علم

الفصل السادس والعشرون



الفصل السادس والعشرون

الفصل
السادس والعشرون

مقدمة
لشرح آيات من الأناجيل عن التجسد

 

26-
أنظروا أنهم لا يملون من تكرار كلمات الكفر، بل إذ قد تقسوا مثل فرعون فإنهم يحنما
يسمعون ويرون صفات المخلص البشرية فى الأناجيل، فإنهم يتناسون تماماً مثل بولس
الساموساطى أبوه الآب اللاهوتية للإبن، وبوقاحة لسان يجعجعون قائلين كيف يمكن أن
يكون الإبن من الآب بالطبيعة، ويكون واحداً معه فى الجوهر؟ وهو الذى يقول
“دفع إلىّ كل سلطان” (مت18: 28) و “الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى
كل الدينونة للابن” (يو22: 5)” “الآب يحب الإبن وقد دفع كل شئ فى
يده، الذى يؤمن بالإبن له حياة أبدية” (يو35: 3). وأيضاً “كل شئ قد دفع
إلى من أبى. وليس أحد يعرف من هو الآب إلا الإبن ومن آراد أن يعلن له” (لو2:
10) وأيضاً “كل ما يعطينى الآب فإلى يقبل” (يو37: 6).

مقالات ذات صلة

 

إنهم
يعلقون على هذه الآيات ويقولون (إن كان الإبن كما تقولون، ابناً بالطبيعة أما كان
فى إحتياج أن يأخذ، بل كل شئ يكون له بالطبيعة كإبن” أو كيف يكون هو القوة
الطبيعية والحقيقية للآب وهو فى وقت الآلام قال “الآن نفسى قد إضطربت وماذا
أقول؟ أيها الآب نجنى من هذه الساعة ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة أيها الآب
مجد إسمك فجاء صوت من السماء مُجدت، امجد أيضاً” (يو27: 12-28). وأيضاً قال
كلمات مشابهة فى مرة أخرى “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس”
(مت39: 26) و”عندما قال يسوع هذا إضطرب بالروح وشهد وقال الحق الحق أقول لكم
إن واحداً منكم سيسلمنى” (يو21: 13). ويحاول هؤلاء الأشرار ويقولون لو كان هو
القوة لما كان قد خاف، بل لكان قد أعطى قوة لآخرين بالأحرى، ويضيفون قائلين لو كان
هو حكمة الآب الحقيقية والذاتية، فلماذا كتب عنه “وكان يسوع ينمو فى الحكمة
والقامة والنعمة عند الله والناس” (لو52: 2). وبالمثل “عندما جاء إلى
نواحى قيصرية فيلبس سأل التلاميذ، “ماذا يقول الناس أنى أنا” (مت13:
16). وأيضاً حينما جاء إلى بيت عنيا سأل عن لعازر “أين دفن” (أنظر يو18:
11). وأيضاً قال لتلاميذه “كم رغيفاً عندكم؟” (مر38: 6). ويقولون كيف
إذن يكون هو الحكمة وهو ينمو فى الحكمة، وكان يجهل الأمور التى كان يسأل عنها
الآخرين؟. ويقولون أيضاً “كيف يمكن أن يكون هو كلمة الآب الذاتى الذى بدونه
لم يكن الآب أبداً والذى به يخلق الآب كل الأشياء كما تعتقدون أنتم، وهو الذى قال
على الصليب “إلهى إلهى، لماذا تركتنى” (مت46: 27). وقبل ذلك صلى
“مجد إسمك” (يو28: 12) وأيضاً “مجدنى أنت أيها الآب بالمجد الذى
كان لى عندك قبل كون العالم” (يو5: 17). وأعتاد أن يصلى فى البرارى وأوصى
تلاميذه أن يصلوا لئلا يدخلوا فى تجربة وقال لهم “الروح نشيط أما الجسد
فضعيف”. (مت 41: 26). وأيضاً “أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما
أحد ولا الملائكة ولا الأبن” (مر32: 13).

 

ويبنى
التعساء على هذا أيضاً ويقولون “إن كان الإبن بحسب رأيكم هو موجود أزلياً مع
الله أما كان قد جهل ذلك اليوم بل لكان قد عرفه بإعتباره الكلمة، ولما كان قد تركه
ذلك الذى هو كائن معه، وأما كان قد سأل أن ينال المجد طالما أن له هذا المجد مع
الآب” ولما كان قد صلى على الإطلاق إذ أن الكلمة ليس فى أحتياج إلى أى شئ،
ولكن حيث أنه مخلوق وواحد من الموجودات لذلك تكلم هكذا وكان محتاجاً إلى ما لم يكن
عنده، لأنه معروف عن المخلوقات أنها تسأل الأشياء التى لا تملكها، وتحتاج إليها.

 

27-
هذه هى الأشياء التى يدّعى بها الجاحدون فى أحاديثهم ويتكلمون بها، ولكن طالما هم
يفكرون هكذا فكان يمكنهم أن يسألوا بجرأة أكثر قائلين “لماذا صار الكلمة
جسداً على الاطلاق؟ ويمكن أن يضيفوا أيضاً “كيف يمكن وهو الله، أن يصير
إنسانا؟” أو “كيف يمكن لمن لا جسد له أن يلبس جسداً؟ أو يمكن أن يتكلموا
بطريقة يهودية أكثر من قيافا ويسألون “عموما، لماذا يجعل المسيح نفسه إلها
وهو إنسان؟” لأن أقوالاً مثل هذه وغيرها قد قالها اليهود وتذمروا عليه.

 

والآن
فإن الآريوسيين حينما يقرأونها هم أيضاً لا يؤمنون، وقد سقطوا فى التجاديف، والآن
فمن يمتحن أقوال هؤلاء وأولئك فبالتأكيد سيجد أن كليهما يتفقان فى عدم الإيمان
ويتساويان فى كفرهما وفى جرأتهما ضدنا ويشتركان معاً فى محاربتهما لنا، لأن اليهود
يقولون “كيف يمكن وهو إنسان أن يكون إلهاً؟” (أنظر يو33: 10).. أما
الآريوسيون فيقولون “لو كان إلها حقيقياً من إله، فكيف يمكن أن يصير
إنسانا؟” واليهود عثروا عندئذ وأستهزءوا قائلين “لو كان إبن الله، لما
كان قد قبل الصليب؟” والآريوسيون يتفقون مع اليهود ويهاجموننا ويقولون
“كيف تتجاسرون أن تقولوا” إن الذى هو الكلمة الذاتى جوهر الآب، هو الذى
أخذ جسداً، وإحتمل كل هذا؟ وأيضاً، فبينما حاول اليهود أن يقتلوا الرب لأنه قال إن
الله أبوه، وأنه جعل نفسه معادلاً لله، وأنه يعمل الأعمال التى يعملها الآب، فإن
الآريوسيين أيضاً ليس فقد قد تعلموا أن ينكروا أن الكلمة مساو لله وأن الله هو
الآب الطبيعى للكلمة، بل هم أيضاً يحاولون أن يقتلوا من يؤمنون بهذا. وبينما يقول
اليهود “أليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذى نحن عارفون بأبيه وأمه؟” (يو42:
6) فكيف يقول إذن “قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن” (يو58: 8) و”أنى
نزلت من السماء؟” (يو42: 6)، فالآريوسيون بدورهم يجيبون بنفس الأقوال ويقولون
“كيف يمكن أن الذى ينام ويبكى ويطلب أن يعر كإنسان، يكون هو الكلمة أو هو
الله؟” ولهذا فالفريقان فقدا صوابهما وأنكرا أزلية الكلمة وإلوهيته متعللين
بتلك الصفات البشرية التى نسبها المخلص لنفسه بسبب الجسد الذى لبسه.

 

28-
هذا الضلال إذن هو يهودى، بل هو يهوذاوى بحسب خبل يهوذا الخائن، فدعهم إذن يعترفون
صراحة أنهم تلاميذ قيافا وهيردوس، بدلاً من أن يلبسوا اليهودية اسم المسيحية،
ولينكروا تماماً كما سبق أن قلنا حضور المخلص فى الجسد. لأن هذا الإنكار أقرب إلى
بدعتهم. أو إن كانوا يخافون أن يتهودوا علناً ويختتنوا بسبب خضوعهم للملك
قسطنطيوس، ولأجل أولئك الذين خدعوا منهم، إذن فدعهم لا يقولون ما يقوله اليهود،
لأنهم إن تخلوا عن الأسم فيلزمهم عن حق أن يرفضوا العقيده المرتبطة بالاسم. لأننا
نحن مسيحيون، أيها الأريوسيون – نعم نحن مسيحيون ونحن نتميز بأننا نعرف جيداً ما
تقوله الأناجيل عن المخلص ونحن لا نرجمه مع اليهود عندما نسمع عن ألوهيته وأزليته،
كما أننا لا نعثر معكم، فى الكلمات المتواضعة التى قالها من أجلنا كإنسان. إذن فإن
أردتم أن تصيروا مسيحيين فأرفضوا جنون آريوس، وآذانكم التى تلوثت بكلمات التجديف
طهروها بكلمات التقوى، عالمين بمجرد توقفكم عن أن تكونوا آريوسيين فإنكم ستكفون
أيضاً عن خبث اليهود المعاصرين. وعندئذ سيشرق عليكم نور الحق ويخرجكم من الظلمة،
ولن تعودوا عندئذ تعيروننا بأعتقادنا بوجود أثنين أزليين. بل ستعترفون أنتم أنفسكم
أن الرب هو ابن الله، الحقيقى بالطبيعة وليس مجرد أنه أزلى، بل وتعترفون أنه كائن
فى الآب، ومع الآب أزلياً لأن هناك موجودات تسمى أزلية، وهو صانعها لأنه مكتوب فى
المزمور 7: 33س “أرفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، وأرتفعى أيتها الأبواب
الدهرية”، فمن الواضح أن هذه الأبواب (الدهرية = الأزلية) قد صنعت بواسطته.
ولكن إن كان هو خالق حتى الأشياء الدهرية فمن منا يمكنه أن يشك فى أنه هو سابق على
تلك الآشياء الدهرية؟. وبالتالى يتبرهن أنه الرب ليس من كونه أزلياً فقط بل ولكونه
ابن الله. فهو كإبن هو غير منفصل عن الآب ولم يكن هناك زمن ما لم يكن فيه موجوداً،
بل كان كائناً على الدوام، ولأنه صورة الآب وشعاعه، فله أزلية الآب. والآن فما
قلناه أعلاه بإختصار يكفى لكى يبرهن على سوء فهمهم للآيات التى تعللوا بها وأن ما
يتعللون به الآن من الأناجيل فهم بالتأكيد يعطونه تفسيراً غير صحيح، ويمكننا أن
نرى هذا بسهولة إذا وضعنا امامنا كهدف ذلك الإيمان الذى نمسك به نحن المسيحيون وأن
نستخدمه كقاعدة كما يعلمنا الرسول فى قراءة الكتب الموحى بها (أنظر 2تيمو16: 3).
لأن أعداء المسيح لأنهم جهلوا هذا الهدف، قد ضلوا عن طريق الحق، وأصطدموا بحجر
الصدمة (أنظروا رو33: 9)، مفكرين أموراً مخالفة عما كان ينبغى أن يفكروا به.

 

29-
والآن فإن هدف الكتاب المقدس وميزته الخاصة كما قلنا مراراً هو أنه يحوى إعلاناً
مزدوجاً عن المخلص: أى أنه كان دائماً إلهاً وأنه هو الإبن إذ هو كلمة الآب وشعاعه
وحكمته، ثم بعد ذلك أتخذ من أجلنا جسداً من العذراء مريم والجة الإله، وصار
إنساناً. وهذا الهدف نجده فى كل الكتب الموحى بها، كما قال الرب نفسه”
“فتشوا الكتب” وهى تشهد لى” (يو39: 5). ولكن لكى لا أكثر فى
الكتابة بجمع كل الآيات عن هذا الموضوع فسوف أكتفى بذكر عينه من هذه الآيات.
فأولاً، يقول يوحنا “فى البدء كان الكلمة.والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة
الله. هذا كان فى البدء عند الله، كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان”
(يو1: 1-3). وبعد ذلك يقول “والكلمة صار جسداً وحل بيننا، ورأينا مجده، مجداً
كما لوحيد من الآب” (يو14: 1). ثم يكتب بولس “الذى إذ كان فى صورة الله،
لم يحسب خلسة أن يكون مساوياً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً فى شبه الناس
وإذ وجد فى الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فى6: 2-8).

 

ويمكن
لأى إنسان أن يبتدئ بهذه الآيات ويجتاز خلال كل الكتاب فسوف يرى كيف أن الآب قال
له فى البدء “ليكن نور” (تك3: 1)، و”ليكن جلد” (تك6: 1) و
“لنعمل الإنسان” (تك26: 1)، ولكن ملء الأزمنه أرسله إلى العالم،
“لا لكى يدين العالم بل ليخلص به العالم” (يو17: 3). وكما قد كُتب
“ها العذراء تحبل وتلد إبناً ويدعون إسمه عمانوئيل الذى تفسيره الله
معنا” (متى23: 1).

 

30-
إذن فمن يقرأ للكتاب الإلهى، سيعرف هذه الآيات من كتب العهد القديم، ومن الأناجيل
أيضاً وسيدرك أن الرب صار إنساناُ، لأن الكتاب يقول “الكلمة صار جسداًُ وحل
بيننا” (يو14: 1). والكلمة صار إنساناً، ولم يأت إلى داخل إنسان، لأن هذا
ضرورى أن نعرفه، لئلا يحدث أن هؤلاء الناس عديمى التقوى يضلون ثم يخدعون الآخرين
بهذا الضلال ظانين أنه كما إعتاد الكلمة أن يأتى إلى القديسين فى العصور السابقة،
هكذا يأتى الآن أيضاً فى إنسان ويقدمه ويظهر نفسه بواسطته كما أظهر نفسه فى
السابقين، لأنه لو كان الأمر كذلك، وأنه ظهر فقط فى إنسان، لما كان هذا أمراً
غريباً، ولما تعجب إولئك الذين رآوه قائلين “من أين هو؟” (أنظر يو9: 19)
و “لماذا وأنت أنسان تجعل نفسك إلهاً” (يو33: 10) لأنهم قد أعتادوا على
مجئ كلمة الله إلى الأنبياء من الكلمات التى تقول “صارت كلمة الرب، إلى هذا
أو ذاك من الأنبياء. ولكن الآن، حيث إن كلمة الله، الذى به كان كل شئ، قبل أن يصير
ابن الإنسان، ووضع نفسه، أخذاً صورة عبد، لذلك صار صليب المسيح لليهود عثرة أما
لنا نحن، فالمسيح هو قوة الله وحكمة الله (أنظر 1كو24: 1).

 

لأنه
كما قال يوحنا “الكلمة صار جسداً” فمن عادة الكتاب أن يدعو الإنسان
بلفظة جسد، كما يقول بيوئيل النبى “أسكب روحى على كل جسد” (يوئيل4: 3)
وكما قال دانيال إلى أستياجيس “لست أعبد الأصنام المصنوعة بالأيدى بل الإله
الحى الذى خلق السماء والأرض، وله سلطان على كل جسد” (تتممة دانيال5). فكل من
دانيال ويوئيل يدعو جنس البشر جسداً.

 

31-
ومنذ القدم صار هذا مع كل واحد من القديسين لكى يقدس أولئك الذين يقبلونه
بإستفادة، ولكن حينما ولد أولئك الأنبياء، لم يقل عندئذ أنه (الكلمة) صار جسداً،
ولا حينما تألموا قيل أنه هو نفسه قد تألم. ولكن حينما جاء بيننا من مريم فى نهاية
الآزمنة لأجل إبطال الخطية، لأنه هكذا سر الآب أن يرسل إبنه الذاتى “مولوداً
من أمرأة مولوداً تحت الناموس” (غلا4: 4)، وعندئذ قيل إنه أخذ جسداً وصار
إنساناً، وبهذا الجسد تألم لأجلنا كما يقول بطرس “فإذ قد تألم المسيح لأجلنا
بالجسد” (1بط1: 4)، لكى يقبل الكل ويؤمنوا أنه كان إلهاً على الدوام، مقدساً
أولئك الذين أتى إليهم، ومنظماً لكل الآشياء حسب مشيئة الآبن ولكنه فيما بعد صار
لأجلنا إنساناً وحل جسدياً، كما يقول الرسول “اللاهوت حل فى الجسد”
(كو9: 2)، وهذا يساوى القول “إذ هو الله، فقد أخذ له جسداً خاصاً به وصار
إنساناً لأجلنا مستخدماً هذا الجسد كأداة.

 

وبناء
على هذا فقد قيل عن خواص الجسد إنها خاصة به حيث أنه كان فى الجسد، وذلك مثل أن
يجوع، وأن يعطش، وأن يتألم، وأن يتعب، وما شابهها من الأمور المختصة بالجسد، بينما
من الناحية الآخرى فإن الآعمال الخاصة بالكلمة ذاته مثل إقامة الموتى، وإعادة
البصر إلى العميان، وشفاء المرأة نازفة الدم، قد فعلها بواسطة جسده، والجسد خدم
أعمال اللاهوت، لأن اللاهوت كان فى الجسد ولأن الجسد كان جسد الله. وحسناً قال
النبى “حملها” (أش4: 53، مت17: 8) ولم يقل أنه “شفى ضعفاتنا”
لئلا إذ تكون هذه الضعفات خارج جسده هو” وهو يشفيها فقط – كما كان يفعل
دائماً فإنه يترك البشر خاضعين للموت، ولكنه حمل ضعفاتنا، إحتمل هو نفسه خطايانا،
لكى يتضح أنه قد صار إنساناً لأجلنا، وأن الجسد الذى حمل الضعفات، هو جسده الخاص،
وبينما هو نفسه لم يصبه ضرر أبداً “بحملة خطايانا فى جسده على الخشبه”
كما قال بطرس (1بط24: 2) فإننا نحن البشر قد أفتدينا من أوجاعنا وأمتلأنا ببر الكلمة.

 

32-
وتبعاً لذلك فعندما تألم الجسد، لم يكن الكلمة خارجاً عنه، ولهذا السبب يقال إن
الآلام خاصة بالكلمة، وعندما عمل أعمال الآب لاهوتياً، لم يكن الجسد خارجاً عنه،
لكن الرب عمل هذه الأعمال فى هذا الجسد نفسه، لهذا فحينما صار إنساناً، قال
“إن كنت لست أعمل أعمال أبى فلا تؤمنوا بى ولكن إن كنت أعمل فإن لم تؤمنوا بى
فآمنوا بالأعمال لكى تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فىّ وأنا فيه” (يو37: 10-38).
ولذلك فحينما كان هناك إحتياج لإقامة حماة بطرس التى كانت مريضة بالحمى، فإنه مد
يده إليها بشرياً ولكنه أوقف المرض إلهياً (أنظر مت14: 8)، وفى حالة الإنسان
المولود أعمى فإن تفل البصاق كان من الجسد ولكن فتح عين الأعمى بالطين إليهاً. وفى
حالة لعازر فإنه كإنسان دعاه بصوت بشرى، ولكنه إلهياً كإله، أقام لعازر من
الأموات، وهذه الأمور حدثت هكذا وظهرت هكذا لأنه كان قد أتخذ لنفسه جسداً حقيقياً
وليس خيالياً، ولذا كان يليق بالرب بأخذه جسداً بشرياً أن يكون لهذا الجسد كل
الخواص التى للجسد، حتى كما نقول إن الجسد كان جسده هكذا أيضاً إن آلام الجسد كانت
خاصة به هو (الكلمة) رغم أنها لم تمسه بحسب لاهوته. فلو كان الجسد هو جسد خاص بآخر
غيره لكانت الآلام قد نسبت لهذا الآخر أيضاًُ، ولكن إن كان الجسد هو جسد الكلمة
“لأن الكلمة صار جسداً” (يو14: 1) فبالضرورة إذن تنسب آلام الجسد أيضاً
الذى له هذا الجسد والذى له تنسب بالأحرى هذه الآلام مثل المحاكمة، والجلد والعطش،
والصلب، والموت وضعفات الجسد الآخرى أى جسد ذاك الذى له أيضاً النصرة والنعمة.

 

لهذا
السبب إذا كان ضرورياً وملائماًُ أن لا تنسب مثل هذه الآلام لآخر، بل للرب، حتى
تكون النعمة أيضاً منه ولا نصير نحن عابدين لآخر ولا إنساناً عادياً، بل ندعو
الإبن الطبيعى والحقيقى لله، الذى صار إنساناً وهو فى نفس الوقت الرب والإله
والمخلص.

 

33-
فمن الذى لا يعجب بهذا الكلام؟ أو من هو الذى لا يوافق أن هذا الأمر هو إلهى
بالحقيقة؟ لأنه لو كانت أعمال إلوهية الكلمة لم تحدث بالجسد، أما كان الإنسان قد
تأله، وأيضاً لو أن الضعفات الخاصة بالجسد لم تنسب للكلمة، لما كان الإنسان قد
تحرر منها تماماً، وحتى لو أنها كانت قد توقفت لفترة قليلة كما قلت سابقاً(11)
لظلت الخطية وظل الفساد باقيان فى الإنسان، كما كان الحال مع الجنس البشرى قبله
(قبل التجسد). ولهذا فهناك أمثلة لكثيرين قد تقدسوا وتطهروا من كل خطية مثل أرميا
الذى تقدس من الرحم (أنظر أر5: 1) ويوحنا الذى وهو لا يزال جنيناً فى البطن أرتكض
بإبتهاج عند سماع صوت مريم والدة الإله (أنظر لو44: 1). ومع ذلك فقد “ملك
الموت من آدم إلى موسى، وذلك على الذين لم يخطئوا على شبه تعدى آدم” (رو14:
5)، وهكذا ظل البشر مائتين وقابلين للفساد كما كانوا، ومعرضين للأوجاع الخاصة
بطبيعتهم، أما الآن فإذ قد صار الكلمة إنساناً وجعل الأمور الخاصة بالجسد خاصة به،
فلم تعد تلك الأمور تمسك بالجسد بسبب الكلمة الذى قد جاء فى الجسد، فقد إنهزمت
الأوجاع بواسطته ومنذ ذلك الحين فصاعداً لم يبق الناس بعد خطاة وأمواتاً بحسب
أوجاعهم بل قد قاموا بقوة الكلمة، وصاروا غير مائتين وغير فاسدين وأقوياء دائماً.
ومن هنا أيضاً فبينما ولد الجسد من مريم والدة الإله، فإن الكلمة نفسه يقال إنه قد
ولد، وهو الذى يعطى بداية الوجود للكائنات الآخرى، لكى ينقل بداية تكويننا إلى
نفسه، ولكى لا نرجع فيما بعد كمجرد تراب إلى تراب، ولكن بإرتباطنا بالكلمة الذى من
السماء، فإننا نُحمل إلى السموات بواسطته. لذلك فإنه بطريقة مماثلة قد نقل إلى
نفسه أوجاع الجسد الأخرى لكى يكون لنا شركة فلى الحياة الأبدية – ليس كبشر فيما
بعد بل أيضاً لأننا قد صرنا خاصين بالكلمة.

 

لأننا
لم نعد نموت بحسب بدايتنا الأولى فى آدم، بل بسبب أن بدايتنا وكل ضعفات الجسد قد
إنتقلت إلى الكلمة، فنحن نقوم من الأرض، إذ أن لعنة الخطية قد أُبطلت بسبب ذاك
الذى هو كائن فينا، والذى قد صار لعنة لأجلنا. وكما أننا نحن جميعاُ من الأرض وفى
آدم نموت هكذا نحن إذ نولد من فوق من الماء والروح فإننا فى المسيح نحيا جميعاً.
فلا يعود الجسد فيما بعد أرضياً بل يصير إلهياً كالكلمة، وذلك بسبب كلمة الله الذى
لأجلنا صار جسداً.

 

34-
ولكى ما نصل إلى معرفة أكثر دقة بخصوص عدم قابلية طبيعة الكلمة للتألم وبخصوص
الضعفات التى نُسبت له بسبب الجسد، جيد لنا أن نستمع إلى الطوباوى بطرس لأنه شاهد
موثوق فيه عن المخلص. فهو يكتب فى رسالته هكذا “فإذ قد تألم المسيح لأجلنا
بالجسد” (1بط1: 4)، لذلك أيضاً فحينما يقال عنه، إنه يجوع، وإنه يعطش، وإنه
يتعب، وإنه لا يعرف، وإنه ينام، وإنه يبكى، وإنه يسأل، وإنه يهرب، وإنه يولد، وإنه
يتجنب الكأس، وعموماً أن يحتمل كل ما يخص الجسد، فينبغى أن يقال فى كل حالة من هذه
الحالات إن (المسيح) عندما يجوع ويعطش فإنه يفعل هذا بالجسد لأجلنا، وعندما يُقال
إنه لم يعرف وإنه لُطم، وأنه تعب، فإنه فعل هذه بالجسد لأجلنا، وأيضاً عندما يُقال
إنه صعد وإنه قد ولد وكان ينمو فإن هذا كان بالجسد، وكذلك عندما يقال إنه خاف
وأختبئ فإن هذا كان بالجسد، وكذلك عندما يقال إنه ضُرب وإنه أخذ، فإن كل هذه كانت
بالجسد لأجلنا. وعلى وجه العموم فكل مثل هذه الأمور هى بالجسد لأجلنا. ولهذا السبب
قال الرسول نفسه إن المسيح عندما تألم، لم يتألم بلاهوته بل “لأجلنا
بالجسد”. لكى لا تعتبر هذه الآلام خاصة بطبيعة الكلمة ذاتها، بل هى خاصة
بطبيعة الجسد ذاتها، لذلك لا ينبغى أن يعثر أحد بسبب الأمور الإنسانية، بل بالحرى
فليعرف، أن الكلمة نفسه بالطبيعة هو غير قابل للتألم، ومع ذلك فبسبب الجسد الذى
لبسه تقال عنه هذه الأمور، حيث أنها أمور خاصة بالجسد والجسد نفسه خاص بالمخلص،
فبينما هو نفسه غير قابل للتألم بالطبيعة، ويظل كما هو دون أن تؤذيه هذه الآلام،
بل بالحرى إذ هو يوقفها ويلاشيها، فإن آلام البشر تتغير وتتلاشى فى ذلك الذى هو
غير متألم، وحينئذ يصير البشر أنفسهم غير متألمين وأحراراً من هذه الأوجاع إلى
الأبد كما علم يوحنا قائلاً “وتعلمون أن ذاك أظهر لكى يرفع خطايانا وليس فيه
خطية” (1يو5: 3. ولأن الأمر هكذا فلا يعترض أحد من الهراطقة قائلاً “كيف
يقوم الجسد وهو بالطبيعة مائت؟ وإن قام، فلماذا لا يجوع ويعطش ويتألم ويظل مائتاً؟
لأنه قد صار من التراب، فكيف يمكن أن تفارقه حالته الطبيعية؟ عندئذ يستطيع الجسد
الآن أن يجاوب هذا الهرطوقى المقاوم ويقول: أنا من التراب، وبحسب الطبيعة مائت،
ولكن فيما بعد قد صرت جسد الكلمة، وهو حمل أوجاعى، مع أنه هو نفسه غير متألم، هكذا
صرت أنا حراً من هذه الأوجاع ولم أعد بعد مستعبداً لها بسبب الرب الذى قد حررنى
منها. لأنك إن كنت تعترض على تحررى من ذلك الفساد الذى هو من طبيعتى، فإنتبه أنك
بهذا تعترض على أن كلمة الله قد أخذ صورة العبد الخاصة بى. لأنه كما أن الرب بلبسه
الجسد قد صار إنسانا، هكذا نحن البشر فإننا نتأله بالكلمة بأتحادنا به بواسطة
جسده، ولهذا فنحن نرث الحياة الأبدية.

 

35-
لقد وجدنا أنه من الضرورى أن نبحث هذه الأمور أولاً لكى حينما نراه يعمل أو يقول
ما يليق بالله بواسطة جسده، فأننا نعرف أنه يعمل هكذا لأنه هو الله، وأيضاً إذا
رأيناه يتكلم أو يتألم إنسانياً فإننا لا نجهل أنه بلبسه الجسد صار إنساناً ولذلك
فهو عمل هذه الأعمال ويتكلم هذه الكلمات. لأننا عندما نعرف ما هو خاص بكل منهما
(الله والإنسان)، نرى ونفهم أن هذه الأمور التى تجرى من كليهما، إنما تتم بواسطة
واحد، فإننا نكون مستقمين فى إيماننا، ولن نضل أبداً. أما إن كان أحد وهو ينظر إلى
الأعمال التى يعملها الكلمة إلهياً، ينرك الجسد، أو وهو ينظر إلى تلك الأمور
الخاصة بالجسد، ينكر حضور الكلمة فى الجسد، أو بسبب ما هو بشرى يفكر أفكاراً
منخفضة عن الكلمة، مثل هذا يكون كبائع خمر يخلط الخمر بالماء فيحسب الصليب عثرة.
أو يكون مثل اليونانى، الذى يعتبر الكرازة جهالة. هذا هو إذن ما أصاب الآريوسيين
أعداء الله، لأنهم بنظرهم إلى ما هو بشرى فى المخلص قد أعتبروه مخلوقاً. لذلك كان
يلزمهم أيضاً عندما ينظرون أعمال الكلمة الإلهية أن ينكروا تجسده، وبذلك فإنهم
يصنفون أنفسهم مع المانويين. فليتهم يتعلمون ولو متأخراً أن الكلمة صار جسداً، أما
نحن فإذ نحتفظ بهدف الإيمان، ندرك أن ما يسيئون تفسيره، له تفسير سليم.

(11)
أنظر المقالة الثانية فقرة 565 صفحة 89، فقرة 86 صفحة 106 الترجمة العربية – مركز
دراسات الآباء 1987.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى