس
المؤرخ عن كتابات يوستين:

“لقد
ترك لنا هذا الكاتب آثارا كثيرة عن عقل تهذب وتدرب في الإلهيات المليئة بكل ما هو
نافع من كل نوع “.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى