علم

الفصل الخامس والعشرون: شرح نصوص



الفصل الخامس والعشرون: شرح نصوص

الفصل
الخامس والعشرون: شرح نصوص

يو30:
10، يو11: 17 “أنا والآب واحد””ليكونوا واحد كما نحن”

 

10-
ولكنهم يعرضون خرافاتهم المصنعة ويدعون أن الأبن والآب لا يمكن أن يكونا
“واحدا” أو “متماثلين” بالصورة التى تعلم بها الكنيسة، بل
بالطريقة التى يريدونها هم. إذ يقولون إن ما يريده الآب يريده الإبن أيضاً. وهو
غير مضاد له لا فى الفكر ولا فى القرار، ولكنه هو موافق له من جميع الوجوه، وهو
يعلن التعاليم نفسها مثل الآب ويقول الكلام المتفق مع تعاليم الآب والمتحد معه
لذلك فهو – حسب رايهم – واحد مع الآب. ولقد تجرأ البعض(10) منهم أن يكتب هذا وأن
يقوله.

 

وماذا
يكون أكثر غرابة وعدم معقولية من هذا؟ لأنه لو كان الإبن والآب هما واحداً، بحسب
رأيهم هذا، وإن كان الكلمة مثل الآب بهذه الطريقة، فينتج عن هذا أن الملائكة أيضاً
والكائنات الأخرى الأعلى منا، الرؤساء والسلاطين والعروش والربوبيات، وما نراه نحن
مثل الشمس والقمر والنجوم كل هؤلاء سيكونوا أبناء أيضاً مثل الإبن، وينبغى أن يقال
عنهم أيضاً عندئذ أنهم هم والآب واحد، وأن كلا منهم هو صورة الله وكلمته. لأن ما
يريده الله يريدونه هم أيضاً، وهم لا يختلفون معه لا فى الحكم ولا فى التعليم، بل
هم يخضعون لخالقهم فى كل شئ. لأن كل هذه الكائنات لم تكن تستطيع أن تبقى فى مجدها
لو لم تشأ ما شاءه الآب أيضاً. فمثلاً إن الذى لم يبق “فى مجده” بل ضل
بعيداً سمع الكلمات: “كيف سقطت من السماء يا إنوسفوروس(11) المشرق فى
الصباح؟” (أش12: 14س).

 

وإن
كان الأمر هكذا، فكيف يكون هو وحده الابن الوحيد الجنس ولكلمة والحكمة؟ أو كيف،
بينما يوجد كثيرون مثل الآب، يكون وحده هو الصورة؟ لأنه يوجد كثيرون مثل الآب بين
البشر، فكثيرون جداً صاروا شهداء ومن قبلهم الرسل والأنبياء وقبلهم أيضاً
البطاركة، وكثيرون أيضاً، الآن يحفظون وصية المخلص إذ هم رحماء مثل الآب الذى فى
السموات” (لو36: 6) وحفظوا الوصية “تمثلوا بالله كأولاد أحباء وأسلكوا
فى المحبة، كما أحبنا المسيح أيضاً” (أفسس1: 5-2).

 

وكثيرون
أيضاً تمثلوا ببولس كما تمثل هو أيضاً بالمسيح: (1كو1: 11) ولكن ولا واحد من هؤلاء
هو الكلمة، أو الحكمة، أو الأبن الوحيد الجنس، أو الصورة. ولم يتجرأ أى واحد منهم
أن يقول “أنا والآب واحد” (يو30: 10)، أو “أنا فى الآب والآب
فى” (يو10: 14)، بل قد قيل عنهم جميعاً “من مثلك بين الآلهة يا
ربى؟” (مز8: 85) و “من يشبه الرب بين أبناء الله”؟ (مز6: 89)، ولكن
قيل عن الإبن وحده إنه الصورة الحقيقة والطبيعية للآب.، ورغم أننا قد خلقنا حسب
الصورة ودعينا صورة الله ومجده فذلك ليس من ذواتنا، بل بسبب صورة الله ومجده
الحقيقى الساكن فينا، الذى هو كلمته، والذى صار جسداً لأجلنا فيما بعد، لكى ننال
نحن نعمة هذه التسمية.

 

11-
وحيث أن فكرة الآريوسيين هذه تظهر غير لائقة وغير معقولة، لذلك فمن الضرورى أن
يشير هذا التماثل وهذه الوحدة الى جوهر الإبن نفسه، لإنه إن لم يكن كذلك، فيظهر
أنه لا يملك شيئاً أكثر من المخلوقات كما سبق أن قيل، كما أنه لن يكون مثل الآب،
ولكنه سيكون كالآب فى تعاليمه وهو يختلف عن الآب فى أن الآب هو آب، أما التعاليم
والوصايا فهى للآب. وإن كان الآبن هو مثل الآب فى التعاليم والوصايا فحينئذ – بحسب
رأيهم يكون الآب، أباً بالأسم فقط، والأبن لن يكون صورة الآب بالضبط، أو بالحرى
سيرى أنه ليس له ذاتية الآب أو مماثلته. لأنه أية مماثلة أو ذاتية تكون لمن هو
مختلف تماماً عن الآب؟ فبولس رغم أنه علم مثل المخلص، إلا أنه لم يكن مثله فى
الجوهر. فهؤلاء لأن عندهم مثل هذه الأفكار، يتكلمون بإفتراءات كاذبه بينما الإبن
والآب هما واحد، كما قلنا سابقاً. وبنفس الطريقة فالابن هو مثل الآب ذاته وهو منه
كما يمكن أن نرى وأن نفهم أن أى ابن هو من أبيه، وكما يمكن أن نرى أن الشعاع من
الشمس.

 

فإذن
إن كان الإبن هكذا، فحينما يعمل الإبن، يكون الآب هو العامل، وعندما يأتى الإبن
إلى القديسين فالآب هو الذى يأتى فى الإبن، كما وعد حينما قال “نأتى أنا
والآب ونصنع عنده منزلا” (يو23: 14).

 

لأنه
فى الصورة يرى الآب وفى الشعاع يكون النور. لذلك أيضاً، وكما قلنا قبل ذلك بقليل،
فحينما يعطى الآب النعمة والسلام، فالإبن أيضاً يعطيهما، كما يكتب بولس فى كل
رسالة له قائلاً “نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح”
(رو7: 1، 1كو3: 1، أفسس1، 2). لأنه توجد نعمة واحدة وهى نفس النعمة التى من الآب
فى الإبن، كما أن نور الشمس وشعاعها هما واحد، وكما أن إنارة الشمس تحدث بواسطة
الشعاع. وهكذا أيضاً حينما يدعو الرسول لأهل تسالونيكى فهو يقول لهم “والله
نفسه أبونا وربنا يسوع المسيح يهدى طريقنا اليكم” (1تس11: 3) فهو بهذا يحفظ
وحدة الآب والإبن معاً. فهو لم يقل يهديان، كما لو كانت هناك نعمة مزدوجة تعطى من
مصدرين: هذا وذاك، بل قال “يهدى” لكى يبين أن الآب يهدى بواسطة الإبن.،
كل هذا كان ينبغى أن يخجل منه هؤلاء عديمو التقوى، ولكنهم لا يخجلون

 

12-
لأنه لو لم تكن هناك وحدة ولو لم يكن الكلمة هو وليد جوهر الآب كالشعاع من النور،
وكان الإبن مختلفاً فى الطبيعة عن الآب، لكان يكفى أن الآب وحده هو الذى يعطى
طالما أنه لا يشترك أى واحد من المخلوقات مع خالقه فى العطاء. ولكن كما هى حقيقة
الأمر، فأن مثل هذا العطاء يظهر وحدة الآب والإبن. فلا أحد يصلى إلى الله
والملائكة أو الى أى مخلوق آخر، لكى ينال منهم شيئاً وليس هناك من يدعو قائلاً
“ليت الله والملاك يعطيك” ولكنه يطلب من الآب والإبن، بسبب وحدتهما
ووحدة عطائهما. لأن ما يعطى أنما يعطى بواسطة الإبن. وليس شئ هناك إلا ويعمله الآب
بالإبن. لأنه هكذا تكون النعمة مضمونة لمن ينالها. فإن كان رئيس الأباء يعقوب
وبينما هو يبارك حفيديه أفرايم ومنسى قال “.. الله الذى رعانى منذ وجودى إلى
هذا اليوم. الملاك الذى خلصنى من كل شر يبارك الغلامين..” (تك15: 48-16)، فهو
لم يقرن أى من أولئك الذين خلقوا بالطبيعة ملائكة، مع الله خالقهم. كما أنه لم
يهمل ذكر الله الذى رعاه، ولكنه طلب البركة لحفيديه من الملاك. لأنه بقوله
“الذى خلصنى من كل شر، لم يشر إلى ملاك مخلوق، بل إلى كلمة الله، الذى قرنه
مع الآب فى طلبته، الذى بواسطته يخلص الله أولئك الذين يريدهم لأنه إذ يعرف أنه
يدعى أيضاً ملاك المشورة العظمى للآب (أش6: 9س)، قال إنه ليس هناك سواه هو الذى
يعطى البركة ويخلص من الشر. فهو لم يرغب فى البركة من الله لأجل نفسه بل لأجل
حفيديه من الملاك الذى سبق وطلب منه قائلاً “لن أتركك إن لم تباركنى”
(تك26: 32). لأن هذا “أى الملاك” كان هو الله حسب ما يقول هو نفسه
“قد رايت الله وجها لوجه ” (تك30: 32). وهذا هو الذى صلى اليه ان يبارك
ايضا إبنى يوسف. فما يناسب الملاك إذن هو ان يخدم اوامر الله، كثيرا ما كان يذهب
امامهم لكى يطرد الاموريين، وكان يرسل ليحرس الشعب فى الطريق. لكن ليست هذه هى
اعماله بل هى اعمال الله الذى امره وارسله، وهو ايضا الذى يخلص الذين يريد ان
يخلصهم، لهذا فهو لم يكن سوى الرب الإله نفسه الذى قد رآه والذى قال “ها انا
معك واحفظك حيثما تذهب ” (تك 15: 28).

 

ولم
يكن آخر سوى الله هو الذى قد رآه، وهو الذى لم يسمح للابان أن يخدعه وأمره
ألايتكلم بالشرمع يعقوب، ولم يكن أيضا سوى الله الذى توسل هو اليه قائل، نجنى من
يد أخى عيسو. لأنى خائف منه، (تك 32: 11 س)، ولأنه أيضا حينما تحدث مع زوجاته عن
لابان قال “الله لم يسمح له أن يصنع بى شراً” (تك7: 31).

 

13-
وداود أيضاً لم يدع إلهاً آخر سوى الله نفسه لكى ينجيه عندما صرخ إليه قائلاً
“إلى الرب فى ضيقى صرخت فإستجاب لى يا ربى نج نفسى من شفاة الكذب من لسان
غش” (مز1: 120-2). وأيضاً فى اليوم الذى أنقذه فيه الرب من يد جميع أعدائه
ومن يد شاول رنم بكلمات الفرح شاكراً الله هكذا “أحبك يا رب يا قوتى. الرب
صخرتى وحصنى ومنقذى” (مز1: 18-2). وبولس بعد أن إحتمل إضطهادات كثيرة. لم
يقدم الشكر إلى أحد سوى إلى الله وحده إذ قال ومن الجميع من أنقذنى الرب الذى لنا
رجاء فيه أنه سينجى” (2 تيمو11: 3، 2كو10: 1).

 

كما
أن إبراهيم وإسحق لم يباركا أحداً سوى الله فإسحق طلب لأجل يعقوب قائلاً
“والله القدير يباركك ويجعلك مثمراً ويكثرك فتكون جمهوراً من الشعوب ويعطيك
بركة أبى إبراهيم” (تك3: 28-4). ولكن إن كان الله وحده وليس سواه هو الذى
يبارك وينجى. وليس سوى الرب نفسه هو الذى أنقذ يعقوب، وهو الذى أعطى لرئيس الآباء
البركة التى طلبها لأحفاده، فمن الواضح أنه ليس هناك من يمكن أن يقرنه مع الله فى
صلاته سوى كلمة الله، الذى بسبب هذا دعاه الملاك. بسبب أنه هو وحده الذى يعلن
الآب.

 

وهذا
ما فعله الرسول أيضاً حينما قال “نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع
المسيح” (رو7: 1). فإنه بهذا صارت البركة مضمونة بسبب عدم إنفصال الآب عن
الإبن” ولأجل ذلك فالنعمة التى تعطى منهما هى واحدة وهى هى نفسها فرغم أن
الآب يعطى النعمة، إلا أنها توهب بالإبن، ورغم أن الإبن هو الذى يهب النعمة، فالأب
هو الذى يعطيها بالإبن وفى الإبن. لأن الرسول يقول وهو يكتب إلى أهل كورنثوس
“أشكر الهى فى كل حين من جهتكم على نعمة الله المعطاة لكم فى يسوع
المسيح” (1كو4: 1).

 

وهذا
يمكن أن نراه فى مثال النور والشعاع، لأن ما ينيره النور إنما ينيره بشاعه، وما
يشعه الشعاع فهو يأخذه من النور، هكذا أيضاً حينما يرى الإبن يرى الآب، لأنه هو
شعاع الآب، ولذلك فالأب والإبن هما واحد.

 

14-
ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للأشياء الصائرة والمخلوقة لأن ما يعمله الآب، لا
يعمله أى ملاك أو أى مخلوق آخر، لأن ولا واحد من هؤلاء هو علة فاعلة بل هو من
الأشياء المخلوقة، وفضلاً عن ذلك فلأنها بعيدة ومنفصلة عن الإله الوحيد ومختلفة فى
الطبيعة وهى أيضاً مخلوقة، فإنها لا تستطيع أن تشترك مع الله فى إعطاء النعمة.

 

ولا
يستطيع أحد عندما يرى ملاكاً أن يقول أنه قد رأى الآب لأن الملائكة كما هو مكتوب –
هى أرواح خادمة، مرسلة للخدمة (عب14: 1)، وهم يبشرون بالعطايا التى توهب من الآب بواسطة
الكلمة إلى أولئك الذين ينالونها.

 

كما
أن الملاك نفسه عند ظهوره يعترف أنه قد أرسل من سيده كما إعترف جبرائيل عندما ظهر
لزكريا وأيضاً عندما ظهر لمريم والدة الإله. ومن يرى منظر ملائكة يعرف أن قد رأى
ملاكاً، أما إبراهيم فقد ظهر له الله. فالذين رأوا الله ثم يقولوا أنهم رأوا
ملاكا، كما أن الذين رأوا ملاكاً اعتبروا أنهم قد رأوا الله لأن الأشياء المخلوقة
هى بالطبيعة تختلف إختلافاً عظيماً بل بالحرى إختلافاً كاملاً عن الله الخالق،
ولكن يحدث أحياناً أن يرى ملاك، والذى يراه يسمع صوت الله “كما حدث فى
العليقة” لأن ملك الرب ظهر فى لهيب نار من العليقه” (خر2: 3)، وكلم الله
موسى من العليقه قائلاً “أنا إله إبيك، إله إبراهيم وإله إسحق وإله
يعقوب” (خر6: 3)، ولكن الملاك لم يكن هو إله إبراهيم÷ بل الذى تكلم فى الملاك
هو الله فالذى ظهر هو ملاك، ولكن الله تكلم فيه. لأنه كما تكلم الله مع موسى فى
الخيمة من خلال عمود السحاب هكذا أيضاً يظهر الله ويتكلم من خلال الملائكة، مثلما
تكلم إلى يشوع بن نون بواسطة ملاك (يش2: 1الخ).

 

فإن
ما يتكلم به الله من الواضح أنه يتكلم به بواسطة الكلمة وليس بواسطة آخر. فالكلمة
ليس منفصلاً عن الآب، ولا هو مغاير لجوهر الآب ولا هو غريب عنه فالأعمال التى
يعملها، هى أعمال الآب وصنعه لكل الأشياء هو واحد معه، فالعطايا التى يعطيها
الإبن، هى عطايا الآب. والذى قد رأى الإبن، عرف أنه برؤيته له، لم ير ملاكاً، ولا
شخصاً أعظم من الملائكة، ولا أى مخلوق على وجه العموم، بل قد رأى الآب نفسه والذى
يسمع الكلمة يعرف أنه يسمع الآب نفسه. فذلك الذى يستنير بواسطة الشعاع، يعرف أنه
سيتنير بواسطة الشمس.

 

15-
ولأن الكتاب الإلهى يريدنا أن نفهم هذا الأمر هكذا، فقد أعطانا مثل هذه الإيضاحات،
التى تكلمنا عنها أعلاه، والتى بها يمكننا أن نخجل اليهود الخائنين من جهة وأن
ندحض إدعاءات الوثنيين من الجهة الأخرى، الذى يفكرون ويظنون أننا حينما نتحدث عن
الثالوث، فنحن نعترف بإلهة متعددة، لأنه كما يتضح من المثال، نحن لا نقدم ثلاثة
بدايات أو ثلاثة آباء كما يفعل إتباع ماركيون ومانى حيث أننا لن نعرض صورة ثلاثة
شموس بل شمس واحدة وشعاع واحد. وهناك نور واحد من الشمس فى الشعاع، وهكذا فنحن لا
نعرف سوى بداية واحدة ونعترف أن الكلمة خالق الكل ليس له مصدر آخر للاهوته سوى
لاهوت الإله الوحيد، لأنه مولود منه. وعندئذ يكون الآريوسيون بالحرى هم المتهمين
بتعدد الإلهة أو الإلحاد، لأنهم يهذون بالقول عن الإبن أنه مخلوق وغريب عن جوهر
الآب وأن الروح (القدس) أيضاً جاء من العدم. لأنهم أما أن يقولوا إن الكلمة ليس هو
الله، أو يقولوا إنه الله، حسب المكتوب – لكنه ليس من ذات جوهر الآب وهكذا يقدمون
لنا آلهة متعددة بسبب إختلاف الإلهة فى النوع.. إلا إذا تجاسروا أن يقولوا أنه
(الابن) يدعى إلهاً بالمشاركة فقد مثل كل المخلوقات الآخرى.

 


وحتى إن كان هذا هو تصورهم، فلا يزالون على كفرهم. حيث أنهم يعتبرون الكلمة كواحد
من بين المخلوقات. ولكن لا تدع هذا الفكر يأتى إلى أذهاننا إطلاقاً. لأنه توجد
خاصية واحدة للألوهية، وهى موجودة أيضاً فى الكلمة. وإله واحد هو الآب، كائن
بذاته، إذ هو فوق الكل وظاهر فى الإبن حيث أنه يتخلل كل الأشياء بواسطته، وظاهر فى
الروح حيث أنه فيه يعمل فى كل الأشياء بواسطة الكلمة. لأننا بهذا نعترف أن الله
واحد فى ثالوث، ونقول أن هذا الإيمان بالإله الواحد فى ثالوث هو أكثر تقوى جداً من
التعليم بإله الهراطقة بأنواعه الكثيرة وأجزائه العديدة.

 

16-
لأنه إن لم يكن الأمر كذلك، وكان الكلمة مخلوقاً ومصنوعاً من العدم، فهو إما أنه
ليس إلها حقيقياً، بسبب أنه هو نفسه واحد من المخلوقات، أو إن كانوا يدعونه إلها
خجلاً من الكتاب المقدس، فينبغى بالضرورى أن يقولوا بوجود إلهين، واحد خالق،
والآخر مخلوق ووجب أن يعبدوا ربين واحد غير مخلوق والآخر مخلوق ومصنوع، وينبغى أن
يكون لهم إيمانان إيمان بالإله الحقيقى وإيمان بواحد آخر صنعوه وصاغوه بأنفسهم
ودعوه إلهاً. ويتبع بالضرورة عن هذا عمى عظيم جداً حتى أنهم حينما يسجدون لغير
المخلوق فهم يرفضون المخلوق، وحينما ينشغلون بالإله المخلوق، فإنهم يتحولون عن
الإله الخالق، لأنهم لا يستطيعون أن يروا الواحد موجوداً فى الآخر، لأن طبيعتهما
وأفعالهما هى غريبة ومختلفة عن بعضها.

 

وبمثل
هذا الأفكار فإنهم سوف يتجهون بالتأكيد إلى عدد أكثر من الآلهة لأن هذه هى محاولات
أولئك الذين قد إبتعدوا عن الله الواحد.

 

ولماذا
إذن إن كان للآريوسيين هذه التصورات والآراء، لا يحسبون أنفسهم مع الوثنين؟ لأنهم
مثل هؤلاء تماماً يعبدون المخلوق بدلاً من الله خالق الكل.

 

لكنهم
يتحاشون الإسم الوثنى لكى يخدعوا غير المحنكين رغم أنهم يضمرون فى باطنهم فكراً
مشابهاً لفكر الوثنين. لأن فلسفتهم التى تعودوا أن يلحوا عليها هى: “نحن لا
نقول بأثنين غير مخلوقين”. وواضح أنهم يقولون هذا لكى يخدعوا البسطاء لأنهم
بإعترافهم ذاته، نحن لا نقول باثنين غير مخلوقين، والآخر غير مخلوق، ورغم أن
الوثنين يعبدون إلهاً غير مخلوق وآلهة أخرى كثيرة مخلوقه، فهؤلاء الآريوسيون
يعبدون واحداً غير مخلوق وواحداً مخلوقاً، وهم فى هذا لا يختلفون عن الوثنين. لأن
الإلهى الذى يدعونه مخلوقاً هو واحد بين كثيرين، وأيضاً الآلهة الكثيرة عند
الوثنيين لها نفس طبيعة هذا الواحد، لأن الواحد والكثيرين هم مخلوقات.

 

إنهم
تعساء وتعاستهم هى بالأكثر ناتجة عن تفكيرهم ضد المسيح لأنهم قد سقطوا من الحق وقد
فاقوا اليهود فى حياتهم بإنكار المسيح وهم منغمسين مع الوثنيين ومبغضين له ملهم،
عابدين الخليقة والآلهة المتعددة، لأنه يوجد إله واحد وليس كثيرون. وواحد هو كلمته
وليسوا كثيرين لأن الكلمة هو الله، وهو وحده صورة الآب. ولأنه هو كذلك فإن الملخص
نفسه جعل اليهود يضطربون من هذه الكلمات: “الآب نفسه، الذى أرسلنى، هو يشهد
لى، لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته وليست لكم كلمته ثابتة فيكن، لأن الذى
أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به” (يو37: 5-38). لذلك جمع بين
“الكلمة” والهيئة، لكى يوضح أن كلمة الله هو نفسه صورة ورسم وهيئة أبيه،
وأن اليهود الذين لم يقبلوا الذى تكلم إليهم لم يقبلوا الكلمة الذى هو صورة الله.
وهذا أيضاً هو ما قد رآه يعقوب رئيس الآباء الذى نال البركة من الله وأعطى إسم
إسرائيل بدلاً من يعقوب كما يشهد الكتاب الإلهى، قائلاً: “وأشرقت له الشمس إذ
عبر فنوئيل (وجه الله) (تك31: 32) وهذا هو نفسه الذى قال: “من رآنى فقد رأى
الآب” و “أنا فى الآب والآب فى” و “أنا والآب واحد”
(يو9: 14، 10- يو30: 10).

 

هكذا
فإن الله واحد والإيمان بالآب والإبن هو واحد. لأنه رغم إن الكلمة هو إله، فالرب
إلهنا رب واحد. لأن الإبن هو خاص بذلك الواحد وغير منفصل عنه بحسب ذاته وخصوصية
جوهره.

 

17-
ومع ذلك فالأريوسيون إذ لا يخجلون من هذا فإنهم يجيدون: (ليس كما تقولون أنتم، بل
كما نريد نحن لأنه طالما قد رفضتم آرائنا السابقة، فأننا قد أخترعنا رأياً جديداً،
وهذا هو: كما أن الابن والآب واحد، وكما أن الآب هو فى الإبن والإبن فى الآب، هكذا
أيضاً نحن واحد فيه.

 

لأن
هذا هو ما كتب فى الإنجيل بحسب يوحنا، وهو ما طلبه المسيح لأجلنا فى هذه الكلمات
“ايها الآب القدوس إحفظهم فى أسمك الذين أعطيتنى ليكونوا واحداً كما
نحن” (يو11: 17). وبعدها بقليل يقول “ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط بل
أيضاً من أجل الذين يؤمنون بى بكلامهم، ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الآب
فى وأنا فيك” ليكونوا هم أياً واحداً فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتنى وأنا قد
أعطيتهم المجد الذى أعطيته ليكونوا واحداًُ كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت فى
ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم أنك أرسلتنى” (يو20: 17-23). وبعد ذلك
فهؤلاء الرجال الخادعون، كأنهم قد وجدوا حجة يستندون عليها يضيفون ويقولون (إن كنا
نصير نحن واحداً فى الآب، هكذا أيضاً يكون الإبن واحداً مع الآب، وهكذا أيضاً يكون
هو فى الآب، فكيف تنتجون أنتم من قوله “أنا والآب واحد”، “أنا فى
الآب والآب فىّ، أن الإبن هو من ذات جوهر الآب ومساوٍ له؟ وهذا يتطلب إما إن نكون
نحن أيضاً من ذات جوهر الآب أو أن يكون هو غريب عن هذا الجوهر مثلما نحن غرباء
عنه). هكذا يثرثر هؤلاء الناس، ولكنى لا أرى فى كلامهم الباطل هذا سوى وقاحة غير
معقولة وجنون شيطانى، حيث أنهم يقولون مثله “نصعد إلى السموات – ونصير مثل
العلى” لأن ما يعطى للإنسان بالنعمة هذا يجعلونه مساوياً لإلوهية المعطى
لأنهم إذ سمعوا أن البشر سيصيرون أبناء الله، ظنوا أنفسهم مساويين للابن الحقيقى
بالطبيعة والآن أيضاً إذ يسمعون من المخلص: “لكى يكونوا واحداً، كما
نحن”، يخدعون أنفسهم ويتوقحون لدرجة أنهم يظنون أنهم سيصيرون مثل الإبن فى
الآب والآب فى الإبن، غير معتبرين بسقوط أبيهم الشيطان، الذى حدث نتيجة لمثل هذا
التخيل.

 

18-
فإن كان كلمة الله – كما قلنا مرات عديدة – هو مثلنا ولا يختلف عنا فى شئ سوى فى
الزمن، فهو يكون مساوياً لنا وله نفس الوضع الذى لنا عند الآب ولا ينبغى عندئذ أن
يدعى الإبن الوحيد ولا الكلمة الوحيد ولا كلمة الآب الوحيد، بل يطلق علينا جميعاً
نفس الأسم بصورة مشتركة نحن الذين نماثله، لأنه من الصواب أن الذين لهم طبيعة
واحدة. يكون لهم نفس الإسم، حتى لو أختلفوا الواحد عن الآخر من جهة الزمن لأن آدم
كان إنساناً وبولس كان إنساناً وكل من يولد اليوم هو إنسان فالزمن ليس هو الذى
يغير طبيعة الجنس (البشرى). إذن فإن كان الكلمة يختلف عنا فقط من جهة الزمن،
فعندئذ يجب أن نكون مثله هو ولكن حقيقة الأمر أننا لسنا الكلمة ولا الحكمة، كما
أنه هو ليس مخلوقاً ولا مصنوعاً، وإلا فلماذا نصدر كلنا من واحد بينما هو الكلمة
الوحيد؟ لكن إن كانت هذه الأمور تناسبهم لكى يتكلموا بها، اما نحن فلا يناسبنا أن
نفكر فى تجاديفهم. ومع ذلك رغم أن هذه الآيات لا تحتاج إلى توضيح ضلالهم هنا أيضاً
فى فهم هذه الآيات وعدم أرثوذوكسيتهم سوف نشرحها بعد قليل وبحسب ما استلمناه من
الآباء.

 

لقد
إعتاد الكتاب الإلهى أن يستخدم أمور الطبيعة كصور وإيضاحات لأجل البشر وهو يفعل
هذا لكى يشرح الأفعال الأختيارية للبشر من هذه الأمور الطبيعية، وهكذا يظهر سلوكهم
إما شريراً أو باراً ففى حالة ما هو شرير مثلاً يأمر قائلاً: “لا تكونوا كفرس
أو بغل بلا فهم” إنسان فى كرامة ولا يفهم يشبه البهائم التى تباد”
(مز20: 49) وأيضاً يقول “صاروا أحصنة معلوفة سائيه” (إرميا8: 5).
والمخلص لكى يكشف هيرودوس قال “قولوا لهذا الثعلب” (مت32: 13). ومن
الجهة الأخرى حذر تلاميذه، ها أنا أرسلكم كحملان فى وسط ذئاب فكونوا حكماء كالحيات
وودعاء كالحمام” (مت16: 10). وهو قال هذا لا لكى نصير بالطبيعة حيوانات، أو
حيات، أو حمام لأنه هو نفسه لم يخلقنا هكذا، والطبيعة نفسها لا تسمح بذلك، ولكن
لكى نتجنب الإنفعالات الحيوانية الخاصة بأحدها من ناحية، ومن ناحية أخرى نكون
واعين لمكر ذلك الحيوان الآخر لكى لا نخدع به، ولكى نكتسب أيضاً وداعة الحمام.

 

19-
وأيضاً فإن المخلص إذ يتخذ من الأمور الإلهية نماذج يقدمها للإنسان فإنه يقول
“كونوا رحماء كما أن أباكم الذى فى السموات هو رحيم”، “كونوا
كاملين كما أن أباكم الذى فى السموات هو كامل” (لو36: 6، مت48: 5). وهو قد
قال هذا ليس بالطبع لكى نصير مثل الآب، لأنه مستحيل علينا نحن المخلوقين الذين قد
خلقنا من العدم أن نصير مثل الآب. ولكن كما أنه أمرنا “لا تصيروا كالحصان”
لا لئلا نكون كالحيوانات غير الناطقة، بل لكى لا نتمثل بها فى نقص العقل، هكذا فقد
قال “كونوا رحماء مثل الآب، لا لكى نصير مثل الله. بل لكى عندما نتطلع إلى
أعماله الصالحة فإن ما نفعله من أعمال حسنة إنما نفعله ليس لأجل الناس بل لأجله
هو، حتى تأخذ مكافأتنا منه وليس من الناس.

 

فرغم
أنه يوجد أبن واحد حسب الطبيعة وهو الإبن الحقيقى الوحيد الجنس، هكذا نصير نحن
أيضاً أبناء، لكن ليس مثله هو بالطبيعة وبالحق، بل بحسب نعمة ذاك الذى دعانا، ورغم
أننا بشر من الأرض، ومع ذلك نصير آلهة ليس مثل الإله الحقيقى أو كلمته، بل كما قد
سر الله الذى قد وهبنا هذه النعمة، هكذا أيضاً نصير رحماء مثل الله، لا بأن نصير
مساويين لله ولا بأن نصير صانعى خيرات بالطبيعة وبالحقيقة، لأن صنع الخير فى ذاته
ليس من أنفسنا بل هو من الله – بل لكى نوزع على الآخرين الخيرات الموهوبة لنا من
الله بالنعمة، دون أن نفرق بين الناس، بل مقدمين خدمتنا الرحيمة بإتساع للجميع،
لأننا بهذه الطريقة وحدها وليس بأى طريقة أخرى نصير متشبهين به، حينما نقدم
للآخرين العطايا التى ننالها منه. وكما أننا نقدم معنى واضحاً ومستقيماً لهذه
الآيات، هكذا يكون الأمر أيضاً بالنسبة للآيات التى ذكرت من يوحنا، فهو لا يقول
إننا ينبغى أن نصير مثلما أن الإبن هو فى الآب: فمن أين يمكن أن يكون هكذا طالما
الإبن هو كلمة الله وحكمته، بينما نحن قد جبلنا من الآرض، والإبن هو بالطبيعة
وبالجوهر هو الكلمة والإله الحقيقى. لأنه هكذا يتكلم يوحنا: “ونعلم أن ابن
الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن فى الحق فى ابنه يسوع المسيح. هذا هو
الإله الحق والحياة الأبدية”. (1يو20: 5).

 

ونحن
به نصير أبناء بالتبنى وبالنعمة، مشتركين فى روحه، لأنه مكتوب “وأما كل الذين
قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أى المؤمنون باسمه” (يو12: 1).
لذلك فهو أيضاً الحق لأنه يقول: “أنا هو الحق” (يو6: 14). وفى مخاطبته
لأبيه قال: “قدسهم فى حقلك كلامك هو حق” (يو17: 17). أما نحن فبالتمثيل
به نصير فاضلين وأبناء.

 

20-
لذلك فهو لم يقل “لكى يكونوا واحداً كما نحن” لكى نصير كما هو بل كما
أنه هو، وهو الكلمة، هو فى أبيه، هكذا نحن ايضاً ونحن متخذين أباه مثالاً لنا ونحن
ناظرون إليه، نصير واحداً فيما بيننا فى الوفاق ووحدة الروح. ولا نكون فى إختلاف
مثل الكورنثيين، بل يكون لنا قلب واحد ونفس واحدة مثل أولئك الخمسة آلاف الذين
ذكروا فى سفر الأعمال (أنظر أع4: 4، 32) والذين كانوا كواحد. فنحن طبعاً لسنا
أبناء كالإبن، ولسنا آلهة مثله هو نفسه، ونحن لسنا مثل الآب، بل نصير “رحماء
كآلاب”. وكما سبق أن قلنا، فإننا عندما نصير واحداً، كما أن الآب والإبن هما
واحد، فنحن لن نصير واحداً مثلما أن الآب هو فى الإبن بالطبيعة وكذلك الإبن فى الآب،
بل بحسب ما يتفق مع طبيعتنا الخاصة ومن هذا يمكننا أن نتشكل وأن نتعلم كيف يجب أن
نصير واحداً، مثلما تعلمنا أيضاًُ أن نكون رحماء. لأن الأشياء المتماثلة هى
بالطبيعة واحدة بعضها مع بعض، لأن كل ذى جسد يولد منه جسد من نوعه، أما الكلمة فهو
مختلف عنا، ولكنه مثل الآب، ولذلك فهو واحد مع أبيه بالطبيعة والحق. وأما نحن
فلأننا من جنس واحد (لأن كل البشر قد جاءوا من واحد، وطبيعة البشر جميعهم هى
واحدة)، فإننا نصير واحداً بعضنا مع بعض بالنية الصالحة، واضعين أمامنا مثال
الوحدة الطبيعية للابن مع الآب. ولأنه كما علمنا الوداعة بنفسه قائلاً
“تعلموا منى، لأنى وديع ومتواضع القلب” (مت29: 11) لا لكى نصير مساويين
له، لأن هذا غير ممكن – بل بنظرنا إليه نظل دائماً ودعاء. هكذا هنا أيضاً، فهو إذ
يريد أن تكون لنا نيه صالحة بعضنا نحن بعض ونكون ألفتنا حقيقية وثابتة وغير
مضمحلة، فإنه يجعل لنا من نفسه مثالاً ويقول “لكى يكونوا واحداً، كما نحن،
تلك الوحدة التى لا أنفصال فيها، أى، بتعلمهم منا تلك الطبيعة غير المنقسمة، فإنهم
بنفس الطريقه يحفظون الوفاق فيما بينهم. وكما سبق أن قلنا، فإن التمثل بالأمور
الطبيعية يمكن أن يتحقق بين الناس بصورة مأمونة، حيث أنهم يظلون بطبيعتهم غير
متغيرين، بينما سلوك الناس هو قابل للتغير، فيمكن للإنسان بنظره نحو غير المتغير
بالطبيعة، أن يتجنب ما هو ردئ، وأن يعيد تشكيل نفسه على حسب الصورة الأفضل ولهذا
لسبب أيضاً يكون للكلمات: “ليكونوا هم أيضاً واحد فينا” معنى مستقيم.

 

21-
فلو أنه كان من الممكن عندئذ أن نصير مثل الإبن فى الآب، لكان ينبغى أنا تكون
الكلمات هكذا “لكى يكونوا هم واحداً فيك” مثلما أن الإبن هو فى الآب،
ولكنه لم يقل الكلمات هكذا. بل بقوله “فينا” أظهر المسافة والإختلاف
بيننا وبين الإبن إذ أنه هو وحده كائن فى الآب كالكلمة الوحيد والحكمة الوحيد،
ولكننا نحن موجودون فى الإبن وبواسطته موجودين فى الآب. وبكلامه هكذا قصد هذا فقط:
هكذا يمكن أن يصيروا واحداً فيما بينهم بتمثلهم بوحدتنا، كما أننا واحد بالطبيعة
وبالحق، وإلا فإنهم لن يستطيعوا أن يصيروا واحداً إلا إذ تعلموا من الوحدة
الموجودة فينا. ويمكن أن نتعلم أيضاً من بولس الرسول هذا المعنى الذى تعطيه كلمة
“فينا” عندما نسمعه يقول “فهذا أيها الأخوة حولته تشبيها إلى نفسى
وإلى أبلوس من أجلكم لكى تتعلموا “فينا” أن لا تفتكروا فوق ما هو
مكتوب” (1كو6: 4). وبالتالى فإن كلمة “فينا” لم تذكر عن وجود الإبن
فى الآب، بل تقدم مثلاً وصورة بدلاً من أن يقول، “فليتعلموا منا”. لأنه
كما أن بولس يقدم مثالاً للوحدة إلى أهل كورنثوس، هكذا تكون وحدة الإبن والآب هى
مثال تعليم ودرس للجميع، يمكن أن يتعلموا بواسطته عن طريق تطلعهم إلى الوحدة
الطبيعية للآب والإبن – كيف يجب أن يصيروا فيما بينهم واحداً فى الفكر. ولكن إن
كانت كلمة “فينا” تحتاج أن تفسر بمعنى آخر فيمكن عندئذ أن تعنى أنه:
بواسطة قوة الآب والإبن يصيروا واحدا ويقولوا “قولاً واحداً” (1كو10:
1)، لأن هذا غير ممكن بدون معونة الله وهذا المعنى يمكننا أن نجده أيضاً فى الكتب
الإلهية مثل “بالله نصنع ببأس” (مز12: 60) و “بك ندوس
أعداءنا” (مز5: 44). فواضح إذن أننا باسم الآب والإبن نصير أشداء، ونصير
واحداً ممسكين برباط المحبة بقوة. وفى نفس المعنى يقول الرب “وأنا قد أعطيتهم
المجد الذى أعطيتنى ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد” (يو22: 17).

 

فهنا
أيضاً لم يقل “لكى يكونوا فيك مثلما أنا فيك”.

 

بل
قال “كما نحن” والآن هو الذى يقول “كما” لا يقصد أن يتحدث عن
وحدى الطبيعى بل يتحدث عن صورة ومثال أما ينبغى أن يكونوا عليه.

 

22-
إذن فالكلمة هو واحد حقاً وفعلاً بالطبيعة مع الآب أما نحن فقد أعطى لنا أن نتشبه
بهذه الطبيعة كما سبق أن قيل لانه أضاف مباشرة “أنا فيم وأنت فى، ليكونوا
مكملين إلى واحد” (يو23: 17). ولذا فالرب هنا يطلب لأجلنا شيئاً أعظم وأكمل
لأنه واضح أن الكلمة قد جاء لكى يكون فينا لأنه قد لبس جسدنا. وبقوله “وأنت
أيها الآب فى” فهو يعنى “لأنى أنا كلمتك، وحيث أنك أن فى، بسبب كونى
كلمتك، وأنا فيهم بسبب الجسد، ومنك يتحقق خلاص البشر فىّ” لأّلك أسأل أن
يصيروا هم أيضاً واحداً، بسبب الجسد فىّ وبحسب كماله لكى يصيروا هم أيضاً كاملين
إذ يكون لهم وحدة مع الجسد، ولأنهم قد صاروا واحداً فى هذا الجسد، فإنهم كما لو
كانوا محمولين فىّ، يصيرون جميعاً جسداً واحداً وروحاً واحداً (أفسس 4: 4) ولكى
ينمو الجميع إلى إنسان كامل (أفسس 13: 4) لأننا جميعاً، بأشتراكنا فيه، نصير جسداً
واحداً، لأننا نحصل على الرب الواحد فى أنفسنا. وطالما أن هذه الفقرة لها هذا
المعنى فإننا بذلك ندحض هرطقة أعداء المسيح بوضوح أكثر. وأنى أكرر القول، إنه لو
كان قد قال ببساطة وبصورة مطلقة “لكى يكونوا واحداً فيك” أو “لكى
يصيروا هم وأنا واحداً فيك” لكان أعداء الله قد وجدوا بعض العذر رغم نه عذر
قبيح، ولكن حقيقى الأمر أنه لم يتكلم هكذا بالمرة بل قال “كما أنك أنت أيها
الآب فىّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا” (يو21: 17). وبالإضافة إلى
ذلك فإنه بإستعماله لفظة “كما” فهو يشير إلى أولئك الذين يصيرون مثله كا
هو فى الآب ولكن عن بعد، عن بعد ليس من جهة المكان ولكن من جهة الطبيعة لأنه من
جهة المكان ليس هناك شيئ بعيداً عن الله، لكن من جهة الطبيعة وحدها فإن كل الأشياء
هى بعيدة عن الله. وكما قلت سابقاً فإن إستعمال الأداه “كما” لا يعنى
التطابق، ولا المساواة ولكن يعنى التشبه بمثال ينظر إليه من جهة معينة.

 

23-
وهذا ما يمكننا أن نتعلمه أيضاً من المخلص نفسه، حينما يقول “لأنه كما كان
يونان فى بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان فى قلب الأرض
(مت40: 12). فإن يونان طبعاً لم يكن مثل المخلص، ويونان لم ينزل إلى الجحيم، ولا
الحوت كان هو الجحيم كما أن يونان حينما ابتلعه الحوت لم يخرج أولئك الذين كان الحوت
قد سبق وإبتعلهم قبله، بل هو وحده قد خرج من الحوت حينما قذفه. لذلك فليس فى لفظه
“كما” هنا أى تطابق أو مساواة، بل شيئان مختلفان، فهى توضح نوعاً من
التشابه فى حالة ونان من جهة الأيام الثلاثة، وبنفس الطريقة فحينما يقول الرب
“كما” فإننا نحن أيضاً لا نصير كالإبن فى الآب ولا كالآب فى الإبن،
لأننا جميعاً نصير واحداً فى الفكر وإتفاق الروح مثلما أن الآب والإبن واحد.

 

والمخلص
سيكون مثل يونان فى بطن الأرض ولكن بما أن المخلص ليس هو يونان، وليس كما أبتلع
يونان هكذا نزل المخلص إلى الجحيم، ولكنه أمر موازى، هكذا بنفس الطريقة فإن صرنا
نحن أيضاً واحداً، مثلما أن الإبن هو فى الآب، فسوف لا نصير مثل الإبن ولن نكون
مساويين له، لأن الإبن ونحن أمران متوازيان. ولهذا السبب فإن لفظة “كما”
تنطبق علينا، حيث أن الأشياء التى تختلف عن بعضها فى الطبيعة، يمكن أن تصير مشابهة
لبعضها البعض حينما ينظر إليها من جهة علاقة معينة تربط بينها. ولذلك فالإبن نفسه
هو فى الآب ببساطة وبدون أية تحفظات، لأن هذه الصفة هى له بالطبيعة. أما بالنسبة
لنا نحن، إذ ليست لنا هذه الصفة بالطبيعة.

 

فالأمر
يحتاج إلى صورة أو مثال، لكى يمكن أن يقول عنا “كما أنك أنت فى وأنا
فيك”. وهو يقول “وحينما يصيرون كاملين هكذا حينئذ يعرف العالم أنك أنت
أرسلتنى” لأننى لو لم أكن قد جئت وليست جسدهم، أما أستطاع أحد منهم أن يصير
كاملاً، بل لظل الجميع فى الفساد. أيها الآب إعمل إذن فيهم” وكما أعطيتنى أن
ألبس هذا الجسد فأعط روحك لهم، لكى يصيروا هم أيضاً بالروح، واحداً وأن يصيروا
مكمّلين فىّ. لأن تكميلهم يدل على أن كلمتك قد سكن بينهم، وعندما يراهم العالم
كاملين وحاملين لله، فسوف يؤمن أنك أنت أرسلتنى وأنى أنا قد جئت هنا – لأنه من أين
يأتيهم الكمال لو لم أكن أنا كلمتك قد أخذت جسدهم، وصرت إنساناً، وقد أكملت العمل
الذى أعطيتنى إياه أيها الآب إلى النهاية؟ قد إكتمل العمل، لأن البشر، وقد أفتدوا
من الخطية لا يبقون أمواتاً بعد. بل إذ يتألهون فإنهم بنظرهم إلىّ يصير لهم رباط
المحبة فيما بينهم.

 

24-
ونحن إذ قد تكلمنا كثيراً محاولين شرح كلمات هذه الفقرة، فإن يوحنا المبارك فى
رسالته أظهر معنى هذه الفقرة بكلمات قليلة وأكثر كمالاً من كلماتنا، فهو يظهر خطأ
فهم أولئك الجاحدين، ويعلمنا كيف نصير نحن فى الله والله فينا ويعلمنا أيضاً كيف
نصير واحداً فيه، وكيف أن الإبن يختلف عنا فى الطبيعة، وبذلك يوقف الآريوسيين عن
التفكير أنهم سيصيرون كالإبن، لئلا يسمعوا القول “أنت إنسان لا إله”
(حز2: 28)، لا تقس نفسك بإنسان غنى وأنت فقير” (أم4: 23س). فيوحنا يكتب هكذا،
بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا أنه قد أعطانا من روحه، (1يو13: 4). لذلك، فبسبب
نعمة الروح الذى أعطى لنا نصير نحن فيه وهو فينا.

 

وحيث
أن روح الله فينا لذلك فبواسطة سكناه فينا وبسبب حصولنا على الروح نحسب أننا فى
الله وهكذا يكون الله فينا.

 

إذن
نحن لا نصير فى الآب مثلما أن الإبن كائن فى الآب، لأن الإبن ليس كائناٍ فى الآب
بمجرد إشتراكه فى الروح ولا هو ينال الروح بل بالحرى هو نفسه الذى يهب الروح
للجميع وليس الروح هو الذى يوحد الكلمة مع الآب بل بالحرى فإن الروح يأخذ من
الكلمة. والإبن كائن فى الآب، ككلمته الذاتى وشعاعه، أما نحن فبدون الروح القدس
فإننا نكون غرباء عن الله، وعن طريق اشتراكنا فى الروح نصير بالروح الموجود فينا
والذى يسكن فينا، ونحن نحتفظ به فى داخلنا عن طريق الإقرار كما يقول يوحنا
“من إعترف أن يسوع هو ابن الله فالله يسكن فيه وهو فى الله” (1يو15: 4).

 

إذن
ما هى المشابهة وما هى المساواة التى لنا مع الإبن؟ بل إن آراء الأريوسيين تدحض من
كل ناحية وخاصة بكلمات يوحنا، أن الإبن هو فى الآب بطريقة، أما نحن فنصير فى الآب
بطريقة أخرى. وأننا لن نصير مثل الكلمة أبداً، ولا الكلمة سيصير مثلنا، إلا إذا
تجاسروا كما يفعلون عادة – فقالوا إن الإبن بإشتراكه فى الروح وبتقدمه فى الفضيلة
صار هو نفسه فى الآب. ولكن حتى مجرد قبول هذا الفكر هو كفر شديد لأن الكلمة كما
سبق أن قيل هو الذى يعطى إلى الروح، وكل ما هو للروح فقد أخذه من الكلمة.

 

25-
إذن فعندما يقول المخلص “كما أنك أنت أيها الآب فى وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً
واحداً فينا” فهو لا يعنى بهذا أنه سوف يصير لنا تطابق معه. لأن هذا قد أوضحه
فى مثال يونان ولكن كلامه هذا هو طلب إلى الآب لكى يهب الروح بواسطته للذين يؤمنون
به، والذى به نصير فى الله، كما كتب يوحنا وبهذا نكون متحدين فيه. وحيث أن الكلمة
هو فى الآب، والروح يعطى من الكلمة فهو يريد أن ننال نحن الروح، لكى عندما نناله
يصير لنا روح الكلمة الذى هو فى الآب، وبسبب الروح سوف نتمجد نحن أيضاً ونصير
واحداً فى الكلمة، ومن خلاله فى الآب. وعندما يقول “كما نحن” فهو لا
يعنى شيئاً آخر سوى أن يسأل أن تصير نعمة الروح المعطاه للتلاميذ ثابتة بلا تزعزع،
لأن ما هو للكلمة بالطبيعة فى الآب كما قلت سابقاً يريد أن يعطيه لنا بواسطة الروح
بلا رجعة. وهذا ما عرفه الرسول، فقال “ن سيفصلنا عن محبة المسيح؟”
(رو35: 8). لأن “هبات الله ونعمة دعوته هى بلا ندامه” (رو29: 11). إذن
فالروح هو الكائن فى الله ولسنا نحن بذواتنا، ولكن حيث أننا نصير أبناء وآلهة بسبب
الكلمة الذى فينا هكذا أيضاً سنصير فى الإبن وفى الآب، وسوف نحسب أننا صرنا واحداً
فى الأبن وفى الآب، بسبب وجود ذلك الروح فينا نحن وهو الروح الذى يكون فى الكلمة
الكائن فى الآب، إذن حينما يسقط إنسان من الروح بسبب شر ما فإنه عندما يتوب ويرجع
عن سقطته فالنعمة تظل مستمرة بلا ندامة فى أولئك الذين يريدونها. وإلا فإن من
سقطته فالنعمة تظل مستمرة بلا ندامة فى أولئك الذين يريدونها. وإلا فإن من سقط لا
يعود يكون فى الله (بسبب أن الروح القدس البارقليط الذى هو فى الله قد هجر هذا
الإنسان) ولكن ذلك الخاطئ يصير فى ذلك (الروح الشرير) الذى أخضع نفسه له كما حدث فى
حالة شاول لأن روح الله فارقه، وبغته روح ردئ (1صم14: 16). وعندما سمع أعداء الله
هذا الكلام فيجب عليهم أن يخجلوا ولا يعودوا يساوون أنفسهم بالله، ولكنهم لا
يفهمون لأن “الشرير لا يفهم معرفة” (أم7: 29)، ولا يحتمون كلمات التقوى
بل يجدونها ثقيلة على مسامعهم.

(10)
يشير هنا إلى أستيريوس الأريوسى.

(11)
هذه الكلمة وردت هكذا فى الترجمة السبعينية للعهد القديم باليونانية وتعنى نجم
الصباح.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى