علم

حياة أثناسيوس الكبير



حياة أثناسيوس الكبير

حياة
أثناسيوس الكبير

مجموعة
من المؤلفين

 

الفهرس

حياة القديس أثناسيوس الكبير

مقدمة

كنيسة الإسكندرية في أواخر القرن الثالث

بزوغ أثناسيوس

مجمع نيقية

أثثاسيوس أسقف

خصب روحي يليه النفي ثالث

نهاية حياة أثناسيوس

تعليمه

المزيد عن شخصية القديس أثناسيوس

علاقته الشخصية بالمسيح

تمسكه بمجاري النعمة

1. الإفخارستيا

2. الكتاب المقدس

تمسكه الشديد بالتقليد الشريف

اتصاله المستمر بالأوساط الرهبانية

1. تقواه وتقشف حياته

2. لا حقيقة بدون تقوى

3. لا عقيدة مجردة عن التصوف والحياة الروحية الواقعية

إدراكه الواضح لحدود العقل البشري في معرفة الإلهيات

حرصه على وحدة الكنيسة

منهجه اللاهوتي للأب متى المسكين

1. المنهج العام

2. الاتجاهات المدرسية للاهوت أثناسيوس

كتابات القديس أثناسيوس

من أقوال بعض الآباء في القديس أثناسيوس

من عظة للقديس غريغوريوس النازينزي

من عظة أخرى للقديس غريغوريوس النازينزي

أقوال أخرى للقديس غريغوريوس النازينزي

أقوال للقديس باسيليوس الكبير

القديس يوحنا الدمشقي

مقتطفات من آثار القديس أثناسيوس

الحياة في المسيح

في سر الشكر

في معرفة المسيح والإيمان به

في الكتاب المقدس

نصائح إلى الأساقفة

لا تسمحوا أن تداس الكنيسة

نحن مسيحيون نسبة إلى المسيح

في التقليد الشريف

في البتولية

في ضرورة حياة القداسة

في الخلق

في السقوط

في التجسد

في ألوهة الابن

في التغير الذي أتمه الصليب في علاقة الموت بالإنسان

من رسائله القانونية الثلاثة التي ذكرت في القانون الأول للمجمعين
المسكونيين الأول والسابع وفي القانون الثاني للمجمع المسكوني السادس (مجمع ترولو)

خلاصة رسالته إلى الراهب عمون

خلاصة رسالته التاسعة والثلاثين

خلاصة رسالته إلى اورفيانوس

في تعاليم أنطونيوس الكبير بقلم أثناسيوس

في الروح القدس

في الثالوث القدوس

في التألّه

 

الفصل
الأول: حياة القديس اثناسيوس الكبير

 

 مقدمة

 كنيسة
الإسكندرية في أواخر القرن الثالث

 بزوغ
أثناسيوس

 مجمع
نيقية

 أثثاسيوس
أسقف

 خصب
روحي يليه النفي ثالث

 نهاية
حياة أثناسيوس

 تعليمه

 

مقدمة

في
الثاني من شهر أيار تقيم الكنيسة المقدسة ذكرى نقل رفات القديس أثناسيوس الكبير
وتهتف له بهذه العبارات:

(لقد
صرت عموداً للرأي المستقيم موطداً الكنيسة المقدسة بالعقائد الإلهية, يا رئيس
الكهنة أثناسيوس, لأنك لما كرزت بمساواة الابن للآب في الجوهر, خذلت آريوس أيها
الأب البار. فابتهل إلى المسيح الإله أن يمنحنا الرحمة العظمى).

 

(لما
غرست عقائد الرأي, نزعت أشواك العبادة الوخيمة, وأنميت بذار الإيمان بغيث الروح,
فلذلك نمدحك أيها البار أثناسيوس).

 

بهاتين
الطروباريتين تعطينا الكنيسة فكرة واضحة موجزة عن حياة هذا البار في جوهرها, لأنها
تسهر بتقليدها الحي على تنشئة أجيالها على القداسة فتجعل قديسيها منتصبين دوماً
أمامنا نستوعب من مثالهم ونلتمس قدوتهم الصالحة, لتصبح الحياة ضمنها تياراً واحداً
مستمراً متحركاً يجري (كسواقي النعمة), فيصل الماضي بالحاضر كسلسلة أحداث متلاحمة
متماسكة تحث على التوبة وتشجع على الإيمان القويم!

 

يلفت
انتباهنا هذا القديس الذي بذل خمساً وأربعين سنة في خدمة (الكلمة) (اللوغوس),
والدفاع عن ألوهيته. إنه يثير اهتمامنا بنوع خاص لأن الكنيسة اجتازت بفضل بطولته
وصلابته, مرحلة عسرة كادت تهدم كيانها وتزعزع أسسها! نظرة خاطفة إلى حياته قد
تعبِّر أكثر من كتاباته وأكثر من أي تعليق عن شخصية هذا الرجل الجبّار.

 

كنيسة
الإسكندرية في أواخر القرن الثالث

ولد
أثناسيوس, غالباً, في الإسكندرية حوالي سنة 295 أو ربما بعد ذلك بقليل في عائلة
مسيحية ورعة. ويقول القديس غريغوريوس النازينزي: (لقد شبّ منذ البدء في الممارسات
الدينية وسيرة التقوى) (العظة 21 , 6). والإسكندرية, في نهاية القرن الثالث, عاصمة
تعج بالحركة والنشاط تتشعب فيها حضارات مختلفة وتنشأ فيها التيارات الفكرية
المتنوعة إنها مرفأ مزدهر تختلط فيه شعوب من بلدان متعددة ومركز للعلم والثقافة ذو
مجتمع راق يحب الإطلاع والمناقشة والمجادلة. ترعرعت فيها المسيحية بطريقة عجيبة
وانتشرت انتشاراً باهراً, لمعت فيها أسماء نيّرة: افلوطين الفيلسوف, اقليموس
الإسكندري, أوريجانس البليغ, فكانت مهد الفلسفة والأبحاث المنطقية وازدهار الفكر
الإنساني من كل النواحي.

 

أمّا
كنيسة الإسكندرية فهي أيضاً متفوّقة, لها مدرستها وأساتذتها. رئيس أساقفتها يدير
شؤون مصر بكاملها حتى حدود ليبيا الحالية ويرأس حوالي مئة أسقف ويُلقّب (ببابا
إفريقيا). وهي كنيسة حيّة تعلّم وتكرز, تعمّد وتحتفل بالأعياد السيّدية, تنعم
بالطمأنينة بعد أن تلاشت الاضطهادات حيناً وتترعرع بأمن واستقرار. دام هذا النعيم
حتى سنة 303 حين أتى بغتة الإمبراطور ديوكليسيانوس, وهذا آخر مضطهد عرفه التاريخ
{أي التاريخ الروماني (الناشر)}, بمرسوم منع فيه التجمعات المسيحية وأمر بهدم
الكنائس وإتلاف الكتب الدينية! فعادت الدماء تُسفك من جديد في مختلف أنحاء
الإمبراطورية, وانتشر الذعر, وامتلأت القلوب خوفاً وزجّ الكون رهباً! قد يذكر
أثناسيوس وهو في العاشرة من عمره, شيئاً من هذه البشاعة (لأنه مخضرم بين الكنيسة
المعذبة والكنيسة المنتصرة) فتركت في قلبه تعاسة ويأساً ولكنها أكسبته صلابة
الشهيد وجأشه, وكوّنت شخصيته إلى حد الشراسة أحياناً! يخبرنا أفسابيوس القيصري المؤرخ
كيف أن السلطة أمرت بأن تقام الخدم في كافة المعابد الوثنية وعلى المواطنين جميعهم
أن يَنْحَنوا أمام المذابح ويقدِّموا البخور فيها. وكل من يأبى ذلك يُقاصَصْ
قصاصاً مرّاً: (… تقلع العين بالخنجر ويحرق جذرها ثم يدفع بالمسكين أمام المذبح
الوثني ويُناوَل المبخرة لكي يسجد أمام الآلهة وحينئذ يحسب من عداد الذين أنكروا
مسيحيتهم!)…

 

دامت
هذه الاضطهادات عشر سنوات تتأزم تارة وتتلاشى تارة أخرى حتى وفاة ديوكليسيانوس. ما
كان مصير الذين أنكروا دينهم تحت الضغط؟ هذا السؤال سبّب مشكلة في الكنائس وخاصة
في كنيسة الإسكندرية. تكوّنت في هذه الأثناء جماعة من المسيحيين يحسبون أنفسهم
(أنقياء) أي الذين صمدوا أمام الاضطهادات ولم يجحدوا, ترأسهم الأسقف ملاسيوس
وخاصموا رئيس الأساقفة بطرس إذ وجدوا أن موقفه متسامح مع الذين ضعفوا! فانشق
ملاسيوس وأتباعه عن الكنيسة. وما لبث أن استشهد بطرس ذلك الأسقف القديس وخلفه
الباب ألكسندروس الذي تأثر لوضع الكنيسة الأليم وأراد أن يعيد الأمن إليها
مسترجعاً أعضاء الكنيسة المنشقين.

 

بزوغ
أثناسيوس

أُفسح
المجال أمام ألكسندروس لهذا العمل إذ كان كل شيء على ما يرام من الناحية السياسية.
فبعد وفاة الإمبراطور الطاغية سجّل أحد خلفائه, قسطنطين الأول, وكان محبذاً
للمسيحيين, انتصارات هامة جعلته الحاكم الأوحد على القسم الغربي من الإمبراطورية,
فاتفق سنة 312 مع مشاركه في الحكم, إمبراطور الشرق, على إنهاء الاضطهادات وإعطاء
حرية ممارسة الأديان للجميع. حسب القديس غريغوريوس اللاهوتي لم يمض أثناسيوس وقتاً
طويلاً في دراسة العلوم الدنيوية واكتساب ثقافة عامة. لكنه كان له بدون شك معرفة
كافية بالفلسفة القديمة خاصة بالأفلاطونية الجديدة. وكان قد اهتمّ خاصة أثناء سني
تحصيله العلمي بدراسة الكتاب المقدس الذي كان يعرف كل أسراره. وربما قد تتلمذ على
أيدي بعض أساتذة مدرسة الإسكندرية الشهيرة. وفي حوالي سنة 313 كان أثناسيوس ينهي
دروسه اللاهوتية فلفت انتباه أسقفه ألكسندروس لحدة ذكائه وسعة إمكاناته, فاهتم
الأسقف بمتابعة دروس أثناسيوس ورسمه شماساً في سنة 319 وجعل منه أمين سره. وبادر
معه إلى ترتيب أمور الكنيسة التي تضعضعت بسبب هذه الكوارث كلها. لكن هذه الجهود لم
تُبذل بأمان لأن شيئاً آخر كان يحول دونها: أحد كهنة الإسكندرية المسمّى آريوس
الذي يدّعي الفلسفة والتقشف كان يُعكّر صفاء الجو بنشره آراء بعيدة كل البعد عن
الاستقامة! يستند على أتباع ملاسيوس ليكتسب قوة, ويعبِّر بكلمات فصيحة ويبدي
براهين كتابية ليثبت أن الابن, الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس ليس بإله وإنما
هو أول المخلوقات وأرفعها مرتبة, أي ليس مساوياً للآب في الجوهر! حتى لو دعوناه
إلهاً, يقول آريوس, إنه ليس بإله في الحقيقة بل الاسم فقط! لم يكن موجوداً منذ
البدء إذ أن له بداية ولا يتنعم بجوهر الآب ولا بطبيعته! آراء أوريجنيسية مزيّفة؟
ن له أنت

 

أفلوطينية
محرّفة؟ على كلٍ هرطقة أكيدة! اضطرب ألكسندروس بهذه الأنباء, فاستدعى آريوس
واستجوبه ليتحقق مما سمعه فاضطرب أكثر وأكثر وعقد مجمعاً ضمّ كل أساقفة مصر, وحكم
على آريوس سنة 320. لكن آريوس لم يبال بهذا الحكم بل فرّ هارباً إلى قيصرية فلسطين
ليزرع فيها بذور الشك والأذى. استقبله أسقفها أفسابيوس بكل ترحاب, وإن لم يشاركه
تماماً رأيه, لأن عداوة قديمة أو بالحري منافسة كانت تفرِّق بين الكرسيين
الإسكندري والقيصري. ثم انتقل من هناك إلى نيقوميدية في آسيا الصغرى حيث وجد أرضاً
خصبة لزرع هرطقته لأن أسقفها المدعو أيضاً أَفسابيوس والذي كان له مكانة مهمة
ونفوذ ظاهر في البلاد, شاركه الرأي بدون تردد, بل تبنّى الفكرة من أساسها وأصبح
الاثنان منذ ذلك الحين عدوّين لدودين لألكسندروس! أخذت حينئذ البلبلة تنتشر في
الكنيسة والأساقفة في كل الأنحاء يتحيّرون ويترددون لا يدرون أي موقف يتخذون…
إلى أن حصلت أحداث سياسية أوقفت آريوس عند حدّه!

 

مجمع
نيقية

في
سنة 324 انتصر قسطنطين على ليسينيوس إمبراطور الشرق بعد أن اهتدى إلى المسيحية
وأصبح هو المتسلط الوحيد على الإمبراطورية الرومانية كلها. أول مهمة أراد أن يقوم
بها هي أن ينشر السلام والأمن في إمبراطوريته الشاسعة وخاصة في الإسكندرية حيث
الآريوسيون يشاغبون ويزرعون الفوضى. فقرّر أن يعقد مجمعاً مسكونياً في نيقية يرئسه
هو بنفسه (كأسقف من الخارج). فاجتمع كل أساقفة (المسكونة), أي حوالي 225 أسقفاً,
في 25 تموز سنة 325. أول مشكلة طرحت في هذا المجمع كانت مشكلة آريوس وخلافه مع
ألكسندروس. فانتصب آريوس أمام الجميع وشرح نظريته. وما أن انتهى حتى دعمه سبعة عشر
أسقفاً فقط أمّا الأكثرية الساحقة فكانت من جهة ألكسندروس أسقف الإسكندرية. فُحكم
على آريوس وانتصر الرأي المستقيم الذي كان يمثّله مركلّس الأنقيري وأثناسيوس
وطبعاً تحت إشراف الإمبراطور نفسه! ولكي يتبدد الشك إلى الأبد نُص دستور الإيمان
الذي نتلوه كل أحد في القداس من أوله إلى العبارة (وبالروح القدس) {وقد أكمل الدستور
في المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية, لذلك يُدعى عادة بالدستور (النيقاوي
القسطنطيني). راجع الفصل الأول من كتاب (مدخل إلى العقيدة المسيحية) لكوستي بندلي
ومجموعة من المؤلفين, و (مجموعة الشرع الكنسي), في منشورات النور}. ويلي هذا
الدستور في مقررات المجمع الملاحظة التالية: (كل من يقر بأنه كان وقت لم يوجد فيه
الكلمة, وأن الابن خُلق من العدم أو من أي مادة أخرى, وأنه مخلوق, متغيّر أو
متبدل, فالكنيسة تبسله ابسالاً!).

 

ولنتمعن
الآن في أهمية أثناسيوس أثناء المجمع. لم يكن آنذاك سوى شماس بسيط يرافق أسقفه. لم
يكن له بالتالي أن يتدخل في النزاع, لكنه كان هو بالحقيقة بطل نيقية, إذ كانت
القضية حياتية بالنسبة إليه لأنه يعلم تمام المعرفة أن تعليم آريوس بالنتيجة يريد
إمّا تحطيم الابن الذي ترتكز عليه المسيحية أو الوصول إلى تعدد الآلهة في الإقرار
بأن الكلمة نصف إله! لذلك كان يعمل كالنحلة بالقرب من أسقفه يهيئ له القرارات
ويساهم في نصها, ويعمل بحماس ونشاط لإقناع الأساقفة حتى أنه لفت انتباه الجميع
الذين وجدوا أن موقفه كان جازماً وجسوراً. منذ ذلك الحين أصبح هو (رجل نقية), ولم
تكن حياته فيما بعد إلا للدفاع عن هذا الدستور والسهر على أن لا يتزعزع منه حرف,
إذ ما إن انتهى المجمع حتى بدأت الدسائس تعمل لتطعن بمقرراته وبدأ زملاء آريوس
يسعون ليقرّبوه من قسطنطين. ولم يمض وقت طويل حتى نال رضاه وأخذ يهيئ نفسه للرجوع
إلى الإسكندرية بعد أن وقّع على دستور مشبوه يقترب من دستور نيقية.

 

أثناسيوس
أسقف

توفي
ألكسندروس رئيس أساقفة الإسكندرية وكان من الطبيعي أن يخلفه أثناسيوس لأنه برهن عن
ذكاء ودهاء وشخصية بارزة وكان له كثير من المعجبين. ويقول مجمع الإسكندرية المنعقد
في سنة 339: (إن كل الشعب, كل المنتمين للكنيسة الجامعة اجتمعوا ونادوا بالإجماع
وبصوت واحد بأثناسيوس أسقفاً عليهم وأصرّوا على هذا الرأي واستمروا في الصلاة من
أجل ذلك للمسيح علانية مدة أيام وليالي عديدة). وفي 8 تموز 328 رسم أثناسيوس
أسقفاً على الإسكندرية على يد العديد من الأساقفة وكان عمره لا يتجاوز الثانية
والثلاثين. ولكن هذه الرسامة أثارت بلبلة ومشاكل متعددة. ومن هنا يتبيّن لنا أن
التاريخ يعيد نفسه وأن الشخصيات القوية أمثال أثناسيوس التي لا ترضخ إلا للحق
والمسيح, تثير الرعب في النفوس الضعيفة لأن استقامتهم تكشف عن هزالتها! ولكن الروح
القدس يعمل دوماً في الكنيسة ليرعاها وينتصر على القوات الشريرة. لذلك رغم
الآريوسيين ومناصرتهم انتُخب أثناسيوس أسقفاً على الإسكندرية. فملأ الفرح المدينة
بأسرها وقرعت أجراس الكنائس لأنه كان ينعم بتأييد شعبي عظيم في المدينة. فزار
الأسقف الجديد كل أنحاء أبرشيته, بما في ذلك الصحراء مما جعله يلتقي باخوميوس
{باخوميوس أب الرهبنة (الجماعية) (
Cénobitique) وقد ورد في سيرة الأنبا باخوميوس: (لما وصل (أثناسيوس) إلى
دوفانيس خرج أبونا باخوميوس مع جماعة الإخوة في حفل كبير وجمع غفير واستقبله
استقبالاً حسناً بالصلوات الكثيرة والتسابيح والشموع…)} الذي كان يحترمه كثيراً
ويسمّيه (أب الإيمان الأرثوذكسي).

 

ولكن
الأحوال تأزمت وتطورت وبدأت المعارك تدور بين الأخصام خصوصاً عندما رفض أثناسيوس
بحزم أن يدخل آريوس مدينته ثانية وكتب بجرأة رسالة إلى قسطنطين يشرح له سبب رفضه.
فابتدأت الشكاوى تُرسل للإمبراطور ضد الأسقف البار يستميلونه ويوشون بأثناسيوس
متهمين إياه بكل أنواع التهم لكي يبعدوه بالقوة عن أبرشيته. فعُقد مجمع في صور سنة
335 كان فيه كل أعداء أثناسيوس على موعد ليقهروه. لكن أثناسيوس لم يبق مكتوف
اليدين. فبعد أن دافع عن نفسه بشدة أمام المجمع وبينما كان الأساقفة مجتمعين
لتقرير مصيره فرّ بطريقة سرية إلى القسطنطينية, ويقال أنه فاجأ قسطنطين في الطريق
وطلب مواجهته! فاستدعى الإمبراطور أساقفة صور. وما أن بحث معهم بالأمر حتى وشوا
بأثناسيوس مدّعين أنه يريد منع شحن القمح من الإسكندرية إلى القسطنطينية, مستشهدين
بشتى الأكاذيب. فنُفي أثناسيوس إلى مدينة تريف في الغرب وكانت هذه أول مرحلة من
سلسلة حوادث مؤلمة في حياة هذا القديس. ظاهرياً كان النصر قد تحقق لآريوس لكنه
سرعان ما توفي تاركاً أتباعه الهراطقة الذين لم يكفّوا عن محاربة بطلنا هذا!

 

بقي
أثناسيوس دون خلف وبقي كرسي الإسكندرية شاغراً يتيماً إلى وفاة قسطنطين سنة 337.
قُسّمت الإمبراطورية من جديد بين أولاده واستلم كونستانثوس القسم الغربي
وقوسطنضيوس القسم الشرقي. لكن كان يميل هذا الأخير إلى الآريوسيين. سمح
الإمبراطوران الجديدان أن يعود أثناسيوس إلى أبرشيته. فعاد بعد غياب سنتين, واستلم
الأبرشية بمحبة وازداد نشاطاً في تنظيم أحوالها. وعلم ما للنسك من أهمية في تخمير
العجين فطلب معونة آباء الصحراء.

 

وأمّا
أخصام أثناسيوس الذين يتزعمهم أفسابيوس أسقف نيقوميدية, العدو اللدود, فلم يرتاحوا
لهذا التطور وقرروا أنه يجب إبعاد هذا الإنسان المزعج عن أبرشيته بأية وسيلة كانت!
فكتبوا إلى البابا يوليوس يذكرونه بمقررات مجمع صور. ولكن, قبل أن يرسل البابا
جواباً على رسالتهم هذه, اجتمعوا في إنطاكية سنة 339 وعزلوا أثناسيوس معيّنين
مكانه أسقفاً غريغوريوس الكبادوكي. وقد دخل الأسقف الجديد إلى الإسكندرية بمعاونة
فرقة من الجيش واقتحم الكنائس اقتحاماً وسط معارضة عنيفة من قبل الشعب. فرأى
أثناسيوس أنه من الحكمة أن يبتعد عن مصر, فذهب إلى رومية حيث عقد الباب يوليوس
مجمعاً ضم مئة أسقف برّأ أثناسيوس من كل التهم الموجهة إليه من أخصامه. ثم جمع
مجمعاً آخر في سرديقية سنة 343 أعاد لأثناسيوس حقوقه الشرعية. لكن قرارات هذا
المجمع لم تُنفذ إلا بالقوة أي بتدخل الأباطرة, إذ طلب الباب من قوسطنضيوس حاكم
العرب, بأن يتدخل مع أخيه ليعاد أثناسيوس إلى أبرشيته. فبقي هذا الأخير في رومية
يتعرف على الغرب وينشر التعليم فيه إلى وفاة غريغوريوس سنة 346 حين استطاع أن يدخل
بانتصار إلى الإسكندرية.

 

خصب
روحي يليه نفي ثالث

كانت
الفترة ما بين سنة 346 و 356 فترة خصب روحي بالنسبة لأثناسيوس وأبرشيته, لجأ
أثناءها للكتابة. وقد وصف أثناسيوس نفسه النهضة الروحية العارمة التي عمّت
الإسكندرية في تلك الفترة والتي تتلخص بتكاثر عدد الرهبان والراهبات, وإقبال
متزايد للعائلات على حياة التقشف والصلاة, وإحداث منظمات للخدمة الاجتماعية,
وإقامة اجتماعات روحية في البيوت وانتشار روح السلام والوئام في كل الرعية
والإكثار من المواعظ والنشرات الرعائية الدورية {يتكلم أثناسيوس في (تاريخ
الآريوسيين) قائلاً: (كم من عذارى نذرن أنفسهن للمسيح بعد أن كن يطلبن الزواج…
وكم من شباب تغايروا بالغيرة الحسنة.. فخرجوا من العالم للحياة الرهبانية.. وكم من
آباء أقنعوا أولادهم وكم من أولاد أقنعوا آباءهم بمزيد من النسك المسيحي.. وكم من
زوجات أقنعن أزواجهن وأزواج أقنعوا زوجاتهم وتفرغوا للدخول في عهد الصلاة.. وكم من
أرامل وكم من يتامى كانوا جياعاً, عراة وبحماس الشعب أشبعوا واكتسوا.. وكانت غيرة
الشعب ومنافسته على الفضيلة شديدة إلى حد يكاد يظن أن كل عائلة وكل بيت قد صار
كنيسة.. والسلام كان يرفرف على الكنائس) (تاريخ الآريوسيين 25, 27…)}. فألف أهم
أبحاثه: (ضد الآريوسيين) (مقررات نيقية) الخ.. وكثيراً ما يختار من بين الرهبان
مساعدين فيرسمهم أساقفة ويكلّفهم بمسؤوليات متنوعة. ولكن ما إن توفي حاميه سنة 350
والبابا يوليوس حتى تنفس أعداء أثناسيوس الصعداء. بموت أخيه أصبح كونستانثوس
الآريوسي وحده المتسلط على الإمبراطورية بكاملها وكان يريد إنهاء هذا الأسقف الذي
يزداد قوة ونشاطاً وينشر بشغف إيمان نيقية! فاتفق مع البابا الجديد ليباريوس على
عقد مجمع يدرس هذه الأمور. فاجتمع الأساقفة في مدينة أرل (سنة 353) ثم في مدينة
ميلان (سنة 355) وطلب الإمبراطور في هذا المجمع الأخير من الحاضرين وتحت الضغط أن
يوقِّعوا على حكم ضد أثناسيوس. وعندما شعر بترددهم طلب منهم بأن يختاروا بين النفي
أو التوقيع. ويروي أثناسيوس أن كونستانثوس قال: (ما أريده أنا هذا هو القانون!).
فوقّع أكثرهم ونفي كل من رفض, أمّا البابا الذي أبى أن يوقّع فأبعد إلى حدود
بلغاريا!).

 

وهكذا
بينما كان الجميع يخضعون تحت حكم هذا الإمبراطور الشرس كان أثناسيوس يمثّل الرأي
المستقيم الذي يأبى أن يرضخ لأي إنسان لا يستمد سلطانه من الله. حُكم على أثناسيوس
بالنفي وأنتُخب مكانه أسقف مشاغب يُدعى جاورجيوس. وكان القرار قد اتخذ ولم يبقَ
سوى التطبيق وكان ذلك في أوائل سنة 356. يخبرنا أثناسيوس كيف حصل ذلك:

 

(…
كان ليل. الشعب كله ساهر في الكنيسة.. ظهر بغتة سيريانوس القائد مع 500 جندي
وأحاطوا بالكنيسة لكي لا يستطيع أحد أن يهرب. أمّا أنا فلم أشأ أن أترك شعبي وسط
هذه الضوضاء فجلست على المنبر وطلبت من الشماس أن يقرأ المزمور (رحمة الرب إلى
الأبد). ثم طلبت من الشعب أن يترك الكنيسة. ففي الحال دخل الجند إلى الكنيسة
وأحاطوها من كل النواحي ليلقوا القبض عليّ! فطلب الكهنة مني بإلحاح أن أهرب. فرفضت
أن أترك المكان قبل أن يكون كل واحد من الحاضرين بأمان. فهجم جماعة من الرهبان
واختطفوني بقوة إلى خارج الكنيسة. وإني أشهد بالحقيقة أنه رغم فرق الجيش هربت دون
أن يراني أحد مقتاداً من الروح!).

 

وهكذا
للمرة الثالثة اضطر أثناسيوس أن يبتعد عن أبرشيته. فلجأ هذه المرة إلى الصحراء
بعيداً عن العالم والإدارة الكنسية المستقرة في أمجادها العالمية التي تخاف أن
تجابه السلطات وتضع حداً لتدخلها! ذهب إلى الصحراء لمواجهة الابن, الكلمة المتجسد,
الأقنوم الثاني للثالوث الذي ضحّى بحياته كلها من أجله! طاب له العيش مع النساك
الذين احتقروا المجد الدنيوي والغنى ليلتقوا بإلههم الحي في الوحدة والصلاة لكنه
لم ينقطع عن أبرشيته, بل بقي على اتصال دائم بها يدير أمورها من بعيد ويرعاها
بإخلاص حتى لُقّب (بالبطريرك المخفي عبر القفر).

 

أثناء
غيابه هذا أخذ الإمبراطور كونتسانثوس يشنّ حملة اضطهادات واسعة على كل من بقي على
إيمان نيقية, وأقيمت مجامع ضمّت كل الهراطقة الذين حاولوا أن يحرّفوا دستور
الإيمان ويشوّهونه. فكان مجمع في مدينة ريميني (
Rimini)
في الغرب وآخر في سلوقيا في الشرق سنة 359. وارتفع حينئذ صوت هيلاريون البار الذي
لُقب بأثناسيوس الغرب يقول: (ما بالكم تسمعون أن المسيح ابن الله الوحيد ليس بإله
حقيقي وتسكتون! السكوت يعني الموافقة على هذا التجديف!). لكن لم يُسمع صوته وخُفي
أثره في منفى بعيد كما نُفي كثير من الأساقفة المعارضين!

 

أمّا
الروح القدس الساهر على كنيسته, فلم يسمح بهذا الفرط من الاستبداد, فاستعمل
الأحداث السياسية لكي يهدئ الأمور. ففي هذا الوقت عينه نادت كتائب الجيوش المنتصرة
في غالية بيوليانوس كقيصر جديد ومشت تحت لوائه لمحاربة كونستانثوس واغتصاب الحكم
منه. لكن سرعان ما توفي الأخير سنة 361 سامحاً للمنتصر بدخول القسطنطينية.

 

نهاية
حياة أثناسيوس

يوليانوس
الجاحد! هكذا لقّبه التاريخ. أمّا المؤرخون فدعوه يوليانوس الفيلسوف وربما يصلح له
هذا الاسم لأنه كان رجل علم وفلسفة علاوة على ميزاته الحربية. برهن يوليانوس عن
تسامح فيما يختص الأديان ولم يشأ أن يتدخل بأمور الكنيسة. لكنه أراد أن يعيد تراث
الوثنية فأنشأ من جديد المعابد والهياكل دون أن يسيء إلى باقي الأديان. ما أن تولى
الحكم حتى سمح للمنفيين بالرجوع إلى بلادهم. فعاد أثناسيوس إلى الإسكندرية سنة 361.
وما أن علم الشعب بذلك حتى هجم على الأسقف جاورجيوس ولولا الشرطة لقتله فوراً!
وعاد الفرح إلى قلوب الجميع واستقبلوا أسقفهم بحفاوة! وهكذا تابع أثناسيوس عمله
الرعائي وكأنه لم يترك أبرشيته: يكر ويعظ ويعمّد بلا انقطاع! وقد دعي إلى مجمع
كبير في السنة 362 اشتهر بتحدياته العقائدية المهمة.

 

لكن
ما إن سمع يوليانوس بنشاط الأسقف حتى غضب, خاصة حينما علم أن أثناسيوس بجسارته
المعتادة أخذ يعمّد سيّدات وجيهات من المجتمع الراقي. فأمره أن يترك المدينة للحال
وإلا يقاصص بقساوة! وهكذا كان في أواخر سنة 362.

 

فهرب
إلى الصحراء مجدداً.. في هذه الفترة تعرّف على أنطونيوس الكبير وارتبط به بصداقة
حميمة. وكان أنطونيوس المتوحّد الذي كان ينمو في التقوى والكمال متمثلاً بإيليا
النبي, مستعداً لمقابلة وجه الله الحيّ في حاضر مستمر وسط البادية القاحلة. وقد
بقي أنطونيوس طيلة حياته الصديق الأمين المخلص لأثناسيوس يسنده بصلواته ومحبته. ثم
قُتل يوليانوس فعاد إلى المدينة سنة 364 عندما استلم ليوقيانوس الحكم.. ثم قُتل
ليوقيانوس واستلم فلانسيوس الإمبراطور الآريوسي الحكم على الشرق… فهرب أثناسيوس
سنة 365 ثانية… ثم لأسباب مبهمة أُعيد لأبرشيته… فذهب الشعب للمرة الأخيرة
بموكب عظيم مؤثر ليصطحبه من مكان انعزاله سنة 366 وسلّمه أبرشيته الشاغرة.

 

وهكذا
قضى أثناسيوس بقية حياته في هدوء واستقرار يرعى أبرشيته ويدير أمورها بمحبة وإخلاص.
أجل لقد فقدَ مع العمر شيئاً من الحماسة والعنفوان اللذين كان يتصف بهما شبابه
ليخلّص الكنيسة حيث كان يفور من غضبه عندما ينتصر الهراطقة وحيث كان يتجاوز الحدود
أحياناً. كان المسيح في نظره بخطر فمن يستطيع أن يسكت؟ هل نلومه إذا وحَّد نفسه
أحياناً بالأرثوذكسية معتبراً أعداءه الشخصيين أعداءها وأصدقاءه أصدقاءها؟ ألم
يمثّل في الواقع الرأي المستقيم مدة نصف قرن تقريباً حاملاً على عاتقه الكنيسة
بأسرها؟ ألم يصمد هو وحده أمام قوات العالم التي تحالفت جميعها لإسقاطه فحمل راية
الحق رغم المشقات؟ ألم يتحمل بصبر وثبات النفي خمس مرات لفرط محبته للمسيح؟ …

 

هكذا
انتهت حياة هذا المناضل, بطرية هادئة سالمة: يهتم برعيته, يتابع اتصالاته مع سائر
الكنائس, يؤلف الكتب ويمارس النشاطات المختلفة. توفي في 3 أيار 373 وكان قد رسم
قبل وفاته خلفه الأسقف بطرس. كان أثناسيوس أول أسقف يكرم إكراماً شعبياً بدون أن
يستشهد! ذهب بفرح لمناجاة كلمة الله الذي بذل حياته لخدمته بإخلاص ومحبة. كان قد
قضى عشرين سنة في المنفى من ضمن سني أسقفيته الستة والأربعين. توفي أثناسيوس قبل
أن يتحقق له النصر النهائي ولكن النصر كان قريباً, إذ فرض الإمبراطور ثيودوسيوس
إيمان نيقية في الإمبراطورية كلها سنة 380. هكذا توارى من الإسكندرية هذا الرجل
الذي اعتبره معاصروه كإنسان ميثولوجي محاط بهالة, كفرعون القرن الرابع… أمّا
المسيحيون فوجدوا فيه (ركن الكنيسة) الذي بواسطته دافع الله عن ثباتها وحافظ على
الإيمان القويم فيها.

 

تعليمه

إن
مؤلفات أثناسيوس لا تتحلى بالبهاء الذي تتصف به آثار آباء القرن الرابع, من حيث
جمال اللغة والأسلوب الرفيع. إلا أنه كان لها الصدى المؤثر في قلوب المسيحيين في
كل عصر ومصر. وقد كتب أحد كهنة القرن السادس لتلميذه: (إن وجدت مقطعاً من كتابات
أثناسيوس وليس لديك ورق فاكتبه على ثيابك).

 

نذكر
من أهم مؤلفاته كتاب (حياة أنطونيوس الكبير) الذي اعتبر كنموذج لتأليف سير
القديسين, وبحثه في (تجسد الكلمة) الذي يعتبر من أبرز المؤلفات العقائدية في عصره,
ومقاله (ضد الآريوسيين) الذي يكافح به هذه البدعة ويبرز بوضوح وحدة الآب والابن من
حيث الجوهر الخ…

 

أمّا
اللاهوت الذي نستخلصه من كتاباته فهو سهل واضح إذ أن مؤلفها مقتنع ويريد أن يقنع.
لا يفتش عن جمال أسلوب ولا عن فن كتابة, يردد ويردد ثم يعود إلى فكرته الأساسية
ليبرزها.

 

فكرة
أثناسيوس الأساسية التي أراد أن يبرهن عنها في كل مؤلفاته هي التالية: (تجسد الإله
لكي يتألّه الإنسان). بالنسبة له, التجسّد هو أساس المسيحية: أحب الله الإنسان ولم
يرد أن يتركه في سقطته, أراد أن يعطيه حياة أبدية لذلك كانت توبة ابن آدم وحدها لا
تكفي… المصالحة تقتضي ذبيحة كاملة… تقتضي تنازلاً كلياً… التحاماً وثيقاً
بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية. هذا ما حققه الله بواسطة كلمته! فكيف يدّعي
آريوس أن الكلمة ليس إلهاً؟ إن هذا الهرطوقي لم يعرض مشكلة (اللوغوس) حباً
بالمعرفة وبغية الوصول إلى الحقيقة, كل ما يهمه في الأمر هو مصلحته الشخصية التي
دفعته إلى تفضيل الظلمة على النور… لو فتش الكتب حقيقة لوجد الأدلة الكافية التي
تثبت ألوهية المسيح وفهم معنى هذه العبارة: (والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا).
(الكلمة) الذي هو إله, تجسّد وانتصب جسراً بين الخليقة والخالق. أمّا الانطلاقة
الأساسية فهي من الله الآب الذي شاء أن يقوم بهذا العمل المعجز. إنه عمل يفوق منطق
الفلسفة لأن المسيحية تحقيق للإله (غير المنزه عن المادة) الإله الذي قدّس المادة!
الله ازدرى الحواجز التي تفصله عن الخليقة الساقطة واتخذ له جسداً في أحشاء
العذراء ولم يدخل في جسد إنسان قديس كما يدعى الآريوسيون… اتخذ جسداً بدون أن
ينفصل عن ألوهيته. محبته لنا هي التي جعلته يولد ويظهر بجسد إنساني. لكن هذا
التجسّد لم يغيّر من جوهره الإلهي ولم يسئ إلى جلاله: )… بتجسده لم يتغيّر, يقول
أثناسيوس, بل بقي على جوهره): محبته لنا هي التي دفعته إلى تقديم نفسه ذبيحة للآب.
موت المسيح ضروري لكي نتخلص نحن من لعنة الخطيئة التي شوّهت فينا صورة الله
الأصلية. وبنتيجة اتحاد جسده بجسدنا, وموته وانتصاره نموت نحن أيضاً عن الخطيئة
وننتصر. وكما أنه بسبب علاقتنا بآدم الأول ورثنا الموت, كذلك بعلاقتنا مع الإنسان
النازل من السماء انتصرنا على الموت وورثنا الحياة!

 

فالخلاص,
بالنسبة لأثناسيوس خَلق ثان, ولادة جديدة تجعلنا أبناء الله: (بتجسّده جعلنا أبناء
الآب وألّه الإنسان عندما صار هو نفسه إنساناً!). هذه هي النتيجة المحتومة التي
يصل إليها. إن المسيح جعلنا أبناء الله وألّهنا إذ أخذ على عاتقه هذا الجسد المائت
ليسمو بطبيعة الإنسان الخاطئة إلى الله الآب ويشركه في الطبيعة الإلهية الخالدة.

 

خلال
كل مؤلفات أثناسيوس نشعر بهذا الإيمان العميق الثابت, والتأكيد الهادئ الذي يعطيه
ثقة بنفسه وبكل ما يقوله. إنه يريد أن يبرهن عن صحة قوله لمناوئيه, فيقول: (من
خاصة الدين الإقناع لا الفرض). فيجمع الإثباتات والأدلة الواضحة المدققة ليبزّ
أعداءه ويظهر حقيقة ما يعرضه.

 

أمّا
أسلوبه فبسيط, منسق, منطقي, منظم, فيه شيء من البلاغة وإن ابتعد عن الزخرفة. إنه
رجل العقيدة, يشرح الكتاب المقدس ويتخذ منه الأدلة التي تساعده على إيضاح فكرته.
لا يتمادى في التأمل اللاهوتي, إنه رجل عمل يتحلّى باتزان عقلي عميق, وكل معاني
المسيحية الأصلية متملكة في أعماقه! ولئن وجدنا عنده أحياناً شيئاً من الاحتقار
للهراطقة فذلك يعود إلى اهتمامه بالعقائد لا بالأشخاص فهو يحارب كل إنسان لا يعترف
بحقيقة المسيح! فكل من لا يؤمن أن المسيح هو إله متجسد حقق خلاصنا ليدخلنا إلى
الحياة الأبدية, يثير غضبه ويستدعي المهاجمة! إن كان المسيح ليس بإله حق يستمد
ألوهيته من الله فكيف يستطيع أن يؤلِّه ويخلِّص جنس البشرية؟ فمن لا يشعر في صميمه
بحقيقة الكلمة ويقبلها كقضية ثابتة علّمتنا إياها الكنيسة بواسطة تقليدها وحياتها
جاعلة إياها حاضرة في أسرارها المقدسة, بأعجوبة مستمرة, هذا الإنسان لا يستطيع
أثناسيوس أن يحسبه إلا هرطوقياً شاذاً عن حياة الشركة في الكنيسة.

 

فالنتيجة
المنطقية من تعليم أثناسيوس هي أن المسيحية تهدف إلى التقشف الذي يطهر النفس ويسمو
بها إلى الحياة في إطار الثالوث الأقدس. فإذا اتحدنا بالمسيح وصلنا إلى نقاوة
القلب و إذا ما تقشفنا وصلنا إلى معرفة الله و دخلنا في محبته. الثالوث حقيقة
واقعية حاضرة يحسّه أثناسيوس كحقيقة حيّة لا كأفكار لاهوتية. الثالوث يحرك كيانه
ويضرم داخله. وهو من أوائل الآباء الذين توسّعوا في الدفاع, إضافة عن ألوهية
الابن, عن ألوهية الروح القدس.

 

لذلك
يشجع أثناسيوس حياة النسك والرهبنة وفي كتابه (عن العذرية), يعلّم أن العذرية تهدف
إلى تقديس النفس والسمو بها, إلى الالتقاء مع الله: فالتنسك هو طريق قداسة, طريق
تقدم روحي. إن كتاباته ليست بأطروحة لاهوتية و إنما هي تعبير عن ارتفاع النفس إلى
الخالق. فأثناسيوس هو إذن الأسقف المتقشف الذي يسهر على أبنائه ويعلّمهم حقيقة
الدين بوضوح ومحبة.

 

إن
الآباء الذين سبقوا أثناسيوس كانوا إما شهداء وإما فلاسفة. فالشهداء بالدم كتبوا
وللعشق الإلهي تاقوا, وأمّا الفلاسفة فاستندوا إلى العقل والمنطق ليعرضوا الإيمان.
أمّا أثناسيوس فلا ينتمي إلى مدرسة فلسفية. وطنه الروحي هو الكنيسة. شخصيته تكوّنت
في مكاتب الإدارة الأسقفية. حرّر أثناسيوس اللاهوت من أفلاطون وفلسفته وبناه على
تجسد المسيح. إنه ذلك الإنسان الذي أعطى للتجسد أهميته في عصر ابتدأت فيه الهرطقات
تتسلل إلى الكنيسة بطريقة شيطانية لترمي الفساد فيها.

 

أجل,
إنه لوجه غريب هذا الرجل الذي برز في بداية القرن الرابع! إنه رجل الكفاح الدائم
والمقاومة المستمرة. متصلّب الرأي, حذق, نشيط, قد يكون سلساً في الأمور الثانوية,
لكنه في الأمور الأساسية والقضايا الجوهرية حازم لا يتزعزع. مثابرته لا تقف عند
نجاح جزئي وهمته لا تخمد عند فشل نهائي! تطور الكنيسة فيما بعد ارتكز على نشاط هذا
الرجل الوحيد, على الصراع العنيف الذي طبع حياته وعلى الانتصار الذي تحقق له بعد
وفاته. إن بقيت الكنيسة سائرة على مقررات مجمع نيقية فالفضل يعود لهذا القديس الذي
علم ما للتجسد وألوهية الكلمة من أهمية في المسيحية وظفرها. قدّم حياته ذبيحة لكي
تتأصل هذه الفكرة في أذهان المسيحيين عبر الأجيال… إنه رجل البأس والشجاعة الذي
اتخذ موقف الجبابرة في حين كانت الكنيسة بحاجة إلى الأبطال.

 

عرف
أثناسيوس مرارة الاضطهاد وعرف أيضاً مجد الكنيسة في أيام السلم وحماية الدولة. لكن
الأمجاد لم تسكره فبقي بصيراً مدركاً حتى النهاية. حرّر الكنيسة من نير الأباطرة
وشق الطريق التي ينبغي أن تسير الكنيسة عليها. لولاه لوقعت الكنيسة الناشئة بين
أيدي الآريوسيين ولولا صموده أمام السلطات الزمنية لتحطمت الكنيسة تحطيماً! إنه
بطل نيقية! إنه رمز للقوة والمثابرة والشهامة.

 

الفصل
الثاني: المزيد عن شخصية أثناسيوس

علاقته
الشخصية بالمسيح

تمسكه
بمجاري النعمة

الإفخارستيا

الكتاب
المقدس

تمسّكه
الشديد بالتقليد الشريف

اتصاله
المستمر بالأوساط الرهبانية

تقواه
وتقشف حياته

لا
حقيقة بدون تقوى

لا
عقيدة مجرّدة عن التصوّف والحياة الروحية الواقعية

إدراكه
الواضح لحدود العقل البشري في معرفة الإلهيات

إدراكه
أن علاقتنا بالمسيح هي علاقة كيانية

حرصه
على وحدة الكنيسة

 

علاقته
الشخصية بالمسيح

كان
قلب أثناسيوس يجيش بمحبة شديدة للمسيح وكان يعتبر مثل بولس الرسول أن محبة المسيح
هي علامة ومفتاح الإيمان الصحيح, وأنه بدون هذا الحب لا يمكن أن نبلغ الإيمان الحق.
لذلك كتب في نهاية رسالته للرهبان: (إن كان أحد لا يحب ربنا يسوع المسيح, كما يقول
الرسول (1كو22: 16), فليكن أناثيما), وفي نهاية رسالته إلى أدلفيوس: (سلم على جميع
الذين يحبون ربنا يسوع المسيح). وكان يشير عادة إلى الآريوسيين (بأعداء المسيح).
وكان أثناسيوس يوجّه دوماً نظره إلى المسيح يسعى أن يتمثل به في كل أعماله: (لم
يكتف المخلِّص بأن يعلِّم الفضيلة بل قد مارسها هو أيضاً بنفسه حتى إذا ما سمعناه
ونظرنا إليه وجدنا فيه المثال الحي العملي لما يجب أن نفعله. فنحن نسمعه يقول: (تعلّموا
مني لأني وديع ومتواضع القلب) (متى29: 11). فلا يمكن أن نجد تعليماً عن الفضيلة
أكمل من الذي قدمه المخلِّص بشخصه في حياته الخاصة. فنحن نجد فيه المثال الأعلى في
الاحتمال ومحبة البشر والصلاح والقوة والرحمة والبر. فالذي يتأمل حياة الرب
البشرية لا يعوزه شيء من الفضيلة. وقد أدرك بولس ذلك جيداً إذ قال: (كونوا متمثلين
بي كما أني أنا أيضاً بالمسيح) (1كو1: 11). إن مشرِّعي الأمم لا يعرفون إلا أن
يضعوا التشريعات فقط. وأمّا الرب الذي هو سيد الكون كله, فبسبب عنايته بخليقته لم
يكتف بأن يضع لها النواميس بل قدَّم نفسه أيضاً مثالاً لها حتى يتعلم منه طالبو
الفضيلة كيف ينبغي أن يسلكوا) (الرسالة إلى مرسلينوس عن المزامير13).

 

تمسكه
بمجاري النعمة

آ-
الإفخارستيا

يتبيّن
من أقواله العديدة عن الإفخارستيا وسر الشكر أنه كان يعتبر المناولة ركناً أساسياً
في حياته الشخصية وحياة المؤمنين وكان يدعو باستمرار أبناءه الروحيين إلى الاقتراب
من السر الإلهي, هذا (العشاء العظيم الذي يفوق العالم) (رسالة فصحية 40) لكي تكون
لهم الحياة.

 

ب-
الكتاب المقدس

لقد
تربّى أثناسيوس منذ نعمة أظفاره على الهذيذ في الكتاب المقدس بعهديه وظلت هذه
القراءة رغبته المفضلة كل أيام حياته, كما يقول بنفسه لصديقه مرسلينوس: (عرفت من
حامل الرسالة أنك تصرف وقتك في قراءة الكتاب المقدس كله ولا سيما سفر المزامير.
وإني أمتدحك لأني أنا أيضاً مثلك أجد لذَّتي العظمى في قراءة المزامير بل والكتاب
كله أيضاً) (الرسالة إلى مرسلينوس 1).

 

لذلك
كان يدعو رعيته باستمرار لقراءة الكتاب المقدس, قائلاً: (إن عبيد الرب الصالحين
والأمناء الذين صاروا (متعلمين في ملكوت السموات… يخرجون من كنوزهم كل جديد
وقديم) (متى52: 13), الذين يلهجون بكلام الله (حين يجلسون في البيت وحين يمشون في
الطريق وحين ينامون وحين يقومون) (تث7: 6) يصيرون ثابتين في الإيمان, فرحين في
الرجاء, حارين في الروح… فبالتأمل في الوصية يثبتون أمام ما يقع عليهم من الضيق
ويُرضون الله ويقولون بثقة (ضيق وشدة أدركاني ولكن وصاياك هي درسي) (مز43: 119)…
إذاً فتأمل الوصية ضروري يا أحبائي مع اللهج المستمر بالفضيلة (لكي يكون إنسان
الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح) (2تي 17: 3). فبهذه الأمور نربح موعد الحياة
الأبدية كما كتب بولس إلى تيموثاوس داعياً التأمل رياضة روحية قائلاً: (روِّض نفسك
على التقوى لأن الرياضة الجسدية نافعة لقليل وأما التقوى فنافعة لكل شيء إذ لها
موعد الحياة الحاضرة والعتيدة) (1تي 7: 4 و8) (الرسالة إلى مرسلينوس 33).

 

تمسّكه
الشديد بالتقليد الشريف

نشأ
أثناسيوس في الكنيسة محافظاً على تقاليدها مفتخراً أنه يفهم الأسفار المقدسة
(فهماً كنسياً) أي فهماً يتوافق مع التقليد الشريف, أي تقليد الكنيسة الأولى
المسلم إليها من الرب نفسه. لذلك كان يهاجم الهراطقة لأنهم لم يحافظوا على تعاليم
الرسل والآباء الأقدمين, كما يقول في بعض رسائله الفصحية وكتاباته الأخرى:

 


(إن جميع الذين اخترعوا الهرطقات الخبيثة, وإن كانوا يستشهدون بالأسفار المقدسة
إلا أنهم لا يتمسكون بالآراء (التفاسير) التي سلمها القديسون بل يعتبرونها مجرد
تقاليد للناس, ولذلك يضلون إذ لا يعرفونها بالحق ولا يدركون قوتها, ولهذا السبب
يمدح بولس أهل كورنثوس لأن آراءهم كانت موافقة لآرائه (1كو2: 11)) (رسالة فصحية6: 2).

 


(إن الرسول يمدح أهل كورنثوس قائلاً: (فأمدحكم أيها الإخوة لأنكم تذكرونني في كل
شيء وتحفظون التقاليد كما سلَّمتها إليكم) (1كو2: 11). وأمّا هؤلاء (الآريوسيون)
الذين يحتقرون آراء الذين سبقوهم يليق بهم حقاً أن يقولوا بلا حياء عكس ذلك
لرعاياهم أي (إننا نمدحكم لأنكم لا تذكرون الآباء ونزيدكم مدحاً حينما تحتقرون
تقاليدهم) (عن المجامع 14).

 


(هذا هو جنون وشطط هؤلاء الناس – بحسب ما وصفناه – وأمّا إيماننا نحن فمستقيم
ونابع من تعليم الرسل وتقليد الآباء ومشهود له من العهدين الجديد والقديم كليهما)
(رسالة6: 60).

 

اتصاله
المستمر بالأوساط الرهبانية

كما
رأينا في القسم الأول من هذا الكتاب المتعلق بحياة القديس أثناسيوس, تعرّف أثناسيوس
على كبار مؤسسي الرهبنة أي القديس أنطونيوس الكبير والقديس باخوميوس وظل طيلة
حياته مستمراً على الاتصال بالأوساط الرهبانية في صحراء مصر إن كان بواسطة الجولات
الرعائية أو المراسلة. وقد لقي من هذه الأوساط المساعدة والعون في جهاده ضد
الآريوسيين وجميع محاربيه. هذه الثقة وهذا الاتصال أثّرا بدون شك على روحانيته
خاصة في المجالات التالية:

 

آ-
تقواه وتقشف حياته

قبيل
انتخابه للكرسي الإسكندري أجمع الشعب كله (أنه مسيحي تقي وواحد من النساك) (الدفاع
ضد الآريوسيين 6). وكان يتميّز أثناسيوس بالفعل بالتقوى والمثابرة على الصلاة, إذ
نسمعه يقول في عدد من كتاباته أنه بصورة عادية يترأس خدمة السحر طيلة الليل
استعداداً لإقامة القداس الإلهي في اليوم التالي {الدفاع لدى قسطنطين25 وتاريخ
الآريوسيين إلى الرهبان81}. وكذلك نستنتج من إحدى رسائله إلى سيرابيون أنه كان
يصلّي قبل الكتابة والتأليف طالباً الإلهام الإلهي: (وبينما كنت أفكر بهذه الأمور
بدا لي أن المعنى المتخفي في هذه الكلمات ذو عمق كبير, فبدأت أولاً بالصلاة
الكثيرة إلى الرب… ثم عدت أتأملّ… لعلّي ألتمس منه معنى هذه الكلمات). {إلى
سيرابيون 14: 4}.

 

ب-
لا حقيقة بدون تقوى

يقول
في إحدى رسائله الفصحية: (إن العقيدة والتقوى مرتبطين كمثل أختين: فالذي يؤمن
بالله يصير تقياً وكذلك الإنسان التقي يكون له إيمان. فالذي يصنع الإثم يضل أيضاً
بلا شك من جهة الإيمان والذي يترك التقوى يفقد أيضاً الإيمان القويم) {رسالة
فصحية9: 11}. وبهذا التعليم يرتبط أثناسيوس بهذا الخط الذهبي الذي ابتدأ منذ أول
بزوغ الكنيسة واستمر عبر العصور: إنه بدون قداسة وحياة روحية ومحبة لا معرفة
للحقيقة ولا فهم لما أعلنه الله للقديسين. (لنحب بعضنا بعضاً لكي بعزم واحد نعترف
مقرّين بآب وابن وروح قدس…) كما نقول في كل قداس إلهي. وكما قال العديد من
الآباء: (اللاهوتي هو من يصلّي) والقديس غريغوريوس النازينزي: (من المهم أن نتكلم
عن الله, لكن الأهم أن نتطهر من أجل الله), هكذا يقول أيضاً أثناسيوس: (إن نقاوة
النفس تؤهلها لتتأمل الله في داخلها) {ضد الوثنيين 4: 2}.

 

ج-
لا عقيدة مجرّدة عن التصوّف والحياة الروحية الواقعية

وقد
أكد كبار اللاهوتيين براعة أثناسيوس في إظهار الجانب الروحي لكل عقيدة وفي وصل هذه
العقيدة بالحياة اليومية (لإحياء النفوس وإنعاشها ودفعها نحو الخير). (إنه كرّس
حياته من أجل… الحياة المسيحية المعاشة بكل عمقها. فأثناسيوس قبل أن يصير
اللاهوتي البارع… وقبل أن يكون الأسقف الذائع الصيت… كان إنساناً يريد أن يحيا
الحياة الإلهية التي أحضرها الكلمة المتجسد إلى عالم البشر وذلك بالسلوك في الطريق
النسكي…) {راجع:
L.Bouyer,
L’Incarnation et I’Eglise, p.25- 26
}. بذلك هو ممثل رائع للاّهوت الشرقي الذي لا يرتكز على العقل وحده
بل يفتش أيضاً عن براهينه في اختبارات القديسين العلمية, كما يقول في (تجسد
الكلمة) (48- 1 و2): (على أن هذه البراهين التي قدمناها لا تستند إلى مجرد حجج
كلامية ولكن هناك اختبارات عملية تشهد لصحتها. فليذهب من أراد ويعاين دليل العفة
في عذارى المسيح والشبان الذين يمارسون حياة العفة المقدسة).

 

إدراكه
الواضح لحدود العقل البشري في معرفة الإلهيات

يقول
في رسالته الأولى إلى سيرابيون:

(من
يريد أن يتفحص الأمور أكثر من اللازم فليسمع القائل: (لا تكن حكيماً بزيادة لئلا
تجّرب نفسك) (الجامعة 16: 7). فإن ما سلّم بالإيمان لا ينبغي أن يفحص بالحكمة
البشرية, بل أن يقبل بخبر الإيمان) (17: 1). وأيضاً: (إن شرح الإلهيات لا يمكن أن
يكون بالبراهين الكلامية بل بالإيمان وبأفكار التقوى الورعة) (20: 1).

 

وفي
رسالته إلى الأنطاكيين يحذرهم على ميلهم المفرط للكلام والسفسطة قائلاً: (لا
تتفارقوا بشأن كلمات لا فائدة لها ولا تتخاصموا بخصوص العبارات المشار إليها, بل
اتفقوا في مشاعر التقوى… واعتبروا فوق كل شيء قيمة ذلك السلام الذي في حدود صحة
الإيمان. لعل الله يترأف علينا ويوحّد ما قد انقسم فلا نكون سوى رعية واحدة لراع
واحد الذي هو ربنا يسوع المسيح نفسه…) {الطومس إلى أنطاكية 8}.

 

إدراكه
أن علاقتنا بالمسيح هي علاقة كيانية

في
هذا الإدراك يكمن محور تعليم أثناسيوس: لأنه يوجد اتصال كياني عميق بين المسيح
المتجسد والجنس البشري فعملية الفداء تخص كل إنسان كيانياً. تكثر هنا الاستشهادات
من كتابات القديس أثناسيوس إذ يعود في كل منها إلى هذه النقطة الأساسية. فلنسمع
بعضها: (لما اغتسل الرب في الأردن كإنسان, كنّا نحن الذين فيه وبواسطته نغتسل,
وحينما اقتبل الروح كنّا بواسطته مقتبلين هذا الروح) {ضد الآريوسيين 47: 1}.
(فالذي يقدّس كل شيء يقول للآب: من أجلهم أقدِّس ذاتي (يو19: 17) ليس بمعنى أن
(الكلمة) يمكن أن يزداد في القداسة بل بمعنى أنه هو نفسه يقدسنا نحن جميعاً في
ذاته) {ضد الآريوسيين 41: 1}. (كما أننا بموته قد متنا جميعاً في المسيح, هكذا في
المسيح عينه نرتفع نحن أيضاً ونقوم من الموت ونصعد إلى السموات) {ضد الآريوسيين 41:
1}. فكل أحداث حياة الرب تصبح إذاً أحداثاً تخصّنا في الصميم. لذلك يحتمل الرب
زلاتنا ويرفعها عنّا ويغسلنا منها على الصليب ويتغلب باسمنا على الموت والشرير.
(لو أدرك أعداء المسيح (الآريوسيون) ذلك وتمسكوا بهذه (النظرة الكنائسية) كأنها
مرساة للإيمان لما ضلّوا أبداً من جهة الإيمان) {ضد الآريوسيين 58: 3}. المسيح
فينا ونحن فيه, الإنجيل ليس مجموعة وصايا وتعاليم بل حامل لشخص المسيح. والحياة
المسيحية ليست في اتباع عدد من المناقب بل (بلبس المسيح) كما ننشد في الكنيسة: (أنتم
الذين بالمسيح اعتمدتم, المسيح لبستم), لأنه (لو كان المسيح مجرد معلّم يعلمنا من
الخارج لكانت الخطيئة لا تزال تتسلط على الجسد كما كانت من قبل. لكن الرسول يعارض
مثل هذه الأفكار قائلاً: (نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع) (أف 10: 2). فإن كنّا
في المسيح قد خُلقنا فليس إذاً هو في ذاته المخلوق بل نحن المخلوقون فيه) {ضد
الآريوسيين 56: 2}, و (قد تألهنا بالكلمة لأننا صرنا منضمين إليه بواسطة جسده
وبذلك ورثنا الحياة الأبدية) {ضد الآريوسيين 34: 3}.

 

وهذا
يوصلنا إلى مفهوم (التأله) عند أثناسيوس, هذا المفهوم الذي ظهر من قبله عند القديس
إيريناوس وعمّ من بعده كل الفكر الآبائي. (فالكلمة صار جسداً لكي يجعل الإنسان
قادراً أن يتقبل اللاهوت) {ضد الآريوسيين 59: 2} لكي يصبح الإنسان إلهاً بالنعمة
من خلال اتحاده بالله. هذا المفهوم (للتأله) (
Theosis)
يشكل محور تفكير القديس أثناسيوس اللاهوتي وأصبح من بعده أحد ركائز الفكر اللاهوتي
في الكنيسة الشرقية {راجع بما يختص بهذا الموضوع كتاب: (الكنيسة الأرثوذكسية: إيمان
وعقيدة) لتيموثي وير, سلسلة (تعرف إلى كنيستك) رقم 11, منشورات النور}.

 

حرصه
على وحدة الكنيسة

كان
يشعر أثناسيوس منذ شبابه شعوراً شديداً بحقيقة الكنيسة كجسد للمسيح وبضرورة الحفاظ
على وحدتها ومحاربة كل من يتجرأ على إدخال روح الشقاق إليها. ينطلق أثناسيوس في
مفهومه هذا من سر الشكر الذي هو مصدر وحدة الكنيسة ومحورها. (فإننا نحن جميعاً إذ
نتناول من (الرب) الواحد نصير جسداً واحداً إذ يكون لنا في نفوسنا الرب الواحد)
{ضد الآريوسيين 22: 3}. أمّا ما يثبت هذه الوحدة فهو الروح القدس: (إننا بالروح
نصير في الله وبالتالي نصير متحدين بعضنا مع بعض في الله) {ضد الآريوسيين 25: 3}.
وقد ملأه هذا اليقين بوحدة أبناء شعب الله الأساسية بغيرة لا توصف للدفاع عنها,
مما يفسّر الكثير من تصرفاته في خضم المعارك التي ما زال طيلة حياته يخوضها دفاعاً
عن الإيمان. ويقول بهذا الصدد الأب العالم لويس بوايّه في وصفه لشخصية أثناسيوس في
كتابه عنه المذكور سابقاً: (إن أثناسيوس في كل كتاباته الجدلية والدفاعية يُظهر
سخطه بشدة على خصومه, لكنه في ثورته عليهم يخلو تماماً من مشاعر البغضة أو الحقد.
إنه يندفع بشهامة ليظهر استياءه الشديد, غير أنه في ذلك أيضاً لا يتخلى تماماً عن
وداعته الطبيعية, بل سرعان ما تعود وتكون هي السائدة. إنه يفضح آريوس ويوسابيوس
وكونستانثوس ويصفهم بما لا يشرفهم, غير أننا لا نراه قط يطأهم بأقدامه, فنحن لا
نجد في كتاباته أثراً لعداوة شخصية تسوِّد صفحاتها).

 

والسبب
في ذلك يرجع إلى أن أثناسيوس لم يكن يقاوم عدواً شخصياً بل أعداء الإيمان وكان على
استعداد في أي وقت يرجعون إلى الحق أن يقبلهم بسعة صدر. وقد أظهر هذا التسامح في
كل علاقاته بسعة صدر. وقد أظهر هذا التسامح في كل علاقاته مع الهراطقة التائبين
وسعى دوماً – شرط عدم المساومة على صحة الإيمان – أن يقرِّب القلوب كما ظهر في
كلامه إلى الأنطاكيين الذي ذكرناه سابقاً. كل جهاده الكنسي, يقول الأب متى
المسكين, على مدى هذه السنين الطويلة, كان يؤول إلى غاية واحدة: (أن يجمع في
وحدانية الإيمان كل الذين صاروا أعضاء في جسد المسيح), (لعلّ الله يترأف علينا
ويوحّد ما قد انقسم, فلا يكون بعد سوى رعية واحدة لراع واحد هو ربنا يسوع المسيح
نفسه) {الطومس إلى أنطاكية 8}.

 

الفصل
الثالث: منهجه اللاهوتي

للآب
متى المسكين

{هذا
النص هو ملخص الفصل الرابع من كتاب (القديس أثناسيوس الرسولي) للأب متى المسكين،
كما ورد في الصفحتين 414 و 415 من الكتاب}

 

 منهجه
اللاهوتي

 المنهج
العام

 الاتجاهات
المدرسية للاهوت أثناسيوس

 كتابات
القديس أثناسيوس

أولاً-
عقائدية وتعليمية:

ثانياً-
تفسيرية:

ثالثاً-
النسكيات

رابعاً-
كتابات ضائعة:

 

منهجه
اللاهوتي

آ-
المنهج العام

*
مؤلفاته تحمل صبغة الدفاع عن الإيمان (فيما عدا الكتابان اللذان ألَّفهما قبل
اندلاع النزاع الآريوسي – وكان ذلك في مطلع حياته, وهما (ضد الوثنيين) و (تجسد
الكلمة).

 

*
يتميّز أسلوب أثناسيوس

عن
باسيليوس وغريغوريوس ويوسابيوس: بأصالة تعابيره غير المنمقة,

عن
ترتليانوس: بسلاسة أسلوبه وسهولته,

عن
ايرونيموس: لكونه واقعياً, خالياً من المبالغة,

عن
هيلاريون: لكونه تلقائياً غير متكلف.

عن
أغسطينوس ويوحنا ذهبي الفم: لكونه بسيطاً غير مشحوناً بالاستطرادات والمعاني
الفرعية الكثيرة.

 

*
كان أثناسيوس يكتب ليشرح الحق, والحق فقط, تاركاً الحق يؤثر بنفسه على السامع
والقارئ. لذا كان يعمد إلى التكرار, عن وعي.

 

*
اللغة اليونانية التي كتب بها أثناسيوس:

إن
أثناسيوس صعيدي قبطي صميم, إلا أنه يُعتبر أعظم من عبَّر باللغة اليونانية عن فكر
عصره وعن مضمون لاهوت القرن الرابع, علماً أنه توجد في كتابات أثناسيوس ألفاظ
لاتينية كثيرة مكتوبة بحروف يونانية, مما يكشف عن دراية أثناسيوس وميله الطبيعي
إلى اللاتينية.

 

ب-
الاتجاهات المدرسية للاهوت أثناسيوس

*
ورث أثناسيوس لاهوت مدرسة الإسكندرية ومنهجها في البحث والشرح والتحليل.

 

*
لم يأخذ مبادئ فلاسفة المدرسة اللاهوتية على علاّتها. ففي مواضع كثيرة ينتقد
ويقاوم بشدة أفكار أوريجانس.

 

*
وبالرغم من أنه استقى أبحاثه أولاً من علماء مدرسة الإسكندرية السابقين, لكنه
بحاسة رسولية لا تخطئ كان يقارن بين هذه الاجتهادات الفلسفية وبين الأصول الآبائية
الأخرى المسلّمة من الرسل, ويعطي تعليماً يتناسب مع روح الإنجيل والتقليد.

 

*
أتت مؤلفات القديس أثناسيوس الأولى خالية من أية لمسة أوريجانية من قريب أو بعيد.
أمّا كتاباته اللاحقة وتعبيراته ودقائق شرحه للإيمان الأرثوذكسي, فأتت ملتزمة
بمقررات مجمع نيقية. وقد كان لاهوت مجمع نيقية يجمع بين دقة التحليل الغربي مع
أصالة التقليد اللاهوتي الشرقي, القائم على المعارضة الصريحة والشديدة للاتجاه
الأوريجاني بوجه عام.

 

*
لا يصعب على أي دارس صبور أو لاهوتي مفتوح البصيرة أن يستخرج من مجموع كتابات
أثناسيوس منهجاً كاملاً لاهوتياً.

 

*
(محبة المسيح فوق أي شيء آخر) هي مفتاح فهم حياة أثناسيوس وكتاباته, ومنهجه
اللاهوتي يتمركز حول شخص المسيح دائماً. السمة التي ميَّزت لاهوت أثناسيوس هي أنه
صاحب (لاهوت الخلاص). فلم يكن أثناسيوس يترك شيئاً قط يعلو فوق الحقيقة الأساسية
وهي (الفداء) جاعلاً من هذه الحقيقة حياة شخصية قائمة دائماً (في شخص الفادي).
وبذلك حوَّل أثناسيوس نظرة الفلاسفة من (لوغوس) الفلسفة إلى (لوغوس) إنجيل يوحنا,
ومن (إله الفلاسفة) إلى (الله المستعلن في يسوع المسيح), لكي يصالح به العالم
لنفسه.

 

كتابات
القديس أثناسيوس

{
هذه اللائحة مأخوذة من كتاب الأب متى المسكين, (القديس أثناسيوس الرسولي), 1981,
ص677 إلى 680 }

 

هذه
لائحة شاملة لكتاباته مرتبة زمنياً, والرقم يشير إلى تاريخ كتابتها:

(1)
سنة 318 كتابان: ضد الوثنيين (
Contra
Gentes
). تجسد الكلمة (De Incarnatione Verbi Dei).

(2)
سنة 321- 322 منشور عزل آريوس (
Deposito
Arii
).

(3)
سنة 328- 373 الرسائل الفصحية {الموجود منها 35 رسالة}.

(4)
سنة 328- 335 شرح الإيمان (
Expositio
Fidei
).

(5)
سنة 335 على الآية (كل شيء دفع إليَّ من أبي) (لو22: 10, متى27: 11) (
In Illud Omnia).

(6)
سنة 339 خطاب دوري لأساقفة المسكونة (
Encyclica
ad Episcopos Ecclesiae Catholicae
).

(7)
سنة 343 رسالتان من مجمع سرديقا (حالياً صوفيا عاصمة بلغاريا في البلقان).

(8)
سنة 351 احتجاج ضد الآريوسيين (
Apologia
Contra Arianos
).

(9)
سنة 352 دفاع عن مجمع نيقية (
De
Decretis Concilii Nicaeni
).

ومذيَّل
برسالة أوسابيوس القيصري لرعيته أرسلها سنة 325.

(10)
سنة 352 شرح رأي الباب ديونيسيوس الكبير بطريرك الإسكندرية (
De Sententia Dionysii).

(11)
سنة 350- 353 رسالة إلى أنبا آمون من آباء نتريا (
Ad Amun).

(12)
سنة 354 رسالة إلى داركونتيوس أسقف هرموبوليس بارفا (دمنهور حالياً) (
Ad Dracontium).

(13)
سنة 356- 362 حياة القديس أنطونيوس (
Vita
Antonii
).

(14)
سنة 356 رسالة إلى أساقفة مصر وليبيا (
Epistola ad Episcop Aegypti et Lybyae).

(15)
سنة 356- 357 الدفاع المقدم للإمبراطور كونستانثوس (
Apologia ad constantium).

(16)
سنة 357 دفاع عن هروبه (
Apologia
de Fuga
).

(17)
سنة 358 رسالتان إلى الرهبان (
Ad
monachos
).

(18)
سنة 358 تاريخ الآريوسية (
Historia
Arianorum ad Monachos
).

(19)
سنة 358 أربع مقالات ضد الآريوسيين (
Orationes
ad Arianos IV
).

{المقالة
الرابعة منسوبة إليه وهي غالباً ليست من تأليفه (الناشر)}.

(20)
سنة 359 رسالتان إلى لوسيفر أسقف كالاريس في سردينيا والذي نفي إلى صعيد مصر (
Ad Luciforum).

(21)
سنة 359 أربع رسائل إلى سيرابيون طمويه (تمي الأمديد حالياً) في دلتا مصر (
Ad Serapionem Orationes IV).

(22)
سنة 359- 360 على مجمع أريميني ومجمع سلوكية (
De Synodis Arimini et Seleuciae Celebratis).

(23)
سنة 362 خطاب مجمعي إلى كنيسة أنطاكية (
Tomus ad Antiochenos).

(24)
سنة 362 رسالة إلى روفينيانوس (
Ad
Rufinianum
).

(25)
سنة 363- 364 رسالة إلى الإمبراطور جوفيان (
Ad Juvianum).

(26)
سنة 364 رسالتان قصيرتان إلى الأب أورسيسيوس رئيس دير طبانسين في صعيد مصر (
Ad Orsisium).

(27)
سنة 369 خطاب مجمعي إلى أساقفة أفريقيا من أساقفة مصر وليبيا ومعهم أثناسيوس (
Ad Afros Epistola Synodica).

(28)
سنة 369 أيضاً رسالتان الأولى إلى أبكتاتوس أسقف كورنثوس (
Ad Adelphium) والثانية إلى مكسيموس فيلسوف كلبي اسكندراني (Ad Maximus).

(29)
سنة 363- 372 رسالة إلى ديودورس أسقف صور (
Ad Diodorus).

(30)
سنة 372 رسالة إلى يوحنا وأنطيوخس (الذي صار أسقفاً فيما بعد على بتولمايس) (
Ad Joann . Et Antiochen). سنة 372 أيضاً: رسالة إلى بالليديوس كاهن مقيم في قيصرية فلسطين
(
Ad Palladius).

(31)
سنة 372 كتابان ضد أتباع أبولّيناريوس (
Contra Apollinarium).

أما
باقي كتاباته التي لم يتوصل العلماء بعد إلى تحديد زمن كتاباتها فيمكن تقسيمها إلى
مجموعات هكذا:

 

أولاً-
عقائدية وتعليمية:

(32)
في الثالوث والروح القدس (
De
Trinitate et Spiritu Sancto
).

وهو
معروف في ترجمته اللاتينية فقط. ولكن واضح أنها مأخوذة عن أصل يوناني, ويرجح البعض
كتاباته عام 365 {كما يرجح البعض الآخر أنها ليست من تأليف أثناسيوس (الناشر)}.

(33)
التجسد وضد الآريوسيين (
De
Incarnatione et Contra Arianos
).

في
حقيقته هو إثبات ألوهية المسيح من الكتاب المقدس أساساً, ثم الاستطراد إلى الروح
القدس. ولم يُتفق على صحة نسبته إلى أثناسيوس.

(34)
العظة الكبرى عن الإيمان (
The Sermo
Maior de Fide
).

وعنه
يقول الأسقف نيومان, العالم الآبائي الإنجليزي في القرن الماضي, أنه تجميع من
أعمال أثناسيوس ولذلك لم يعترف العلماء بنسبته الأصلية لأثناسيوس.

(35)
مقتطفات ضد بولس الساموساطي (بطريرك إنطاكية في القرن الثالث الذي حكمت المجامع
بتجريده وعزله لهرطقته) وقد اتفق على صحة نسبتها إلى أثناسيوس.

وباقي
المقتطفات التي ضد مكدونيوس (المسمى عدو الروح القدس) ونوفاتيان وقد صعب على
العلماء تقرير صحة نسبتها إليه.

(36)
تفسير الرموز (
Interpretatio
Symboli
) وقد ثبت أنه تعديل
لقانون المعمّدين الذي وضعه إبيفانيوس أسقف قبرص المصري سنة 372 ولذلك يحتمل أن
أصله من الإسكندرية لذلك يرجّح العلماء أن واضعه هو أنبا بطرس الثاني أو ثيئوفيلس
من بطاركة الإسكندرية سنة 380.

(37)
تجسد كلمة الله (
De Incarnatione
Verbi Dei
) المنسوب إليه خطأً، وهو
كتاب وضعه تلاميذة أبوليناريوس اللاذقاني صاحب الهرطقة المنسوبة إليه، وقد استخدمه
القديس كيرلس الكبير في عبارته المشهورة (طبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد).
معتقداً أن هذا التعبير هو لاثناسيوس، ولكنه لم يستخدمه كما أراد الأبوليناريين بل
حوّل السم إلى دواء. فشرح هذه الجملة شرحاً أرثوذكسياً تجلى في رسالة المصالحة
بينه وبين يوحنا الأنطاكي.

 

ثانياً-
تفسيرية:

(38)
إلى مارسللينوس على تفسير المزامير (
Psalmorun
Ad Marcellinum de Interpretione
),
وهو مقال تقوي عميق عن استعمال المزامير في الصلاة, ويؤكد شيوع استعمالها لأنها
تجمع في إيجاز روح أسفار الكتاب المقدس كله مع تطبيقها للاحتياجات الروحية لكل نفس
تحت مختلف الظروف. ويقول أن ترتيل المزامير ليس بقصد تأثيرها الموسيقي بل ليتمكن
المصلي من التأمل الهادئ في معانيها.

 

(39)
شروحات على المزامير (
Expositiones
in Psalmos
) مع مقدمة يشير فيها إلى
ترتيب المزامير العبرية وتقسيمها إلى 5 كتب, ويُرجع عدم تنظيمها منطقياً إلى
الاعتقاد أنه خلال سبي الشعب اليهودي جَمَعَ أحد الأنبياء بقدر استطاعته الأسفار
المقدسة التي فقدت ترتيبها بسبب إهمال اليهود. أمّا الأجزاء التي فيها اللعنات فهي
تنطبق على أعدائنا الروحيين.

وفي
هذه الشروحات يتقدم كل مزمور تمهيد يبيّن موضوعه العام. وكذلك يرجع أثناسيوس
عَرَضَاً إلى الترجمات اليونانية الأخرى مثل ترجمة أكويلا وثيودوشن وسيماخوس.

(40)
أجزاء متناثرة على إنجيل متى (
Fragmenta
in Evang . Mathaiei
),
وفيها ملاحظة هامة عن الإفخارستيا (على متى 6: 7). ويبدو أن هذه المتفرقات مأخوذة
من مواعظ وتفاسير لأثناسيوس ومجمعة في أقوال مستقلة.

(41)
متفرقات على إنجيل لوقا (
Fragmenta
in Lucam
). وفي نهايتها يشرح
أثناسيوس حدود المعونة التي تقدمها الصلاة على المنتقلين.

 

ثالثاً-
النسكيات:

(42)
في البتولية (
De Virgintate) ويؤكد البعض صحة نسبته إليه والبعض الآخر ينفي ذلك.

 

رابعاً-
كتابات ضائعة:

وهي
ما جاء ذكرها في كتاباته, أو ذكرها المؤرخون القريبون من عصره مثل المؤرخ سقراط.
مثال ذلك خطاب حرره لتعزية العذارى اللواتي أساء معاملتهن جاورجيوس الوالي
الآريوسي, وجاء عنه في تاريخ الكنيسة لثيودوريتوس, ويقتبس منه أن الأريوسيين لم
يسمحوا للعذارى بالدفن في سلام بل (كانوا جالسين حول المقابر كالأبالسة ليمنعوهن).

 

وأهم
أعماله الضائعة رسائله الفصحية الناقصة ومراسلاته مع القديس باسيليوس الكبير.

 

وكان
الاهتمام شديداً في القرن السادس بجمع كتاباته بأية وسيلة, حتى أن قزمان أحد رؤساء
الأديرة كان ينصح الإنسان بأن ينسخ في الحال أي شيء يصادفه من أعمال أثناسيوس,
وإذا لم يتيسر له ما يكتب عليه فليكن ذلك على ملابسه. وهذا يعلل كثرة الأعمال
الجزئية التي للأنبا أثناسيوس والتي تدخل ضمن سلسلة (مقتطفات آباء الكنيسة) في
الغرب المسماة السلاسل الذهبية (
Catena
Aurea
). وكذلك تسبب هذا في وجود
كثير من الكتابات المدسوسة عليه, أهمها ما يسمى بقانون إيمان أثناسيوس الذي ما زال
مصدره قيد البحث.

 

الفصل
الرابع: من أقوال بعض الآباء في القديس أثناسيوس

*
من عظة للقديس غريغوريوس النازينزي

{من
ترجمة الأب متى المسكين, في كتابه المذكور, ص 308- 310}

حينما
أمدح أثناسيوس فأنا أمدح الفضيلة!

فالكلام
عن أثناسيوس ومديح الفضيلة هما عملان مترادفان!

فأثناسيوس
حاز الفضيلة بل اقتناها بل احتواها, ولا نحزن فالذين عاشوا بوفاق الله مهما
ارتحلوا عنا فهم لا يزالون يعيشون في الله!

من
أجل هذا يُسمى الله إله ابراهيم واسحق ويعقوب لأنه ليس إله أموات بل إله أحياء.

ومرة
أخرى أقول إني عندما أمدح أثناسيوس فأنا أمدح الله, الواهب الفضيلة للبشر…


ومع أن الجميع هم صنعة يديه, فقليلون هم رجال الله, الذين بينهم المشترعون والكهنة
والأنبياء والإنجيليون والرسل, والرعاة, والمعلّمون, وكل زمرة الروحيين والذين
بينهم جميعاً من جئنا اليوم نمدحه!…

مع
هؤلاء حُسب أثناسيوس مناظراً, فإزاء بعضهم يُحسب ممتازاً وتجاه الآخرين – أقول
متجرئاً – يُحسب متفوقاً.

وبعض
من هؤلاء أخذهم أثناسيوس نماذج لتفتُحه الذهني, وآخرون معياراً لنشاطه والبعض
مثالاً لاتضاعه, وآخرون في الغيرة المتقدة أو لمواجهة المخاطر أو للارتقاء إلى
مستوى الأدب الجم, جامعاً من هذا وذاك كل أشكال الجمال الخلقي, وأخذهم جميعاً معاً
في نفسه, فخرج لنا من هذا كله نموذجاً متكاملاً في الفضيلة, متفوقاً على كل أقرانه
في الامتياز الفكري….

هذا
الذي من أجل منفعتنا صار مثالاً لكل الآتين بعده!

ولكي
نتكلم عن أثناسيوس ونعطيه حقه تماماً من الكرامة سيكون عملاً أكثر مما يحتمله
الموقف الآن في حديثي معكم, لأن هذا يكون عملاً تاريخياً أكثر منه مديحاً كنسياً
للذكرى, ولكنني أشتهي بالفعل أن يكون موضوع اهتمامي مستقبلاً كتابة تاريخ له,
لمسرة ومنفعة الآتين بعدنا, كما كتب هو تاريخ أنطونيوس ذلك الرجل الإلهي الذي فيه
رسم قوانين الرهبنة على مستوى الرواية كقصة.

فأثناسيوس
شب منذ حداثته على ممارسة الحياة الدينية وسيرة التقوى, بعد دراسة مختصرة للأدب
والفلسفة, الأمور التي لا ينبغي أن يكون جاهلاً بها أو غير متمهر فيها, وهو
سينقدها مستقبلاً!!

أمّا
بخصوص نفسه الوثّابة التوَّاقة للعلى, فأبت أن تبقى منحصرة في الأباطيل, بل ظل يهذ
في كافة الأسفار للعهد القديم والعهد الجديد بعمق لم يبلغه أحد نظيره, فشب غزير
التأمل والتفكير رصين السلوك وجمع هذا بذاك كما برباط ذهبي, قلما استطاع أحد أن
يجمع بينهما, مستخدماً السلوك في الحياة كمدخل للتأمل, والتأمل جعله ختماً على
الحياة كلها, لأن مخافة الله بدء الحكمة, أي أن الخوف هو قماط الحكمة الأول, ولكن
متى قطعت الحكمة أقمطة الخوف الأولى فإنها تنبثق إلى أعلى في جو المحبة, فتجعلنا
الحكمة أحباء لله وأبناء عوض عبيد.

وهكذا
شبّ أثناسيوس متمرناً, كما ينبغي لكل من أراد الآن أن يرئس على شعب ويأخذ لنفسه
مهمة قيادة جسد المسيح (الكنيسة) بمقتضى مشيئة الله وعلمه السابق الذي هو قائم في
الأساس قبل كل أعمال الله العظمى!!

لقد
سكب الله عليه هذه الخدمة الجليلة فجعلته واحداً من القريبين إلى الله, فاستأهل
الخدمة المقدسة وكرامتها, وبعد أن أكمل درجات التدبير بكل إخلاص (شماس وكاهن
بدرجاتهما) استؤمن على الرئاسة العليا للشعب أو بالحري مسؤولية العالم كله!!

ولست
أعلم هل أخذ الكهنوت مكافأة للفضيلة التي حاز عليها, أو أخذ الكهنوت ليكون نبعاً
وحياة للكنيسة؟

فالكنيسة
صارت كإسماعيل على صدر أمه, فأغمي على اسماعيل من العطش وأمّا الكنيسة فإلى الحق!
أو صارت كإيليا عندما احتاج إلى خرير نهر خابور عندما جفّت الأرض من الجدب فارتوى,
لكي تبقى بذرة للصلاح حية في إسرائيل وحتى لا نبقى أيضاً مثل سادوم ونشابه عمورة.

لذلك
فنحن حينما انطرحنا أرضاً, ارتفع أثناسيوس كقرن خلاص لنا وكحجر زاوية أبقى الله
عليه ليربطنا معاً وبنفسه, أظهره الله في حينه الحسن, أو قل (أثناسيوس) هو النار
التي أرسلها ليطهِّر به الشر الذي بيننا, أو هو (أثناسيوس) المذراة التي جاء بها
الله لينقي أصحاب العقيدة الهشة المزعزعة من أصحاب العقيدة الراسخة الثابتة!!

أو
(أثناسيوس) هو السيف الذي قطع جذور الشر من أصولها!!

لذلك
وجده المسيح الكلمة طريقاً له,

والروح
القدس وجد فيه من سيتنفس لحسابه!!

وهكذا
ولهذا كله بصوت جميع الشعب وليس على طريقة الشر والغش التي ابتدعوها بعدئذ
(الهراطقة), ولا بسفك الدماء والقهر, ولكن بأسلوب رسولي روحاني قادوه إلى الكرسي
الرسولي الذي للقديس مرقس ليخلفه في التقوى وليست أقل منه في الإدارة والخدمة!!.

 

*
من عظة للقديس غريغوريوس النازينزي في القسطنطينية في عيد موت أثناسيوس سنة 380

{من
ترجمة الأب متى المسكين, في كتابه المذكور, ص310- 311}

(كان
أثناسيوس في أعماله متسامياً وفي عقله وتفكيره متواضعاً, لا يضَارَع في الفضيلة,
ومنفتحاً لكل مقارع ومحاجج, لطيفاً, متحرراً من روح الغضب, مترفقاً, حلواً في
الحديث, وحلواً أكثر في التدبير, ملائكي الطلعة, وملائكياً أكثر في الفعل, هادئاً
عند التعنيف والمراجعة, مقنعاً في المديح, هذا وذاك دون أن يكون مُسفاً في المزيد
من الكيل, سواء للذي يعنِّفه, فهو يعنِّفه كأب, أو الذي يمدحه فهو يمدحه كرئيس ذي
وقار, وكان في ترفّقه غير مأخوذ بعواطفه, وفي تعنيفه غير مساق بمرارة القسوة. فكان
في هذا ذا وقار وفي ذاك حكيماً متبصراً بالعواقب!!

وفي
الاثنين حقاً على مستوى التعقل!

وكان
تدبيره كافياً لتمرين أولاده الروحيين بأقل حاجة إلى الكلمات!!

وكانت
كلماته تغني كثيراً عن العصا!!

وكان
استخدامه للعصا يغني عن السكين (الحرم) والله وحده الذي أنا واقف أمامه أتكلم
لحسابه قادر أن يعطيني ما يستحق أن يُقال في حق نفس مثل أثناسيوس التي وُهبت قدراً
كبيراً من النبالة وقدراً أقوى من سلطان الكلمة… هذا هو أثناسيوس. عندما كان في
وسطنا, كان عمود الكنيسة.

لقد
كان كونستانثوس يرى أن قمع كل مسيحيي الأرض شيء سهل!!

ولكن
أمام قمع أثناسيوس أو قمع تعاليمه لما وجد الأمر جِدَّ خطير!!

وقنع
الإمبراطور في نفسه أخيراً أنه لا فائدة من تدبير خطط لانتصاره علينا جميعاً طالما
هذا – أي أثناسيوس – له هذه القدرة على المقاومة والمعارضة!!).

 

*
أقوال أخرى للقديس غريغوريوس النازينزي (اللاهوتي) في القديس أثناسيوس


(إنه وقف ضد كونستانثوس كملك يحارب ملكاً).


كان في مجمع نيقية (أعظم المرافقين للأساقفة).

 (مواعظ
21)

 

*
أقوال للقديس باسيليوس الكبير في القديس أثناسيوس


(قد تعلّم أن يحارب حروب الرب منذ صباه) (رسالته 82).


(له الاحترام الكلي والمديح بغير حدود, إنه صاحب الوعي العميق والمبادرة العملية
والرقة الإنجيلية, رأس الكنيسة, الرجل صاحب النفس الكبيرة الرسولية, الأب الروحي).

 

*
القديس هيلاريون أسقف بواتيه

(إني
لو خُيرت بين الموت ومخاصمة أثناسيوس لفضّلت الأول على الثانية) (6, 3).

 

*
القديس يوحنا الدمشقي

(هو
حجر الزاوية في كنيسة الله).

 

الفصل
الرابع: مقتطفات من آثاره

 الحياة
في المسيح

 في
سر الشكر

 في
معرفة المسيح والإيمان به

 في
الكتاب المقدس

 نصائح
إلى الأساقفة

 لا
تسمحوا أن تُداس الكنيسة

 نحن
مسيحيون نسبة إلى المسيح

 في
التقليد الشريف

 في
البتولية

 في
ضرورة حياة القداسة

 في
الخلق

 في
السقوط

 في
التجسد

 في
ألوهة الابن

 في
التغيير الذي أتمه الصليب في علاقة الموت بالإنسان

 من
رسائله القانونية الثلاث التي ذكرت في القانون الأول للمجمعين المسكونيين الأول
والسابع وفي القانون الثاني للمجمع المسكوني السادس (مجمع ترولو)

 خلاصة
رسالته إلى الراهب عمون

 خلاصة
رسالته التاسعة والثلاثين

 خلاصة
رسالته إلى أورفيانوس

 من
تعاليم أنطونيوس الكبير بقلم أثناسيوس

 في
الروح القدس

 في
الثالوث القدوس

 في
التألّه

 

*
الحياة في المسيح


(فإن الحياة الحقة هي .. الحياة التي يحياها الإنسان في المسيح). (رسالة فصحية 3: 7)


(لقد وعد الرب قائلاً: (أنا هو خبز الحياة. من يُقبل إليَّ فلا يجوع ومن يؤمن بي
فلن يعطش أبداً) (يو 35: 6) فإننا نحن أيضاً نستحق هذه الأمور إن كنا في كل حين
نلتصق بمخلِّصنا.. وإن كنا ندوم بقربه ولا نبتعد منه أبداً قائلين له: (إلى من
نذهب فإن عندك كلام الحياة الأبدية) (يو 68: 6).. وهكذا إذ تقتات نفوسنا منه ههنا
نشترك مع الملائكة في تلك المائدة السماوية الروحانية ولن نكون قارعين مرفوضين مثل
الخمس عذارى الجاهلات بل بالحري ندخل مع الرب مثل الحكيمات اللواتي أحببن العريس،
لأننا حينما نُظهر إماتة يسوع في أجسادنا فحينئذ ننال منه الحياة والملكوت!)
(رسالة فصحية 10: 9) {ترجمة الأب متى المسكين}.


(فلننكر ذواتنا كلياً ونقدّم نفوسنا للرب كما فعل القديسون، فلا نعيش بعد لنفوسنا
بل للرب الذي مات من أجلنا.. فإننا نتشبه بالقديسين حينما نعترف بذاك الذي مات من
أجلن، فلا نعود نعيش لنفوسنا بل المسيح هو الذي يحيا فينا) (رسالة فصحية 3: 5 و4)
{ترجمة الأب متى المسكين}.

 

 *
في سر الشكر


(مأكل فائق سماوي.. طعام روحاني.. يناله كل واحد روحياً فيصير في الجميع حافظاً
لقيامة الحياة الأبدية) (إلى سيرابيون 19: 4) {ترجمة الأب متى المسكين}.


(نحن نتأله باشتراكنا ليس في مجرد جسد إنسان بل بتناولنا من جسد الكلمة نفسه)
(رسالة إلى مكسيموس 2: 61) {ترجمة الأب متى المسكين}.


(إننا نحن جميعاً إذ نتناول من الرب الواحد بعينه نصير جسداً واحداً إذ يكون لنا
في أنفسنا الرب الواحد) (ضد الآريوسيين 22: 3) {ترجمة الأب متى المسكين}.


الإفخارستيا طعام سماوي.. لذلك علينا أن نستعد لكي نقترب من الحمل الإلهي) (رسالة
فصحية 5: 5) {ترجمة الأب متى المسكين}.


(إننا نغتذي من (طعام الحياة) فبينما نعطش إليه على الدوام تتلذذ نفوسنا في كل حين
إذ ترتوي من دمه الكريم كما من ينبوع) (رسالة فصحية 1: 5) {ترجمة الأب متى
المسكين}.


(الذي يشترك في (الخبز الإلهي) يشتاق ويجوع دائماً إليه.. فجيّد للقديسين والذين
يحبون الحياة في المسيح أن يُنهضوا نفوسهم بالاشتياق إلى هذا الطعام) (رسالة فصحية
6: 7) {ترجمة الأب متى المسكين}.


(إن المسيح فصحنا قد ذُبح لأجلنا) إذاً فليأكل منه كل واحد منا وليشترك بفرح
واشتياق في هذا المأكل، فإن الرب يعطي نفسه بالتساوي للجميع ويصير في كل واحد
(ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية) (رسالة فصحية14: 11) {ترجمة الأب متى المسكين}.


(يا إخوتي إن هذا الخبز لا يكون ههنا فقط طعاماً للأبرار، فليس القديسون على الأرض
فقط يتذوقون هذا الخبز وهذا الدم بل إننا سنتناولهما أيضاً في السماء حيث يكون
الرب نفسه هو طعام الأرواح العليا والملائكة، فهو الفرح الحقيقي لجميع الأرواح
السماوية.. فمنذ الآن قد أعطانا الرب (خبز الملائكة) (مز 25: 78).

وقد
وعد الذين يصبرون معه في تجاربه قائلاً: (أنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً
لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي..) (لو 29: 22 و30). فيا لها من وليمة عظيمة
يا إخوتي، وما أعظم توافق الذين يأكلون من المائدة السماوية وما أعظم تهليلهم!
لأنم يتلذذون ليس بالطعام البائد الذي يندفع إلى الخارج بل بالطعام الذي يعطي
الحياة الأبدية. فمن يُحسب أهلاً لهذا المحفل؟ ومن يسعد بأن يُدعى ويُحسب أهلاً
لهذا العيد الإلهي؟ بالحق (طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله) (لو 15: 14))
(رسالة فصحية 8: 9) {ترجمة الأب متى المسكين}.

 

*
في معرفة المسيح والإيمان به

(أعتقد
أنه يليق التحدث معك عن المسيح، يا من تحبه. وأنا واثق أنك تعتبر أن معرفة المسيح
والإيمان به هما أثمن من كل شيء آخر) (ضد الآريوسيين، 1).

 

 *
في الكتاب المقدس


(إني أعتقد أن الأسفار المقدسة الملهمة كفيلة بحد ذاتها أن تُعلن الحق) (ضد
الوثنيين، 1).


(إن الأسفار المقدسة تكفينا عوضاً عن أي شيء آخر. لذلك أنصح الراغبين في مزيد من
المعرفة.. أن يقرأوا كلمة الله) (الرسالة إلى أساقفة مصر، 4).


(إن تعليم الحق يكون أدق ما يمكن حينما نستمده من الكتاب المقدس وليس من مصادر
أخرى) (الدفاع عن قانون الإيمان النيقاوي 32).


(اعكف على قراءة المزامير بحكمة وسيرشدك الروح إلى فهم معانيها وحينئذ تتمثل بحياة
القديسين الذين كتبوا هذا السفر بإرشاد الله) (رسالة إلى مرسلينوس 33).

 

 *
نصائح إلى الأساقفة


(أهيب بكم أن تكونوا أمثلة للإخوة في كل مكان، أنتم الذين وضع تحت أيديكم اعتراف
قد تحدد بواسطة نيقية.. علّموهم أننا الآن في معركة إزاء الحق في صراعه ضد الباطل،
وأن مكايد العدو وحيله كثيرة متعددة. لكن برهان الشهداء لا يكون برفض التبخير
للأصنام وحسب، أو برفض أية محاولة لإنكار الإيمان، إنما بشهادة ضمير صالح متوهج..
فإبراهيم لم ينل الإكليل لأنه تألم بالموت بل لأنه كان أميناً لله.. وعلينا أن
نعتبر هذه الحقيقة: المعركة قائمة والاختبار أمامن، فإمّا أن نحفظ الإيمان أو
ننكره. كما أنه علينا أن نحفظ ما تسلّمناه بجد وإخلاص في كل حياتن، أن يكون
الاعتراف الذي رسم في نيقية أساساً لتعليمن، مبتعدين عن كل ما هو مستحدث، ومعلّمين
الشعب أن لا يلتفت إلى الأرواح المضلّة) (الرسالة إلى أساقفة مصر، 21).

 

 *
لا تسمحوا أن تُداس الكنيسة


(إن أعضاء الكنيسة كلها ممزقة الآن بعضها عن بعض، وها نحن مرسلوها إليكم في أشخاص
الكهنة والأساقفة المرسلين.. حاملين إليكم صورة الإهانات والإساءات التي حلّت بهم.
عساكم تتحركون بالغيرة.. معتبرين أن هذه الإساءات إنما حدثت لكم.. عسى لو قدّم كل
واحد منكم معونة كمن يشعر في نفسه بسعير الألم، لئلا تتلّوث الكنيسة في إيمانها
وتُنتهك قوانينها. الآن الجميع في خطر إذا لم يتدارك الله الأمر بواسطتكم ويصلح
بأيديكم ما فسد!.. أتوسل إليكم لا تستهينوا بهذه الحوادث، ولا تسمحوا أن تُداس
كنيسة الإسكندرية العظيمة تحت أرجل الهراطقة!..) (الرسالة الدورية إلى الأساقفة 1،
7).

 

 *
نحن مسيحيون نسبة إلى المسيح

(إن
أتباع هذه الهرطقة (الآريوسيين) مجانين حقاً لأنهم حوّلوا اسم رب المجد إلى صورة
ابن بشر فانية، وكبرهان أخير لجهلهم يستبدلون اسم (مسيحيين) باسم (آريوسيين)…
أمّا عندنا فلم يتخذ قط الشعب اسمه من الأسقف، بل نتخذه من الله الذي نعبد. لا بدّ
أن الرسل كانوا معلّمينا وخدام إنجيل السيد. لكننا لا نُسمّى بأسمائهم. نحن
مسيحيون بالمسيح. هو الذي أعطانا لقبنا.. نحن أبناء المسيح وبهذه الصفة ندّعي أننا
مسيحيون حسب تقليد الكنيسة المستمر..) (ضد الآريوسيين 1، 4).

 

 *
في التقليد الشريف

(لنتأمل
إذاً في تقليد الكنيسة الجامعة منذ البدء وتعاليمها وإيمانها التي أعطاها الرب
وكرز بها الرسل وحفظها الآباء، على هذه تأسست الكنيسة، ومن يسقط من هذه لا يعتبر
بل ولا يكون مسيحياً) (إلى سيرابيون 28: 1) {ترجمة الأب متى المسكين}.

 

 *
في البتولية

(لقد
أعطانا ابن الله سيدنا ومخلّصنا يسوع المسيح الذي تجسّد من أجلن، غلب الموت وحرّر
الجنس البشري من العبودية.. أن تكون لنا البتولية على الأرض صورة لقداسة الملائكة،
لذلك تسمّي الكنيسة الجامعة اللواتي يتمتعن بتلك الفضيلة بخطيبات المسيح، وينظر
الوثنيون إليهن كإلى هياكل للكلمة، لأن مثل هذه المؤسسة {أي مؤسسة البتولية،
الرهبنة} موجودة فقط عند المسيحيين، وتشهد أننا نكرّم الله بالحقيقة في أوساطنا..
طعن بيلاطس في الماضي إحدى خواصر المخلص بحربة، أمّا (الآريوسيون).. فيمزّقون
الخاصرتين لأن العذارى هن حقاً أعضاء المخلص) (الدفاع لدى الإمبراطور، 33).

 

 *
في ضرورة حياة القداسة

(على
أن تفتيش الكتب ومعرفتها الحقيقية يتطلبان حياة فاضلة، ونفساً طاهرة، والفضيلة
التي بالمسيح. حتى إذا ما استرشد بها العقل وأنار بها طريقه استطاع أن يصل إلى ما
يصبو إليه ويدركه حسبما تستطيع الطبيعة البشرية أن تتعلمه عن كلمة الله.

لأنه
بدون الذهن النقي ومماثلة سيرة القديسين لا يستطيع الإنسان أن يدرك أقوال القديسين.

إذ
كما أنه على من أراد أن يبصر نور الشمس أن يمسح عينيه ويجليهما مطهراً نفسه على
مثال ما يبتغيه، حتى إذا ما استنارت العين استطاعت أن تبصر نور الشمس. أو كما أنه
على من أراد أن يرى مدينة أو قرية أن يأتي إليها لكي يراه، هكذا أيضاً يجب على من
يريد أن يدرك فكر الذين يتكلمون عن الله أن يبدأ بغسل وتنظيف نفسه، بتغيير مجرى
حياته ويقترب إلى القديسين أنفسهم بالإقتداء بأعمالهم، حتى إذا ما اشترك معهم في
السلوك في الحياة المشتركة استطاع أن يفهم هو أيضاً ما أعلنه الله لهم، ومن ثم –
إذ يكون قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً – ينجو من خطر الخطأة ونارهم في يوم الدينونة،
وينال ما أعدّ للقديسين في ملكوت السموات، (ما لم ترعين ولم تسمع أذن ولم يخطر على
بال إنسان) (1 كور 9: 2) ما أعدّ للذين يعيشون حياة فاضلة، ويحبون الله والآب في
المسيح يسوع ربن، الذي به ومعه يليق للآب نفسه مع الابن نفسه في الروح القدس
الكرامة والقوة والمجد إلى أبد الآبدين، آمين) (الفصل السابع والخمسون (في
التجسد)) {ترجمة القس مرقس داود، دار التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية بالقاهرة،
1960}.

 

 *
في الخلق

(لأنه
معلوم أن الكائنات لم تُخلق من تلقاء ذاته، فإن خلقتها تستلزم وجود فكر سابق. كما
أنها لم تخلق من مادة سبق وجوده، لأن الله ليس ضعيفاً. ولكن الله خلق الكون من
العدم، ومن غير سبق وجوده مطلق، بكلمته، كما يقول (أولاً) على لسان موسى (في البدء
خلق الله السموات والأرض) (تك 1: 1) و (ثانياً) في الكتاب الجليل النفع الذي يسمع
(الراعي {لمؤلفه (هرماس) أحد مؤلفي الأجيال المسيحية الأولى، راجع (الآباء
الرسوليون)، منشورات النور}: (وقبل كل شيء آمن بأن الله واحد، الذي خلق وأتقن كل
الكائنات، وأوجدها من العدم).

 

وإلى
هذا يشير أيضاً بولس إذ يقول: (بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله، حتى
لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر) (عب 4: 11).

لأن
الله صالح أو بالحري لا بد أن يكون هو مصدر الصلاح، والصالح لا يمكن أن يبخل بأي
شيء، لذلك فإنه، إذ لا يضن بنعمة الوجود على أي شيء، خلق كل الأشياء من العدم
بكلمته – يسوع المسيح ربنا – وفضلاً عن ذلك فإنه إذ أشفق بصفة خاصة على الجنس
البشري دون سائر المخلوقات على الأرض، وإذ رأى ضعفه – بطبيعة تكوينه – عن أن يبقى
في حال واحدة، منحه نعمة أخرى، فإنه لم يكتف بمجرد خلقته للإنسان كما فعل بباقي
المخلوقات غير العاقلة على الأرض، بل خلقه على صورته ومثاله، وأعطاه نصيباً حتى في
قوة (كلمته) لكي يستطيع، وله نوع من ظل (الكلمة) وقد خلق عاقل، أن يبقى في السعادة
أبداً ويحيا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس.

 

ولكن
لعلمه أيضاً أن إرادة الإنسان يمكن أن تميل إلى إحدى الجهتين {أي الخير والشر} سبق
فدعم النعمة، المعطاة له، بالوصية التي قدمها إليه والمكان الذي أقامه فيه. لأنه
أتى به إلى جنّته، وأعطاه وصية حتى إذا حفظ النعمة واستمر صالحاً استطاع أن يحتفظ
بحياته في الفردوس بلا حزن ولا ألم ولا همّ، فضلاً عن موعد عدم الفساد في السماء.
أمّا إذا تعدّى الوصية وارتدّ وأصبح شريراً فليعلم بأنه يجلب على نفسه الفساد
بالموت الذي كان يستحقه بالطبيعة، وأنه لا يستحق الحياة في الفردوس بعد، بل يُطرد
منه من ذلك الوقت لكي يموت ويبقى في الموت والفساد.

وهذا
ما يحذرنا منه الكتاب المقدس قائلاً بفم الله: (من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً.
وأمّا شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت (تك
16: 2 و17). وماذا يعني بقوله: (موتاً تموت؟). ليس المقصود مجرد الموت بل البقاء
إلى الأبد في فساد الموت {ترجمة القس مرقس داود}. (الفصل الثالث من كتابه (في
التجسد))

 

 *
في السقوط

(فالله
إذاً خلق الإنسان، وقصد أن يبقى في عدم فساد، أمّا البشر فإذا احتقروا أو رفضوا
التأمل في الله، واخترعوا ودبّروا الشر لأنفسهم فقد استحقوا حكم الموت الذي سبق
إنذارهم به، ومن ذلك الحين لم يبقوا بعد في الصورة التي خلقوا عليها بل فسدوا
حسبما أرادوا لأنفسهم (جا 29: 7، رو 21: 1 و22) وساد عليهم الموت كملك (رو 14: 5)
لأن تعدَّيهم الوصية أعادهم إلى حالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما نشأوا من العدم
كذلك يجب أن لا يتوقعوا إلا الفساد الذي يؤدي إلى العدم مع توالي الزمن.

 

لأنهم
إن كانوا بحضور (الكلمة) وتعطفه قد دُعوا إلى الوجود من الحالة الطبيعية الأولى
وهي عدم الوجود، فإنهم بطبيعة الحال متى تجردوا من معرفة الله وعادوا إلى العدم
{أو (إلى ما لا وجود له) ولعل أثناسيوس يقصد العدم جسدياً} (لأن كل ما هو شر فهو
عدم وكل ما هو خير فهو كائن وموجود) ويجب أن تكون النتيجة بطبيعة الحال الحرمان
إلى الأبد من الوجود طالما كانوا يستمدون وجودهم من الله الموجود. وبتعبير آخر يجب
أن تكون النتيجة الانحلال، وبالتالي البقاء في حالة الموت والفساد.

 

لأن
الإنسان إذ خُلق من العدم فإنه فانٍ بطبيعته، على أنه، بفضل خلقته على صورة الله
الكائن، كان ممكناً أن ينجو من الفساد الطبيعي ويبقى في عدم فساد لو أنه احتفظ
بتلك الصورة بإبقاء الله في معرفته، كما تقول الحكمة: (حفظ الشرائع تحقيق عدم
البلى) (سفر الحكمة 19: 6). ولكنه إذ كان في عدم فساد كان ممكناً أن يعيش كالله
منذ ذلك الوقت، وإلى هذا يشير الكتاب المقدس على الأرجح عندما يقول: (أنا قلت إنكم
آلهة وبنو العليّ كلكم. لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون) (مز6: 82 و7).

 

لأن
الله لم يكتف بأن يخلقنا من العدم، ولكنه أيضاً وهبنا مجان، بنعمة الكلمة، حياة
منسجمة مع الله. ولكن البشر إذ رفضوا الأمور الأبدية، وتحوّلوا إلى الأمور الفاسدة
بمشورة الشيطان، صاروا سبباً لفساد أنفسهم بالموت، لأنهم – كما ذكرت سابقاً –
بالطبيعة فاسدون، ولكنهم تعيّنوا للخلاص من حالتهم الطبيعية – بنعمة اشتراكهم في
(الكلمة) – إن استمروا صالحين.

 

ولأن
(الكلمة) سكن فيهم، فحتى فسادهم الطبيعي لم يجسر أن يقترب منهم، كما تقول الحكمة
أيضاً (لأن الله خلق الإنسان في عدم البلى {أو (خالداً) حسب ترجمة اليسوعيين}
وصنعه على صورة أزليته، لكن بحسد إبليس (دخل الموت إلى العالم) (حكمة 23: 2 و24).
وعندما تم ذلك بدأ البشر يموتون، وساد عليهم الفساد من ذلك الوقت فصاعد، وصار له
سلطان على الجنس البشري أكثر من سلطانه الطبيعي، لأنه أتى نتيجة تهديد الله في حال
عصيان الوصية.

 

لأن
البشر لم يقفوا عند حد معيّن حتى في سوء أفعالهم، بل تدرّجوا في الشر حتى تخطوا كل
حدود، وأصبحوا يخترعون الشر ويتفننون فيه إلى أن جلبوا على أنفسهم الموت والفساد،
وبعد ذلك إذ توغلوا في الرذيلة، ولم يقفوا عند شر واحد، بل راحوا يخترعون كل جديد
من الشر، فقد أصبحت طبيعتهم مشبعة بالخطيئة.

 

فها
هي خطيا الزنى والسرقة قد عمّت كل مكان، وامتلأت كل الأرض بخطايا القتل والنهب،
وأصبح البشر لا يرعون حرمة للناموس، بل صاروا يرتكبون الجرائم في كل مكان، سواء
كأفراد أو كجماعات. فالمدن اشتبكت في الحرب مع المدن، والأمم قامت ضد الأمم،
وتمزقت كل الأرض بسبب المنازعات المدنية والحروب، وصار كل إنسان يتنافس مع أترابه
في الأعمال القبيحة.

 

وأصبحوا
لا يترفعون حتى عن الجرائم التي ضد الطبيعة، كما يقول عنهم رسول المسيح وشاهده: (لأن
إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة، وكذلك الذكور أيضاً
تاركين استعمال الأنثى الطبيعي اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً
بذكور ونائلين في أنفسهم جراء ضلالهم المحق) (رو 26: 1 و27). (الفصل الرابع والفصل
الخامس من (في التجسد)) {ترجمة القس مرقس داود}.

 

 *
في التجسد

(ومرة
أخرى نقول: أي طريق كان ممكناً أن يسلكه الله؟ أيطلب من البشر التوبة عن تعدياتهم
– وهذا قد يُرى لائقاً بالله – لعلهم كما ورثوا الفساد بسبب التعدي ينالون عدم
الفساد بسبب التوبة؟

ولكن
التوبة (أولاً) لا تستطيع أن توفي مطلب الله العادل، لأنه إن لم يظل الإنسان في
قبضة الموت يكون الله غير صادق. (ثانياً) تعجز عن أن تتغيّر طبيعة الإنسان لأن كل
ما تفعله هو أنها تقف حائلاً بينه وبين ارتكاب الخطيئة.

ولو
كان الأمر مجرد خطأ بسيط ارتكبه الإنسان ولم يتبعه الفساد فقد تكون التوبة كافية،
أمّا الآن وقد علمنا أن الإنسان بمجرد التعدي انجرف في تيار الفساد الذي أصبح
طبيعة له، وحُرم من تلك النعمة التي سبق أن أعطيت له وهي مماثله لصورة الله، فما
هي الخطوة التالية التي كان يستلزمها الأمر؟ أو من ذا الذي يستطيع أن يعيد إليه
تلك النعمة ويرده إلى حالته الأولى إلا كلمة الله الذي خلق كل شيء من العدم في
البدء؟

 

لهذا
كان أمام كلمة الله مرة أخرى أن يأتي بالفاسد إلى عدم الفساد، وفي نفس الوقت أن
يوفي مطلب الآب العادل المطالب به الجميع. وحيث أنه هو كلمة الآب ويفوق الكل، فكان
هو وحده الذي يليق بطبيعته أن يجدد خلقة كل شيء، وأن يتحمل الآلام عوضاً عن الجميع،
وأن يكون نائباً {أو (شفيعاً) أو (سفيراً) كبعض الترجمات} عن الجميع لدى الآب.

 

لأجل
ذلك نزل إلى عالمنا كلمة الله الخالي من الجسد والعديم الفساد وغير المادي مع أنه
لم يكن عنّا ببعيد (1ع27: 17). لأنه لم يترك شيئاً من البرايا خلواً منه إذ هو
يملأ كل شيء في كل مكان، وفي نفس الوقت هو كائن مع أبيه. ولكنه تنازل وأتى إلينا
لكي يعلن شفقته علينا ويفتقدنا.

 

وإذ
رأى جنس الخليقة العاقلة في طريق الهلاك، وأن الموت يسودهم بالفساد، وإذ رأى أيضاً
أن التهديد بالموت في حالة التعدي قد مكن الفساد من طبيعتن، وأنه لأمر شنيع أن
ينحل الناموس قبل أن يتم، وإذ رأى أيضاً عدم لياقة الأمر الراهن وهو أن خليقته
التي خلقتها يداه في طريق الفناء، وإذ رأى فوق هذا شر البشر المستطير وأنهم
يتزايدون فيه شيئاً فشيئاً حتى أشرفوا على هوة سحيقة، وإذ رأى أخيراً أن كل البشر
كانوا تحت قصاص الموت – لهذا أشفق على جنسن، وترفق بضعفن، ورثى لفسادنا. وإذ لم
يحتمل أن يرى الموت تصير له السيادة لئلا تفنى به الخليقة وتذهب صنعة أبيه في
البشر هباء، فقد أخذ لنفسه جسداً لا يختلف عن جسدنا.

 

لأنه
لم يفكر في مجرد التجسد أو مجرد الظهور، وإلا فلو أنه أراد مجرد الظهور لاستطاع أن
يتمم ظهوره الإلهي بطريقة أخرى أسمى وأفضل. ولكنه أخذ جسداً من جنسن، وليس ذلك
وحسب بل من عذراء طاهرة بلا لوم ولم تعرف رجل، جسداً طاهراً وخالياً بالحق من زرع
بشر. لأنه وهو القادر على كل شيء وباري كل شيء أعد الجسد في العذارء ليكون له هيكل،
وجعله بالذات، واتخذه أداة يعلن ذاته فيها ويحلّ فيها.

 

وهكذا
إذ أخذ من أجسادنا جسداً مماثلاً لطبيعته، وإذ كان الجميع تحت قصاص فساد الموت،
فقد بذل جسده للموت عوضاً عن الجميع وقدمه للآب. كل هذا فعله شفقة منه علينا وذلك:
(أولاً) لكي يبطل الناموس الذي كان يقضي بهلاك البشر، إذ مات الكل فيه، لأن سلطانه
قد أكمل في جسد الرب ولا يعود ينشب أظفاره في البشر الذين ناب عنهم. (وثانياً) لكي
يعيد البشر إلى عدم الفساد بعد أن عادوا إلى الفساد، ويحييهم من الموت بجسده
وبنعمة القيامة وينقذهم من الموت {الترجمة الأصح (ويبيد الموت عنهم)} كإنقاذ القش
{أو (القصب) كبعض الترجمات} من النار.

 

وإذ
رأى (الكلمة) أن ناموس فساد البشرية لا يمكن إبطاله إلا بالموت كشرط لازم، وأنه
مستحيل أن يتحمل (الكلمة) الموت لأنه غير مائت ولأنه ابن الآب، لهذا أخذ لنفسه جسد،
قابلاً للموت، حتى باتحاده (بالكلمة) الذي هو فوق الكل جديراً أن يموت نيابة عن
الكل، وحتى يبقى في عدم فساد بسبب الكلمة الذي أتى ليحل فيه، وحتى يتحرر الجميع من
الفساد بنعمة القيامة من الأموات. وإذ قدم للموت ذلك الجسد، الذي أخذه لنفسه،
كمحرقة وذبيحة خالية من كل شائبة، فقد رفع حكم الموت فوراً عن جميع من ناب عنهم إذ
قدم عوضاً عنهم جسداً مماثلاً لأجسادهم.

 

ولأن
كلمة الله متعال فوق الكل، فقد لاق به بطبيعة الحال أن يوفي الدَين بموته وذلك
بتقديم هيكله وآنيته البشرية لأجل حياة الجميع {أو (فداء عن الجميع)}. وإذ اتحد
ابن الله عديم الفساد بالجميع بطبيعة مماثلة، فقد ألبس الجميع عدم الفساد، بطبيعة
الحال، بوعد القيامة من الأموات. لأنه لم يعد ممكناً أن ينشب فساد الموت الفعلي
أظفاره في البشر، وذلك بسبب (الكلمة) الذي جاء وحلَّ بينهم بجسده الواحد.

 

وكما
أنه دخل ملك عظيم مدينة عظيمة، واتخذ إقامته في أحد بيوتها فإن هذه المدينة تتشح
بالمجد والشرف، ولا يعود عدو أو لص ينزل إليها لإخضاعه، بل على العكس تعتبر مستحقة
لكل عناية لأن الملك اتخذ مقره في بيت واحد من بيوته، كذلك كانت الحال مع ملك الكل.

 

فإنه
إذ أتى إلى عالمنا واتخذ إقامته في جسد واحد من بين أترابه، فقد بطلت كل مؤامرة
العدو ضد الجنس البشري منذ ذلك الحين، وزال عنهم فساد الموت الذي كان سائداً عليهم
من قبل. لأنه لو لم يكن الرب، مخلص الجميع، ابن الله، قد جاء إلينا وحلَّ بيننا
ليوفي غاية الموت {أو (ليضع حداً للموت)} لكان الجنس البشري قد هلك (الفصل السابع،
الثامن والتاسع من (في التجسد)) {ترجمة القس مرقس داود}.

 

 *
في ألوهة الابن

{من
فصل في كلمة هومو وسيوس، لهنري برسيغال، مذكور في مجموعة الشرع الكنسي، ص44،
منشورات النور}

كاد
الآباء في مجمع نيقية يعملون برأي بعض الأساقفة فلا يستعملون في تحديداتهم إلا
العبارات الكتابية. ولكنهم بعد محاولات عديدة وجدوا أن العبارات هذه يمكن أن تفسر
بما يضيع معناها. وقد وصف أثناسيوس بكثير من الحذق ما قرأه من أفكار البعض إذ كان
يراهم يشيرون برؤوسهم ويغمزون بعيونهم كلما اقترح الأرثوذكسيون عبارات كانوا يرون
أن لهم فيها مخرجاً من قيود معناها. وبعد محاولات عديدة من هذا النوع تبيّن لهم
أنه لا غنى لهم عن إيجاد عبارات أوضح وأدق دلالة وخالية من كل غموض فيثبتها المجمع
إذا كان القصد الوصول إلى وحدة حقيقية في الإيمان. وهكذا وضع المجمع كلمة (هومو
وسيوس) باليونانية. وقد أوضح القديس أثناسيوس ما عنى بها المجمع كما يأتي:

 

(إن
الابن ليس هو كالآب فحسب، ولكنه، وهو صورته، هو نفس الشيء الذي هو الآب، أمّا كونه
من الآب ومشابهة الابن للآب وعدم إمكان تحوّله فهي غير ما لنا. إنها فينا أشياء
نحصل عليها وننالها بإتمامنا الأوامر الإلهية. ثم إن الآباء أرادوا أن يدلوا بهذا
على أن جيل الابن يختلف عن جيلن، عن طبيعتنا البشرية. وأن الابن هو كالآب وليس ذلك
فحسب بل هو غير منفصل عن جوهر الآب. وأنه هو والآب واحد والجوهر هو ذاته كما قال
الابن نفسه أن الكلمة هو دائماً في الآب، والآب هو دائماً في الكلمة. (آمنوا إني
أنا في الآب وإن الآب فيَّ) (يو11: 14) كما أن الشمس وبهاءها هما غير منفصلين
أحدهما عن الآخر).

 

 *
في التغيير الذي أتمه الصليب في علاقة الموت بالإنسان

فإن
كان كل تلاميذ المسيح يحتقرون الموت، ويتحدّونه، ولا يعودون بعد يخشونه، بل بعلامة
الصليب وبالإيمان بالمسيح يدوسونه كميت، كان هذا برهاناً غير يسير بل بالحري بيّنة
واضحة على أن الموت قد أُبيد، وأن الصليب تغلّب عليه، وأنه لم يعد له سلطان بل مات
موتاً حقيقياً.

 

فقديماً
– قبل الظهور الإلهي للمخلص – كان الموت مرعباً حتى للقديسين {أنظر مز4: 55، 47: 89}،
وكان الكل ينوحون على الأموات كأنهم هلكوا. أمّا الآن، وقد أقام المخلص جسده، فلم
يعد الموت مرعباً بعد، لأن كل الذين يؤمنون بالمسيح يدوسونه كأنه لا شيء، ويفضلون
أن يموتوا عن أن ينكروا إيمانهم بالمسيح. لأنهم يعلمون يقيناً أنهم عندما يموتون
لا يهلكون بل يبدأون الحياة فعلاً ويصبحون عديمي الفساد بفضل القيامة.

 

أمّا
ذلك الشيطان الذي بخبثه فرح بالموت قديم، فإنه الآن إذا انحلَّت أوجاعه قد بقي هو
الوحيد الميت موتاً حقيقياً. والدليل على ذلك أنه قبل أن يؤمن البشر بالمسيح يرون
الموت مفزعاً ومرعباً ويجبنون أمامه. لكنهم عندما ينتقلون إلى إيمان المسيح
وتعاليمه فإنهم يحتقرون الموت احتقاراً عظيماً لدرجة أنهم يسارعون إليه ويصيرون
شهوداً للقيامة التي انتصر بها المخلص عليه. وبينما تراهم لا يزالون في عنفوان
الشباب إذا بهم يسارعون إلى الموت، لا الرجال فقط بل النساء أيض، ويمرّنون أنفسهم
بأنظمة جسدية للجهاد ضده. ووصل الضعف بالشيطان حتى أن النساء أنفسهن اللواتي قد
خدعهن قديماً يهزأن به الآن كميِّت ومنحل القوى.

 

وكما
أنه عندما يُغلب الظالم أمام ملك حقيقي، وتوثق يداه ورجلاه يصبح هزأة لدى كل من
يمرّ به ويُحتقر ويزدرى به ولا يعود أحد يخشى غضبه أو وحشيته بسبب الملك الذي ظفر
به، كذلك الموت أيضاً إذ قهره المخلص وشهَّر به على الصليب وأوثق يديه ورجليه، فإن
كل الذين هم في المسيح يدوسونه إذ يمرّون به، ويهزأون به شاهدين للمسيح، ويسخرون
منه مرددين ما قيل عنه في القديم: (أين غلبتك يا موت، أين شوكتك يا هاوية) (1كو55:
15، هو14: 13) (الفصل السابع والعشرون من (في التجسد)) {ترجمة القس مرقس داود، دار
التأليف والنشر للكنيسة الأسقفية بالقاهرة، 1960}.

 

 من
رسائله القانونية الثلاث التي ذكرت في القانون الأول للمجمعين المسكونيين الأول
والسابع وفي القانون الثاني للمجمع المسكوني السادس (مجمع ترولو)

 

 خلاصة
رسالته إلى الراهب عمون

إن
الإمناء الليلي إذا حدث عن غير قصد لا يعد خطيئة إذ ما هي الخطيئة أو النجاسة في
أي إفراز يحدث بحسب نواميس الطبيعة نفسها؟ أليس من الجهل أن نحسب بروز الصملاخ من
الأذن خطيئة؟ ومثله البصاق يتفل من الفم والمخاط يعزل من الأنف ويمكننا أن نضيف
إلى ذلك عدة أشياء يتضح منها أن البراز أمر حتمي في حياة الحيوان. وإذا كنا نعتقد
أن الإنسان هو كما تعلّمنا من الكتاب المقدس صنع يد الله فكيف يمكن الافتراض بأن
الضرورة تقضي عليه بالإقدام على عمل شيء نجس؟ وما دمنا أبناء الله، كما يعلّمنا
سفر أعمال الرسل، فليس فينا شيء غير نقي (1ع28: 17- 29). وهكذا فالزواج غير نجس
(بل هو طاهر) ولو كانت البتولية (وهي فضيلة ملائكية لا يمكن أن يسمو عليها شيء)
تفضل على الزواج.

 

 خلاصة
رسالته التاسعة والثلاثين

بما
أن المبتدعين يستشهدون بكتابات غير قانونية وبدأ ذلك حتى في العصر الذي كتب فيه
القديس لوقا بشارته لذلك رأيت أنه يحسن أن أعدد الأسفار التي استلمناها حسب
التقليد الشريف إنها الكتب القانونية التي نؤمن أنها كتبت بوحي إلهي. ففي العهد
القديم اثنان وعشرون سفراً وهي التكوين والخروج واللاويين والعدد وتثنية الاشتراع
ثم يشوع والقضاة وراعوث والملوك الأربعة في سفرين، وأخبار الأيام الأول والثاني في
سفر واحد، ثم عزرا الأول والثاني (أي عزرا ونحميا) ثم المزامير والأمثال والجامعة
ونشيد الأنشاد فأيوب وكتب الأنبياء الاثني عشر وتعد سفراً واحداً، ثم نبوءات
أشعياء وإرمياء مع رسالة باروخ والمراثي وحزقيال ودانيال.

 

وهذه
هي أسفار العهد الجديد (وهنا يعددها خاتماً إياها بسفر الرؤيا ليوحنا).

 

هذه
هي ينابيع الخلاص ومن يعطش يستطيع أن يرتوي بما فيها من بلاغة، وفي هذه الأسفار
وحدها بشارة الخلاص وعقيدة حسن العبادة، فلا يتطاولن أحد فيضيف إليها أو يطرح منها
شيئاً.

 

ولزيادة
التدقيق أقول إنه توجد أيضاً بضعة كتب لم تذكر في نطاق هذا القانون، وقد أوصى
الآباء بأن يطالعها المنضمون حديثاً إلى الكنيسة والراغبون في أن يتدربوا في حسن
العبادة وهي حكمة سليمان وحكمة سيراخ وأسفار أستير ويهوديت وطوبيا وتعليم الرسل
والراعي. أمّا كتب المبتدعين غير القانونية فلا تجوز قراءة شيء منها.

 

 خلاصة
رسالته إلى أورفيانوس

وهي
رسالته ال 45

إن
المجمع الذي عقد في بلاد اليونان وشمل الذين في اسبانية وفرنسة قد حدد أن الذين
سقطوا أو الذين كانوا زعماء الضلال (الآريوسي) يعفى عنهم إذا تابوا ولكن لا يسمح
لهم أن يتقدموا إلى الرتب الإكليريكية. أمّا الذين لم يجحدوا ديانة حسن العبادة
ولكنهم انفصلوا قهراً واضطراراً فرأى المجمع أن يصفح عنهم وأن يبقوا في رتبهم
الإكليريكية، ولا سيما وأنهم قدّموا في دفاعهم عن أنفسهم عذراً مقبولاً وأعطوا
تأمينات بأنهم لن يتحوّلوا بعد عن الإيمان القويم. أمّا الشعب الذي خُدع أو أُرغم
على الانفصال فليصفح عنه إذا تاب ولفظ اللعنة جهاراً على افذوكسيوس وأوزيوس زعيمي
الآريوسيين الذين يقولون بأن المسيح مخلوق ويجب أن يبسلوا أيضاً ذلك الإيمان
الباطل بعد أن يعلنوا اعترافهم بإيمان الآباء في مجمع نيقية.

 

 من
تعاليم أنطونيوس الكبير بقلم أثناسيوس

{ترجمة
الأب ميشال نجم، سيرة أنطونيوس الكبير، منشورات معهد القديس يوحنا الدمشقي،
البلمند}.


(إن هذه الأرض تبدو صغيرة بمقارنتها مع السماء، لذا لو اتفق أن كنا أسياد الأرض وعزمنا
على نكران هذه السيادة فهذا لا يتساوى مع أي شيء في ملكوت السماوات. هذا النكران
هو كمن يزدري درهماً نحاسياً حتى يربح مئة درهم ذهبي. فإذا كانت الأرض كلها لا
تساوي شيئاً بالنسبة إلى السماء، فالذي يترك بعض الحقول لا يكون قد ترك شيئاً. إذا
ما تركتم بيتاً أو ذهباً كثيراً فلا تفتخروا ولا تحزنوا. وإذا لم ننكر كل شيء من
أجل الفضيلة، فإننا سنتركها حتماً عند الموت والأرجح إلى أناس لا نريدهم كما يذكر
كاتب سفر الجامعة (أنظر الجامعة 8: 4). إذاً لماذا لا ننكر كل هذه الأمور من أجل
الفضيلة والملكوت؟ لا نظهرن رغبة بالحصول على النعم المادية. إذ ما الفائدة من
الحصول على أمور لن نستطيع أن نأخذها معنا؟ فلماذا لا نجتهد في الحصول على الأمور
التي سنأخذها معنا وهي التعقل والبر والعفة والرجولة والحصافة والمحبة والرحمة
والإيمان بالمسيح والوداعة ومحبة الغرباء؟ إذا ما نجحنا في اكتسابها فإنها ستسبقنا
إلى الحياة الثانية حيث ستهيئ لنا ترحيباً في أرض الودعاء) (17).

 


(لكي لا نقع في التهامل من الحسن أن نتذكر قول الرسول (إنني أموت كل يوم). إذا ما
عشنا كل يوم بحس الموت فإننا لن نخطئ. عند نهوضنا من النوم في كل صباح فلنفكر
بأننا لن نعيش حتى المساء وعند انطلاقنا إلى النوم فلنفكر بأننا لن ننهض، لأن
حياتنا مجهولة. وإذا سيطرت هذه المشاعر علينا وعشنا على هذا المنوال لن نقع في
الخطيئة ولن تعترينا رغبة شريرة. إذ بانتظارنا اليومي للموت لن نكنز كنوزاً على
الأرض مسامحين الجميع بكل ما أساؤوا إلينا) (19).

 


(إن الفضيلة تكتسب عندما تتوق النفس من طبيعتها إلى الروحيات. هذا التوق يتم عندما
تبقى النفس كما خلقت جميلة ومستقيمة. لذلك قال يشوع بن نون إلى الشعب عندما أعطاه
الرب الوعود (قوّموا قلوبكم في طريق الرب إله إسرائيل) (يشوع23: 24) ويوحنا قال
(اصنعوا طرقكم مستقيمة) (متى 3: 3).

 

النفس
مستقيمة بطبيعتها، أمّا انحرافها فيعود إلى الفساد الحاصل في طبيعتها، وهذا ما
يسمّى بشر النفس. ليس الأمر عسيراً، لأننا إذا بقينا كما خلقنا الرب فسنكون في
الفضيلة أمّا إذا فكرنا في الشر فسيحكم علينا كأشرار. إن اكتساب الفضيلة سيكون صعباً
عندما نبحث عنه خارج أنفسنا. فلندع ذواتنا عند الرب وكأننا قد تسلمنا الوديعة من
الرب نفسه حتى تعرف النفس من خلقها وحتى تكون كما خلقها) (20).

 

_
(إذا ما رأى الشيطان أن المسيحيين عامة والرهبان خاصة يتقدمون روحياً يسعى في
تجربتهم ناصباً لهم عثاراً في الطريق، أي أفكاراً شريرة. فلا تخافوا من هجماتهم،
لأنهم يهزمون بالصلوات والأصوام. لكنهم لا يتوقفون عن الهجوم بل يقتربون من جديد
بغش وخبث. فعندما لا يستطيعون إثارة شهوة دنسة في الفكر يلجأون إلى أسلوب آخر
مثيرين في الفكر تخيلات دنسة… لا نرتعب من هذه التخيلات، لأنها ليست بشيء وتختفي
بسرعة، عندما يحمي المرء نفسه بالإيمان وبإشارة الصليب) (23).

 


(يجب.. أن نخاف الله وحده وأن نحتقر الشياطين بلا خوف… لأن السلاح الكبير ضد
الشياطين هو ثبات الحياة والإيمان بالله. فهي تخاف صوم النساك وسهرهم وصلواتهم
ووداعتهم وسكينتهم وعدم محبتهم للفضة وكرههم للمجد الباطل، واتضاعهم ومحبتهم
للفقراء وإحساناتهم وعدم غضبهم وقبل كل شيء إيمانهم بالمسيح) (30).

 


(لا نفتخر بأننا نطرد الشياطين ولا نتبجح بأننا نشفي المرضى، ولا نعجب بمن يملك
سلطان طرد الشياطين ولا نحتقر من لا يملك هذا السلطان. لكن ليعرف كل منا نسك الآخر
كي يقتدي به وينافسه أو كي يصلحه. لأن فعل العجائب ليس منّا بل من المخلص. فالرب
قد قال لتلاميذه (لكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن
أسماءكم قد كتبت في السماوات) (لوقا20: 10). لأن كتابة أسمائنا في السماوات إشارة إلى
فضيلة حياتنا، بيد أن طرد الشياطين موهبة معطاة من لدن الرب.. وكما قلت آنفاً
ينبغي أن نصلّي على الدوام كي نكتسب موهبة تمييز الأرواح، كي – كما كُتب – (لا
نصدق كل روح) (1يوحنا 1: 4) (38).

 

 *
في الروح القدس


(به تكمل معرفتنا بالله ويتم طقس الانضمام إلى الكنيسة (المعمودية والميرون)) (إلى
سيرابيون 6: 1).


(وحينما نختم بالروح القدس نصير شركاء الطبيعة الإلهية.. وهكذا تصبح الخليقة
الجديدة شريكة الكلمة في الروح القدس) (إلى سيرابيون 23: 1).


(إن الكتاب المقدس يستعمل مفاهيم الصورة والشعاع والنور والينبوع والنهر.. لكي
يسهّل علينا التعبير عن هذه الحقائق الفائقة ولكي نؤمن أنه لا يوجد إلا تقديس واحد
للنفس وهو الذي يأتي من الآب بالابن في الروح القدس) (إلى سيرابيون 20: 1).


(حينما يكون الروح فينا يكون الكلمة – الذي يمنح الروح هو أيضاً فينا، وفي الكلمة
يكون الآب نفسه) (إلى سيرابيون 30: 1).


(تجسد الله لكي يصبح الإنسان حاملاً للروح).


(بدون الروح نبقى غرباء عن الله وبعيدين عنه) (ضد الآريوسيين 3).

 

 *
في الثالوث القدوس


(وإن كانت توجد في الثالوث هذه المساواة وهذا الاتحاد فمن الذي يستطيع أن يفصل
الابن عن الآب؟ أو يفصل الروح القدس عن الابن؟ أو عن الآب نفسه…) (الرسالة إلى
سيرابيون 20: 1).


(إن هناك ثالوثاً مقدساً وكاملاً ومعترفاً به أنه الله الآب والابن والروح القدس،
لا يتكوّن من واحد يخلق وآخر يبدع بل الكل يخلقون. وهو متساوٍ، وفي الطبيعة غير
قابل للتجزئة، ونشاطه واحد: الآب يعمل كل شيء بالكلمة في الروح القدس، وهكذا تُحفظ
الوحدة في الثالوث المقدس، وهكذا يُنادى بإله واحد في الكنيسة (الذي على الكل
وبالكل وفي الكل). (فعلى) الكل كآب، (وبالكل) أي بالكلمة و (في الكل) أي في الروح
القدس، هو ثالوث ليس فقط بالاسم وبالكلام بل بالحق والفعل، لأنه كما أن الآب واحد
وإله على الكل هكذا أيضاً كلمته واحد وإله على الكل، والروح القدس ليس بدون وجود
فعلي بل هو كائن وله وجود فعلي) (إلى سيرابيون 28: 1).


(نحن نمتد بالوحدة غير المنقسمة إلى الثالوث ثم نركّز على الثالوث غير المفترق
لنبلغ الوحدة).

 

 *
في التألّه


(فإذا كان الله قد أرسل ابنه مولداً من امرأة، فهذه الحقيقة لا تخجلنا، بل على
النقيض تعطينا مجداً ونعمة عظمى لأنه صار إنساناً حتى يستطيع أن يؤلهنا في ذاته،
ووُلد من عذراء حتى يأخذ على نفسه خطأ جنسنا حتى نصير نحن من الآن فصاعداً جنساً
مختاراً و (شركاء في الطبيعة الإلهية) كما يقول المغبوط بطرس (2بطر9: 1) (الرسالة
إلى اديلفيوس 4).


(إن الآب بواسطة الابن يؤلّه ويضيء الجميع…) (في المجامع 51).


(ولكن ليس بحسب الطبيعة نكون أبناء الله، بل بسبب الابن الوحيد الذي يكون فينا،
وكذلك أيضاً الآب لا يكون أباً بحسب الطبيعة، بل لأنه أب للكلمة الذي يكون فينا،
الذي به نصرخ يا أبا الآب. وهكذا الآب لا يدعو أبناء له إلاّ الذين يرى فيهم ابنه
الوحيد) (ضد الآريوسيين2: 59).


(لقد لبس جسداً مخلوقاً مكملاً، حتى فيه نصير قادرين أن نتجدد ونتألّه) (ضد
الآريوسيين 47: 2).


(إن ابن الله صار إنساناً لكي يصير بنو البشر أبناء الله) (ضد الآريوسيين 39: 1).

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى