علم

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل الثالث

جهاد البابا أثناسيوس حتى منفاه الثاني

 

[وهكذا بتدبير فائق الوصف أرسل الله
أثناسيوس (وإن كان بصورة شكلية حزينة) إلى تريف على الحدود بين فرنسا وألمانيا
لتكون أول وأقوى
إرسالية تبشير بالروحانية الشرقية إلى كل
أوروبا وإيطاليا، وقد حفرت خطوطها الأُولى العميقة في المجال الرهباني حيث ألقى
أثناسيوس أول بذرة لطقس الرهبنة في كل العالم الغربي، كما أرسى قواعد بعض تقاليد
الليتورجيا الشرقية، كطقس السهر الليلي وبقية مميزات إفخارستية الإسكندرية، هذه التي ظلَّت حتى اليوم الخيط الذهبي الإلهي الذي لا
يزال يلح على
ضمائرنا بحتمية العودة إلى أُلفة المحبة في وحدانية الإيمان
والكلمة والكأس الواحد]!

المؤلِّف

 

الحوادث التي جرت أثناء وجود أثناسيوس

في تريف ببلاد الغال([1])

مدة النفي في تريف:

كانت
المدة التي قضاها القديس أثناسيوس في تريف مقر منفاه الأول بحسب تحقيق العلماء، ومن
واقع تاريخ خطاباته الفصحية هي: من 8 فبراير سنة 336م وهو تاريخ بدء
تنفيذه أمر النفي حتى 17 يونيو سنة 337م وهو تاريخ صدور
خطاب قسطنطيوس قيصر من تريف نفسها بعودة أثناسيوس إلى وطنه. أي أنه أمضى موسمين
متتاليين لعيد الفصح في مدينة تريف بالمنفى على حدود ألمانيا، في الكاتدرائية التي
كان يجلس على عرشها الأسقف الوقور ماكسيميانوس، ولم تكن آنئذ قد تكامل بناؤها،
فصلَّى فيها أثناسيوس العيد قبل تدشينها. وهو يذكر هذه الأمور في دفاعه لدى
قسطنطيوس (الفصل 15)([2]).
أمَّا كاتدرائية تريف أو ترير الآن فهي التي كانت أصلاً قصراً للإمبراطور. ولا
يزال يوجد بجوارها الحمامات الرومانية الأثرية التي كانت ملحقة بالقصر([3]).

ولكن
يلزم التنبيه أن اختلاف المؤرِّخين في تحديد مدة منفى أثناسيوس يرجع إلى أن بعضهم
يحسب مدة النفي منذ لحظة مغادرة أثناسيوس الإسكندرية في طريقه إلى مجمع صور في 17
أبيب 11 يوليو سنة 335م. وبينما يحسب الآخرون نهاية النفي عند لحظة
وصوله إلى الإسكندرية عائداً في نوفمر سنة 337م 27 هاتور. ولذلك نجد
المؤرِّخ ثيئوذوريت مثلاً يعتبر مدة النفي سنتين وأربعة أشهر([4])،
وهو في ذلك يأخذ بتقديرات سجلات التاريخ المعروف ب“تاريخ أسيفالا
Acephala([5])
الذي يحدِّدها بالتدقيق بسنتين وأربعة أشهر وأحد عشر يوماً.

حالة البابا أثناسيوس وهو في المنفى بمدينة تريف:

حاول
بعض المؤرِّخين التهوين من حالة النفي التي عاناها أثناسيوس، حتى أن بعضهم أخذ
يمتدحها كفترة راحة وسلام وتأليف، والبعض الآخر رآها فرصة هامة لإنقاذ حياته،
وبالغ آخرون في وصف الحفاوة والترحيب الذي استُقبِل به أثناسيوس في تريف.

ولكن
نسي هؤلاء المؤرِّخون ما هي حقيقة المنفى بالنسبة لإنسان كارز ومعلِّم نشيط ورئيس
أساقفة حرٍّ مثل القديس أثناسيوس. لذلك رأيت أن أنقل للقارئ صورة صادقة لما خطَّته
أيام المنفى في ذاكرة أثناسيوس وما تركته من آلام ومرارة في نفسيته الحسَّاسة،
وذلك من واقع رسالته الفصحية التي بدأ بكتابتها في النفي، ويُظن أنه أكملها بعد
رجوعه في 30 برمهات سنة 338م. وهي الرسالة المعروفة بالرسالة العاشرة، وإليك
مقتطفات منها:

[ولو
أني قد رحلت عنكم هذه المسافة الطويلة يا إخوة إلاَّ أني لم أنسَ العادة التي
اعتدتها بينكم التي تُسلِّمت إلينا من الآباء([6])
لأنه بالرغم من أني تعوَّقت بسبب هذه المحن التي بلا شك قد سمعتم عنها مع
التجارب القاسية التي وُضعت عليَّ، وقد فصلتنا هذه المسافات الطويلة، وقد تعقبنا
أعداء الحق في كل طريق ناصبين الفخاخ لكي يصطادوا أي خطاب منا إليكم بقصد أن
يضيفوا باتهاماتهم آلاماً أخرى على جروحنا.
ولكن الله قوَّانا وعزَّانا في كل
ضيقاتنا، فلم نخف البتة، حتى أننا ونحن في وسط هذه المكايد والمؤامرات تمسَّكنا
بضرورة أن نرسل إليكم لنعرِّفكم عن ميعاد عيد القيامة الخلاصي حتى ولو كنا في
أقصى الأرض.

كما
أني أوصيت كهنة الإسكندرية أن يقوموا بإطلاعكم على رسائلي التي كنت أبعثها إليهم،
ولو أني أعلم مقدار الخوف الذي كان يحيط بهم من المقاومين …

لقد احتملت ضيقات بهذا الوصف وهذه التجارب كلها التي
ذكرتها لكم كما كتبت إليكم …

ولكن ليس لكي أحزنكم، أكتب إليكم هذا باختصار مذكِّراً
إياكم بهذه الأمور، بل إنه ليس من اللائق للإنسان أن ينسى عندما يبلغ الراحة
مقدار الألم والمعاناة التي كابدها في الضيقة،
لئلاَّ يفقد الفرصة على الشكر
كشخص ينسى فيصير غير لائق للشركة الإلهية … وما هو واجبنا الآن يا إخوتي بالنسبة
لهذه الأمور إلاَّ أن نقدِّم الشكر والتسبيح لله الضابط الكل مبتدئين بالاعتراف
بكلمات المزمور: «مبارك الله الذي لم يُسْلِمنا فريسة لأسنانهم» (مز 6: 124).]
([7])

كذلك ظل يتعقَّبه الأريوسيون دائماً أبداً حتى وفي منفاه في
تريف وفي إيطاليا بعد ذلك، يرصدون حركاته وكلماته، واستطاعوا أن يقدِّموا إلى
قسطنطيوس إمبراطور الشرق وشاية خطيرة ملفَّقة ضد أثناسيوس، إذ اتهموه أنه كان
يتكلَّم ضدَّه ويسبه علناً في جلساته مع أخيه الأكبر قسطنطين الثاني إمبراطور الغرب،
ومع قسطانس أخيه الأصغر الذي تولَّى إمبراطورية الغرب من بعده.

وإليك نفس كلمات الاتهام التي صدَّقها قسطنطيوس وأخذ
يوجِّهها إلى ليبريوس أسقف روما بصفته صديق أثناسيوس والمدافع عنه، وسوف يشعر منها
القارئ بمقدار التعبئة الحقودة التي امتلأ بها قلب الإمبراطور ضد أثناسيوس:

[لقد أساء هذا (أثناسيوس) إلى الجميع بلا استثناء، ولكن
إساءته إليَّ كانت أعمق من كل الإساءات، فهو لم يكتفِ بموت أخي الأكبر (قسطنطين
الثاني)، بل لم يكف عن إثارة قسطانس المطوَّب الذكر (خليفة قسطنطين الثاني على
الغرب)، ولكني بصبرٍ تحمَّلت حدتهما معاً، المهيِّج وفريسته (أي أثناسيوس
وقسطانس)، والآن إن كل الانتصارات حتى والتي انتصرتها ضد ماجننتيوس وسلوانس لا
تساوي في نظري الآن طرد هذا الرجل الدنيء (أثناسيوس) وتجريده من سلطان الكنيسة.]
([8])

أمَّا البابا القديس أثناسيوس فقدَّم دفاعه عن هذه التهمة
إلى قسطنطيوس في وقت لاحق
([9]) وفيه يقول:

[إلى تقواكم أرفع صوتي عالياً وواضحاً، ماداً يديَّ، كما
تعلَّمت من الرسول لكي «أستشهد الله على نفسي» (2كو 23: 1) أني لم أتكلَّم رديًّا
عليكم قط في حضرة أخيكم قسطانس صاحب العظمة. على أن أخاكم المتأصِّل في المسيحية
لم يكن بالرجل الذي يوصَف بالخفة، ولا كنت أنا أيضاً بمثل هذه الأخلاق حتى نتحد
معاً على أمر مثل هذا، أو أتجرَّأ أن أُوقع أخاً بأخيه!! أو أتسفَّه بكلام رديء
على إمبراطور في حضرة إمبراطور. فأنا لست بمختل العقل يا سيِّدي ولا نسيت قط القول
الإلهي: «لا تلعن الملك أبداً حتى ولا في فكرك. ولا تسبّ غنياً حتى وإن كنت في
مخدعك، لأن الطير في السماء يحمل صوتك وذو الجناح يخبر بالأمر» (جا 20: 10).

على أني لم أحظَ قط بالمثول في حضرة أخيكم منفردًا، ولا هو
تكلَّم معي في خلوة، بل كانوا يقدِّمونني إليه مع أسقف المدينة التي يتصادف أن
أكون فيها ومع آخرين أيضًا. ندخل إلى حضرته معًا ونخرج أيضًا معًا. وفرتوناتيان
أسقف أكيلايا يشهد بذلك، والأب هوسيوس يشهد، كذلك أيضًا كرسبينوس أسقف بادوا
ولوسيللوس أسقف فيرونا وديونيسيوس أسقف لاييس وفنسنتيوس أسقف كمبانيا، ولو أن
ماكسيمينس أسقف تريف
([10]) وبروتاسيوس أسقف ميلان قد تنيَّحا، إلاَّ أن أوجينوس رئيس
القصر يمكن أن يشهد لي، لأنه كان دائماً يقف أمام الستارة ويسمع كل ما نتوسَّل به
لدى الإمبراطور وكل ما يجيب به ويمنحه لنا.]
([11])

الحوادث التي جرت بينما كان البابا
أثناسيوس في تريف:

يقول
بولس الرسول: «حتى أننا نحن أنفسنا نفتخر بكم في كنائس الله من أجل صبركم وإيمانكم
في جميع اضطهاداتكم، والضيقات التي تحتملونها بيِّنة على قضاء الله العادل أنكم
تُؤهَّلون لملكوت الله الذي لأجله تتألَّمون
أيضاً، إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً
…» (2تس 1:
46)

ينقل
لنا المؤرِّخ إبيفانيوس أسقف قبرس صورة من الصور الرائعة لشخصية البابا أثناسيوس
في إحدى مواقفه الحازمة مع الإمبراطور قسطنطين ناقلاً لنا آخر جملة نطقها أثناسيوس
في وجه الإمبراطور قسطنطين بعد أن فقد كل أمل في العدالة على الأرض: «الرب يحكم
بيني وبينك»!!،
وذلك عندما أصدر الإمبراطور حكمه بالنفي رافضاً أن يصغي لدفاع
أثناسيوس. نعم وقد حكم الرب، فلم يعشْ الملك بعد ذلك طويلاً، وما عاشه فقد عاشه
عليلاً …، أمَّا أريوس فمات ميتة شنيعة، كل ذلك قبل أن يخرج أثناسيوس من منفاه
الأول.

قرارات مجمع صور في غيبة أثناسيوس:

الوصف
هنا للمؤرِّخ سوزومين:

[كان
المجمع قد اتخذ قراره بإسقاط أثناسيوس من كرسيه منتهزاً فرصة غياب أثناسيوس في
القسطنطينية، وأضافوا مطالبين بإبعاده من الإسكندرية بحجة خوفهم من إثارته للقلاقل
والاضطرابات، ضاربين بذلك على الوتر الحساس الذي يهم قسطنطين.

وفي
نفس الوقت أمر المجمع بإعادة يوحنا أسقف الميليتيين مع كل أعوانه إلى الشركة،
وكأنهم كانوا قد أُهينوا ظلماً. واستلم كل واحد منصبه الكهنوتي كما شاءوا. وكتب
الأساقفة المجتمعون في مجمع صور خطابات إلى جميع أساقفة العالم بذلك، محذِّرينهم
من قبول أثناسيوس في شركتهم، أو قبول أية خطابات منه أو إرسال خطابات إليه بصفته
مقترفاً لجرائم سجَّلها عليه المجمع وأثبتوها كما شاءوا.

كما
اعتبروا ذهابه إلى القسطنطينية هروباً من مواجهة الاتهامات وتحدياً لسلطة المجمع
ومحاولة لإثارة الشغب داخل المجمع. كما اعتبروا امتناع أثناسيوس عن حضور مجمع قيصرية
الذي كان الإمبراطور قد دعا الأساقفة إليه سابقاً، تحدياً لأوامر الرؤساء
واحتقارًا للأساقفة الذين ظلوا هناك ينتظرون قدومه بلا جدوى.

كما
سجَّلوا عليه مخالفات داخل مجمع صور، منها عدم ردِّه على كثير من الأسئلة
والاتهامات التي كانت توجَّه إليه، كما بدر منه كثير من الإهانات كان يوجِّهها
شخصياً لبعض الأساقفة الذين كانوا يوجِّهون إليه الاتهامات. وأنه كذلك كان يرفض
قبول أية محاكمة.]([12])

وكل
هذه القرارات اتخذت على عجل بعد سفر أثناسيوس إلى القسطنطينية بيوم واحد، وانفضَّ
المجمع بغاية السرعة واتجهوا جميعاً بتدبير يوسابيوس إلى أورشليم لتدشين كنيسة
القبر المقدَّس.

تدشين كنيسة القبر المقدَّس وقبول أريوس في الشركة:

لمَّا
كمُل بناء الكنيسة الكبرى التي كان الإمبراطور قسطنطين قد أمر بإقامتها في مكان
الجمجمة بأُورشليم والكلام هنا للمؤرِّخ سوزومين([13]) كان ذلك في السنة الثلاثين من حكم قسطنطين سنة 335م.

وظل
الإمبراطور يترقَّب فرصة مواتية ليقوم بتدشين هذا “الهيكل الكبير”، فوجد في اجتماع
الأساقفة في مدينة صور الفرصة المناسبة، وذلك باعتبار أن اجتماعهم معاً هو أنسب
فرصة لتصفية الخلافات والأحقاد والوصول إلى حالة الصفاء اللازم للقيام بتدشين هذه
الكنيسة الكبرى فأرسل إليهم موظفه الخاص ماريانوس المختص بالكتابة
المختزلة يأمرهم بالتوجُّه إلى “أورشليم الجديدة” ليدشِّنوا الكنيسة الكبرى على
وجه السرعة.

وفعلاً
قاموا بتدشين الكنيسة في 13 سبتمبر، ولا تزال الكنيسة اليونانية تعيِّد رسمياً لتدشين
كنيسة القيامة في هذا اليوم.

ولكن
الأساقفة وغالبيتهم العظمى من الأريوسيين وجدوها أيضاً فرصة مناسبة بالأكثر فيما
يختص بمصالحهم الشخصية أن يعيدوا أريوس وزميله أوزيوس إلى شركة الكنيسة. والكلام
هنا أيضاً للمؤرِّخ سوزومين([14]) فأخذتهم الغيرة أن يعقدوا مجمعًا في أُورشليم لهذا الغرض. كل هذا
وأثناسيوس في منفاه طبعاً.

مجمع أُورشليم وقصة قبول أريوس، على أساس خداعه السابق
للإمبراطور قسطنطين:

كانت
قسطنطيا أخت الإمبراطور قد أوصت الإمبراطور خيرًا بأريوس وهي على فراش الموت، وذلك
بتأثير كاهنها الخاص الأريوسي المدعو يوستاثيوس.

وفعلاً
أرسل الإمبراطور خطاباً إلى أريوس وهو في المنفى يستدعيه للحضور للتحقيق في مدى
الظلم الذي أحاق به في مجمع نيقية هكذا كما تصوَّره الإمبراطور
ولمَّا جاء أريوس كتب بخط يده بناءً على طلب الإمبراطور اعترافه، فجاء مشابهاً
لاعتراف نيقية، ولكن في اختزال يتحاشى فيه كل التعبيرات الحاسمة. وكل ذلك كان
بتدبير الأريوسيين في وقت سابق لمجمع صور بعدة سنوات([15]).

فلما
اجتمع أساقفة مجمع صور في أُورشليم، وبعد أن قاموا بتدشين كنيسة القبر المقدَّس،
طرحوا قضية أريوس وزميله أوزيوس الشماس، فقبلهما المجمع وأدخلهما في شركة الكنيسة،
وكتبوا خطاباً عاماً لكافة أساقفة العالم وللإسكندرية بنوع خاص، وقد أورد أثناسيوس
نص هذا الخطاب في دفاعه ضد الأريوسيين([16])،
وهو خطاب مملوء غشاً بحد قول البابا أثناسيوس: حيث يقولون فيه بوقاحة
سافرة: [إذ قد أنهينا على الحسد والحقد من كنيسة الله وطردنا من وسطنا كل المكر
والخداع (يشيرون هنا إلى نفي البابا أثناسيوس وإسقاطه عن كرسيه) الذي تسبَّب في
تمزيق أعضاء الله من وقت لآخر (يشيرون إلى طرد أريوس كأنه تمزيق لأعضاء الله!!)،
وهكذا تسنَّى لنا بعقل مسالم قبول أريوس وزملائه الذين حُرموا مدة طويلة من الكنيسة
في وقت سابق بسبب الحسد والحقد اللذين هما عدوان لكل خير.]([17])

ومن
كلام القديس أثناسيوس بعد ذلك يتضح تماماً أن كل هذا الإجراء الخطير الذي عملوه
بالنسبة لقبول أريوس وأتباعه في شركة الكنيسة حدث أثناء غياب أثناسيوس في منفاه
الأول بمدينة تريف، إذ يجري حديثه هكذا:

[وإن
كل مَنْ يسمع هذه الأمور يتحقَّق من خداعهم وخيانتهم، لأنهم لم يحترسوا أن يغطوا
أعمالهم، فظهروا وكأنهم يعترفون بغير اختيارهم: لأنه إذا كنت أنا العائق الوحيد في
قبول أريوس وأتباعه في الكنيسة، ثم حدث أن قبلوهم هم في أثناء غيابي بينما كنت
أعاني من نتائج مؤامراتهم،
فماذا يمكن أن نستنتج من هذا إلاَّ أن كل ما عملوه
(فيَّ) كان بقصد الوصول إلى هدفهم هذا؟ وأن كل تصرفاتهم ضدِّي مع قصة الكأس
المكسور التي اختلقوها وقتل أرسانيوس كانت كلها لغرض واحد وحيد وهو إدخال هؤلاء
الملحدين الكفرة إلى الكنيسة والحيلولة دون الحكم عليهم كهراطقة؟

وهذا
بعينه هو ما كان الإمبراطور يطلبه مني سابقاً في خطاباته بتهديد، وبالرغم من ذلك
لم يخجلوا أخيرًا أن يكتبوا هكذا ويؤكِّدوا أن هؤلاء الأشخاص أريوس
وزملائه هم أرثوذكس مع أنهم محرومون بواسطة مجمع مسكوني، ولذلك لمَّا
أرادوا أن يقولوا هذا ويعملوا بدون خوف اجتمعوا معاً
“في زاوية” (أثناسيوس يريد أن يقول إن اجتماع أُورشليم في نظره هو اجتماع جبان).
وهناك طرحوا أرضًا، على قدر ما واتتهم قوتهم، مقررات مجمع نيقية العظيم.]([18])

إرسال أريوس إلى الإسكندرية وطرده منها:

توجد
إشارتان واضحتان غاية الوضوح، نعلم منهما أن أريوس انحدر إلى الإسكندرية بعد مجمع
أُورشليم (الذي أعقب مجمع صور) والذي حصل فيه أريوس على حِلٍّ من الأساقفة
الأريوسيين المجتمعين، هذا الحِل الذي به قُبِلَ في الشركة وأُرسل إلى الإسكندرية
بموكب الظافرين وبحراسة مشدَّدة من الجنود ليصول ويجول في مصر منتهزين فرصة غياب
أثناسيوس في منفاه في تريف.

أمَّا الإشارة الأُولى فهي في كتابات أثناسيوس
في الفصل الأول من تاريخ الأريوسية، وفيه يقول أثناسيوس متكلِّماً عن نفسه بصيغة
الغائب حسب عادته هكذا:

[وفي
الحال قبلوا أريوس وأتباعه في الشركة (في مجمع أُورشليم) وضربوا بعرض الحائط كل
الإدانات التي ثبتت عليهم مراراً وتكراراً، ولكنهم كالعادة استندوا في ادعائهم على
السلطة الإمبراطورية، ولم يحتشموا أن يقولوا في خطاباتهم (لأساقفة العالم ومصر):
“وبما أن أثناسيوس الذي يعاني من الحقد قد أُوقف، فعلينا الآن أن نقبل أريوس
وأتباعه” ولكي يشيعوا الرعب في قلوب السامعين أضافوا: “وأن هذا هو أمر
الإمبراطور”، بل ولم يخجلوا من قولهم: “إن أريوس وأتباعه يعترفون بالإيمان
الأرثوذكسي” …

فالرجل
(أريوس) الذي وجدوه شريكاً لهم في كفرهم هذا الذي تلاحقه عشرة آلاف من الاتهامات الشنيعة من جهة الأمور التي اقترفها، وقد
ثبتت عليه بالبراهين الواضحة،
استحسنوه وقبلوه ومدحوه وجعلوه صديقًا
للإمبراطور، وكأن كفره قد صار له واسطة لهذا القبول، وبالادعاءات الخادعة المتعددة
جدًّا استطاع أن يحصل على ثقة الولاة لكي يعمل كما يشاء.

أمَّا
(أثناسيوس) الذي فضح كفرهم، وبدأ يدافع عن حق المسيح بأمانة، فبالرغم من طهارة
مسلكه في كل شيء، وهو لم يقصر أو يأثم بشهادة ضميره ولم يستطع أن يقف أمامه أي
اتهام، هذا لَفَّقوا عليه التهم وحبكوها ضدَّه وأمسكوه حالاً وأرسلوه إلى
المنفى بمجرَّد نطق إمبراطوري!
وكأنه اقترف فعلاً هذه الجرائم التي اشتهوا أن
يضعوها عليه، أو كأنه مثل “نابوت اليزرعيلي” قد أهان الملك!! وفي أثناء ذلك
بحثوا بأقصى سرعة عن (أريوس) الذي حامى عن كفرهم وأرسلوه ليملك على كنيسة غيره
(أثناسيوس). وهناك (في الإسكندرية) حدث ما حدث من المصادرات والإهانات وكل أعمال القسوة
ضد الذين رفضوا قبوله
(كهنة الإسكندرية).

وهذا هو ما يُتعجَّب له جدًّا أن الذي أراده الشعب
(أثناسيوس) وعلموا يقيناً أنه بلا لوم، يطرده الإمبراطور وينفيه بعيداً! أمَّا
الذي لا يريده الشعب ولا يعرفه، هذا يرسله إليهم من الأقطار البعيدة مع عساكر
وخطابات توصية خاصة منه!

وهكذا
وُضع على الشعب هذه الضرورة القاسية إمَّا أن يبغضوا الإنسان الذي أحبوه
(أثناسيوس) وهو معلِّمهم وأبوهم في الصلاح والتقوى؛ ويرحِّبوا (بأريوس) الذي
يبغضونه، بل ويستأمنوا على أولادهم إنساناً لا يعلمون عن حياته وأخلاقه شيئاً،
وإلاَّ فالعقاب يترصَّدهم إن هم خالفوا، فهذا هو أمر الإمبراطور.]([19])

الإشارة الثانية: وقد أوردها سقراط
المؤرِّخ في كتابه الأول هكذا:

[وفي
السنة الثلاثين من حكم قسطنطين (335م) عاد أريوس وأتباعه إلى الإسكندرية فأحدث
اضطراباً في المدينة كلها، لأن شعب الإسكندرية كان في أشد حالات السخط بسبب عودة
هذا الهرطيقي العنيد الذي لا يريد أن ينصلح مع مشايعيه، وبسبب نفي القديس أثناسيوس
أسقفهم.

فلمَّا
أخبروا الإمبراطور بموقف أريوس المتمرِّد أرسل يستدعيه إلى القسطنطينية ليعطي
جواباً عن سبب هذه الفتنة التي أحدثها في الإسكندرية.]

وهكذا
يتضح لنا مقدار اليقظة العنيدة التي كان يتحرَّك بها الأريوسيون في تدبير خططهم،
والتي كان القديس أثناسيوس يتتبعها في منفاه بمنتهى الحساسية والذكاء، فإسقاط
أثناسيوس من كرسيه لم يكن هدفهم النهائي. لذلك بمجرَّد أن اتخذوا قرارهم بذلك في
مجمع صور إلتأموا بغاية السرعة مرَّة أخرى في أُورشليم وعقدوا مجمعهم بقصد واحد
وحيد هو إعادة أريوس إلى الشركة. لأنه لو تمَّ ذلك يكون قد اطمأنوا على أنفسهم
وعلى عقيدتهم. ولكن إعادة أريوس إلى الشركة لا يكفي، فلابد أن يمارس كهنوته في
المدينة التابع لها. لذلك أرسلوه إلى الإسكندرية بأقصى سرعة بتدبير يوسابيوس
النيقوميدي وبرسائل خاصة من الإمبراطور وبحراسة مسلَّحة!!

ولكن
شعب الإسكندرية فوَّت عليهم الفرصة وقلب لهم كل المؤامرات والتدابير رأسًا على
عقب، فلم يجعلوا أريوس يهدأ يومًا واحدًا، وأغلقوا أبواب الكنائس في وجهه، وصارت
الإسكندرية في ثورة حقيقية، مما اضطر الوالي أن يسحبه من المدينة ويرتِّب عودته في
الحال إلى القسطنطينية. وهنا تتجلَّى عظمة هذا الشعب الذي استطاع أن يحمي الإيمان
في غيبة أسقفه. وفي الواقع تعتبر هذه الواقعة الرائعة غاية في الأهمية، تسجِّل
لشعب مصر دوره الخاص في الحفاظ على الإيمان.

ويقص
علينا المؤرِّخ سوزومين هذه القصة بمنتهى الاختصار هكذا:

[بعد
مجمع أُورشليم ذهب أريوس إلى مصر، ولكنه لم يستطع أن يحصل على إذن لكي يقيم الشركة
مع كنيسة الإسكندرية، فعاد إلى القسطنطينية. فاجتمع في القسطنطينية مع كل الذين
تعاطفوا معه وكل زمرة يوساب النيقوميدي بقصد خبيث هو إقامة مجمع في القسطنطينية.
فانبرى لهم ألكسندر الأسقف المسئول عن المدينة وجاهد بكل قواه لكي يبدِّد مشورة
إقامة هذا المجمع رافضاً علناً إقامة أي عهد مع أريوس.]([20])

كما
يقص علينا إبيفانيوس أسقف قبرس أن الأريوسيين نجحوا فعلاً في إقامة هذا المجمع:

[وفي
سنة 336م عقد الأريوسيون مجمعًا في القسطنطينية حكموا فيه بوجوب اعتبار أريوس
أرثوذكسيًا وبعزل الأساقفة الذين يخالفون هذا الحكم.]([21])

عودة أريوس إلى القسطنطينية وموته هناك:

لقد
استدعى الإمبراطور أريوس من الإسكندرية على عجل عندما سمع بالثورة التي قامت في
المدينة بسببه، وهنا يبدو أن الإمبراطور راجع نفسه، فليس أثناسيوس بعد هو الذي
يقاوم أريوس وأتباعه، وليس أثناسيوس الذي يثير الشعب ضد أريوس، فها هوذا الشعب
بمفرده يؤدِّي واجب الأمانة من نحو العقيدة التي عاشها من قبل نيقية وسيعيشها بعد
نيقية، من قبل أثناسيوس ومن بعد أثناسيوس أيضاً. إذن، لم يكن أثناسيوس إلاَّ
ممثِّلاً لإيمان الشعب أي الكنيسة وحافظاً للعهد المقدَّس الذي تسلَّمته الكنيسة
من الرسل والمسيح! …

ولكن
بالرغم من كل ذلك لم يكُف يوسابيوس النيقوميدي عن محاولاته الشريرة لإعادة أريوس
إلى الكنيسة بأية طريقة. فتوسَّط لدى الإمبراطور ليتراءى أمامه أريوس مرَّة أخرى
ليدافع عن نفسه وعقيدته.

وإليك
كلام أثناسيوس نفسه:

[وهكذا
حينما استُدعي أريوس مبتدع الهرطقة وشريك وزميل يوسابيوس النيقوميدي للمثول أمام
الإمبراطور، حسب رغبة يوسابيوس الخاصة، وطُلب منه أن يعلن عن إيمانه كتابة، فكتب
المحتال إيمانه ولكنه أخفى منه العبارات الخاصة بكفره، وادَّعى كالشيطان تمسُّكه
بالآيات التي في الإنجيل ذات الكلمات البسيطة كما هي مكتوبة. ولمَّا استفسر منه
قسطنطين المطوَّب الذكر “وهل لديك أفكار أخرى تتمسَّك بها في عقلك خلاف هذا؟ قل
الحق ليكون شاهداً عليك!! والرب ينتقم منك إذا أقسمت كذباً”. أمَّا هذا الرجل
التعس فأقسم أنه لا يتمسَّك بشيء آخر وأنه قط لم يتكلَّم أو يفتكر بخلاف ما قد
كتبه الآن، ولكن حالما خرج سقط وكأنه يدفع ثمن جريمته: «وإذ سقط على وجهه انشقَّ
من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها.» (أع 18: 1)

أمَّا
الموت بحد ذاته فهو النهاية المحتَّمة لكل بشر، ونحن لا نتشفَّى من ميت، مع أنه
عدو، لأننا كلنا نموت أيضاً وربما بنفس الميتة. لكن نهاية أريوس لم تكن ميتة عادية
بحسب ظروفها، لذلك فهي جديرة بأن تُحكى للعبرة. والقصة كالآتي:

كان
يوسابيوس وأعوانه يهدِّدون بأنهم سيدخلونه عنوة إلى الكنيسة، فقاومهم ألكسندر أسقف
القسطنطينية، أمَّا أريوس فقد اعتمد على القوة والعنف متكلاً على مناصرة يوسابيوس،
وكان اليوم سبتًا، وكان يتوقَّع أن يدخل ليشترك في يوم الأحد، فكانت هناك مشادة
كبيرة بينهم، هؤلاء يهدِّدون وهؤلاء مع ألكسندر يصلُّون! ووقف الرب قاضياً في
الأمر وحكم ضد الأثيم. فلم تغرب الشمس إلاَّ وأحسَّ بحاجة الطبيعة تلحُّ عليه،
فذهب حيث سقط في المرحاض ميتاً، فحُرم من الشركة والحياة معاً.

وعندما
سمع بذلك قسطنطين البار، في الحال أُخذ بالدهش إذ كيف حلَّ عليه العقاب بهذه النقمة
السريعة بسبب القسم الذي قسمه حنثًا وزورًا. وقد صار معلومًا بالبرهان الإلهي لدى
الجميع أن كل تهديدات يوسابيوس هي بلا قيمة، وقد ذهب رجاء أريوس باطلاً، كما أنه
صار ظاهرًا أن جنون أريوس قد انتهى به إلى القطع من الشركة لا بفم المجمع فقط بل
وبواسطة مخلِّصنا الرب نفسه، فالكنيسة حرمته هنا والرب حرمه في السماء …]([22])

دموع ألكسندر وصومه وصلاته تُسمع لدى الله:

وجدير
بالذكر أن أثناسيوس لم يكن موجودًا في القسطنطينية بل كان في تريف آنئذ، وهو إنما
ينقل لنا شهادة رؤيا العيان بحسب قوله هكذا:

[أنا
لم أكن في القسطنطينية لمَّا مات وإنما كان هناك مكاريوس القس وقد سمعت منه تفاصيل
الحادث:


لمَّا خرج أريوس من حضرة الإمبراطور، أراد يوسابيوس وأعوانه أن يدخلوا أريوس في
الكنيسة بالقوة والعنف حسب عادتهم، فوقف أمامهم ألكسندر أسقف القسطنطينية المطوَّب
الذكر وقاومهم قائلاً: إن مبتدع هرطقة لا يمكن دخوله في الشركة، فهدَّده يوسابيوس
وأعوانه قائلين: كما استطعنا أن ندخله في حضرة الإمبراطور رغمًا عن إرادتك هكذا
سيكون غدًا، فبالرغم عن إرادتك سوف يدخل أريوس معنا الشركة في الكنيسة، وكان هذا
اليوم سبتاً. فلمَّا سمع الأسقف ألكسندر هذا تضايقت نفسه إلى أقصى حد، ودخل
الكنيسة ورفع يديه نحو الله معطياً الويل لنفسه، وانطرح في الهيكل على رصيف المذبح
(كان يحيط بالمذبح درجة عريضة)([23])
وصلَّى وهو منبطح على وجهه. وكان مكاريوس (سكرتير أثناسيوس) حاضرًا أيضًا
وصلَّى معه وسمع صلوات ألكسندر
وهو يتوسَّل من جهة أمرين: “إن كان أريوس سيدخل
الشركة باكرًا فاطلق عبدك ولا تُهلك البار مع الأثيم، أمَّا إذا عزمت أن تُبقي على
كنيستك وأنا أعلم أنك ستُبقي عليها فانظر إلى كلمات
يوسابيوس وأتباعه ولا تسلِّم ميراثك إلى الفساد والملامة، وانزع أريوس واقطعه
لئلاَّ إن هو دخل الكنيسة دخلت هرطقته معه، وحينئذ سيحل الكفر محل التقوى”.

ولمَّا
صلَّى هكذا اعتكف الأسقف وهو في ضيق عظيم، وقد حدثت بعد ذلك أمور عجيبة وغير
عادية. فبينما يوسابيوس يهدِّد، كان ألكسندر يصلِّي، أمَّا أريوس وقد وثق جدًّا من
يوسابيوس وزملائه فأخذ يتكلَّم بشراسة؛ ولكنه إذ أحس بحاجة الطبيعة انسحب. وفجأة
وبحسب لغة الكتاب: «سقط على وجهه وانشقَّ من الوسط وانسكبت أحشاؤه كلها». فمات في
الحال وهو ساقط، وحُرم من الشركة والحياة كليهما.]([24])

ويعطينا
المؤرِّخ سقراط وصفًا كاملاً لهذا المشهد المؤثِّر:

[وكان
ألكسندر أسقف القسطنطينية الذي خلف متروفانس رجلاً ذا تقوى صادقة، … هذا لمَّا
واجه هذه الأعمال دخلت نفسه في ضيقة وخصوصًا لمَّا هدَّده يوسابيوس النيقوميدي
بعنف أنه سيسقطه من كرسيه إن لم يقبل أريوس وكل شيعته في شركة الكنيسة.

أمَّا
ألكسندر فلم يرعبه التهديد بخلعه من كرسيه بقدر ما أرعبه الخوف على الخراب الذي
سيحل بمبادئ الإيمان، الأمر الذي كان يسعى إليه هؤلاء الأريوسيون باجتهاد، فاعتبر
نفسه إزاء هذا الموقف أنه معيَّن ليكون حارسًا للعقيدة
المسلَّمة إليه بكل مقررات مجمع نيقية، فبدأ يجتهد بكل قوته ليمنع عن الإيمان أي
تحريف أو إفساد. وعندما حصر نفسه في هذا الهدف اعتزل كل محاجاة ومنطق وجعل الله
ملجأه وكرَّس نفسه للصوم المتواصل ولم يكف قط عن الصلاة. وأغلق على نفسه في
الكنيسة المدعوَّة “إيريني” وصعد على (رصيف) المذبح وانطرح على أرضه أمام المائدة
المقدَّسة وسكب دموعًا حارة بصلوات وبكاء، وبقي على هذا الحال عدة أيام وليالٍ
متوالية …]([25])

وصول خبر موت أريوس إلى أثناسيوس وهو في المنفى:

يحتفظ
لنا كتاب تاريخ البطاركة بجملة تفيد أن ألكسندر أسقف القسطنطينية أرسل في الحال
إلى البابا أثناسيوس في تريف يخبره بموت أريوس هكذا: [نحن نمجِّد الله ونعلمك أيها
الأخ الحبيب أن أريوس مات ميتة شنيعة وانقطعت مقالته وتبدَّدت شيعته.]([26])

أمَّا
المؤرِّخ سقراط فيعطينا تفصيلات أكثر عن موت أريوس إذ يقول:

[كان
الوقت يوم سبت، وكان أريوس يتوقع أن يجتمع بالكنيسة (دخوله الشركة) في اليوم
الثاني، ولكن النقمة الإلهية أخذت حقها تجاه جرائمه، لأنه حالما خرج من قصر
الإمبراطور تحيط به زمرة من شركاء يوسابيوس كحراس، صار يستعرض نفسه بعظمة وسط
المدينة وهو يجتذب أنظار الشعب كله، فلمَّا اقترب من القصر المسمَّى “محكمة
قسطنطين” أخذته رعدة وفزع من الضمير فأصابه إسهال عنيف، فطلب مكاناً يقضي فيه
حاجته، فاقتادوه إلى (مرحاض) خلف “المحكمة”، وفي الحال أفرغ أحشاءه فخرجت أمعاؤه
مع نزيف حاد وأصابه إغماء ومات. ولا يزال موقع هذه المصيبة يُرى إلى هذا اليوم في
القسطنطينية … وبسبب هذا الحادث المرعب امتلأ يوسابيوس النيقوميدي وكل شيعته من
الخوف والرعب، وخرجت الأخبار بسرعة لتملأ المدينة كلها وفي كل العالم.]([27])

وقفة قصيرة:

كنا
نتوقع بعد هذا الذي حدث لأريوس والذي اندهش له الجميع لما فيه من إشارة واضحة إلى
تدخُّل الله المباشر لكشف خطورة أريوس وفساد عقيدته، وبالتالي إلى إظهار حق
أثناسيوس واستقامة عقيدته، كنا نتوقَّع أن يحصل عفو سريع لأثناسيوس. ولكن يظهر أن
الأمر كان عند قسطنطين أو يوسابيوس ليس أمر
إيمان وعقيدة وإله بقدر ما كان مصالح ذاتية وسياسية
وأخلاق! …

احتجاج شعب الإسكندرية:

ولمَّا
سمع شعب الإسكندرية بموت أريوس، اعتبروا ذلك إشارة واضحة للمطالبة بأسقفهم، فرفعوا
صوتهم عالياً لدى الإمبراطور وطالبوا بعودة أثناسيوس، وأرسل القديس أنطونيوس
إلى الإمبراطور ملحًّا في العفو عن أثناسيوس،
ولكن عبثاً ذهبت كل محاولاتهم
لدى البشر (انظر صفحة 81 أو 105)،
لأن موت أريوس لم يكن يعني عند الإمبراطور أو عند يوسابيوس النيقوميدي ما كان
يعنيه عند الله والكنيسة.

موت الإمبراطور قسطنطين، وعودة أثناسيوس إلى الإسكندرية:

الرواية
هنا لسقراط المؤرِّخ:

[مضى
على حادث موت أريوس سنة كاملة كان بعدها قد بلغ قسطنطين الخامسة والستين من عمره،
حيث انتابه المرض فترك القسطنطينية وسافر إلى هيلينوبوليس([28])
ليتطبب بمياهها الطبيعية الساخنة، ولكن ازدادت عليه علته فتركها وسافر إلى
نيقوميدية واستقر في إحدى ضواحيها حيث تقبَّل هناك المعمودية المسيحية. وكتب وصيته
وسلَّمها ليد الكاهن الذي كان قد استدعى أريوس([29])،
وأوصاه أن لا يسلِّمها ليد أحد آخر سوى ابنه قسطنطيوس الذي أعطاه الولاية على
الإمبراطورية الشرقية([30]).

ومات
قسطنطين في قصره المعروف باسم “أشيريون
Achyrion” وحنَّطوا الجسد
(وألبسوه الحلة الملوكية والتاج) واستودعوه تابوتاً من ذهب … وشيَّعوه إلى
القسطنطينية ووضعوه على منصة عالية في ردهة القصر وأقاموا حوله الحراس وأولوه
الكرامة اللائقة به التي كانت له وهو حي، … إلى أن وصل قسطنطيوس من الشرق (وهو
أكثر أبنائه قدرة وموهبة)، فأقاموا له قبراً إمبراطورياً داخل “كنيسة الرسل”
التي كان قد أمر الإمبراطور ببنائها لهذا الغرض قبل موته، وقد عاش قسطنطين خمسة
وستين عاماً أمضى منها واحداً وثلاثين سنة في الحكم ومات في 22 مايو سنة 337م
وكان موافقاً ليوم عيد العنصرة (الخمسين).]([31])

وصية الإمبراطور الأخيرة بالنسبة للقديس أثناسيوس:

ترك
لنا ثيئودوريت المؤرِّخ هذه اللمحة التاريخية المختصرة:

[وأمر
الإمبراطور أن يعود أثناسيوس الكبير إلى الإسكندرية. وأفصح عن تصميمه هذا في حضور
يوسابيوس الذي حاول ما أمكن أن يثني الإمبراطور عن تصميمه هذا.]([32])

وهكذا
وإلى آخر لحظة لم يكف يوسابيوس عن محاولاته الشريرة للتنكيل بالقديس أثناسيوس،
والحقيقة أن هذا الإنسان الشرير استطاع أن يثير أعصاب كل مؤرِّخ اضطلع بتأريخ سيرة
أثناسيوس، حتى أن تيمون وبارونيوس وهما أهدأ مَنْ كتب في التاريخ لم يستطيعا أن
يلقبا يوسابيوس النيقوميدي إلاَّ بلقب “المستشار الشرير الشيطان يوسابيوس”.

محاولات يوسابيوس المستميتة لنشر الأريوسية في غيبة
أثناسيوس:

يعطينا
المؤرِّخ سقراط لمحة تاريخية مبدعة عما كان يجري في الخفاء ضد أثناسيوس في قصر
الإمبراطور الجديد، في وسط حاشيته بين الحريم والخصيان، ثم عند قسطنطين نفسه، ثم
في أنحاء العاصمة والمدن المتاخمة، ثم في الإسكندرية بأكثر اجتهاد. وإليك هذا
الفصل الخطير:

[بعد
موت الإمبراطور قسطنطين قام يوسابيوس النيقوميدي مع زميله ثيئوغنيس أسقف نيقية،
بأعظم محاولة لمحو عقيدة الهوموؤوسيوس (أي وحدة الجوهر في الابن والآب) من الوجود
ونشر الأريوسية عوضاً عنها. وكان أملهم متعلِّقاً بعدم عودة أثناسيوس إلى
الإسكندرية وإلاَّ فالإخفاق سيحالفهم. فلكي
يتمِّموا خططهم، طلبوا مساعدة الكاهن الذي استأمنه
الإمبراطور سابقاً على
عودة أريوس (يوستاثيوس الأريوسي) (وذلك لِمَا كان لهذا الكاهن من
قدرة ودهاء في معالجة الأمور داخل القصور) أمَّا كيف حدث ذلك فسنشرحه
الآن كالآتي:

إن
هذا الكاهن (يوستاثيوس) كان يحمل الوثيقة التي فيها نصَّت إرادة الإمبراطور
المتوفِّي من نحو ابنه قسطنطيوس، فلمَّا اطَّلع عليها وجد فيها ما كان يتمنَّاه
بشدة وهو أن إمبراطورية الشرق قد آلت إليه حسب رغبة والده. ولذلك أخذ يعامل هذا
الكاهن باعتبار خاص، وحمَّله بالعطايا وأمر له بحرية الدخول إلى القصر وإلى حضرته
شخصياً.

وهو
لم يؤخِّر جهداً في استخدام هذا التصريح للتقرُّب من الإمبراطورة التي أصبحت معه
في مودَّة، وكذلك أيضاً صار مع خصيانها، وكان في القصر رئيسٌ للخصيان مكلَّف بغرفة
نوم الإمبراطور، هذا استماله الكاهن إلى العقيدة الأريوسية فسهل من بعده بطبيعة الحال
نشر الأريوسية بين كافة الخصيان، ومن بعدهم انتقل الأمر إلى الإمبراطورة أيضاً
بتأثير الخصيان والكاهن. فصارت الإمبراطورة تتقبَّل كل مذهب أريوس بسرور، ولم يدم
الوقت طويلاً حتى قبل الإمبراطور أيضاً هذا الأمر، وهكذا انتشرت الأريوسية
بالتدريج داخل القصر الإمبراطوري بأكمله في البلاط وبين الضباط والحراس.

واستمر
هذا المد الأريوسي حتى غطَّى المدينة بكل شعبها. وصارت الأريوسية حديث أمناء القصر
وموضوع مباحثات حتى مع النساء، وفي كل بيت في المدينة، وهكذا انتقلت هذه المصيبة
بسرعة مذهلة إلى كل الولايات والمدن كالشرارة، تبدأ في الأول غير ملحوظة، وكأنها
أمر غير ذي بال، ولكنها سرعان ما تثير في السامع روح اقتناع، وبسرعة يدخل المناقشة
ويجادل … وقد انتشرت هذه البلبلة في كل مدن الشرق، أمَّا الغرب من إلليريكون
وبقية الأقاليم الغربية من الإمبراطورية فظلَّت هادئة تماماً، لأنهم تمسَّكوا بعزم
شديد أن لا يغيِّروا شيئاً من مقررات مجمع نيقية.

وبينما
هذا الخطر ينمو ويزداد ويذهب من سيء إلى أسوأ، كان في نظر يوسابيوس النيقوميدي
وأعوانه بمثابة خميرة شعبية تمثِّل لهم حظًّا سعيدًا، لأنهم بهذا اعتقدوا أنهم
قادرون الآن على تعيين أسقف آخر (غير أثناسيوس) على الإسكندرية، من الذين يتعاطفون
معهم ويحملون أفكارهم.

ولكن
عودة أثناسيوس في ذلك الوقت حطَّمت كل ظنونهم، خصوصاً وأنه عاد متشدِّداً بخطاب من
أغسطس قسطنطين الثاني الذي يحمل اسم أبيه، موجَّهاً إلى شعب الإسكندرية من تريف.]([33])

عودة أثناسيوس:

بعد
وفاة الإمبراطور قسطنطين الكبير، اتفق الإخوة الثلاثة قسطنطين الابن وقسطنطيوس
وقسطانس، على تحديد موعد للمقابلة معاً في مدينة فيميناسيم
Viminacium وهي مدينة مشهورة في إقليم موزيا على نهر الدانوب على الطريق
الرئيسي نحو القسطنطينية،)وهي الآن مدينة باساروفيتز
Passarovitez). وكان قسطنطين الابن إمبراطور الغرب قد أخذ موافقة أخيه الأصغر
قسطنطيوس إمبراطور الشرق في استحضار أثناسيوس معه، وبالفعل أخذ أثناسيوس معه في
رحلته إلى مدينة فيميناسيم.

ولمَّا
اجتمع الأباطرة الثلاثة وافقوا جميعًا على عودة أثناسيوس إلى كرسيه بالإسكندرية،
وإليك أيها القارئ بعض التسجيلات بقلم القديس أثناسيوس نفسه، والتي تلقي أضواءً
على اجتماع الأباطرة الثلاثة وعلى عودة أثناسيوس:

[وقد
اتفق الإخوة الثلاثة قسطنطين وقسطنطيوس وقسطانس بعد موت أبيهم أن يعود الجميع
(المنفيون من الأساقفة) إلى أوطانهم وإلى كنائسهم. وبينما هم يكتبون رسائل إلى
بقية الكنائس التابعة لهم، كتبوا أيضاً فيما يختص بأثناسيوس.]([34])

وأيضاً
نقرأ للقديس أثناسيوس فيما يختص بمقابلته لقسطنطيوس أثناء عودته من تريف، وهو
يذكِّر قسطنطيوس بهذه المقابلة في معرض دفاعه ضد يوسابيوس والأريوسيين الذين
اتهموه بأنه كان يشي في حق قسطنطيوس عند أخيه الأكبر قسطنطين وأخيه الأصغر قسطانس
أثناء منفاه:

[وإني
أتوسَّل إليك عالماً أنك شخص ذو ذاكرة قوية مستعيدًا إلى ذاكرتك الحديث الذي دار
بيني وبينك عندما تفضَّلتم ووافقتم على مقابلتي أولاً في مدينة فيميناسيم([35])،
وبعدها في قيصرية كبادوكيا، وللمرَّة الثالثة في أنطاكية
([36])،
فهل تكلَّمت ردياً أمامك بخصوص يوسابيوس وأتباعه الذين اضطهدوني؟ هل تقدَّمت
بأي اتهام لأيٍّ من الذين أساءوا إليَّ؟ فإن كنت لم أتهم أحدًا من الذين يحق لي
فعلاً أن أتكلَّم ضدَّهم، فكيف أسلب حق إمبراطور في حضرة إمبراطور إلاَّ إذا كنت
مختل العقل! …]([37])

ومن
هذا يتبيَّن أن أثناسيوس انحدر إلى الإسكندرية من تريف عابراً القارة الأوروبية
على نهر الدانوب ماراً بالقسطنطينية([38])،
ثم قيصرية الكبادوك، ثم أنطاكية.

الإسكندرية تستقبل البابا أثناسيوس:

وفي
يوم 23 نوفمبر سنة 337م. رست مركب أثناسيوس في ميناء الإسكندرية بعد غيبة سنتين
وأربعة أشهر وأحد عشر يوماً، واستقبلته المدينة بل ومصر كلها، لا كإنسان آتٍ من
المنفى بل كرسول أو كملاك انحدر من السماء بعد صراع مرير مع الشيطان.

وإليك
أيها القارئ وصفٌ لأساقفة مصر عن استقبال البابا أثناسيوس في الإسكندرية يوم قدومه
من تريف:

[فرح
وتهليل في كل مكان، جماهير الشعب تجري معًا لتكون في الموضع الذي منه تراه بوضوح،
الكنائس امتلأت بأصوات الفرح والتسبيح، والشكر للرب في كل مكان وعلى كل لسان،
الخدَّام وكل الإكليروس يتقاطرون لرؤياه ومشاعر البهجة والسعادة ملكت على قلوبهم،
واعتبروا أن هذا اليوم هو أسعد أيام حياتهم، أمَّا نحن الأساقفة فلا داعي أن نشرح
ما لا يمكن شرحه من جهة السرور الذي عمَّ في وسطنا، لأننا كما قلنا كنَّا نحسب
أنفسنا شركاء في آلامه.]([39])

الأريوسيون يثيرون الشغب ويخطِّطون لمؤامرة جديدة:

لم
تخلُ فرحة الشعب والإكليروس بعودة أثناسيوس من إثارات مفتعلة من الأريوسيين الذين
كانوا قد استعدوا هم أيضاً لملاقاته بالعداوة السافرة وتدبير المؤامرات.
فالاتصالات بيوسابيوس النيقوميدي كانت قد توطَّدت بصورة أقوى في غيبة أثناسيوس،
وانتظمت الاتصالات بين الرئاسة الأريوسية في البلاط الإمبراطوري والأتباع في
الإسكندرية، ودبَّروا الخطط معا في كيفية مقاتلة أثناسيوس عند رجوعه ليستخلصوا
منها دعوى جديدة ضدَّه. ومما زاد الموقف حرجًا أن الوالي في ذلك الوقت المدعو
ثيئوذوروس، كان على وفاق كبير مع البابا أثناسيوس مما جعل بطشه بالأريوسيين
المتمرِّدين المثيرين للشغب فرصة لإثارة أحقاد يوسابيوس النيقوميدي وإضافة مزيد من
الاتهامات بسبب الحوادث التي حدثت والتي بلغ بعضها إلى إراقة الدماء، مما اضطرَّ
الإمبراطور بإلحاح يوسابيوس أن يرسل بسرعة إلى الإسكندرية ويستدعي ثيئوذوروس ويرسل
عوضاً عنه الوالي فيلارجيوس الكبادوكي الذي حكم المدينة سابقاً (من سنة 335م
سنة 337م). وكان هذا عدوًّا متشدِّدًا ضد أثناسيوس، وهو الذي أجرى تحقيقات بعثة
مريوط الموفدة من قِبَل مجمع صور([40])،
ولكنه كان محبوباً من الأريوسيين واليهود والوثنيين إلى درجة جنونية، لأنه كان
بليغاً في خطبه شعبياً إلى أقصى حد([41])،
وقد استُقبل في الإسكندرية عند عودته في أغسطس سنة 338م بمظاهرات شعبية وفرح من الأريوسيين فاق حدود استقبال الأباطرة([42])،
وذلك نكاية في أثناسيوس، إذ قد حسبوا أن
رجوع فيلارجيوس (الذي كان أيضاً
بناءً على طلب من الأريوسيين في الإسكندرية) هو بمثابة نصرة لهم!

وإليك
تقرير واضح من المؤرِّخ سقراط:

[ولمَّا
وصل أثناسيوس إلى الإسكندرية استُقبل بترحاب فائق من شعب المدينة. إلاَّ أن الكثير
من الشعب وقد اعتنقوا الأريوسية اتحدوا معًا ودخلوا ضدَّ أثناسيوس في تحدٍّ
ومقاومات سافرة. وهكذا استطاعوا بذلك أن يثيروا في المدينة نوعًا من العصيان
والثورة، وبذلك هيَّأوا ليوسابيوس (حسب الخطة الموضوعة) تقديم الاتهام ضد أثناسيوس
لدى الإمبراطور أنه أخذ كنيسة الإسكندرية لحسابه الخاص بالرغم من الحكم الصادر
ضدَّه من أساقفة مجمع عام (مجمع صور)، وقد نجحوا في إثارة حفيظة الإمبراطور إلى
أقصى حد وإلى الدرجة التي فيها أمر بنفيه من الإسكندرية.]([43])

أمَّا
المؤرِّخ سوزومين فيعطينا صورة أوضح لبنود الاتهام التي قدَّمها يوسابيوس ضدَّ
القديس أثناسيوس:

[أمَّا
الذين كانوا قد التحقوا بالأريوسية، فهؤلاء دُفعوا إلى أعمال الشغب لينزعوا السلام
من المدينة، وبدأوا يثيرون نوعًا من العصيان واستأنفوا المؤامرات ضد أثناسيوس،
وبذلك توفَّر لأتباع يوسابيوس أن يقدِّموا الاتهامات لدى الإمبراطور موضِّحين (من
واقع الحال) أن أثناسيوس شخص ثوري، يتحدَّى قانون النفي مقاومًا لقوانين الكنيسة (مجمع
صور) لأنه لم يأخذ موافقة الأساقفة (لكي يستعيد رئاسته الكهنوتية).]([44])

كذلك
يوضِّح لنا المؤرِّخ ثيئودوريت عن قرب صورة المؤامرة التي اضطلع بها الأريوسيون
لدى الإمبراطور:

[ولمَّا
عاد أثناسيوس قوبل بالترحاب الفائق من الأغنياء والفقراء من مواطني المدن الكبرى
ومن الأقاليم النائية. ولكن الذين اتبعوا جنون أريوس كانوا هم الوحيدون الذين
شعروا بالمرارة بسبب عودة أثناسيوس. أمَّا يوسابيوس النيقوميدي وثيئوغنيس أسقف
نيقية والذين على شاكلتهم فقد استعادوا نشاطهم السابق في تدبير المؤامرات وجاهدوا
لكي يكسبوا تحيُّز الإمبراطور الصغير (قسطنطيوس) ضد أثناسيوس.]([45])

[وكانت
عقلية قسطنطيوس كالقصبة التي تحرِّكها الريح كيفما شاءت، وشيئاً فشيئاً شجَّعوه
لكي يعلن الحرب على مبادئ الإنجيل، وتراءى وكأنه يبكي على حال الكنائس التي صارت
وكأنها في عاصفة، وأقنعوه أن ذلك حدث بسبب الأشخاص (مجمع نيقية وأثناسيوس) الذين
أدخلوا على قانون الاعتراف الإصطلاح “أوموؤسيوس” الذي لم يرد في الإنجيل “واحد مع
الآب في الجوهر”. وأن هذا هو السبب الأساسي في كل المنازعات القائمة بين الإكليروس
والعلمانيين. وهكذا ابتدأ الإمبراطور يتحامل على أثناسيوس ويطعن فيه مع كل الذين
يوافقونه في آرائه، وابتدأ يخطِّط لإهلاكهم، وهكذا نجح يوسابيوس في استخدام
الإمبراطور وضمّه إلى صفه مع ثيئوغنيس وثيئوذوروس أسقف هيراكليا.

لأن
هؤلاء الأساقفة رابطوا بجوار الإمبراطور، وأخذوا يتوافدون عليه باستمرار، مؤكِّدين
له أن عودة أثناسيوس من المنفى قد تسبَّبت في شرور كثيرة وأثارت عاصفة لم تهز مصر
وحدها بل امتدَّت إلى فلسطين وفينيقيا (لبنان) والبلاد المجاورة.]([46])

وهكذا
تتضح لنا خطوات المؤامرة بصورتها الخفية والظاهرة وبنودها في الاتهام من واقع نجاح
التخطيط، كالآتي:

1
استمالة أكبر عدد من الشعب في الإسكندرية للأريوسية أثناء غياب
أثناسيوس في المنفى، ودُفع في ذلك ما دُفع، مع وعود وأماني، مع اعتبار أن كل مَنْ
يدخل الأريوسية يصير بالتالي من حزب الإمبراطور! …

2
إحكام الخطط بإقامة المظاهرات والشغب والتخريب والقتل عند عودة
أثناسيوس بالاتفاق حتى مع اليهود والوثنيين، حتى يبدو أثناسيوس وكأنه سبب أساسي في
الثورات والقلاقل وسفك الدماء، وأنه ليس على مستوى الزعامة القادرة على إعطاء
الكنيسة حالة سلام. وبالتالي تكون مبادئه الإيمانية غير صحيحة كونها السبب في هذه
النزاعات التي لا تنتهي وبالأخص اصطلاح “الهوموؤوسيوس” الذي لم يرد في الأسفار
المقدَّسة!!

3
وهذا البند هو الأساس أن رجوع أثناسيوس من المنفى
ليتقلَّد رئاسة الكنيسة مخالف لقرارات مجمع مسكوني عام (صور)، لأن مجمع صور أسقطه
عن كرسيه! فلا يجوز رجوعه إلى رئاسته إلاَّ بمجمع مسكوني آخر. ولا يكفي مجرَّد أمر
إمبراطوري بذلك.

4 أنه استولى لنفسه على القمح الممنوح سابقًا
بواسطة الإمبراطور قسطنطين الكبير لفقراء مصر وليبيا. وقد صدق قسطنطيوس هذا
الاتهام وأرسل له خطاباً معنفًا ومتهمًا سلوكه هذا.

والآن
نعود للقديس البابا أثناسيوس لنرى ماذا كان شعوره وموقفه من هذه الاتهامات ومن
موقف هذا الإمبراطور الذي نصب نفسه عدوًا لأثناسيوس منذ اللحظة الأُولى في حكمه.

مقتطفات
من الخطاب الفصحي الحادي عشر سنة 339م وفيه نحس بمقدار الهموم التي
بدأت سريعًا تتكاثف على قلب أثناسيوس:

[والآن
هلم نهلِّل بأصوات التسبيح مع القديسين ولا ينبغي أن يخفق أحد من ذلك الواجب في
مثل هذه الأمور، حاسبين كل التجارب والضيقات التي يسوقها علينا حزب يوسابيوس في
هذه الأيام بالذات كأنها لا شيء. (لقد ركَّز يوسابيوس مؤامراته واضطهاداته في موسم
هذا الفصح بصورة شديدة حتى يفوِّت على أثناسيوس فرصة إقامة أول عيد بعد رجوعه).
لأنه حتى في هذا الوقت (وقت الصوم وأسبوع الآلام والعيد) يريدون الإساءة إلينا
وباتهاماتهم يحبكون الخطة لقتلي!! (وأنا) إنسان علته الوحيدة هي تقواه ومعينه
الوحيد هو الله!

ولكن
كخدام أمناء لله عالمين أنه هو خلاصنا في وقت الضيق، لأن الرب وعد سابقًا قائلاً:
«طوبى لكم إذا طردوكم وعيَّروكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين،
افرحوا وتهلَّلوا لأن أجركم عظيم في السموات.» (مت 11: 5و12)

وأيضاً
إنها كلمة الفادي نفسه أن الاضطهادات لا تقع على كل إنسان في هذا العالم إلاَّ
الذين عندهم مخافة مقدَّسة لله فقط … وبناءً على ذلك فإنه بقدر ما يحدق بنا
الأعداء، بقدر ما ينبغي أن نكون في ملء حريتنا، وبقدر ما يهينوننا بقدر ما ينبغي
أن نتحد معاً، وبقدر ما يجهدون أنفسهم لتعكير صفو عبادتنا وتقوانا بقدر ما ينبغي
أن نعظ ونعلِّم بذلك قائلين: «كل هذه جاء علينا وما لم نسيناك» (مز 17: 44) …
فعلينا أن نحفظ العيد يا إخوة معيِّدين بسبب هذا لا بالحزن والبكاء، كذلك لا ينبغي
أن نلتحم مع الهراطقة في مثل هذه التجارب الوقتية التي إنما أتت علينا بسبب تقوانا
…]([47])

القديس أنطونيوس ينزل من الجبل إلى الإسكندرية، لمعونة
أثناسيوس:

وإذ
كان الأريوسيون قد ادعوا أن كثيرين من الرهبان بل والقديس أنطونيوس نفسه يؤمن بكل
ما يقولونه من جهة المسيح، أرسل بعض الأساقفة وأراخنة الشعب يلحون عليه في الحضور،
فاستجاب لدعوتهم ونزل من الجبل ودخل الإسكندرية وهي في قمة اضطرابها! … وظهر
فجأة في وسط الشعب وفي الكنيسة بمظهره المهيب وشهرته في القداسة وإتيان المعجزات،
مما جذب إليه جموع الوثنيين والمسيحيين على السواء يتلهَّفون لسماعه ورؤيته
ويتزاحمون للمس ثوبه. أمَّا أنطونيوس فكان همه الوحيد أن يفضح الأريوسية كأردأ
هرطقة خرجت ضد الكنيسة، وقد أتم مهمته على مدى يومين، وغادر الإسكندرية في 3 مسرى
الموافق 27 يوليو سنة 338م. وخرج من المدينة بصحبة القديس أثناسيوس ووسط جموع
المشيعين([48]).

وإليك
تقرير أثناسيوس نفسه كشاهد عيان ومسجّل لأقوال أنطونيوس:

[ومرَّة
أيضاً ادعى الأريوسيون بتأكيد أن آراء أنطونيوس مثل آرائهم، فلم يرتاح إلى ذلك وغضب
عليهم، فلمَّا دعاه الأساقفة وكافة الإخوة نزل من الجبل، ولمَّا دخل الإسكندرية
فضح الأريوسيين قائلاً إن هرطقتهم هي آخر الكل والسابقة لمجيء المسيح الكاذب.
وعلَّم الشعب أن ابن الله ليس هو مخلوقاً ولم يجيء إلى الوجود من عدم، ولكنه كان
الكلمة والحكمة الأزلي من جوهر الآب، لذلك هو كُفر أن يُقال: “‘إنه كان يوجد وقت
لم يكن فيه موجودًا” لأن الكلمة كان دائماً مساوياً للآب في الوجود. ولهذا لا يكن
لكم شركة مع الأريوسيين الكفرة، لأنه ليست شركة بين النور والظلمة، وأنتم
مسيحيُّون صالحون، وأمَّا هم فلأنهم يقولون إن ابن الآب كلمة الله هو مخلوق لا
يفترقون شيئاً عن الوثنيين لأنهم يعبدون شيئاً مخلوقاً وليس الله الخالق.

وصدِّقوني
إن الخليقة نفسها في سخط عليهم لأنهم يحسبون الخالق سيد الكل الذي به كان كل شيء،
مع الأشياء التي خُلقت.

وتهلَّل
كل الشعب لمَّا سمعوا أن الهرطقة التي هي ضد المسيح قد حرمها مثل هذا الإنسان. وكل
شعب المدينة كان يتدافع ليرى أنطونيوس، حتى اليونانيون (الوثنيون) مع مَنْ
يسمُّونهم كهنتهم حضروا في كنيسة طالبين هكذا: “نحن نسأل أن نرى رجل الله” لأنهم
كانوا يدعونه هكذا. وحدث في ذلك المكان أن الرب طهَّر كثيرين من الذين عليهم
شياطين وشفى مجانين. وكثير من اليونانيين (الوثنيين) سألوا حتى يُسمح لهم أن
يلمسوا الشيخ فقط لأنهم كانوا يؤمنون أنهم ينتفعون.

ونؤكِّد
لكم أن كثيرين صاروا مسيحيين في هذه الأيام القليلة (هنا يبدو أن أنطونيوس مكث في
الإسكندرية أكثر من يومين؟) بما يساوي ما يراه الإنسان يحدث في سنة كاملة. وعندما
ظن البعض أن الازدحام الكثير قد أزعجه وحاولوا أن يفضُّوا الجموع عنه قال لهم بدون
انزعاج إن هذا الجمع ليس هو بأكثر من الشياطين الذين صارعهم في الجبل.

ولمَّا
كان يغادر المدينة (هنا أثناسيوس يذكر نفسه أنه كان حاضرًا وشاهدًا وسامعًا
ومسجِّلاً) كنَّا معه نهديه الطريق، وبينما نحن نقترب من الباب (باب المدينة
المعروف “بباب الشرق”) وإذا بامرأة تصرخ خلفنا: “انتظر يا رجل الله فابنتي تتعذَّب
مصروعة بشيطان، انتظر أتوسَّل إليك لئلاَّ أنا أيضاً تصاب نفسي من الجري”. فلمَّا
سمعها الشيخ، وسألناه في ذلك، وقف بسرور. فلمَّا اقتربت المرأة انطرحت الطفلة
معافاة، لأن الروح النجس كان قد خرج منها. فباركت الأُم الله ونحن كلنا قدَّمنا
الشكر، وأنطونيوس نفسه خرج أيضاً، وانطلق إلى الجبل وكأنه ذاهب إلى بيته الخاص!]([49])

 

الاضطهاد الأول على يد الإمبراطور قسطنطيوس

بتدبير الأريوسيين

 

اليوسابيون يدبِّرون الخطط مع الإمبراطور قسطنطيوس في
الخفاء:

خلال
عام 338م كان يوسابيوس النيقوميدي منهمكاً يجاهد لنقل نفسه من أسقفية نيقوميديا
إلى أسقفية القسطنطينية([50])،
لأن العاصمة كانت قد انتقلت رسمياً من نيقوميديا إلى القسطنطينية، وفي سبيل ذلك
أطاح بأسقفها بولس بعد أن نفاه وعذَّبه في المنفى حتى مات مختنقاً بحسب تحقيق
أثناسيوس نفسه([51]).
وبعد أن خلا له الجو نهائياً في القسطنطينية بدأ يُحكِم الخطة ضد أثناسيوس.

ولم
تأتِ نهاية عام 338م إلاَّ ويوسابيوس النيقوميدي كان قد نجح في إقناع الإمبراطور
بعقد مجمع للأساقفة في أنطاكية بعيداً عن القسطنطينية، حتى يعطي المجمع صبغة كنسية
بعيداً عن شبهة السلطة الحكومية، وفيه استصدر قراراً بعزل البابا أثناسيوس([52]).
وذلك بعد أن أقنع الإمبراطور الجديد أن عودة الأساقفة من منفاهم سنة 337م، وبالأخص
أثناسيوس، قد أضرَّ بقضية السلام في العالم وفي الكنيسة معاً، هذا فضلاً عن كونه
عملاً غير قانوني من الوجهة الكنسية. لأنه كما أن النفي يحتاج إلى مجمع عام، كذلك
العودة لاستئناف الرئاسة الكهنوتية يحتاج كذلك إلى مجمع عام. ولم يكن الإمبراطور
يحتاج إلى اقتناع في ذلك الأمر، لأنه كان يضمر الحقد والكراهية لأثناسيوس بسبب
ذيوع شهرته وبأس سلطانه الشعبي، وبالأكثر بسبب الوشايات الكثيرة التي كانت تتجدَّد
كل يوم ضدَّه.

ولكن
يُلاحَظ أن يوسابيوس النيقوميدي كان في طلبه هذا يناقض نفسه بنفسه، لأنه هو شخصياً
كان قد نُفي بأمر الإمبراطور قسطنطين، ثم عاد من منفاه وباشر سلطانه الكنسي بدون
أمر عودة من مجمع!

كنَّا
قد سبق وألمحنا إلى دور الوالي ثيئوذوروس في ضبط جماح الأريوسيين المشاغبين عند
عودة أثناسيوس من المنفى في 23 نوفمبر سنة 337م. الأمر الذي أثار حفيظة الأريوسيين
والإمبراطور والإمبراطورة معاً، مما جعل الإمبراطور يسرع في استدعاء ثيئوذوروس
ويرسل عوضاً عنه فيلارجيوس الوالي المستبد الذي كان يناصب أثناسيوس العداء، وهو
الذي تولَّى كما سبق وقلنا حماية لجنة تقصِّي الحقائق
التي عيَّنها مجمع صور لبحث قضية إسخيراس القس الأريوسي المزيَّف في ناحية مريوط
وقد استخدم فيلارجيوس كل سلطانه الحكومي لإثبات القضية ضد أثناسيوس باستخدام شهود
زور واستعمال العنف. وبطبيعة الحال لم يأتِ فيلارجيوس في هذه المرَّة إلى
الإسكندرية دون توصيات خاصة سواء من الإمبراطور أو يوسابيوس النيقوميدي لعمل كل ما
يمكن عمله للإطاحة بأثناسيوس بعد جمع كل ما يمكن من التهم الكفيلة بزعزعة مركزه.

وبحضور
فيلارجيوس في أغسطس سنة 338م (وهي أول السنة الحكومية في التقويم القبطي) بدأت
القلاقل تزداد، وقدَّم فيلارجيوس التهمة المناسبة التي طالما تمنَّاها يوسابيوس،
وهي أن أثناسيوس اختلس لنفسه كميات القمح الممنوحة من الإمبراطور للأرامل والفقراء
في مصر وليبيا وباعها لحسابه وقبض الربح لنفسه.

أمَّا
بخصوص خطورة هذه التهمة فيعلمها أثناسيوس جيداً، وقد قال عنها هكذا:

[ولم
يكتفِ غريغوريوس بالدماء التي سكبها، بل أقنع زميله في الافتراس والتوحُّش،
فيلارجيوس الوالي، أن يرفع دعوى اتهام ضدِّي وكأنها بأسماء الشعب أمام الإمبراطور
قسطنطيوس، تحمل اتهامات شنيعة لا يمكن أن ينتظر الإنسان منها النفي فقط بل عشرة
آلاف من الميتات.]([53])

وفي
الحال أرسل الإمبراطور خطاباً (هذا الخطاب فُقد ولم نعثر له على أثر) معنِّفاً
سلوكه، كما أرسل يوسابيوس رسالة إلى يوليوس
أسقف روما يعلنه فيه بعزل أثناسيوس معدِّداً الاتهامات المنسوبة
إليه.

ولكن
إزاء هذه التحديات، ولكي يرد أثناسيوس على يوليوس أسقف روما الذي كتب يستفسر عن
صحة التهم المنسوبة لأثناسيوس، جمع أثناسيوس مجمعه المحلي في الإسكندرية في أواخر
سنة 338م وأوائل سنة 339م من جميع أساقفة مصر والصعيد وليبيا والخمس مدن الغربية.
وكان عدتهم مائة أسقف بتحديد أثناسيوس نفسه هكذا:

[لأن
أمر قضيتي لا يحتاج إلى مزيد من محاكمات، لأن حكماً صدر في هذا الأمر لا مرَّة
واحدة ولا مرتين بل مرَّات كثيرة، فأولاً وقبل الكل فقد تمَّ في بلدي في مجمع يضم
مائة أسقف …]([54])

وإليك
مقتطفٌ من خطاب الأساقفة المصريين مُرسَلاً لأساقفة العالم كله، إثر تهديد
قسطنطيوس الإمبراطور، كتبوه للدفاع عن أسقفهم أثناسيوس، وفيه يفنِّدون جميع التهم
التي وجِّهت ضد أثناسيوس، ومن ضمنها يذكرون الاتهام بخصوص اختلاس أثناسيوس قمح
الأرامل:

[وإنه
من الضروري أن تعلموا حقيقة التقرير الذي قُدِّم ضد أثناسيوس شريكنا في الخدمة
الذي إذ تفحصونه جيِّداً تدركون مدى خبث هؤلاء الأشرار وتتبيَّنون نيتهم التي
بيَّتوها للحكم بقتله:

حدث أن وهب الإمبراطور قسطنطين الكبير كمية من القمح لإعالة
عدد معيَّن من الأرامل، جزء منهم في ليبيا وجزء في مصر، وهؤلاء جميعاً قد استلموا
هذه الحصة بأكملها حتى هذه اللحظة، ولم يأخذ أثناسيوس شيئاً من ذلك قط إلاَّ تعبه
وجهاده (في توزيعها) ومساعدتهن.

والآن
وبينما أصحاب هذه العطية لم يشتكوا بل يؤكِّدون جميعاً أنهم قد حصلوا على
نصبيهنَّ، إذ نجد الشكوى تقول إن أثناسيوس قد باع كل كمية القمح واستحوز على
المكسب لنفسه. وقد كتب الإمبراطور بخصوص هذا الأمر غاضباً ومتهماً إيَّاه بالتسبب
في هذه الشكاوي التي قُدِّمت في حقِّهِ.

ومَنْ
هؤلاء أصحاب الشكاوي؟ أليسوا هم أنفسهم المتهمون باضطهاده الذين لم يحتشموا أن
يضيفوا على ذلك اتهاماً آخر؟

ومَنْ
هم المسئولون الحقيقيون عن الخطابات المُرسَلة من الإمبراطور؟ أليسوا هم
الأريوسيون أنفسهم الذين أخذهم الحماس والغيرة ضد أثناسيوس ولم يحتشموا قط أن
يتكلَّموا ويكتبوا كل شيء ممكن ضدَّه؟

وليس
من الصعب أن يدرك الإنسان نيَّة هؤلاء في إثارة الشكوك هكذا من نحو الآخرين في هذا
الموضوع، نعم فالعلة في تقديمهم لهذه الشكوى تظهر لنا غاية في الوضوح إذ أنهم
يتحرَّقون شوقاً وإنما بصورة مغطَّاة لكي يستولوا هم
على القمح الممنوح للكنيسة ويعطوه للأريوسيين. وهكذا يتضح من واقع الحال أساس
الشكوك التي يفكِّر فيها هؤلاء الذين لا يتورَّعون عن اختلاق الاتهامات الموجِبة
لقتل أثناسيوس وذلك بإثارة أحقاد الإمبراطور لدفعه للتحامل عليه، ولا عن تدبير
الاتهامات التي تمكِّنهم من انتزاع قوت الفقراء المسلَّم لإكليروس الكنيسة، وهذا
كله في الواقع يهدف أن يربح الهراطقة الموقف كله.]([55])

لقد
تشجَّع يوسابيوس بسلطة الإمبراطور واستطاع أن يرسل أعواناً له خصوصيين إلى
الإسكندرية، ولكن ليسوا من مواطنيها، ليكونوا حلقة اتصال مع القسطنطينية بصفة
مستمرة. وقد اختارهم من أعوانه الشمامسة ومن أهل بلده، فصاروا مركزاً خطيراً
لتدبير الخطط والمؤامرات والثورات. وقد تقوَّى حزب الأريوسيين على أيديهم جدًّا من
أساقفة وكهنة ورهبان، حتى أتى وقت استطاعوا فيه بالفعل أن يستولوا على كافة
السلطات في المدينة سواء المدنية منها أو الكنسية، وهي اللحظة التي فيها رأى
أثناسيوس ضرورة مغادرة الإسكندرية قاصداً إلى روما، حيث صديقه أسقفها وحيث
الإمبراطور قسطنطين الثاني وقسطانس أخوه، وهما من المعجبين بإيمانه ونشاطه، ليعرض
عليهم جميعاً الخطورة المحدقة بالكنيسة وبالإيمان وإليك مقتطفات
توضِّح هذه المراحل:

[وأكثر
من هذا فقد أرسلوا شمامسة لجماعة الأريوسيين المختلين الذين اشتركوا معهم في
اجتماعاتهم علناً، وبدأوا يكتبون خطابات إليهم
(أي إلى القسطنطينية) ويتلقُّون
الردود منهم، وهكذا أحدثوا بالفعل انشقاقاً في الكنيسة، وكانوا يواظبون معهم على
الشركة (الصلاة والتناول)، وهؤلاء أرسلوا خطابات إلى كل مكان يمتدحون هرطقتهم
ويذمُّون الكنيسة.
وكل هذا يمكنكم أن تلاحظوه من صيغة الخطابات التي أرسلوها
إلى أسقف روما، بل وربما يكونون قد أرسلوا لكم أنتم أيضاً بذلك.

وهكذا
تدركون أيها الأحباء أن هذه الأمور تستوجب النقمة والغضب، فهي في الحقيقة خطيرة
وغريبة عن منهج المسيح …

ونحن
ندعوكم أن تقتصُّوا من أصحاب هذا الظلم مذكِّرين إياكم بقول الرسول: «اعزلوا
الخبيث من بينكم». وبالحقيقة إن كل طرقهم خبيثة ولا تستحق شركتكم، فلا تلتفتوا
إليهم مهما كتبوا إليكم ضد الأسقف أثناسيوس، لأن كل ما يخرج من تحت أيديهم هو كذب حتى
ولو أمضوا خطاباتهم بأسماء أساقفة مصريين.
]([56])

أمَّا النية المبيَّتة لقتل أثناسيوس والتي أحكموا حلقاتها
فيمكن أن يستشفها القارئ من هذه الفقرات:

[وكيف
أن الذين كانوا يتباكون على كسر الكأس (الإفخارستيا) يطلبون الآن بنشاط كيف يقتلون
الأسقف الذي يقيم به الأسرار؟ لأنهم لو كان في استطاعتهم الآن أن يقتلوه لقتلوه.

أو
كيف أن الذين كانوا يتباكون على كرسي الأسقف المغطَّى بالحرير لأنه انطرح على
الأرض، يطلبون الآن بنشاط أن يحطِّموا الأسقف الذي كان يجلس عليه؟ أليس ذلك لغرض
واحد وهو أن يظل الكرسي بلا أسقف وأن يبقى الشعب محروماً من العقيدة الإلهية؟]([57])

[لقد
جاهدوا ليجعلوا الإمبراطور يتحامل عليه، وكم مرَّة هدَّدوه بالمجامع، وأخيراً
وبعدما اجتمعوا في صور، وإلى هذا اليوم([58])
(سنة 338م) لم يكفُّوا عن الكتابة ضدّه.]([59])

[أيها
الإخوة الأحباء (الأساقفة في كل أنحاء العالم) كنَّا نود أن نقدِّم لكم دفاعاً عن
أخينا أثناسيوس بخصوص المؤامرات التي يحيكها يوسابيوس وأعوانه ضد أثناسيوس، ونشتكي
إليكم من جهة العذابات التي جازها على أيدي هؤلاء الناس. كنَّا نود أن نشرح لكم كل
اتهاماتهم الباطلة سواء التي كانت منذ البداية أو التي حدثت عند عودته إلى
الإسكندرية
(من منفاه بتريف). ولكن الظروف لم تكن تسمح آنئذ كما تعلمون. وأخيراً
وبعد عودة أثناسيوس كنَّا نظن أن الأريوسيين يكفُّون، وقد غطَّاهم الخجل بسبب
افتضاح ظلمهم علناً، وإلى ذلك كنا متحكمين في أنفسنا وظللنا صامتين.

ولكن
وبعد هذه العذابات المريعة التي عاناها، ونفيه في بلاد الغال واغترابه بعيداً
جدًّا في هذه البلاد، وبعد أن ضيَّق عليه الأعداء الخناق لقتله حتى أنه استطاع أن
يفلت من أيديهم وشكاياتهم بصعوبة (ذهابه من صور إلى القسطنطينية) … هذه الأحزان
التي لو حدثت من أقسى الأعداء لاكتفوا بها وارعووا إلاَّ أنهم لم
يكفُّوا ولم يحسُّوا بالخجل، وها هم إلى الآن يخطِّطون ضد الكنيسة وضد أثناسيوس
بلا أي حياء. فبمجرَّد حصوله على العفو بدأوا بلا أي خوف يدبِّرون خططاً جديدة
أكثر شناعة! …

إزاء
ذلك لم نستطع السكوت أبداً، …

انظروا كيف لم يهدأوا قط عن الهمس في أُذن الإمبراطور
بالوشايات الجديدة والإيعاز بكتابة الخطابات (من مصر) التي تحوي الاتهامات الموجبة
للموت!!
كل
ذلك للإنهاء على أثناسيوس وإهلاكه، وذلك لأنه عدو لكفرهم. وها هم قد كتبوا أخيراً
إلى الإمبراطور ضدَّه متهمين إيَّاه بالمجزرة التي يدَّعون أنها حدثت (في
الإسكندرية في يوم استقباله) وهي لم تحدث قط، وأخيراً يطالبون بدمه جزاء قتل
ارتكبه وهو بريء كلية.
]([60])

تحركات الأريوسيين:

ولكن
وبالرغم من كل هذه الدفوع والمحاماة عن أثناسيوس بكل وسائل المنطق والقانون، فإن
الأريوسيين ويوسابيوس بالذات، لم يشغلوا أنفسهم بالمناظرات أو بالمحاجاة والإقناع
المنطقي، لأنهم كانوا محصورين في هدف واحد
معيَّن هو القضاء على أثناسيوس بأية طريقة مشروعة أو غير مشروعة، وبالتالي كانوا
محصورين في تدبير خطط، أيّ خطط تتناسب مع الهدف الذي يجاهدون
نحوه!!

أول خطوة في المؤامرة، تعيين بستوس بدلاً من أثناسيوس أسقفاً
على الإسكندرية:

أمَّا
بستوس هذا، فيذكره أثناسيوس أنه قد تعيَّن على الورق فقط بقرار من الإمبراطور
وبإيعاز من يوسابيوس، وذلك في شتاء سنة 338م، قبل أن يستقروا على تعيين مناوئ آخر
أقوى وهو غريغوريوس الأريوسي الذي وصل بعد ذلك إلى الإسكندرية واغتصب الكرسي
الرسولي بالفعل، وغريغوريوس هذا جاء إلى الإسكندرية وباشر سلطاته الحكومية على
الكنيسة بالقوة في موسم الفصح لسنة 339م. ويتبيَّن من هذا أن تعيين بستوس حدث سنة
338م، إلاَّ أنهم عدلوا عن إرساله إلى الإسكندرية بعد تعيينه بسبب احتجاج أثناسيوس
السريع، الذي بمجرَّد أن علم بالقرار أرسل في الحال خطابات الاحتجاج لدى جميع
أساقفة العالم، وإلى يوليوس أسقف روما على وجه الخصوص، وهؤلاء أسرعوا بالاستجابة
وحرموا بستوس الأريوسي وقطعوه من الشركة قبل وصوله إلى الإسكندرية. وهذا يتضح
جدًّا من كلام أثناسيوس نفسه الذي يبدأ هكذا:

[وغريغوريوس
هذا أريوسي، وقد أرسله لحساب الجماعة الأريوسية (بالإسكندرية)، لأن أحداً قط لم
يطلبه إلاَّ هؤلاء الأريوسيون وحدهم،

وعليه،
وكونه “أجيراً وغريباً”، استخدم السلطان الحكومي متسبباً في هذه المصائب
المرعبة التي تنم عن قسوة تجاه الشعب والكنيسة وكأنها ليست كنيسة.

أمَّا لماذا أرسلوا غريغوريوس، فلأن بستوس الذي عيَّنه
يوسابيوس وأتباعه على
الأريوسيين، هذا قد تمَّ حرمه وقطعه من الشركة بالعدل جزاء
كفره بواسطتكم يا أساقفة الكنيسة الجامعة، وهذا تعلمونه جميعكم مما كتبت إليكم
بخصوصه. وها هم الآن وبنفس الطريقة قد أرسلوا غريغوريوس إليهم (أي إلى
أريوسيي الإسكندرية فقط، وهنا أيضاً يرفض أثناسيوس بإباء أرثوذكسي أن يقول إن
غريغوريوس تعيَّن على كرسي الإسكندرية عامة).]([61])

ومعروف
أن بستوس هذا لم يدخل الكنيسة قط، وذلك نعلمه من احتجاج الأساقفة المصريين في خطابهم
لأساقفة العالم:

[ونحن
نشكركم من أجل تقواكم أيها الأعزاء المحبوبون لأنكم حكمتم بالحرمان دائماً على
الأريوسيين في خطاباتكم، ولم تعطوهم الفرصة إطلاقاً أن يدخلوا الكنيسة …

أمَّا الآن فهم يثيرون الرجال الأريوسيين المختلين ليقاوموا الكنيسة علناً، فبالرغم
من أن كل الكنيسة الجامعة قد حرمتهم (سابقاً) إذ بهم يعيِّنون أسقفاً عليهم
(بستوس) ليشوشروا على الكنيسة ويزعجوها حتى يكسبوا لأنفسهم أعواناً لكفرهم في كل
مكان.]([62])

ولكن
المدهش حقا أن يتعجَّل يوسابيوس ويكوِّن لجنة من مكاريوس القس الأريوسي واثنين من
الشمامسة الأريوسيين مارتيريوس وحزقيوس، ويرسلهم إلى يوليوس أسقف روما وينبئه بعزل
أثناسيوس وبتعيين بستوس على كرسي الإسكندرية بدلاً من أثناسيوس، وذلك قبل أن يصل
بستوس نفسه إلى الإسكندرية، وهذا نعلمه من خطاب يوليوس أسقف روما هكذا:

[وقبل
أن يصل إليَّ كهنة أثناسيوس، كتبوا (يوسابيوس وجماعته) إليَّ ملحِّين بالسرعة في
إرسال خطابات (تهنئة) لرجل يُدعى بستوس على الإسكندرية، مع أنه في نفس الوقت (كما
أعلم) كان أثناسيوس الأسقف هناك. فلمَّا وصل كهنة الأسقف أثناسيوس، أبلغوني أن هذا
الرجل بستوس أريوسي وأنه قد تمَّ فيما سبق قطعه من الشركة بواسطة ألكسندر الأسقف
ومجمع نيقية أيضاً، وأنه أجريت له رسامة على يد سكوندوس وهذا أيضاً بدوره كان
المجمع الكبير في نيقية قد حرمه كأريوسي، وهذه الحقائق لم يستطع مرتيريوس وأتباعه
(رسل يوسابيوس الذين أرسلهم إلى أسقف روما لينبئه بعزل أثناسيوس ويحضه على إرسال
خطابات تهنئة لبستوس) أن
يناقضوها، ولم يستطيعوا أن ينكروا أن بستوس هذا قد رسمه
سكوندوس.

فانظروا
الآن وقرِّروا بعد هذا كله مَنْ يكون المستحق للملامة بالعدل؟ هل أنا؟ الذي لم
يستطيعوا أن يحملوني على الإذعان لطلباتهم بأن أكتب لبستوس الأريوسي، أم هؤلاء الذين
نصحوني أن أُسيء إلى المجمع الكبير وأمتهنه
بأن أكتب لهؤلاء الكفرة وكأنهم رجال
دين؟]([63])

وهكذا
استطاع أثناسيوس بسرعة حركته وذكائه أن يحبط مساعي يوسابيوس في روما ويكشف لدى
يوليوس أسقفها خبث الأريوسيين ومؤامراتهم بغاية الوضوح وبصورة ملموسة، حتى أن
يوليوس نفسه يقرِّر أن بعثة يوسابيوس أصابها الخذلان والفشل إزاء وصول رسل
أثناسيوس، فيقول يوليوس في خطابه:

[والأكثر
من ذلك أن القس مكاريوس (رئيس بعثة يوسابيوس) الذي كان قد أرسله إلينا يوسابيوس مع
مرتيريوس والباقين، عندما سمع باعتراض كهنة أثناسيوس (الذين كشفوا فيه كل شيء)
غادر في الليل فجأة مع أنه كان مريضاً ومع أننا كنا نتوقع حضوره مع مرتيريوس
وحزقيوس في الصباح مما جعلنا نعتقد أن رحيله كان بسبب
افتضاح موضوع بستوس، لأنه من المستحيل أن تجيز الكنيسة الجامعة رسامة يقوم بها
سكوندوس الأريوسي، باعتبار أن هذا يكون في الواقع امتهاناً للمجمع (نيقية)
وللأساقفة الذين عقدوه، وتكون بمثابة رفض صريح للقرارات التي صاغوها في حضرة الله
بكل اجتهاد وعناية، وكأنها بلا قيمة.]([64])

وهنا
يلزمنا أن ننبِّه ذهن القارئ أن الأمور بدأت تجري في ميدانين معاً وفي نفس الوقت
بسبب دهاء وخبث يوسابيوس.

أما الميدان الأول فهو في روما حيث تزعَّم
يوليوس أسقفها، مدعَّماً بموافقة الإمبراطورين قسطانس وقسطنطين الثاني، تزعَّم
حركة الدفاع عن أثناسيوس باقتناع شديد وغيرة شديدة، إذ دعا الطرفين أثناسيوس
ويوسابيوس وأتباعهما إلى مجمع مسكوني ترك لأثناسيوس حرية اختيار مكانه
فاختار روما بل وإن بقية أعضاء بعثة يوسابيوس إلى روما (بعد هروب
مكاريوس رئيسها) اشتركوا في فكرة عقد هذا المجمع وحبَّذوها. وهذا لم يكن من
اقتراحهم الخاص وإنما يوسابيوس وجماعته كانوا قد سبقوا وأرسلوا خطاباً اقترحوا على
يوليوس بعقد مجمع يكون هو القاضي فيه إن كان هذا يرضيه. وإليك كلمات أثناسيوس في
هذا الموضوع:

[ويوسابيوس
وأتباعه كتبوا إلى يوليوس ظانين أنهم يخيفونني بهذا وطلبوا منه أن
يدعو إلى مجمع يكون هو الحَكَم فيه إن كان هذا يرضيه.]([65])

فبدأ
يوليوس بتعيين ميعاد الانعقاد وجعله في ديسمبر سنة 339م. ثم بادر بالتحضير له،
وأرسل بالفعل إلى يوسابيوس يدعوه مع كل الأساقفة بواسطة كاهنين من طرفه هما
هيلبيذيوس وفيلوكسينوس الرومانيين.

أمَّا
الميدان الثاني: فكان مسرحه في الإسكندرية، ولكن خططه كانت تُصنع في
أنطاكية والقسطنطينية ويتزعمه يوسابيوس الذي لا يهدأ، إذ لمَّا علم بنيات يوليوس
أسقف روما وتحقَّق من مكاريوس القس الأريوسي حال وصوله (هارباً من روما) بفشل مهمة
البعثة التي أرسلها إلى روما لتثبيت بستوس على الإسكندرية، وعلم بانحياز يوليوس
الصريح إلى موقف أثناسيوس، بدأ يخطِّط لمؤامرة جديدة اختار أن يكون عنصرها الأساسي
المفاجأة والإرهاب. فدعا هو الآخر إلى مجمع في أنطاكية بمؤازرة قسطنطيوس، وذلك في
الشتاء في سنة 339م.

هذا
المجمع خلاف مجمع أنطاكية الثاني المسمَّى بمجمع التدشين الذي التأم في أنطاكية
سنة 340 341م لتدشين الكنيسة المذهَّبة، والذي هدموا فيه من ناحية
أخرى كل قرارات مجمع نيقية التي تخص الأومؤوسيوس وصاغوا فيه قانوناً آخر للإيمان،
وكرروا حرم أثناسيوس وثبَّتوا تعيين غريغوريوس على الإسكندرية بدلاً من أثناسيوس.

أمَّا في المجمع الأول فقد اتُخذت قرارات أريوسية محدَّدة
بعزل أثناسيوس عن كرسيه وإقامة غريغوريوس
الكبادوكي أسقفاً على
كرسي الإسكندرية عوضاً عن أثناسيوس، وأُرسل غريغوريوس بسرعة وفي سرية تامة إلى الإسكندرية، مدعَّماً بقوة عسكرية
قوامها 500 فارس وبتوصيات من الإمبراطور.

وقد
أسرع يوسابيوس في اتخاذ هذه القرارات قبل وصول رسولي يوليوس وهما الكاهنان
هلبيذيوس وفيلوكسينوس لدعوة الأساقفة اليوسابيين لحضور المجمع الذي دعا إليه
يوليوس أسقف روما، والذي تحدَّد ميعاده في ديسمبر سنة 339م.

فلمَّا
وصل رسولا يوليوس إلى أنطاكية وهما هلبيذيوس وفيلوكسينوس الرومانيان، احتجزهما
يوسابيوس عنده حتى إلى ما بعد زمان عقد مجمع يوليوس، فبقيا في أنطاكية حتى يناير
سنة 340م. وغادرا أنطاكية ومعهما خطاب من يوسابيوس، كله مرواغة، اتهم فيه يوليوس
بالتحيُّز ولامه على تصرفاته وقبوله أثناسيوس في الشركة. ولكن يوليوس ردَّ عليه
بخطاب مفحم فاضحاً فيه كل تصرفات يوسابيوس وهاجم الأريوسيين بعنف ووضوح مع حكمة
ورزانة، وفنَّد كل ادعاءات يوسابيوس واتهاماته وملاماته الكاذبة واضعاً عليه كل
اللوم. وسوف نقدِّم للقارئ مقتطفات من هذا الخطاب الهام في المكان المناسب.

والآن
يمكننا أن نسير بالقارئ خطوة خطوة لنكشف دقائق ما حدث في كلا الميدانين في أنطاكية
وفي روما. ولنبدأ بالإسكندرية أولاً.

أولاً: ما حدث في الإسكندرية: وحوادث هذه المرحلة تمَّت
في موسم الصوم الكبير وأسبوع الآلام وعيد الفصح سنة 339م:

وإليك
كلمات البابا أثناسيوس:

[ولمَّا رأى يوسابيوس وأتباعه اضمحلال هرطقتهم كتبوا إلى
روما كما كتبوا إلى أباطرة
الغرب قسطنطين وقسطانس متهمين أثناسيوس، ولكن
لمَّا فنَّد مبعوثو أثناسيوس هذه الافتراءات وكشفوا حقيقتها، صاروا في خجل أمام
الأباطرة وأمام يوليوس أسقف روما الذي كتب يدعو إلى مجمع يلزم أن ينعقد في المكان
الذي نختاره نحن (أثناسيوس يتكلَّم بصيغة الجمع)، حتى يستطيعوا أن يعرضوا اتهاماتهم
التي صنعوها ولكي يستطيعوا أيضاً أن يدافعوا عن أنفسهم بحرية فيما يختص بالأمور
التي هم أيضاً متهمون فيها! على أن الكهنة الذين أرسلوهم (كهنة يوسابيوس) لمَّا
رأوا أنفسهم قد افتضحوا ترجوا هم أيضاً أن يُقام هذا المجمع.

ولكن
هؤلاء الأشخاص (اليوسابيين) الذين يُشك دائماً في سلوكهم، حينما رأوا أنهم لن
يفوزوا بشيء أفضل من إقامة هذه المحاولة الكنسية، اتجهوا بجملتهم إلى قسطنطيوس
وحده متباكين ومستغيثين به كحامي حمى هرطقتهم، فرأوا أن يكتبوا خطابات، ويرسلوا
فيلارجيوس للمرة الثانية ليكون والياً على مصر لأنه قادر أن يقوم بعمليات الاضطهاد
كما ينبغي وكما أثبت هو ذلك سابقاً بجدارة، وبالأكثر لأنه هو نفسه زنديق ومارق عن
الدين، كما فكَّروا أيضاً أن يرسلوا غريغوريوس ليكون أسقفاً على الإسكندرية، لأن
هذا أيضاً يستطيع أن ينصر هرطقتهم.

وبناءً
عليه، أرسل قسطنطيوس في الحال رسائله تحمل بداية اضطهاد جديد ضد الجميع، وذلك على
يد فيلارجيوس الوالي يلازمه أحد خصيان الإمبراطور المدعو أراساكيوس، وبعدها أرسل
غريغوريوس مدعَّماً بقوة عسكرية.]([66])

يوسابيوس يستخدم عنصر المفاجأة والإرهاب في مؤامرته الجديدة:

لقد
تعلَّم يوسابيوس من فشله في تخطيط مؤامرة بستوس السابقة أن لا يستخدم بعد ذلك
سياسة التمهيد للضرب، أو استخدام إشاعة الأخبار مسبقاً، أو مساندة الخطة بوسائل
الإعلام والتوعية وإرسال الرسل والخطابات، كما فعل في إرساله لبعثته إلى يوليوس
أسقف روما وإلى أباطرة الغرب، بل استنَّ أسلوباً جديداً في المؤامرة وهو السرية
المطلقة والمباغتة والإرهاب، حتى وإذا لزم الأمر إلى سفك الدماء، في الصوم الكبير
وفي أسبوع الآلام بالذات وأيضاً في يوم عيد الفصح!!

وإليك
كلمات أثناسيوس نفسه:

[فبينما
نحن مواظبون على اجتماعاتنا في سلام كالمعتاد، وبينما الشعب في ابتهاج بسبب
اجتماعاتنا هذه يتقدَّمون بواسطة الأحاديث الإلهية، وبينما زملاؤنا في الخدمة في
كل نواحي مصر وطيبة وليبيا في وئام ومحبة وسلام كلٌّ مع الآخر ومعنا، إذ فجأة يعلن
والي مصر منشوراً يحمل صورة مرسوم بإعلان أن واحداً يسمَّى غريغوريوس من كبادوكيا
في طريقه إلينا من البلاط الإمبراطوري لكي يحل محلي.

وبمجرَّد
إعلان هذا المنشور على الشعب صار الكل في ارتباك، لأن هذا الإجراء كان غريباً كلية
ولأول مرَّة يُسمع به. وبناءً عليه أخذ الشعب يتجمَّع في الكنائس بصورة مستمرة
لأنهم كانوا واثقين أنه لا هم أنفسهم ولا أي أسقف أو كاهن ولا أي واحد على وجه
العموم اشتكى ضدِّي، إلاَّ الأريوسيون فقط كانوا يُحسبون في صفِّه، كما أدركوا أنه
(غريغوريوس) أريوسي وأن يوسابيوس هو الذي أرسله ليكون على الأريوسيين.]([67])

ويعطينا
ذلك المؤرِّخ المجهول الذي كتب تاريخ أثناسيوس بالتفصيل بعد نياحته بقليل، في زمان
باباوية ثاوفيلس ال 23، تفصيلات قليلة إنما دقيقة عن كيفية الشروع في قتل أثناسيوس
ودخول غريغوريوس الإسكندرية هكذا:

[وفي
الثاني والعشرين من برمهات الموافق 18 مارس سنة 339م، وفي يوم الأحد مساءً أخذ
يبحث عنه المطاردون ويتعقَّبونه بالليل، وفي صباح اليوم التالي هرب أثناسيوس من
كنيسة ثيئوناس بعد أن عمَّد كثيرين. وبعد أربعة أيام من هذا الحادث أي في 22 مارس،
دخل غريغوريوس الكبادوكي مدينة الإسكندرية بوصفه الأسقف.]([68])

[وبدخوله
الإسكندرية (22 مارس سنة 339م)، بدأت الاعتداءات على الشعب وانتهاك الحرمات، فكان
حدثاً جلب على المدينة شروراً جسيمة، وحاول الشعب أن يعتصم في الكنائس في اجتماعات
دائمة لكي يصدَّ كفر الأريوسيين ويمنعهم من الاختلاط بالمؤمنين، وفيلارجيوس الذي
صار والياً على مصر له تاريخ سابق في مباشرة الاضطهاد على الكنيسة وعلى العذارى،
وهو أيضاً كافر وزنديق، وهو من نفس المدينة التي منها جريجوري (غريغوريوس)
الكبادوكي([69])،
فهم أهل مواطنة واحدة. وغريغوريوس هذا هو أيضاً لا أخلاق له مملوء حقداً على
الكنيسة، وقد استطاع أن يجمع في صفِّه جماعة الوثنيين وجماعة اليهود وخصوصاً
المتشرِّدين منهم، وذلك بواسطة وعود كثيرة حققها لهم بالفعل فيما بعد،
هؤلاء
أثار حفيظتهم (ضد المسيحيين) وأرسلهم جماعات بسيوف وعصي ليقتحموا الكنائس وليفتكوا
بالشعب.]([70])

[وقد
جمع جماعة كبيرة من الرعاع وتجَّار المواشي وكثيراً من الشبان المتشردين من
الإسكندرانيين وسلَّحهم بالسيوف والعصي، واجتمعوا معاً وهجموا على كنيسة كيرينيوس
فذبحوا بعضاً وداسوا بعضاً، وضربوا بعضاً وألقوهم في السجن، ونفوا آخرين، وجرُّوا
النساء من شعورهن وألقوهن في السجن … كل ذلك بدون أي سبب إنما لإجبار الشعب على
الانضمام للأريوسيين وليخضعوا لغريغوريوس الذي أرسله الإمبراطور.]([71])

[الكنيسة
والمعمودية المقدَّسة أشعلوا فيهما النار وارتفعت أصوات الشعب بالصراخ والعويل في
كل المدينة …

عرُّوا
العذارى وضربوهن بالسياط، وداسوا الرهبان، وبعضهم مات بالسيف وبالعصي، وبعضهم جُرح
… ونجَّسوا المائدة المقدَّسة … وجدَّفوا على المسيح وأحرقوا الكتب المقدَّسة
… ودخل اليهود إلى المعمودية وخلعوا ملابسهم وصنعوا قباحات يخجل الإنسان أن
يذكرها … كل ذلك على مرأى ومسمع من الأساقفة “الأريوسيين”.]([72])

[ولمَّا
حازت هذه الأعمال رضى غريغوريوس وأشبعت غريزة الحقد والنقمة فيه، أراد أن يجازي
هؤلاء اليهود الوثنيين على ما أبدوه من شرور نحونا، فأعطاهم التصريح أن ينهبوا
الكنيسة (كنيسة كيرينيوس)، وبمجرَّد أن أعطاهم هذا التصريح بدأت أعمال النهب
والسلب، كل ما وقع في أيديهم، فذخائر الكنيسة من الزيت والشمع والخمر نهبوها،
وخلعوا أبواب الهيكل وقضبانه الحديدية … ونزعوا الشمعدانات من الحائط … وهجموا
على الكهنة والعلمانيين (الذين يخدمون في الكنيسة) ومزَّقوا لحمهم … وكل هذه
الأمور حدثت في الصوم الكبير([73])
وعيد القيامة على الأبواب.

وفي
يوم الجمعة الكبيرة (الموافق 13 أبريل سنة 339م) ذهب غريغوريوس هذا مع الوالي
فيلارجيوس ودخل الكنائس (كمن يفتقدها) فاعتبره الشعب كمن يقتحم كنائسهم عنوة،
وواجهوه باحتقار شديد وبغضة، فما كان منه إلاَّ أن أوعز إلى الوالي أن يستخدم
القوة، فجلد منهم في ساعة واحدة 34 بين عذراء وسيدة ورجال من علية القوم، وألقاهم
في السجن. وبينهم كانت عذراء تحمل كتاب التسبحة أثناء ما كانوا يجلدونها علناً،
فأمسكوا بالكتاب أيضاً ومزَّقوه قطعاً وألقوها في السجن.]([74])

[وعندما
عملوا كل هذا، لم يكفُّوا أيضاً بل فكَّروا كيف يعملون نفس الشيء في الكنيسة
الأخرى (المسمَّاة ثيئوناس)([75])
التي كنت دائماً أقضي فيها هذه الأيام، لأنهم كانوا يتحرَّقون شوقاً كيف يمتدون
بجنونهم إلى هذه الكنيسة أيضاً حتى أقع في أيديهم ويقتلونني، وهذا ما كان سينتهي
إليه أمري حتماً لولا أن نعمة المسيح ساعدتني، حتى ولو بنجاتي أستطيع فقط أن أقصَّ
هذه الأمور التي اقترفوها.

لأنني
لمَّا رأيت جنونهم ضدِّي بهذه الصورة غير المعقولة، ولمَّا كنت حريصاً للغاية أن
لا يُساء للكنيسة أو إلى عذاراها متجنباً أن لا تراق دماء جديدة ولا ينزعج الشعب،
سحبت نفسي من وسطهم متذكراً كلمة المخلِّص: «إذا طردوكم من مدينة فاهربوا إلى
أخرى». لأني رأيت من سلوكهم الشرير تجاه الكنيسة الأُولى أنهم لن يؤخِّروا جهداً
في الضرر بالكنيسة الأخرى. وفي هذه الكنيسة أيضاً لم يوقِّروا حتى يوم الرب الذي
للعيد المقدَّس (وقع في تلك السنة في يوم 20 برمودة سنة 339م)، لأنهم قبضوا على
مَنْ في الكنيسة وسجنوهم في اليوم الذي نعيِّد فيه لذكرى المناداة للمأسوين
بالإطلاق من قيود الموت، الذي أكمله الرب بقيامته من الأموات، هذا بينما غريغوريوس
وأتباعه وكأنهم يحاربون ضد مخلِّصنا معتمدين في قوتهم على الوالي، وقلبوا يوم
الفكاك والحرية إلى بكاء وعويل لخدام المسيح.

وما
كان أعظم سرور الوثنيين لهذا العمل لأنهم يبغضون هذا اليوم (عيد القيامة)، ولكن
غريغوريوس إنما كان ينفذ أوامر يوسابيوس وأتباعه. وبأعمال العنف هذه استولى
الوالي على الكنائس وأعطاها لغريغوريوس وللأريوسيين مختلِّي العقل.
]([76])

وهكذا
استخدم يوسابيوس عنصر السرية والمفاجأة والإرهاب ونجح!! ولكن إذ يلحظ ذلك أثناسيوس
الذكي يرد في نفسه على أسلوبهم هذا بثقته الكاملة في
الشعب، إذ هو صاحب النصيب الأعظم في هذه المعركة كلها.

[وبهذه
الطريقة أرسلوا غريغوريوس إلى الإسكندرية وهم في حرص شديد لئلاَّ يصيبهم الخجل
مرَّة أخرى (كما في مؤامرة إرسال بستوس) إذا نحن أسرعنا بالكتابة ضدَّهم، لذلك
استخدموا هذه المرَّة العنف والقوة ضدِّي بصورة غير عادية، حتى إذا ما تيسَّر لهم
الاستيلاء على الكنائس بسرعة يتخلَّصون من ريبة الشعب فيهم كونهم أريوسيين.

ولكنهم
وفي ذلك أيضاً هم مخطئون! لأن ليس واحد من شعب الكنيسة انضم إليهم إلاَّ الهراطقة
والمحرومون من الشركة بسبب إدانتهم بتهم مختلقة والذين تظاهروا بالانضمام تحت
إرغام وتهديد الوالي.

هذه
هي مأساة يوسابيوس وأتباعه التي طالما خطَّطوا لها منذ زمن بعيد، لقد صمَّموها
ونجحوا في تنفيذها على أساس الاتهامات الكاذبة التي قدَّموها للإمبراطور ضدِّي،
ويا ليتهم اكتفوا بهذا وهدأوا، ولكنهم وبعد هذا كله يطلبون نفسي!!]([77])

أثناسيوس يعتكف ويكتب خطابه العام:

واضح
من تتابع الحوادث كما يصفها القديس أثناسيوس أن غريغوريوس مع فيلارجيوس الوالي
بدأوا انتهاكاتهم للكنائس في أسبوع الآلام بصورة مركَّزة، وبدأوها بكنيسة “كيرينيوس”
التي أحرقوا معموديتها ونهبوا ذخائرها ونجَّسوا هيكلها ومذابحها بواسطة اليهود
والوثنيين، وكان ذلك في يوم الجمعة الكبيرة، ثم اتجهوا لكنيسة “ثيئوناس” التي كانت
مقراً مناسباً للبابا أثناسيوس خصوصاً في أيام الصوم واحتفالات الأعياد، وبدأوا
بالقبض على الشعب في يوم العيد. ولكن أثناسيوس نجا من هجومهم، لأنه كان قد أحسَّ
بالخطة المرسومة لقتله التي بدأوا بتنفيذها بالفعل منذ قبل دخول غريغوريوس بأربعة
أيام، ففي يوم 19 مارس غادر أثناسيوس كنيسة ثيئوناس على أثر الأخبار السرية التي
وردت إليه أن مطارديه سيهجمون على مقر سكناه ليلاً للقبض عليه بناءً على تعليمات الإمبراطور
ويوسابيوس للوالي فيلارجيوس، وذلك قبل وصول غريغوريوس الكبادوكي الأسقف الدخيل حتى
يتهيَّأ له الجو للاستيلاء على الكرسي الرسولي.

وقد
أعادوا الكرة مرة أخرى بعد عيد القيامة على كنيسة ثيئوناس نفسها لعلمهم أنه يقيم
فيها بصفة اعتيادية في هذا الموسم. ولكنه كان قد غادرها أيضاً قبل هجومهم عليها.

ثم
اعتكف أثناسيوس بضعة أيام بعد العيد (20 برمودة سنة 339م) وكتب رسالته العامة
لجميع أساقفة العالم يصف فيها كل هذه الحوادث كما ذكرناها في مواضعها بالترتيب،
وهو خطاب جامع يطلق فيه صيحة استغاثة يهز ضمير العالم المسيحي لما يتهدَّد الإيمان
والكنائس في العالم وبالأخص كنيسة الإسكندرية، التي اعتبرها أثناسيوس بالنسبة له
بمثابة زوجته الطاهرة العفيفة التي اقتناها بالأسقفية من عند الرب. معتبراً
غريغوريوس الدخيل كمن اعتدى على امرأة ليست له وفضحها، مستعيراً في
ذلك التشبيه بالواقعة الحقيقية التي جاءت في سفر القضاة بالعهد
القديم.

والقارئ
سيتعجَّب من حبك التشبيه ومن صدق الشعور ومن حرارة الغيرة التي كان قد ارتبط بها
البابا أثناسيوس في علاقته السرية والإلهية بكنيسة الإسكندرية.

ثم
يطلق أثناسيوس صيحته الإنجيلية في جميع أساقفة العالم باعتبارهم رؤساء أسباط
الكنيسة، كمسئولين مباشرة عمَّا حدث لأخ لهم في امرأته العذراء العفيفة، كنيسة
الإسكندرية، التي لا غش فيها، الأُم المجاهدة حافظة الإيمان في المسكونة كلها! …

وإليك
أيها القارئ مقتطفات من هذا الخطاب الرائع:

[إلى شركائه في الخدمة في كل مكان، السادة المحبوبين، يرسل
أثناسيوس تمنيات العافية في الرب.

إن
آلامنا المريعة التي نعانيها قد صارت فوق الطاقة، ومن العسير أن نصفها لكم بما
يناسبها من التعبير، ولكن لكي تدركوا بصورة واضحة طبيعة هذه الحوادث المريعة التي
حدثت، رأيت أنه من الخير أن أذكركم بما يماثلها بما جاء في تاريخ الأسفار
المقدَّسة:

لقد
حدث لرجل لاوي أن أُسيء إليه في شخص زوجته، فلمَّا رأى الرجل عظم المصيبة التي
تنجس بها لأن امرأته كانت عبرانية (لا غش فيها) ومن سبط يهوذا
أفزعته الفضيحة التي اقترفت ضدَّه، فما كان منه إلاَّ أن قام بتقسيم جسد امرأته
كما يقص الكتاب المقدَّس في سفر القضاة مرسلاً جزءًا لكل سبط في
إسرائيل لكي يُعلَم لدى الجميع أن إساءة مثل هذه لا يمكن أن تخصه وحده فقط، ولكنها
تعم الجميع على السواء. فإن تعاطف الشعب معه فيما حلَّ به من آلام يقوموا ويثأروا
له، وإن همو أهملوا النداء ولم يصنعوا، يتحمَّلون اللعنة كونهم قد صاروا بالضرورة
شركاء ومتهمين في ذات الجريمة!!

أمَّا
الرسل الذين أرسلهم إلى كل مكان فقد أذاعوا الخبر كما حدث، وكل الذين رأوا وسمعوا
الحادث قالوا إنه لم يحدث شيء قط مثل هذا منذ اليوم الذي خرج فيه إسرائيل من أرض
مصر. وهكذا أخذت الغيرة كل سبط في إسرائيل وقاموا جميعاً معاً وكأنهم قد اعتُدي
عليهم وصاروا شركاء في الآلام، وجاءوا إلى المعتدين، وأقاموا حرباً أهلكوا فيها
المتسببين في هذه الخطية وجعلوهم لعنة على كل فم.

على
أن الشعب لمَّا اجتمع معاً لم يقيموا وزناً لرابطة الدم (لأن المعتدي والمعتدّى
عليه كانوا جميعاً من بني إسرائيل) ولكنهم وضعوا في اعتبارهم نوع الجريمة التي
اقترفت.

وأنتم
أيها الإخوة تعلمون التاريخ ودقائق الموضوع والظروف التي أوردها الكتاب، لذلك أرى
أن لا أقص عليكم أكثر من هذا لأني إنما أكتب إلى أشخاص على علم بكل هذه الأمور،
ولكني مهتم بالأكثر أن أقدِّم لكم أيها الأتقياء ما يختص بأحوالنا التي هي أسوأ
مما استشهدت به. وكل غايتي من تذكيركم بما حدث لنا في التاريخ قديماً هو أن
تقارنوا ما حدث قديماً بما هو حادث لنا الآن، ولكي تدركوا أن ما حدث أخيراً لنا
يفوق ذاك الذي حدث قديماً في القسوة، فإن أدركتم هذا ينبغي بالتالي أن تمتلئوا من
الغيظ بل من السخط، بما يفوق ما امتلأ به ذاك الشعب قديماً ضد هؤلاء المعتدين! …
لأن ما حدث لنا يفوق بالعقل كل ما حدث، ولأن مصيبة هذا اللاوي على أي حال صغيرة
إذا قورنت بشناعة ما اقترف ضد الكنيسة الآن، لأنه لم يحدث مثل ذلك قط ولا سُمع به
في كل العالم. لأن في أمر اللاوي لم يُصَب بسوء أكثر من امرأة واحدة ولم يتألَّم
بالظلم أكثر من لاوي واحد، أمَّا الآن فها كنيسة بأكملها يُساء إليها، وكهنوتها
يُهان، وما هو أشنع من الكل تُضطهد التقوى وتُطارَد الاستقامة من الذين لا تقوى
لهم ولا استقامة.

في
أمر اللاوي تهيَّجت الأسباط وامتلأت سخطاً من منظر قطعة من جثة وُضعت أمامهم
لإمرأة انتُهكت، ولكن الآن أعضاء الكنيسة كلها ممزَّقة بعضها عن بعض، وها نحن
مرسلوها إليكم (في أشخاص الكهنة والأساقفة المُرسَلين) هنا وهناك، لكم ولغيركم،
حاملين إليكم صورة الإهانات والإساءات التي حلَّت بهم. عساكم تتحرَّكون بالغيرة،
أرجوكم، معتبرين أن هذه الإساءات إنما حدثت لكم كما لنا، وليس أقل، عسى كل واحد
منكم يقدِّم معونة كمن يشعر في نفسه بنفس الألم، لئلاَّ بعد قليل تتلوَّث الكنيسة
في إيمانها، وقوانينها تُنتهك! لأن الكل في خطر إذا لم يتدارك الله الأمر بواسطتكم
وبأيديكم يصلح ما فسد! …


أتوسَّل إليكم لا تستهينوا بهذه الحوادث،

ولا
تسمحوا أن تُداس كنيسة الإسكندرية العظيمة تحت أرجل الهراطقة! …]([78])

وأمام
هذه المصائب المرَّة، وأثناسيوس يرى بعينيه كيف استولى غريغوريوس الأريوسي على
جميع كنائس الإسكندرية بقوة السلاح والجند كقوله هو هكذا: [وبأعمال العنف هذه
استولى الوالي على الكنائس وأعطاها لغريغوريوس وللأريوسيين مختلِّي العقل]([79])
وهكذا وبسقوط كنيسة الإسكندرية في أيدي الأريوسيين وهي معقل الأرثوذكسية الوحيد
والأخير في كل الشرق آنئذ؛ دخلت الأرثوذكسية في مراحلها الخطيرة لأن كل إيبارشيات
آسيا وفلسطين وشرق أوروبا كانت قد وقعت تحت قبضة الأريوسيين، أمَّا الأساقفة
الأرثوذكس فالأقوياء المجاهرون منهم كانوا في المنفى، والضعفاء كانوا مغلوبين على
أمرهم لا يُسمع لهم صوت.

وهكذا
التفت أثناسيوس فلم يجد أمامه إلاَّ الاستغاثة بأباطرة وأساقفة الغرب، لأن الغرب
كان لا يزال حتى هذه اللحظة بعيداً كل البعد عن الجدل الأريوسي، أو كما يقول جيبون
المؤرِّخ:

[كانت
لغتهم الوطنية (اللاتينية والفرنسية والألمانية) جامدة لم تستطع أن تسعفهم
بمصطلحات مناسبة تقابل المصطلحات اليونانية والكلمات الروحية العميقة التي كانت
موضع تقديس من الإنجيل والكنيسة بحيث تمكِّنهم من جهة هذا الحوار أن
يعبِّروا بلغتهم هذه عن أسرار الإيمان المسيحي … لذلك وقد استقوا عقيدتهم من
مصدر صحيح (مجمع نيقية) ومن ثم حافظوا في ثبات على المذهب الذي تقبَّلوه بسهولة،
فلمَّا اقترب وباء الأريوسية من حدودهم كان لديهم في ذلك الوقت ما يقيهم من شره
وهو إيمانهم الشديد “بالأموؤوسيون” وحدة الجوهر مع الآب …]([80])

وهكذا
لم يجد أثناسيوس أمامه إلاَّ الذهاب إلى روما خصوصاً وقد أرسل أسقفها يوليوس رسالة
لأثناسيوس يدعوه لحضور المجمع الذي حَضَّرَ له من جميع أساقفة العالم لفحص شكاوي
يوسابيوس واتهاماته…

وإليك
ما سجَّله أثناسيوس من جهة ذهابه إلى روما في كتابه عن تاريخ الأريوسيين:

[وبعد
عيد الفصح وأثناسيوس قد بلغه أخبار هذه الأعمال في مبتدئها، أبحر إلى
روما، عالماً مقدار جنون الأريوسيين، وكذلك من أجل المجمع الذي سبق أن تحدَّد
ميعاده (في صيف سنة 339م)، لأن يوليوس كتب رسائل بذلك لأثناسيوس.]([81])

وإلى هنا نكون قد استكملنا تاريخ صراع أثناسيوس في الميدان
الأول القسطنطينية / الإسكندرية.

ثانياً: ما جرى في روما، والنفي الثاني بسنينه الطويلة:

غادر
أثناسيوس شاطئ الإسكندرية ميمماً شطر روما، ولم يكن يدري أنه هكذا ستطول غربته
وبعده عن كنيسته المحبوبة، لأن في هذه المرَّة طالت جدًّا غربته التي حسبت له
بمثابة منفى إرادي مدة تسعين شهراً وثلاثة أيام!!

فبحسب
التاريخ الدقيق المسمَّى أسيفالوس (أي الذي بلا عنوان)، نعلم أن أثناسيوس رحل من
الإسكندرية في يوم الاثنين 21 برمودة الموافق 16 أبريل سنة 339م، ولم يعد أثناسيوس
إليها إلاَّ في يوم 24 بابة الموافق 21 أكتوبر سنة 346م!! وهذه المدة الطويلة
المحسوبة في تاريخه أنها مدة نفي تُقسَّم حسب الأصول التاريخية إلى فترتين:

الفترة الأُولى: ومدتها أربع سنوات (من
سنة 339343م) وتنتهي بمجمع سرديكا الذي استمر التحضير له وانعقاده
وانصراف أساقفته مدة ستة أشهر.

الفترة الثانية: ثلاث سنوات وتنتهي
بعودته إلى الإسكندرية في 21 أكتوبر سنة 346م.

أعمال أثناسيوس في الفترة الأُولى من النفي الثاني:

وبعد
عيد الفصح مباشرة وفي يوم الاثنين 16 أبريل غادر أثناسيوس الإسكندرية برفقة جماعة
قليلة من الإكليروس (كهنة وأساقفة ورهبان)، ويضيف المؤرِّخ سقراط([82])
اسم “أمونيوس باروتيس” (أي ذو الأذن الواحدة)([83])
الراهب القديس الذي كان أصلاً من أديرة باخوم، وانتقل إلى برية نتريا تحت أبوَّة
المعلِّم الكبير آمون، هذا كان أيضاً من الرفقة الذين رافقوا أثناسيوس في منفاه
بروما، ومن أقوال هذا الراهب الناسك القديس أنه لم يعجبه شيء في روما إلاَّ كنيسة
بطرس وبولس([84]).

وهنا
ينبغي أن نذكر أهمية هذه الرحلة التي دبَّرها الله للبابا أثناسيوس والرهبان الذين
كانوا برفقته (أمونيوس وثيئوذوروس([85])
الذي كان معروفاً لدى السناتو) بالنسبة لروما والغرب عموماً، لأن منظر هؤلاء
النساك وتقواهم ونسكهم وصلواتهم وعبادتهم التي لم ينقطعوا عن ممارستها في روما وكل
المدن الكبرى في الغرب مثل أكويلا، وبادوا، وفيرونا، ولاييس، وكمبانيا، وتريف،
وميلان([86])،
بالإضافة إلى روما، كان لها أبلغ الأثر على الحياة الروحية عامة وعلى أفكار الشباب
والشابات بصورة خاصة، لأنه معروف من تحقيقات القديس جيروم أن هذه الرحلة أثرت في
كل الغرب ومهدت لأول مرَّة لقيام الرهبنة بصورتها المصرية الأصيلة وبطقسها
الباخومي الذي بهر الفكر الغربي عموماً.

إذ
يقول جيروم في رسالته المرقومة 127 ما مضمونه: “إن الرهبنة المصرية عُرفت لأول
مرَّة في روما من زيارة أثناسيوس وبطرس خليفته”. أمَّا تأثير القديس أنطونيوس فكان
غير مباشر عن طريق كتابة سيرته بقلم القديس أثناسيوس الذي وضعه خصيصاً للأشخاص
الذين تعلَّقوا بالحياة الرهبانية هناك، وأرسلوا للبابا أثناسيوس بعد عودته إلى
الإسكندرية يطلبون المزيد من حياة أنطونيوس الذي كان يقص لهم أخباره وهو في المنفى
عندهم.

ومعروف
أيضاً أن البابا أثناسيوس كان يمارس الخدمة في كنيسة روما وكل المدن الغربية
الهامة مع أساقفتها، ومن هنا يلزم جدًّا التنبيه أن مميزات طقس الإفخارستيا
بالليتورجيا القبطية في عصر أثناسيوس التقطته كنائس الغرب وتأثَّرت به روما إلى
أقصى حد، بل واحتفظت روما بملامح ليتورجية أثناسيوس حتى اليوم، فيما يختص بموضوع
“الإبيكليسيس
Epiclesis”، أي “حلول الكلمة” على الخبز والخمر بدلاً من حلول الروح القدس
الساري الآن.

وبعد
ثلاثة شهور من وصوله روما لحق به كثير من الأساقفة الأرثوذكس الذين كانوا قد رجعوا
من منفاهم الأول سنة 337م. مثلما حدث لأثناسيوس، ولكن استطاع الأريوسيون بعد ذلك
بسلطان قسطنطيوس أن يعزلهم عن كراسيهم في مجمع أنطاكية مثلما حدث لأثناسيوس أيضاً،
ومنهم بولس أسقف القسطنطينية واسكلباس أسقف غزة، ومارسيللوس أسقف أنقرة بإقليم
غلاطية بآسيا الصغرى، ولوقيوس (لوسيوس) أسقف أدرينوبل.

وبعد
وصول البابا أثناسيوس ظهر في روما قس أريوسي مبعوثاً من غريغوريوس الكبادوكي
الأسقف المغتصب للكرسي الرسولي الإسكندري، يُدعى كاربونس وهو مقطوع من الشركة على
يد ألكسندروس البابا ال 19. هذا اعترف أمام يوليوس أسقف روما مقرًّا بكل الاتهامات
المتهم بها بستوس، ولمَّا ناقشه يوليوس بخصوص أريوسية غريغوريوس أيضاً لم يستطع أن
ينفي التهمة.

 

الحوادث التي جرت في الإسكندرية

في غياب البابا أثناسيوس

 

الخطابات الفصحية([87]):

تحديد الفصح لسنة 340م:

آخر
خطاب فصحي كتبه البابا أثناسيوس في الإسكندرية كان لسنة 339م، لأنه بعد فصح هذه
السنة أقلع إلى روما. أمَّا خطاب الفصح لسنة 340م فلم يكتبة البابا أثناسيوس، بل
عوضاً عنه أرسل رسالة مختصرة إلى كهنة الإسكندرية حدَّد فيها ميعاد الفصح الذي وقع
في هذه السنة في 4 برمودة. وقد كلَّف القديس سيرابيون بالإعلان عن ميعاد الفصح،
وسيرابيون هو أسقف مدينة تمويس أو تِمِيّ (تمي الأمديد الآن)، وهو من تلاميذ
القديس أنطونيوس أصلاً. وقد اتخذه أثناسيوس نائباً عنه في أثناء غيابه، فكان له
بمثابة اليد اليمنى.

ولسوء
حظ غريغوريوس الكبادوكي الأسقف الأريوسي المغتصِب للكرسي أنه تجرَّأ وأجهد نفسه ثم
أعلن عن ميعاد الفصح في 27 برمهات، وحدَّد بدء الصوم بناءً على ذلك متقدِّماً
أسبوعاً عن ميعاده. وصام بالفعل الأريوسيون قبل ميعاد الصوم بأسبوع كامل. أمَّا
الأرثوذكس فتركوهم على عماهم حتى إلى منتصف الصوم، ثم كشفوا لهم عن الخطأ، فأُسقط
الأريوسيون في فضيحة، واضطر غريغوريوس أن يصحِّح ميعاد الفصح في منتصف الصوم،
فنقله إلى 4 برمودة. وبذلك صام الأريوسيون في هذه السنة أسبوعاً زائداً. وقد صغرت
نفس غريغوريوس بسبب هذه العثرة، فلم يعد يتدخَّل في تحديد ميعاد الفصح بعد ذلك.

تحديد الفصح لسنة 341م:

لم
يرسل البابا أثناسيوس خطاباً فصحياً لهذه السنة، وأغلب الظن أنه كلَّف سيرابيون
أسقف تمويس بذلك.

تحديد الفصح لسنة 342م:

لم
يرسل البابا أثناسيوس خطاباً فصحياً أيضاً، وأغلب الظن أنه كلَّف سيرابيون بذلك.

تحديد الفصح لسنة 343م:

تمَّت
الموافقة في مجمع سرديكا وصدر قرار يجعل تحديد الفصح من اختصاص روما والإسكندرية،
وذلك لمدة خمسين سنة قادمة. وفي هذه السنة كتب البابا أثناسيوس خطابه الفصحي العام
كالمعتاد، وذكر فيه كل ما تمَّ في مجمعي روما وسرديكا.

تحديد الفصح لسنة 344م:

كتب
البابا أثناسيوس رسالة مختصرة من مدينة نيسا (أوناييس) بإقليم الصرب، أعلن فيها الفصح
لكهنة مدينة الإسكندرية، ولكن لم يستطع أن يرسل خطابات لبقية الأقاليم.

تحديد الفصح لسنة 345م:

كتب
البابا أثناسيوس رسالة مختصرة من أكويلا حيث أمضى الفصح هناك، وذلك لكهنة
الإسكندرية معلناً ميعاد الفصح، ولكن لم يستطع أن يرسل لبقية الأقاليم.

تحديد الفصح لسنة 346م:

أرسل
البابا أثناسيوس سطوراً قليلة لكهنة الإسكندرية معلناً عن ميعاد الفصح.

اضطهاد غريغوريوس الكبادوكي لعائلة أثناسيوس:

ويصف
لنا القديس أثناسيوس نفسه هذه الحادثة هكذا:

[وغريغوريوس
اضطهد عمة الأسقف (يتكلَّم عن نفسه) حتى إنه وبعد موتها لم يسمح بدفنها، وكان يمكن
أن تُطرح بدون دفن، لولا أن الذين كانوا متولين حمل جسدها قاموا بالواجب، وهكذا
أظهر حتى في مثل هذه الأمور سلوكه الرديء.]([88])

القديس أنطونيوس يشعر بمسئوليته تجاه الكنيسة في غيبة
رئيسها:

ويورد
القديس أثناسيوس ضمناً أثناء عرضه لأعمال العنف والجهالة التي قام بها غريغوريوس
الأريوسي في الإسكندرية، حادثة تخص القديس أنطونيوس، وقد ذكرها في موضعين: الموضع
الأول في تاريخ الأريوسية، والثاني في سيرة حياة أنبا أنطونيوس.

فيقول
البابا أثناسيوس هكذا:

[وكان
غريغوريوس يفتخر بالأكثر أنه صديق الحكَّام وليس الأساقفة والرهبان، وقد ظهر ذلك
لما كتب إليه أبونا أنطونيوس من الجبل، ولكن إذ أن الإلهيات دائماً تكون مكروهة من
الخطاة اشمأزَّ هذا من خطاب الرجل القديس، أمَّا خطابات الإمبراطور
أو القائد أو أي ضابط فإنه كان لا يتمالك نفسه من الفرح عندما تأتيه، ويكرِم
حامليها ويعطيهم الهدايا. ولكن لمَّا أرسل إليه أنطونيوس فإنه جعل الدوق بالاكيوس
يبصق على الرسالة ويقذفها من يده، ولكن العدل الإلهي لم يتجاوز هذا؛ لأنه بينما
الدوق على جواده في طريقه لأول محطة بعد الإسكندرية (وقد ذكرها أثناسيوس بالاسم
Chaereau في كتابه عن حياة أنطونيوس، وهي على النيل على بعد مائة ميل من
الإسكندرية شرقاً) وإذا بالحصان دار برأسه وعضَّه في فخذه وألقاه من على ظهره فمات
بعد ثلاثة أيام.]([89])

ويضيف
أثناسيوس في وصف هذه الحادثة في كتابه “حياة أنطونيوس” هكذا:

[وكان
يوجد ضابط كبير (جنرال) يُدعى بالاكيوس، هذا كان يضطهد المسيحيين بشدة بسبب ميله
واعتباره الكثير للأريوسيين المكروهي الاسم. ولأن قساوة قلب هذا الرجل كانت كبيرة
حتى أنه كان يضرب العذارى (الراهبات) ويجلد الرهبان، كتب إليه أنطونيوس هكذا: “إني
أرى غضباً قادماً عليك، فكُفّ عن اضطهاد المسيحيين لئلاَّ يصادفك الغضب ويتملَّك
عليك لأنه الآن قد صار قريباً منك”.

ولكن
بالاكيوس (بالاق) سخر من الرسالة وألقاها على الأرض وبصق عليها وأهان حامليها (من
الرهبان طبعاً) قائلاً لهم: قولوا لأنطونيوس بما أنك تهتم بالرهبان، فلذلك
سوف آتيك حالاً لأتعقَّبك أنت أيضاً، ولم يمضِ خمسة أيام حتى وقع عليه غضب الله.]([90])

ومن
هذا نستدل أن القديس أنطونيوس كان يشعر في غيبة القديس أثناسيوس بمسئوليته الروحية
بالنسبة للكنيسة والشعب والعذارى والرهبان، واستطاع أن يؤدِّي دوره في الحدود التي
يحتِّم بها طقسه الرهباني، إذ بكل شجاعة روحية وغيرة كنسية كتب ينبِّه وينذر
المخالفين لأوامر الله وتقليد الرسل، ولم يعتبر قط سلطانهم أو بطشهم، بل اعتبر فقط
واجبه الإلهي الذي تحتِّمه الظروف والمسئولية الروحية، وذلك في غيبة أثناسيوس رئيس
الكنيسة والمسئول الأول عنها…

وبحسب
التحقيق من واقع التاريخ الفصحي يلزم أن تكون رسالة أنطونيوس لبالاكيوس قد كُتبت
في سنة 345م. لأنه ذكر فيها اسم الوالي نسطور. وهذا بدأت ولايته في سنة 344م.
واستمرت حتى سنة 352م. ولكن لأن غريغوريوس الكبادوكي الأريوسي قد مات في 26 يونيو
سنة 345م. والرسالة مذكور فيها اسم غريغوريوس أيضاً، لذلك تحدَّد أن يكون تاريخ
الرسالة بين سنة 344345م.

القديس باخوميوس يرسل وفداً للاستفسار عن حال الكنيسة في
غيبة رئيسها:

نقدِّم
هنا وثيقة غاية في الدقة تكشف عن مدى اهتمام القديس باخوميوس بحال الكنيسة وهمه
وقلقه من جهة الاضطهاد الحاصل عليها، وصلاته ودعائه من أجل عودة القديس أثناسيوس
ونصرته. ويلاحَظ في هذا التسجيل التاريخي أنه تمَّ قبل نياحة القديس باخوميوس
مباشرة، ومعروف أن القديس باخوميوس تنيَّح في
14 بشنس (مايو) سنة 346م، أي قبل عودة البابا أثناسيوس بشهور قليلة:

[وفيما
بعد رجع الأب زكّاوس وتادرس من الإسكندرية في المركب الصغير، وذلك أنه كان
للكنونيون مركبان، الأكبر منهما كان برسم حمل الحصير وبيعها في المدينة
(الإسكندرية) (يُلاحَظ هنا أن الحصير الذي يصنعه الرهبان كان يصدَّر إلى الخارج،
فكان يُحمل بالمراكب من أقصى الصعيد ليُباع لتجَّار الإسكندرية) ونقل ما يحتاجونه
من الأمور الضرورية، والمركب الأصغر كان برسم نقل الثياب لكسوتهم وغطائهم وما ضاهى
ذلك. ولمَّا سلَّما على الأب وعلى جماعة الإخوة قال لهما الأب (باخوميوس): كيف
سلامة الكنيسة؟ وذلك لأنه كان حزيناً لأجلها. لأن الأريوسية وزعيمهم غريغوريوس
الكافر (البطريرك الدخيل) مثلهم كانوا وقتئذ قد وثبوا على الكنيسة عنوة كاللصوص
وأخذوها، وكان الأب يصلِّي من أجلها على الدوام، إذ كان في قلبه وَجعاً على شعب
الله المظلوم ظلماً بيِّناً، وقد عُدموا راعيهم الأب أثناسيوس رأس الأساقفة الرجل
المتوشِّح بالمسيح. فأجابوه قائلين: إن الأمور بعد مضطربة وأحوال الأسقف والبيعة
مختلة،
فأجابهما قائلاً: ثقتي بالله الذي تسامح بأن تصير هذه الأشياء لامتحان
المؤمنين أنه سينتقم.

ثم
قصَّ القديس باخوم عليهما الحزن الصائر له في كنيسة الملاطيين (دعاه الأساقفة
الملاطيون إلى كمين داخل كنيسة لهم وأهانوه وضربوه حتى قارب الموت لولا أولاده
الذين تكاثروا عليهم وحملوه وهربوا)، وكيف خلَّصه الله من القتل، وشكره لله على
الدوام.

وقال:
سبيلنا أن نصطبر على كل تجربة توافينا بحماسة نفس وشجاعة قلب، لأن مفاجأة المحن
أيًّا كانت لا تضرنا بل تنفعنا جدًّا إذا قبلناها بالشكر، لأنها تكون لغسل الذنوب،
فأمَّا هؤلاء (الأريوسيون) الفاحصون عن أمورنا، الناكثون العهد معنا، فهم كانوا
آباءً وأخوة لنا، وعلى الرأي القديم كانوا مثلنا، فإن كان العدو قد زرع شره في
أرضهم الآن، ونفخ في قلوع مركبهم ريحاً مكرهة، واستعملهم أداة لخبثه علينا ومضرَّة
بنا، وابتعدوا عن الحق بعداً شاسعاً وعدلوا عن الناموس القويم وجنحوا عن الرأي
المستقيم وخرجوا عن السور الحريز السليم، لكن عفو الله وغزير صلاحه يعمنا وإياهم
متى طلبناه وعدنا إليه. وأمَّا هذا الباباس أثناسيوس الفائق قدسه الذي قد حاربه
العدو مدة زمان طويلة، فلسعيد هو حقا ويقيناً ولن يستعلي عليه أعداؤه لأن الله
حافظه وناصر إيمانه وسيتم فيه المكتوب القائل: “صوت يقوم عليك، ومعونة الرب توافي
إليك، تقهر شائنيك وتسود على مَنْ يعاديك”.]([91])

ومن
هذا السرد التاريخي المبدع يتكشف لنا كيف كان حال الكنيسة مضطرباً والأمور مختلة
بسبب غيبة البابا أثناسيوس هذه المدة الطويلة. لأن هذا الكلام الذي قاله زكاوس
وتادرس بخصوص الكنيسة أنها مضطربة ومختلة كان بعد مضي ست سنوات من مغادرة أثناسيوس
لمصر.

أمَّا بعثة باخوميوس هذه التي كانت بقيادة زكاوس وتادرس وهما
أفضل رهبان أنبا باخوميوس وقتئذ، فكان لها قيمتها في الإسكندرية في وسط هذه المحن،
لأنه يبدو أنها كانت بمثابة شهادة عن لسان باخوميوس وكافة الرهبان الباخوميين
بخصوص الإيمان القويم وعدم الانحياز للميليتيين أو الأريوسيين.
وقد لمَّح
القديس باخوميوس عن قيمة كل من المحنة التي أصابته من الميليتيين وهذه البعثة
باعتبار أنها شهادة صادرة منه شخصياً. وذلك واضح من كلامه عندما استطرد بعد الكلام
السالف قائلاً:

[وبعد
ذلك قال أبونا باخوميوس لتادرس: هوذا قد كمل اعتراف الشهادة التي قيل لي عنها
(من قبل الرب) أنه قد بقي لك شهادة قليلة من قبل أن يفتقدك الرب. والآن على ما قد
كان، فأنا أظن أن يوم افتقادي قد قرب.
ومن بعد عيد الفصح المقدَّس (وقع في هذه
السنة في 4 برمودة) أطلق الله مرضاً في الإخوة عامة، ومرض في كل دير من الأديرة
زهاء مائة أخ وأكثر، وكان الأب باخوميوس من جملتهم وساءت حالته… وأسلم روحه
الطاهرة في الرابع عشر من بشنس سنة 358م (وصحتها سنة 346م)([92]).
(بعد عيد الفصح بأربعين يوماً أي ربما في عيد الصعود). وكان له من العمر سبعة
وثمانون سنة وله منذ دخوله الرهبنة 64 سنة.]([93])

ملاحظة هامة:

لم
يرد في الأخبار التي أوردها زكاوس وتادرس عن أمور البيعة في الإسكندرية أي إشارة
عن موت غريغوريوس الكبادوكي الأسقف الدخيل الذي مات في 2 أبيب 26
يونيو سنة 345م. مما يرجِّح أن موت غريغوريوس حدث بعد رحيلهم. وهذا يجعل تاريخ هذه
الرحلة تتقدَّم سنة كاملة عن ميعادها، فتكون سنة 345م. وكذلك يلزم أن تكون نياحة
باخوميوس قد تمَّت في هذه السنة أي في بشنس سنة 345م. لأنه تنيَّح بعد عودة زكاوس
وتادرس من رحلة الإسكندرية مباشرة، وهذا هو الأرجح، ويكون باخوميوس بذلك قد تنيَّح
قبل عودة أثناسيوس بسنة كاملة. ويشترك معي في هذا التعديل المؤرِّخ الألماني كروجر([94])
إنما على إثباتات أخرى.

 

انتهى
صيف سنة 339م([95])،
ويوليوس أسقف روما والبابا أثناسيوس ينتظران عبثاً أي رد أو خبر من يوسابيوس
وجماعة الأريوسيين بخصوص استجابتهم لحضور مجمع روما، الذي سبق وأن دعاهم إليه على
يد رسوليه هلبيذيوس وفيلوكسينوس، بل وقد أظهر هؤلاء الأريوسيون خبثهم وتحديهم
ليوليوس أسقف روما، عندما احتجزوا هذين الكاهنين الرومانيين حتى إلى يناير، كما
يتضح من خطاب يوليوس نفسه، وذلك بقصد أن يفوِّتوا على يوليوس الميعاد (ديسمبر)
الذي حدَّده لعقد المجمع، وبذلك تأجَّل ميعاد المجمع إلى خريف سنة 340م كما هو
وارد في خطاب يوليوس أيضاً.

وعاد
مارتيريوس وحزقيوس في أوائل الربيع بخطاب من أساقفة الشرق وبه توقيعات القادة
اليوسابيين الذين اجتمعوا في أنطاكية في يناير سنة 340م. أمَّا لهجة الخطاب فكانت
تنم عن المشاكسة. فقد عنَّفوا يوليوس بشدة على قبوله أثناسيوس في الشركة ولاموه
على لهجة خطابه التي بدت لهم على مستوى مَنْ يكتب باعتباره كأنه أكبر منهم، وأنه
كتب لدعوة بعض الأساقفة بصفته الشخصية، وأنه حصر الدعوة في شخص يوسابيوس فقط.

ولشدة
لهجة الخطاب وخروجه عن اللياقة احتفظ به يوليوس سرًّا مترجياً فوق ما يمكن أن
يُرجى، لعل بعضاً منهم يحضر إلى روما وحينئذ يمكن أن يحفظ الخطاب نهائياً ولا
يُعرض ولا يُقرأ لئلاَّ يثير حفيظة الآخرين، ولكن عبثاً كان يوليوس يترجَّى في أشخاص
تعاهدوا مع الحقد واتخذوا العنف والمراوغة أسلوباً للحياة!!

وقد
اجتمع مجمع روما في خريف سنة 340م. وكلَّف يوليوس أسقف روما بكتابة خطاب ردًّا على
الخطاب المشاكس الذي أرسله يوسابيوس وجماعته، فتولَّى يوليوس كتابة الخطاب
التاريخي الذي فنَّد فيه كل ادعاءاتهم. وكما يقول أحد المؤرِّخين إن يوليوس شرَّح
فيه خطاب يوسابيوس تشريحاً، إنما برزانة ووقار يثيران الإعجاب حقا، فبالرغم من
الحدة الظاهرة فيه إلاَّ أن روح المحبة لم تخونه قط ولا المنطق السليم!! بل يكاد
الإنسان أن يقول إن طابع السياسة والرسميات فيه لم يؤثِّر إطلاقاً في روح الاتضاع
التي أمْلته ونمَّقته.

وسوف
نقدِّم ترجمة كاملة لهذا الخطاب الذي يعتبر من أهم الوثائق التي كُتبت لنصرة
أثناسيوس وبقيت بحرفيتها وطلاوتها كما كُتبت. ويُلاحَظ أن يوليوس قَبِلَ أثناسيوس،
حال وصوله إلى روما، في الشركة معه، وانعكف البابا الإسكندري على ممارسة الخدمة
والصلاة في الكنيسة، ولمَّا انعقد المجمع صادق على قبول أثناسيوس في الشركة.

 

مجمع روما

خريف سنة 340م

 

وأخيراً،
وبعد 18 شهراً من وصول أثناسيوس إلى روما، انعقد المجمع، وهذا علمناه من خطاب
يوليوس إلى يوسابيوس وجماعته:

[وقد
ظل أثناسيوس مقيماً هنا سنة وستة شهور مترقباً وصولكم ومَنْ تختارونه للمجيء معكم.
وبحضوره إلى هنا قد وضع كل إنسان موضع الخجل، لأنه لا يمكن أن يحضر بنفسه إلى هنا
إلاَّ لكونه واثقاً من قضيته! ولكنه أيضاً لم يأتِ من ذاته وإنما بدعوة منا في
خطاب كما سبق وكتبت إليكم.]([96])

لأنه
لمَّا أُعيي يوليوس من الانتظار بغير جدوى، قام بدعوة أساقفة كل إيطاليا إلى
المجمع، فاجتمع أكثر من خمسين أسقفاً([97]).

وطُرحت
قضية أثناسيوس أمام الأساقفة بكل الاتهامات، القديم منها والحديث، موضوع الكأس
المكسور، وإسخيراس المُهان، والأسقف أرسانيوس المقتول كذباً وهو حيٌّ، واللجنة
المريوطية لتقصِّي الحقائق، المتحيِّزة، التي حقَّقت ولفَّقت مع طرف واحد دون
الآخر، واستخدمت السيوف المسلولة لإرهاب الشهود، وكذلك أعمال مجمع صور التهريجية
وأحكامه الباطلة. ولم يجد المجلس أية صعوبة في فحص هذه الاتهامات بدقة قضائية تامة
وتبرئة أثناسيوس من جميعها!

ثم
عرض المجمع لعدم قانونية تعيين غريغوريوس الكبادوكي على كرسي الإسكندرية، واعتبروا
هذا التعيين انتهاكاً لقانون مجمع نيقية ونقضاً لأحكامه. ثم برَّأ المجمع جميع
الأساقفة الذين نفاهم الأريوسيون باعتبارهم أبرياءً من كافة التهم، وأعادهم إلى الشركة
بكامل كرامتهم.

وإليك
بعض التعليقات على مجمع روما بقلم أثناسيوس:

[فلما
ذهبت إلى روما، وكتب يوليوس إلى يوسابيوس وأتباعه كما هو متَّبع، وأرسل أيضاً
اثنين من كهنته هلبيذيوس وفيلوكسينوس. فهؤلاء (اليوسابيون) لمَّا سمعوا بخبر وصولي
إلى روما وقعوا في حيرة وارتباك لأنهم لم يكونوا يتوقَّعون ذهابي إلى روما،
فاستعفوا رافضين المجيء إلى هذا المجمع، وأعطوا أعذاراً واهية لامتناعهم؛ ولكنهم
في الحقيقة كانوا خائفين لئلاَّ تدور الأمور عليهم، وهذا بالضبط ما اعترف به
أورساكيوس وفالنس([98])
.

وبالرغم
من ذلك، اجتمع أكثر من خمسين أسقفاً في روما في الكنيسة التي تُدعى كنيسة “الكاهن
فيتو”، وتولُّوا الدفاع عني وأعطوني التأييد، تأييد الشركة معهم وتأييد المحبة.

ومن
الناحية الأخرى أفصح المجمع عن سخط بالغ تجاه يوسابيوس وأتباعه.

وترجَّى
المجلس يوليوس لكي يكتب خطابات لكل الذين كتبوا إليه لتكون قرارات المجمع معروفة
ونافذة المفعول وقد كتب يوليوس ذلك بالفعل بناءً على توصيات المجمع
وأرسل الخطابات بيد الكونت جابيانوس].

وإليك أيها القارئ، نصاً لخطاب([99]) يوليوس
أسقف روما الذي كتبه بناءً على توصيات مجمع روما:

[يوليوس
يهدي التمنيات بالعافية في الرب، إلى الإخوة الأعزاء المحبوبين دانيوس، فلاسيللوس،
نارسيسوس، يوسابيوس، ماريس، ماكدونيوس، ثيئوذوروس وكل أصدقائهم الذين سبقوا وكتبوا
إليَّ من أنطاكية.

لقد
قرأت خطابكم الذي بعثتم به إليَّ مع كاهنيَّ هلبيذيوس وفيلوكسينوس، ودُهشت لمَّا
وجدت أنه بينما كتبت أنا إليكم بمحبة وإعزاز صادق، رددتم أنتم بغير لياقة وبأسلوب
الخصام، حتى إن كبرياء وعجرفة الكاتب تُطلُّ من الخطاب بوضوح. ولكن مثل هذه
المشاعر لا تتناسب مع الإيمان المسيحي؛ لأن ما كُتب بأسلوب المحبة ينبغي بالمثل أن
يُجاب عليه بالمحبة وليس بالخصام؟

ثم
ألم يكن دليلاً لمحبتي أني أرسلت كهنتي للمتألمين (أثناسيوس) تعاطفاً معهم، وللذين
كتبوا إليَّ (يوسابيوس وجماعته) أدعوهم للمجيء إلى هنا؟ حتى يتسنَّى طرح المواضيع
المعلَّقة لنأخذ حلها سريعاً، وتُرتَّب كل الأمور بلياقة، وحينئذ لا يتعرَّض إخوة
لنا لمزيد من الألم، وتُعتَقوا أنتم من الشكايات في حقكم؟

ولكن
يبدو أن هذا شيء في طبعكم مما دفعنا أن نستخلص حتى من محاولاتكم للظهور بالإطراء
علينا شعوراً خفياً بالتهكم والاستخفاف لا تزال ترزح تحته نفوسكم،
كما أفصَحَت عنه عباراتكم.

وحتى
الكاهنان اللذان أرسلناهما إليكم، بينما كان ينبغي أن يعودا مسرورين، عادا مغمومين
مما لقياه من معاملتكم.

وأنا
نفسي لمَّا قرأت خطابكم تفكَّرت طويلاً ثم احتفظت به لنفسي، ظناً مني أنه بعد هذا
كله ربما يحضر بعض منكم، وحينئذ لا تعود هناك ضرورة أن يظهر هذا الخطاب لئلاَّ إذا
عُرض على المكشوف فإنه حتماً سيتسبب في تكدير الكثير من إخوتنا.

ولكن
لمَّا لم يحضر أحدٌ أصبح من المحتم أن يُعلَن الخطاب، وأصارحكم أن الكل اندهشوا
ولم يستطيعوا أن يصدِّقوا قط أنكم أنتم الذين كتبتم هذا الخطاب، لأنه يعبِّر عن
خصام وليس عن محبة.

والآن
إن كان كاتب هذا الخطاب أراد أن يستعرض قدراته في اللغة، فهذه المهارات تتناسب
بالتأكيد مع مواضيع أخرى. أمَّا الأمور الكنسية فهي ليست ميداناً للبلاغة، وإنما
تحتاج بالحقيقة إلى مراعاة القوانين الرسولية والحذر منتهى الحذر أن لا يحدث منها
عثرة لأحد من الصغار في الكنيسة. لأنه بحسب الكلمة التي تتمسك بها الكنيسة: «خيرٌ
للرجل أن يُعلَّق في عنقه حجر رَحَى ويُلقى في البحر من أن يُعثر أحد هؤلاء
الصغار».

ولكن
إن كان مثل هذا الخطاب قد كُتب بسبب أن بعض الأشخاص منكم ولا أقول
كلكم قد تكدَّر بسبب صغر نفسه تجاه أحد آخر، فكان من الأفضل أن لا
يستسلم بأي حال من الأحوال لمثل هذه المشاعر التي تنم عن الغضب، وبالأقل لا يجعل
الشمس تغرب على غيظه، وبالتأكيد لا يعطيها مكاناً يستعرضها فيه كتابة!!؟

ولكن
ما الذي حدث هكذا ليكون سبباً في الغضب؟ أو بأي كيفية يمكن أن يكون خطابي إليكم قد
تسبب في هذا؟ ألأني دعوتكم لتحضروا مجمعاً؟ وأيضاً وعند هذا كان ينبغي أن
تتقبَّلوا الدعوة بسرور! فالذين لهم ثقة بأعمالهم أو كما يسمونها
قراراتهم، لا يلزمهم أن يغضبوا إن هم طُلب إليهم أن تُفحص قراراتهم هذه عند
الآخرين، بل بالحري تكون لديهم الشجاعة على هذا، لأنهم يرون أن قراراتهم إنما
صاغوها بالعدل، ولا يمكن أن يؤول فحصها إلى العكس!

وغير
خافٍ عليكم أن الأساقفة الذين اجتمعوا في المجمع الكبير بنيقية، اتفقوا
ليس بدون مشيئة الله أن قرارات أي مجمع ينبغي أن تُفحص أولاً عند
اجتماع أي مجمع آخر، وذلك لغاية هي أن تكون الأحكام التي عُمل بها أمام أعينهم
باستمرار، حتى عندما تُعرض أية قضية لاحقة يكون فحصها بمنتهى الحذر، ويصبح الطرفان
المختصان بها مقتنعين أن الحكم الذي يتلقيانه إنما يكون صادراً عن عدالة وليس عن
عداوة يحملها القضاة لهم. فالآن إن كنتم غير راغبين أن تُجرى الأمور هكذا في
قضيتكم، مع أنها أمور ثابتة منذ القدم وروعيت وامتُدِحَت في مجمع نيقية الكبير،
فرفضكم هذا غير لائق، لأنه من غير المعقول أن عادة مرعية في الكنيسة وتثبَّتت في
مجامع، يمكن لأفراد قلائل أن يلغوها أو يتجاهلوها.

ثم
هناك سبب آخر يقطع الفرصة على إمكانية الغضب في هذا الأمر. فالأشخاص الذين
أرسلتموهم ومعهم الخطابات، أقصد مكاريوس القس ومرتيريوس وحزقيوس الشماسين، عندما
وصلوا هنا ووجدوا أنهم غير قادرين على مواجهة حجج الكهنة الذين أرسلهم أثناسيوس،
بل ولأنهم ارتبكوا وانكشفوا من كل جانب، ترجُّوني هم أنفسهم أن أدعو إلى مجمع يضم
الجميع معاً، وأن أكتب إلى أثناسيوس أسقف الإسكندرية وإلى يوسابيوس وجماعته حتى
تُجرى محاكمة عادلة في حضور كلا الطرفين، حتى يتسنَّى لهم أيضاً أن يبرهنوا على كل
التهم التي أُقيمت ضد أثناسيوس.

لأن
مرتيريوس وحزقيوس ناقضناهما نحن علناً، وواجههما كهنة أثناسيوس بثقة وثبات عظيم،
وإن كنا نريد أن نقول الحق فمرتيريوس وحزقيوس أصابهما الفشل والخذلان الكامل، وهذا
مما ساقهما إلى الرغبة في عقد مجمع. ولكن حتى ولو فرضنا أنهما لم يوافقا على عقد
مجمع، وكنت أنا وحدي الشخص الذي أقترحه معارضاً في ذلك الذين كتبوا
إليَّ ولكن فقط من أجل إخوتنا الذين يشتكون من ظلم وقع عليهم، فهنا
أيضاً وفي هذه الحالة يكون اقتراحي معقولاً وعادلاً، وموافقاً للكنيسة وأيضاً حسب
مسرَّة الله!

ولكن
وإذ طلب مني الأشخاص (مرتيروس وحزقيوس) اللذين وثقتم أنتم فيهما، وأرسلتموهما (من
طرف يوسابيوس وأتباعه)، لكي أدعو الإخوة معاً (في مجمع)، أصبح هذا في الواقع
مناقضاً للهجوم الذي أبديتموه عندما دعوتكم، في حين أنه كان ينبغي أن تُظهروا كل
الاستعداد للحضور.

وكل
هذه الاعتبارات توضِّح أن إظهار هذا الغضب من جهة الأشخاص الذين أرادوا أن يعلنوا
استياءهم هو نوع من النزق، أمَّا رفض الآخرين الذين امتنعوا عن حضور المجمع، فهو
غير مقبول بل ويثير الشكوك بحسب ظواهره.

وإن
كان كما كتبتم أن كل مجمع له قوته التي لا تُنقض، وأن
أي شخص صدر ضدَّه حكم بسبب أمر ما يصير مرفوضاً، خصوصاً أن قضيته قد فُحصت بواسطة
آخرين، فالآن افحصوا أيها الأحبَّة الأعزاء مَنْ هو الذي يهين قوة المجامع؟ ومَنْ
هم الذين استهانوا بأحكام القضاة السابقين؟

وإن
كان ليس لنا الآن أن نسأل ونفتِّش فيما يختص بحالة كل واحد، لئلاَّ أبدو كمَنْ
يضيِّق الخناق على طرف معيَّن، ولكني أكتفي بهذه الحالة الأخيرة التي حدثت (قبول
الأريوسيين في الشركة وتعيين غريغوريوس بدل أثناسيوس) التي كل مَنْ يسمعها يقشعر،
فهي تكفي كبرهان يدل على غيرها مما لا أريد أن أخوض فيه.

فالأريوسيون
الذين بسبب كفرهم وقعت عليهم أحكام الحرمان من الشركة، بواسطة ألكسندروس المطوَّب
الذكر، الأسقف السابق للإسكندرية؛ هؤلاء لم تُمنع شركتهم فقط من الإخوة (الأساقفة)
في كل مكان وحسب، ولكن أوقع عليهم الحرمان كل هيئة المجمع الكبير الذي اجتمع في
نيقية. لأن الذنب الذي اقترفوه لم يكن ذنباً عادياً، ولا هم أخطأوا في حق إنسان،
بل ضد ربنا يسوع المسيح نفسه ابن الله الحي. ولكن بالرغم من هذا، فإن هؤلاء
الأشخاص الذين صادرهم كل العالم وصاروا وصمة عار في كل كنيسة، يُقال الآن أنهم
قبلوهم في الشركة ثانية؟ هذا أمرٌ ما أظنكم تطيقون سماعه بغير سخط (المؤرِّخ:
هيهات يا أسقف روما الطيب! فهم أريوسيون دماً ولحماً)! فمن من الطرفين إذن الذي
يهين قوة المجمع؟ أليسوا أُولئك الذين ألغوا أصوات الثلاثمائة والثمانية عشر (318
عضواً في مجمع نيقية) وقدَّموا الكفر على التقوى؟

إن
هرطقة أريوس المجنون قد أُدينت وحُكم عليها ورُفضت من كل هيئة الأساقفة في كل
مكان، أمَّا الأسقفان أثناسيوس ومارسيللوس فلا يزال لهما أنصار كثيرون يدعمونهما
قولاً وكتابة!! … وفيما يختص بأثناسيوس، ففي “صور” لم يثبت عليه شيء قط؛
وفي “مريوط” حيث قيل إن التقارير كُتبت هناك ضدَّه، لم يكن هو حاضراً،
وأنتم تعلمون أيها الأحبة الأعزاء أن الإجراءات التي تتم من طرف واحد ليس لها أي
وزن أو اعتبار (في القضاء) بل تحمل في ذاتها صورة الشك ضدَّها!!

وعلى
أي حال والأمور كما هي، فلكي نكون مدقِّقين وغير متحيزين لصفِّكم ولا للطرف الآخر،
كتبنا ندعو هذا وذاك حتى تُفحص الأمور كلها في مجمع، حتى لا يُدان البريء ولا
يُبرَّأ المُدان. فنحن إذن لسنا الطرف الذي يستهين بالمجمع بل هم الذين فجأة وبلا
تعقُّل، قبلوا الأريوسيين الذين أُدينوا إدانة جماعية. وهذا كان تحدياً لقرارات
القضاة. وإن كان الجزء الأعظم من هؤلاء القضاة قد رحلوا وصاروا مع المسيح إلاَّ أن
بعضهم لا يزال يعيش في حياة التجارب ساخطين على الذين استهانوا بأحكامهم.

كما أن الأمور التي حدثت بعد ذلك في الإسكندرية أخبرنا بها
رجل يُدعى

“كاربوتس”، كان قد قُطع من الشركة بواسطة ألكسندر بسبب الأريوسية، أرسله غريغوريوس
مع آخرين محرومين أيضاً من الشركة بسبب نفس الهرطقة، على أني علمت أيضاً بالموضوع
من الكاهن مكاريوس والشماسين مرتيريوس وحزقيوس. هؤلاء وقبل أن يحضر
كهنة أثناسيوس استحثوني أن أرسل خطابات لواحد يُدعى بستوس في
الإسكندرية، مع أنه في نفس الوقت كان الأسقف أثناسيوس هناك. فلمَّا حضر كهنة
أثناسيوس الأسقف، أخبروني أن بستوس أريوسي وأنه مقطوع من الشركة بواسطة الأسقف
ألكسندروس ومن مجمع نيقية أيضاً، وأنه رُسم بعد ذلك بواسطة واحد يُدعى سكوندوس،
كان المجمع الكبير قد قطعه من الشركة لكونه أريوسياً أيضاً، هذه الحقيقة لم يستطع
مرتيريوس وزملاؤه أن يناقضوها، ولا استطاعوا أن ينكروا أن بستوس أخذ رسامته من
سكوندوس.

الآن
وبعد هذا، انظروا مَنْ يكون هو المُلام بالعدل، هل أنا الذي لم يستطيعوا أن
يحملوني على الكتابة لبستوس الأريوسي، أم هؤلاء الذين قدَّموا لي نصيحة لكي أُهين
المجمع الكبير فأخاطب الكفرة وكأنهم أتقياء؟

ثم
وأكثر من هذا، لمَّا سمع مكاريوس القس الذي أرسله يوسابيوس إلى هنا مع مرتيريوس
والباقين بالمقاومة التي أبداها كهنة أثناسيوس، انصرف ليلاً بالرغم من مرضه، مع
أننا كنا نتوقَّع ظهوره (في الصباح) مع مرتيريوس وحزقيوس مما جعلنا نعتقد أن رحيله
كان بسب الخجل الذي أصابه بسبب افتضاح أمر بستوس. لأنه مستحيل أن تُقبل الرسامة
التي أجراها سكوندوس الأريوسي من وجهة نظر الكنيسة الجامعة، لأن هذا يُحسب
امتهاناً للمجمع وللأساقفة الذين عقدوه. إن كانت القرارات التي صاغوها في حضرة
الله باجتهاد بالغ وعناية، تُنحَّى هكذا جانباً كأنها بلا قيمة.

فإن
كان كما كتبتم أن قرارات كل المجامع يتحتَّم أن تكون
لها نفس القوة، طبقاً للسابقة التي حدثت في حالة نوفاتيان وبولس السموساطي،
فبالأَولى جدًّا أن أحكام الثلاثمائة لا يُعمل بخلافها!! ويقيناً أنه لا يجوز
لأفراد قلائل أن يلغوا مجمعاً عاماً! لأن الأريوسيين هراطقة، وقد صدرت ضدَّهم
الأحكام (كبولس السموساطي ونوفاتيان) هذا مثل ذاك. لذلك وبعد هذه التصرُّفات
الجريئة (قبول الأريوسيين في الشركة) مَنْ هو الذي يكون قد أشعل نار الفُرقة؟
لأنكم في خطابكم تلوموننا أننا أشعلنا نار الفُرقة! هل نحن؟ الذين تعاطفنا بكل
شعورنا مع آلام الإخوة وتصرفنا في كل شيء بحسب القانون، أم أُولئك الذين بروح
الخصام والنزاع وبمخالفة القانون طرحوا جانباً أحكام الثلاثمائة؟ وامتهنوا المجمع
من كل ناحية؟ لأن الأريوسيين لم يُقبلوا فقط في الشركة بل وأساقفة منهم أيضاً صار
شغلهم الشاغل الانتقال من مكان لمكان (يقصد هنا يوسابيوس الذي انتقل من أسقفية
بريتوس إلى نيقوميديا ثم إلى القسطنطينية).

فالآن
إن كنتم حقا تؤمنون أن كل الأساقفة لهم نفس السلطان بالتساوي، وأنكم لا تعتبرونهم
بمقتضى عظم مدنهم كما تؤكِّدون فكان ينبغي أن الذي
استؤمن على مدينة صغيرة أن يبقى في المكان الذي استُودِع إليه، وليس بازدراء
للأمانة ينتقل إلى مكان آخر لم يوضع قط تحت سلطانه، محتقراً ما أعطاه له الله
وناظراً بالأكثر إلى الاستحسان (المجد) الباطل الذي للناس.

كان
ينبغي إذن أيها الأحباء الأعزاء أن تحضروا ولا تتمنَّعوا حتى نصل إلى نهاية
للموضوع، لأن هذا هو ما يتطلَّبه التعقُّل. ولكن ربما كان المانع من مجيئكم هو
الميعاد الذي كان قد تحدَّد لعقد المجمع، لأنكم في خطابكم تشكون أن المدة التي
تبقَّت بعد تحديد الميعاد قصيرة جداً؟([100])

ولكن
هذا يا أحباء مجرَّد اعتذار لأن اليوم المحدد لو كان اقتطع شيئاً من فترة الرحلة
لكانت الفترة المتبقية تعتبر فعلاً قصيرة. ولكن لأنه كان هناك نية لعدم المجيء
ظهرت بحجز حتى كهنتي إلى شهر يناير، من هنا أصبح الأمر مجرَّد اعتذار وذلك بسبب
عدم الوثوق من قضيتهم ذاتها، وإلاَّ كما سبق وقلت
لكانوا أسرعوا في المجيء، غير مهتمين بطول الرحلة أو بقصرها، إن كانوا واثقين من
عدالة ومعقولية قضيتهم.

ثم
ربما كان أيضاً المانع من مجيئكم هو الظروف، لأنكم أيضاً تعلنون ذلك في خطابكم أنه
ينبغي علينا أن نضع في الاعتبار حالة الشرق (بداية حرب الفرس)، فكان الواجب ألاَّ
نستحثكم هكذا للحضور!

ولكن
إن كنتم كما تقولون لم تحضروا بسبب هذه الظروف، ألم يكن
من الواجب عليكم أنتم أن تضعوا هذه الظروف في اعتباركم مسبقاً وأن لا تصنعوا هذا
الانقسام وهذه الأحزان والويلات في الكنائس؟

ولكن،
وبما أن الأمر قد وقع، فالأشخاص الذين تسبَّبوا في هذه الأمور ليس لهم أن يلوموا
الظروف، بل الملامة تقع عليهم من جهة تصميمهم على رفض حضور المجمع!

وأنا
متعجِّب كيف استطعتم أن تكتبوا هذه الفقرة من خطابكم التي تقولون فيها: “إن ما
كتبته كتبته بمفردي، وكتبته ليس لجميعكم وإنما ليوسابيوس وجماعته فقط”؟ إن هذه
الشكوى تكشف عن أن الأمر هو استعداد لالتقاط أخطاء أكثر منه اعتباراً للحق. فأنا
لم أتلقَّ خطابات ضد أثناسيوس إلاَّ من مرتيريوس وحزقيوس وزملائهما، فكان عليَّ
بحكم الضرورة أن أكتب إلى الذين اشتكوا ضد أثناسيوس. وبناءً عليه، فإمَّا كان على
يوسابيوس وزملائه أن لا يكتبوا إليَّ وحدهم من دونكم جميعاً؛ وإمَّا أصبح عليكم
أنتم الذين لم أكتب إليكم أن لا تغضبوا إن كنت كتبت فقط إلى الذين كتبوا إليَّ.

فإذا
كنتم ترون أنه كان من الواجب أن أوجِّه خطابي إليكم جميعاً، كان الواجب عليكم أنتم
قبلاً أن تكتبوا معهم: فالآن بحسب العقل كتبت إلى الذين كتبوا إليَّ يخبرونني
بالأمور.

وإن
كنتم تكدَّرتم أيضاً بسبب أني بمفردي كتبت لهم (أي أن أسقف روما كتب
يدعو بصفته الشخصية) فمن المناسب بالأَولى أن تغضبوا لأنهم كتبوا
بمفردهم إليَّ!

ولكن
في هذا الأمر أيضاً يا أحباء، يوجد سبب حسن وليس بدون تعقُّل تمَّ هذا، غير أنه
يلزم أن تعلموا أنه بالرغم من أني أنا الذي كتبت، إلاَّ أن الآراء التي عرضتها لم
تكن لي وحدي بل آراء أساقفة كل إيطاليا وكل النواحي هنا. وفي الواقع أنا الذي لم
أجعلهم يكتبون جميعاً، لئلاَّ يرى الآخرون أن المزيد من القوة هي في العدد.

وعلى
أي حال فقد اجتمع جميع الأساقفة في اليوم المحدَّد واتفقوا على هذه الآراء التي
كتبتها بالتالي إليكم لأخبركم بها؛ وهكذا أيها الأحباء الأعزاء، فبالرغم من أني
كتبت بمفردي إلاَّ أنه يلزم أن تتأكَّدوا أن هذا هو رأي الكل، وأي اعتذارات أكثر
من هذا تصبح بلا أي معنى بل وضد العدل وتثير الشك الذي يزعمه بعضكم بسلوكه.

والآن وإن كان ما قلناه يكفي للتدليل على أننا لم نقبل
أخوينا أثناسيوس ومرسيللوس، لا باستعجال ولا كأنه بغير وجه حق، غير أننا نجد من
اللائق أن نعرض الأمر أمامكم
باختصار:

كان
يوسابيوس وأتباعه قد كتبوا في السابق ضد أثناسيوس وجماعته كما كتبتم أنتم الآن بعد ذلك، ولكن عدداً كبيراً من أساقفة مصر (مائة
أسقف) والأقاليم الأخرى كتبوا لصالحه.

أمَّا
من جهة ما كتبتموه أنتم من خطابات ضد أثناسيوس، فهو أولاً يتعارض بعضه مع بعض،
وثانياً إن ما كتبتموه في البداية لا يتفق مع ما كتبتموه أخيراً، بل وفي كثير من
النقاط نجد أن الكتابات الأخيرة ترد على الكتابات الأُولى، والكتابات الأُولى توقع
الكتابات الأخيرة في الاتهام! فهنا تعارض حادث في الخطابات ولا يوجد فيها أي إثبات
يبرهن على صدق الوقائع المذكورة. لذلك وبالتالي إن كنتم تريدون أن نصدِّق ما
كتبتموه ضد أثناسيوس، فهذا إنما يتفق مع حقنا أن لا نرفض تصديق ما كتبه الآخرون
لصالح أثناسيوس أيضاً! وبالأخص إذا أخذنا في الاعتبار أنكم تكتبون عن الأمور من
بعيد، وأمَّا هم فيكتبون من نفس الموقع، وأنهم عارفون بأثناسيوس وكل الحوادث
الحادثة عندهم ومختبرون لسلوك هذا الإنسان
يؤكِّدون بإيجابية أنه كان فريسة للادعاءات والأكاذيب على طول
المدى.

فمثلاً
قيل في أول الأمر أن أسقفاً يُدعى أرسانيوس قد أنهى أثناسيوس على حياته. ولكننا
علمنا أخيراً أنه حيٌّ، وليس هذا فقط، بل وإنه على حُسْن علاقة وصداقة مع
أثناسيوس!

كذلك
يؤكِّد أثناسيوس أيضاً أن التقارير التي كُتبت في مريوط كانت من طرف واحد فقط،
لأنه لا الكاهن مكاريوس كان موجوداً، وهو الطرف المتهم، ولا أسقفه نفسه أي
أثناسيوس، هذا علمناه ليس من فم أثناسيوس نفسه فقط بل ومن التقارير التي حملها
إلينا مرتيريوس وحزقيوس، إذ لمَّا قرأناها وجدنا أن اسخيراس صاحب الاتهام كان
حاضراً هناك، أمَّا مكاريوس وأثناسيوس فلم يكونا حاضرين، وحتى لمَّا أراد كهنة
أثناسيوس أن يرافقوهم لم يُسمح لهم! فالآن أيها الأحباء إذا كان التحقيق أُريد له
أن يسير بأمانة، كان يستلزم أن لا يكون صاحب الاتهام حاضراً وحده، ولكن كان يستدعي
حتماً وبالضرورة أن يكون المتهم حاضراً أيضاً، خصوصاً وأن كلا الطرفين مكاريوس
وإسخيراس كانا في “صور” معاً قبل التحقيق، فكان يلزم أن لا يذهب صاحب الاتهام وحده
إلى المريوطيين بل ومعه المتهم أيضاً، حتى إمَّا تثبت التهمة عليه شخصياً وهو
موجود، وإلاَّ في حالة عدم ثبوت التهمة عليه يكون له الحق في إثبات بطلان الاتهام!

فالآن
وإذ لم يكن سير الأمور كذلك، بل ذهب صاحب الاتهام وحده هناك، يرافقه جماعة طعن
أثناسيوس في لياقتهم، أصبحت الإجراءات بحسب الشكل متلبَّسة بالشك! …

هذا
وقد اشتكى أثناسيوس من جهة الأشخاص الذين اُختِيروا للذهاب إلى المريوطيين أنهم
ذهبوا ضد رغبته، لأن ثيئوجونيوس وماريس وثيئوذوروس وأورساكيوس وفالنس ومكدونيوس
الذين أُرسلوا، هم أصحاب سلوك مشكوك فيه، وهذا أوضحه ليس بتأكيدات من عنده فقط
ولكن من خطاب ألكسندر الذي كان أسقفاً على تسالونيكي، الذي أرسل خطاباً إلى
ديونيسيوس الكونت الذي تعيَّن لرئاسة المجمع، والذي فيه أوضح بكل بيان أن هناك
مؤامرة تُدَّبر على قدم وساق ضد أثناسيوس.

وقد
قدَّم لنا أثناسيوس أيضاً وثيقة أصيلة، كلها بخط يد صاحب الاتهام إسخيراس نفسه،
التي فيها يستشهد الله العظيم على نفسه أنه ليس هناك أي كأس كُسر ولا مائدة قُلبت،
ولكن الحقيقة أن بعض الأشخاص حرَّضوه ليخترع هذه الاتهامات. والأكثر من ذلك أنه
عندما وصل كهنة المريوطيين، هؤلاء أكَّدوا بالفعل أن إسخيراس لم يكن كاهناً في
الكنيسة الجامعة، وأن مكاريوس الكاهن لم يقترف مثل هذه الإساءة التي اتهموه بها.
وكذلك فإن الكهنة والشمامسة الذين حضروا إلينا شهدوا بتحقيق كامل في صالح أثناسيوس
مؤكِّدين بإصرار أن شيئاً من كل هذه الأمور التي أقاموها ضد أثناسيوس لم يكن
صحيحاً أو صادقاً، ولكنه كان فريسة المؤامرات.

أمَّا
بخصوص موضوع رسامة أثناسيوس، فكل أساقفة مصر وليبيا كتبوا خطاباً (إلى الأساقفة في
جميع أنحاء العالم) محتجين على هذا الادِّعاء موضِّحين أن رسامة أثناسيوس كانت
قانونية وبمقتضى الأصول الكنسية الدقيقة، وأن كل ادعاءاتكم ضدَّه كانت باطلة، فلا
قتل اقتُرف ولا أيِّ كأس كُسر، بل كل هذا محض افتراء. وقد أوضح لنا أثناسيوس من
التحقيقات التي تمَّت من طرف واحد، وكُتبت في مريوط، أن أحد الموعوظين بسؤاله قال
إنه كان موجوداً مع إسخيراس أثناء اقتحام مكاريوس الذي أرسله أثناسيوس للمكان!
وآخرون بسؤالهم قال أحدهم إن إسخيراس كان موجوداً في غرفة صغيرة، والآخر قال إنه
كان راقداً خلف الباب إذ كان مريضاً في هذا الوقت، أي عند مجيء مكاريوس هناك.

فمن
هذه المحاضر المتعلِّقة به تسوقنا مجريات الحوادث لهذا السؤال: كيف يتسنَّى لرجل
مريض راقد خلف الباب أن يقوم ويقود الخدمة والتقدمة؟ ثم كيف يمكن أن تكون هناك
صعيدة تُقدَّم في وجود موعوظين؟ لأنه إذا كان هناك موعوظون حاضرون، فهذا يعني أنه
لم يكن وقت تقدمة صعيدة.

هذه
التوضيحات أوضحها لنا الأسقف أثناسيوس كما سبق وقلت، الذي أوضح لنا من هذه
التقارير أيضاً التأكيدات بأن إسخيراس لم يكن كاهناً في الكنيسة الجامعة إطلاقاً،
ولم يظهر قط ككاهن وسط اجتماعات الكنيسة. لأن إسخيراس هذا لم يأتِ ذكر اسمه بين
قسوس ميليتيوس المعزولين، حتى بين الكشوف التي تسجَّلت بأسماء الميليتيين المنشقين
الذين سمح لهم ألكسندر بالعودة بناء على صفح المجمع الكبير عنهم. وهذا بحد ذاته
يعتبر أقوى حجة على كون إسخيراس ليس كاهناً حتى بين الميليتيين وإلاَّ كان ذكر
اسمه معهم.

وبجوار
هذا قد أوضح أثناسيوس أن إسخيراس اتخذ الكذب وسيلة له في نواحٍ أخرى، فقد ادَّعى
أيضاً أن بعض الكتب أُحرقت عندما اقتحم مكاريوس المكان كما يقولون
ولكنه أُفحم بواسطة نفس الشهود الذين استحضرهم هو ليشهدوا له، الذين أثبتوا عليه
الكذب.

والآن
لمَّا تكشَّفت لنا هذه الأمور وظهر شهود كثيرون في صالحه، كما أثبت هو براءته أكثر
فأكثر، فما الذي كان ينبغي علينا أن نعمله؟ وما الذي كان يتطلَّبه منا قانون
الكنيسة إلاَّ أن نبرِّئه وبالأكثر نقبله ونعامله كأسقف كما عملنا؟

وأكثر من هذا، وبعد هذا كله، ها هو لا يزال مقيماً هنا سنة
وستة أشهر مترقباً وصولكم وكل
مَنْ تختارونه للمجيء، وبحضوره هذا يكون قد وضع
كل واحد موضع الخجل لأنه كان لا يمكن أن يحضر إذا لم يكن واثقاً من قضيته، على
أنه لم يأتِ من نفسه بل بدعوة منا في خطاب، كما كتبنا إليكم،
ثم بعد ذلك كله
لا زلتم تتذمَّرون أننا تعدينا القوانين.

والآن
انظروا مَنْ يكون منا الذي تعدَّى القوانين؟ هل نحن الذين قبلنا هذا الإنسان بناءً
على برهان براءته الواضح، أم أُولئك الذين وهم في أنطاكية على بعد 36 محطاً
يعيِّنون رجلاً غريباً ليكون أسقفاً ويرسلونه إلى الإسكندرية بقوة عسكرية، الأمر
الذي لم يحدث حتى عندما أرادوا أن ينفوا أثناسيوس إلى بلاد الغال، وهم لم يصنعوا
ذلك آنئذ لأنه لم تثبت إدانته في شيء، لذلك لمَّا عاد وجد بطبيعة الحال كرسي
كنيسته في انتظاره لم يشغله أحد.

وإلى
الآن أنا لا أفهم تحت أي بند أو علة يمكن أن نضع هذه التصرُّفات التي حدثت؟

ففي
المقام الأول إن كان يلزم أن نتكلَّم الحق لم يكن من
الصواب عندما كتبنا ندعو لعقد المجمع أن يشترك أي شخص في قراراته، وبالتالي لم يكن
من المناسب أن مثل هذه التصرُّفات غير العادية تنُسب أصلاً للكنيسة. لأنه أي قانون
في الكنيسة أو أي تقليد رسولي يُجيز هذا: أن تكون كنيسة كالإسكندرية في سلام
وأساقفة كثيرون في اتحاد مع أسقفها أثناسيوس، ثم يرسَل إلى مدينتهم رجل مثل
غريغوريوس، غريبٌ عن المدينة لم يعتمد فيها، غير معروف لديهم، لم يطلبه لا كهنة
المدينة ولا أساقفتها ولا علمانيوها، يختارونه في أنطاكية ليرسَل إلى الإسكندرية،
يرافقه لا كهنة ولا شمامسة من الإسكندرية ولا أساقفة من مصر ولكن عساكر؟ هكذا أخبرونا
الذين حضروا إلينا مشتكين مما حدث!!

وحتى
ولو فرضنا أن أثناسيوس كان قد وُضع في موضع الاتهام كمجرم بواسطة المجمع، فهذا
التعيين الذي حدث (تعيين غريغوريوس) ليس صحيحاً أيضاً ولا ينبغي أن يكون، لأنه غير
جائز شرعاً وضد القانون الكنسي، لأن أساقفة الكنيسة ذاتها هم الذين ينبغي أن
يرسموا واحداً على هذه الكنيسة نفسها من نفس كهنتها ومن ذات الإكليروس الذي
للكنيسة، وهكذا لا تُطرح جانباً القوانين المسلَّمة من الرسل.

وأنا
أسأل لو كانت هذه الإساءة قد اقترفت ضدّ أي واحد فيكم، أما كنتم تتعجَّبون منها
وتستنكرونها مطالبين بالعدالة ضد مرتكبي هذا التعدِّي على القوانين؟

أيها
الأحباء الأعزاء، نحن نتكلَّم بالصدق أمام الله معلنين أن هذا الإجراء لا هو ديني
ولا قانوني ولا كنسي!

ثم
أيضاً إن التقارير التي وردت بخصوص سلوك غريغوريوس أثناء دخوله المدينة تُظهر
بوضوح الدوافع الأخلاقية وراء تعيينه. فبينما الوقت وقت سلام كما أخبرنا الذين
أتوا من الإسكندرية، وأيضاً كما وصف الأساقفة الحال في خطابهم، وإذا بالنار تشتعل
في الكنيسة، والعذارى يتعرين، والرهبان يُداسون تحت الأقدام، والكهنة وكثير من
الشعب يُجلَدون ويُعذَّبون، والأساقفة يُطرحون في السجن([101])،
وجماعات من الشعب ينقَلون من مكان لمكان، والأسرار المقدَّسة التي
اتهموا مكاريوس سابقاً بخصوصها اختطفها الوثنيون وألقوها على الأرض.
وهذا كله ليجبروا بعض الناس على قبول غريغوريوس. أليس مثل هذا السلوك يُظهر بوضوح
حقيقة أُولئك الناس الذي يتعدَّون القوانين؟

لأنه
لو كان هذا التعيين (تعيين غريغوريوس) قانونياً لما احتاج غريغوريوس إلى استخدام
أعمال غير قانونية ليجبر هؤلاء، على الخضوع له، الذين يقاومونه بمقتضى القانون!
وأنتم وبالرغم من كل هذا الذي حدث تكتبون قائلين إن كل شيء هادئ في الإسكندرية
والسلام يعمُّ مصر. والحقيقة تماماً عكس ذلك، إلاَّ إذا كان السلام قد تغيَّر
معناه كلية عندكم وصار عكس ما هو، حتى إنكم تدعون هذه الأعمال سلاماً؟ …

(نقتطع
هنا من خطاب يوليوس بعض السطور الخاصة بموضوع الأسقف مارسيللوس وبعض البلاد
الأخرى. لأننا إنما نركِّز على تاريخ حياة أثناسيوس بنوع خاص).

والآن
وأنتم ذوو أحشاء رحمة، انتبهوا لتصحِّحوا كما قلت لكم سابقاً
هذه المتناقضات التي اقتُرفت ضد القوانين. حتى يمكن لكل انحراف حدث أن يتصحَّح
بغيرتكم. ولا تكتبوا أني فضلت الشركة مع مارسيللوس وأثناسيوس عليكم. لأن مثل هذه
الشكوى لا تُفصح عن سلام بل تشير إلى الحسد والخصام بين الإخوة، ومن أجل هذا أنا
كتبت ما كتبته إليكم حتى تعلموا أننا تصرَّفنا ليس بدون عدل عندما قبلناهما في
الشركة حتى ننهي على هذا النزاع لأنكم لو كنتم حضرتم إلى هنا
وأثبتُّم هذه التهم ضدهم ولم يستطيعوا هم أن يقيموا الدليل المعقول لبراءة قضيتهم،
لكان يحق لكم أن تكتبوا ما كتبتموه. ولكن إذ نرى أننا تصرَّفنا بحسب القانون وليس
بدون عدل كما قلت سابقاً في قبولنا الشركة معهم، فإني
أتوسَّل إليكم بحق المسيح ألا تتسبَّبوا في تمزيق أعضاء المسيح إلى نصفين ولا
تركنوا إلى المحاباة، ولكن جدُّوا في إثر سلام الرب. لأنه ليس مقدَّساً ولا
عادلاً، أنه لكي نرضي مشاعر صغيرة لقلة من الأشخاص، نطرح آخرين لا لوم عليهم،
وبذلك نحزن الروح.

ولكن
إذ كنتم تعتقدون أنكم قادرون أن تثبتوا شيئاً ضدَّهم وتواجهوهم بالخطأ وجهاً لوجه،
فليحضر منكم مَنْ يشاء، لأنهم هم أيضاً قد وعدوا أنهم على استعداد أن يقيموا الحجة
على كل ما قدَّموه من التقارير إلينا.

لذلك
أرجو أن تعطونا رأياً في هذا أيها الأحباء الأعزاء حتى نستطيع أن نكتب إليهم
وللأساقفة الذين سيجتمعون، حتى يمكن إدانة المتهمين في حضرة الجميع ولا يسود
الارتباك على الكنيسة هكذا، ويكفي ما قد حدث، نعم يكفي بالتأكيد أن تصدر أوامر نفي
لأساقفة في حضرة أساقفة، الأمر الذي لا يليق لي أن أتكلَّم عنه أكثر من ذلك،
لئلاَّ أظهر كأني أُضيِّق الخناق على الذين حضروا في هذه المناسبات. ولكن إن كان
ينبغي أن نقول الحق، فالأمور ما كان ينبغي أن تشط هكذا بعيداً، وما كان يليق أن
يُسمح لمثل هذه المشاعر الصغيرة أن تصل إلى هذا الحضيض.

أيها
الأحباء، إن قرارات الكنيسة لم تعد بعد بحسب الإنجيل ولكنها تميل فقط إلى النفي
والموت. ولنفترض كما تؤكِّدون أن هناك أخطاءً ثابتة على
هؤلاء الأشخاص، فالأمر كان يقتضي أن لا تُدار هذه القضية ضدَّهم بخلاف القانون،
وإنما بمقتضى قانون الكنيسة. فكان ينبغي أن تُكتب عريضة وتُرسَل لنا جميعاً، حتى
يتسنَّى للجميع أن يصدروا حكماً عادلاً. لأن الذين كابدوا الألم هم أساقفة وكنائس
ذات شهرة ليست عادية، فقد قادها الرسل وحكموا فيها بأشخاصهم.

ولماذا
لم تخبرونا بشيء فيما يختص بكنيسة الإسكندرية على الخصوص؟ أم تجهلون أن العادة جرت
أن يُكتب لنا أولاً، وبعد ذلك يمكن أن نمرِّر من هنا قراراً عادلاً. فإن كان أي شك
مثل هذا قد استقر على الأسقف هناك (الإسكندرية)، كان يلزم أن تُرسل إشارة إلى
الكنيسة هنا (روما)؛ لأنه بعدما أهملتم في أن تخبرونا وتصرَّفتم بمقتضى سلطانكم
كما أردتم، الآن تريدون أن تحصلوا على موافقتنا فيما قررتموه، مع أننا لم نتهمه في
شيء على الإطلاق. لم تكن قوانين بولس هكذا، ولا كانت هكذا تقاليد الآباء تسير؛ هذا
إجراء مخالف وممارسة غريبة. أتوسَّل إليكم ليكن استعدادكم للاحتمال معي. فما أكتبه
أكتبه للصالح العام، لأن ما استلمناه من بطرس الرسول هذا أفيدكم به. على أني لم
أكن أكتب لكم هذا لولا أنها أمور تقلقنا. فالأساقفة يُنزعون من كراسيهم ويُطرحون
في النفي بعيداً، وغيرهم من نواحي غريبة يحتلون أماكنهم، وآخرون بالغدر والخيانة
هوجموا، والشعب يبكي ويكتئب من أجل الذين انتُزعوا منهم بالقوة …

أسألكم
أن تكفُّوا عن هذا، بل أن تعلنوا الأشخاص الذين يأتون هذه الأمور، تعلنوهم كتابة،
حتى لا تُمتهن الكنيسة هكذا، ولا يعود أسقف أو كاهن يُهان، ولا يُرغَم أحد على أن
يعمل شيئاً لا يقره لئلاَّ نصير أُضحوكة بين الوثنيين، بل وفوق هذا لئلاَّ نثير
غضب الله علينا.

لأن
كل واحد منا سوف يعطي حساباً في يوم الدينونة عن الأشياء التي صنع في حياته.
فليتنا جميعاً نكون مأسورين لفكر الله حتى تستعيد الكنائس أساقفتها الخصوصيين
وتُسرَّ بالأكثر في المسيح يسوع ربنا الذي به يليق المجد للآب إلى الأبد آمين.

إني
أُصلِّي أن تكونوا معافين في الرب أيها الإخوة الأعزاء المحبوبين والمشتاق جدًّا
إليهم].

ÏVÒ

أمَّا
تعليقنا على ما جاء في هذا الخطاب التاريخي الحافل فهو كالآتي:

1
إن عرض الحقائق التي جاءت في هذا الخطاب تكشف عن مدى الانسجام الذي
حدث بين يوليوس وأثناسيوس، لأنها كلها من تلقين أثناسيوس وبأسلوبه التحقيقي
الدقيق، وقد صاغها يوليوس في رزانة كأنها مسلَّمة من الرسل.

2
استطاع البابا أثناسيوس أن يضم إليه يوليوس وكل أساقفة إيطاليا لا
كمجرَّد أصوات تشهد لجانبه، ولكن كأشخاص تشرَّبوا كل مفاهيم أثناسيوس وفكره
التقليدي؛ وهذا يزداد وضوحاً وأهمية إزاء تكرار يوليوس بالتمسُّك بقوانين الرسل
والكنيسة والتقليد، فكل هذا وغيره مما سبق أن قاله أثناسيوس في خطابه العام أو في
دفاعه ضد الهراطقة تسجَّل في خطاب يوليوس بألفاظ يوليوس وبحماسه وبغيرة رومانية
تبدو مستقلة، وهي بذلك تكشف عن مدى التأثير الذي استطاع أثناسيوس أن يسكبه في
الشعور واللاشعور الروماني، والغربي بوجه عام.

ونحن
هنا لسنا بصدد التفاخر، ولكن نريد أن نكشف عن الخطوات الأُولى التي انتقل بها
التقليد الإسكندري الأرثوذكسي إلى روما والغرب من حيث الأمور الكنسية بوجه عام،
والأسرار والتقاليد الطقسية والرهبنة بوجه خاص.

وفي
ذلك يقول المؤرِّخ المشهور ميلمان: [إن نتائج هذه الزيارة التي قام بها
أثناسيوس لروما أسفرت عن تشبُّع مسيحية الفكر اللاتيني بأرثوذكسية الإسكندرية.]
([102])

بل
يقول هذا المؤرِّخ أيضاً: [إن الكنيسة اللاتينية تتلمذت له، ولكنها لم تستطع أن
تمتص لاهوته كما ينبغي.]
([103])

كما
يقول روبرتسون: [ومن هذه الزيارة دخلت الرهبنة إلى الغرب.]([104])

3
إن مهاجمة اليوسابيين الحمقاء التي بلا مبرر ولا سند لها ضد يوليوس،
كشفت ليوليوس عن مدى انحراف يوسابيوس وجماعته، وفتحت أذهان أساقفة الغرب وروما
بوجه عام إلى خطورة هؤلاء القوم وإلى خبث وسائلهم وعنفهم الإجرامي ودسائسهم،
وبالتالي كشفت عمَّا في العقيدة الأريوسية من أخلاقيات منحطة، وبذلك فإن زيارة
أثناسيوس لروما ولكل مدن الغرب تُعتبر أنها جاءت بمثابة تطعيم واقي مبكِّر ضد
الأريوسيين والأريوسية بوجه عام، حتى وإن ظهر
فيما بعد أنها لم تأتِ بالتطعيم الكافي أو بالقدر الذي يعطي المناعة الكاملة.

4
لم يتخذ يوليوس أي أسلوب يُستشف منه أنه يحكم الكنيسة بروح الخلافة
الرسولية كبطرس، فلم يصدر حكماً شخصياً في الموضوع كله، مع أنه هو نفسه قال إن
القضية برمتها لا تستوجب مجمعاً عاماً ولا أخذ آراء، لأن أعمال الأريوسيين خارجة
عن الروح الكنسية والقوانين والتقاليد بوجه عام كذلك لم يرد يوليوس
بالنفي على المبدأ الذي أكَّده أساقفة الشرق ليوليوس بخصوص السلطان المتساوي
للأساقفة جميعاً، مهما كانت أهمية المدن التي يحكمون عليها. بل إن يوليوس رد على
ذلك بالموافقة تقريباً مضيفاً إلى ذلك أنه لا يكتب ولا يقرِّر من نفسه، وإنما ينقل
رأي جميع أساقفة إيطاليا وتلك النواحي. ويؤكِّد أن أي إجراء يمس الأساقفة لا يمكن
أن يكون له أي وزن أو فاعلية إذا لم يأخذ موافقة إجماعية. ولم يقدِّم نفسه في هذه
الموافقة الإجماعية أو يجعل نفسه فوقها.

5
بخصوص علاقته الخاصة بكرسي الإسكندرية، يحاول يوليوس أن يستمد هذه
العلاقة من تقاليد قديمة في الكنيسة، كمجرَّد علاقة مضمونها أن يؤخذ رأيه فقط فيما
يختص بأي إجراء ضد أسقفها، وهنا أيضاً لا يريد يوليوس أن ينفي المبدأ الأول أن
سلطان الأساقفة متساوٍ بين الأساقفة عموماً دون النظر إلى عظم
المدينة التي يحكم عليها أيٌّ منهم، ولكنه يريد أن يجعل من نفسه نصيراً قانونياً
لأثناسيوس.

ويلاحظ
أن يوليوس يتكلَّم في نهاية الخطاب عن كرسي وكنائس الأساقفة، بأنها كراسي وكنائس
رسولية حَكَمَها الرسل بأنفسهم، ولم يميِّزوا بين رسول ورسول، فبولس كبطرس كمرقس.

وقع خطاب يوليوس على اليوسابيين:

ما
أن وصل خطاب يوليوس إلى أساقفة الشرق الذين سبقوا وكتبوا له حتى قرَّروا أمرين:

الأول: انتهاز فرصة تدشين الكنيسة “المذهَّبة” لعقد
مجمع يُطرح فيه أمر يوليوس أسقف روما، والرد عليه بخطاب شديد.

الثاني: إرسالة بعثة من قِبَل مجمع أنطاكية إلى قسطانس
إمبراطور الغرب، يشكون أثناسيوس ويوغرون صدره من جهته.

 

مجمع أنطاكية المشهور بمجمع التدشين

لمَّا
انتهى مجمع روما في نهاية سنة 340م، لأن المجمع عُقد في ديسمبر، وكلَّف المجمع
يوليوس بكتابة خطاب لأساقفة الشرق الذي وصلهم في بداية سنة 341م، أثار الخطاب
حفيظة اليوسابيين إلى درجة كبيرة وصمَّموا على مناوأة يوليوس، وانتهزوا فرصة تكريس
الكنيسة المذهَّبة بأنطاكية وعقدوا مجمعاً وجمعوا إليه سبعة وتسعين أسقفاً معظمهم
من المتحفظين، ولكن ترأسه الأريوسيون. وكان يوسابيوس النيقوميدي حاضراً
ولكن لم يكن قد تبقَّى على نهاية حياته إلاَّ بضعة شهور أمَّا
يوسابيوس بامفيليوس القيصري، فكان قد مات منذ سنتين وخلفه أكاكيوس على قيصرية
فلسطين وهو تلميذ يوسابيوس بامفيليوس، وترأَّس المجمع المدعو ديانيوس أسقف قيصرية
كبادوكيا.

ويقدِّم
لنا سقراط صورة للانفعال الذي قابل به المجمع خطاب يوليوس الذي برَّأ فيه أثناسيوس
وبقية الأساقفة الذين اضطهدهم ونفاهم الأريوسيون:

[ولمَّا
اعتبر هؤلاء الأشخاص (الأساقفة الأريوسيون) أن توبيخات يوليوس أهانت كرامتهم، دعوا
إلى مجمع في أنطاكية اجتمعوا معاً فيه وأملوا خطاباً ردًّا على خطابات يوليوس
كتعبير عام عن الشعور الواحد المتضامن للمجمع بأكمله. فلم يكن من اختصاصه
كما قالوا أن يقاضي قراراتهم بخصوص أيٍّ من الذين يريدون طرده من
كنائسهم، بالمثل كما أنهم لم يعرِّضوا أنفسهم ضدَّه عندما طُرد نوفاتس من الكنيسة.
هذه الأمور أبلغها أساقفة الشرق إلى يوليوس أسقف روما.]([105])

أمَّا
سوزومين المؤرِّخ فيعطينا صورة أكثر تفصيلاً:

[واجتمع
الأساقفة (الشرقيون) في أنطاكية وصاغوا ردًّا على يوليوس نمَّقوه بحذق ومهارة
قانونية فائقة، غير أنهم ملأوه بالتهكُّم والتهديدات، واعترفوا في هذا الخطاب أن
كنيسة روما تقلَّدت بكرامة مسكونية، لأنها كانت مدرسة الرسل وصارت أُم التقوى منذ
البدء، غير أن الذين جلبوا لها العقيدة واستقروا فيها جاءوا من الشرق. ولكنهم
أضافوا أن الدرجة التالية من الكرامة لا ينبغي أن تكون من نصيبهم بسبب كونهم لم
يحوزوا على مدن أكبر أو عدد أكثر في كنائسهم، لأنهم يفوقون الرومانيين في الفضيلة
وفي القدرة على الفصل والحكم! ثم دعوا يوليوس لتقديم حساب عن قبوله أثناسيوس
وأتباعه في الشركة، وأفصحوا له عن سخطهم ضدَّه لأنه أهان مجمعهم وأبطل قوانينهم،
وهاجموا أعماله باعتبارها غير عادلة ومتعارضة مع الحق الكنسي.

وبعد
هذه التوبيخات والاحتجاجات بدأوا يهدِّدون أنه إذا اعترف بعزل الأساقفة الذين
طردوهم وبالآخرين الذين حلُّوا محلهم، فإنهم يعدونه بالسلام والزمالة، وإلاَّ
فإنهم سيعلنون مقاومتهم له علناً.]([106])

وتكاد
تكون صيغة هذا الخطاب مماثلة لصيغة الخطاب الذي سبق أن أرسلوه أيضاً ليوليوس ردًّا
على دعوته لعقد مجمع في روما. ويقول كل من سقراط وسوزومين أنه بعد انفضاض المجمع
حدث زلزال مروِّع في منطقة أنطاكية([107]).

بعثة الأريوسيين إلى الإمبراطور قسطانس في الغرب:

وهنا
نعطي الكلمة للقديس أثناسيوس نفسه حيث يصف التئام مجمع أنطاكية لثاني مرَّة بعد
عدة شهور قليلة من انعقاد “مجمع أنطاكية التدشيني”، وذلك في خريف سنة 341م، بغرض
إرسال بعثة وشاية لقسطانس إمبراطور الغرب:

[اجتمع
تسعون أسقفاً تحت رعاية القنصلين مارسللينوس وبروبينوس في سنة 341م([108])،
وكان قسطنطيوس اللاديني حاضراً في هذا المجمع، وكما دبَّروا الأمور هكذا في
أنطاكية وقت التدشين (الاجتماع الأول) رأوا أيضاً (في هذا الاجتماع) أن تركيباتهم
لصيغ الإيمان لا تزال ناقصة فبدأوا مرَّة أخرى يصيغون منطوقاً آخر للإيمان، وهكذا
لم يكفُّوا عن تقلبهم، وأرسلوا بعثة من الأساقفة نارسيسوس ومارس وثيئوذوروس
وماركوس إلى بلاد الغال (تريف)، مرسَلين من
قِبَل المجمع ليقدِّموا هذه الصيغة إلى قسطانس أغسطس المطوَّب
الذكر]([109])

ولكن
يبدو أن الإمبراطور قسطانس نفسه هو الذي طلب هذه البعثة (بمقتضى توصيات من يوليوس
أسقف روما)، وهذا يتبيَّن لنا أكثر من تسجيلات المؤرِّخ سوزومين:

[ولمَّا
أدرك يوليوس أسقف روما أن ما كتبه لذوي الكرامة
الكهنوتية في الشرق أصبح بلا فائدة، أَطلع الإمبراطور قسطانس على الأمر (قسطانس
إمبراطور على كل الغرب بعد موت أخيه قسطنطين الثاني)، وبناءً على ذلك كتب قسطانس
لأخيه قسطنطيوس يرجوه إرسال بعض الأساقفة من الشرق ليقدِّموا الأسباب التي من
أجلها أصدروا قانون عزل الأساقفة. وهؤلاء اختاروا ثلاثة أساقفة لهذا الغرض،
وبالاسم: نارسيسوس أسقف ايرينوبوليس في كيليكيا، وثيئوذور أسقف هيراكليا في تراس،
ومارك أسقف أريثوسا بسوريا. وبوصولهم إلى إيطاليا (ومنها إلى تريف) جاهدوا ليبرروا
أعمالهم، ويقنعوا الإمبراطور أن الحكم الذي صدر من مجمع الشرق كان عادلاً، ولمَّا
طلب منهم أن يقدِّموا منطوقاً مكتوباً لإيمانهم أخفوا الصيغة التي وضعوها في
أنطاكية
(وهكذا ينبغي أن يكون الإيمان وإلاَّ فلا!!)، وقدَّموا اعترافاً آخر
مكتوباً (وهذا ما قرَّره أثناسيوس أيضاً)([110]).
وكان هذا أيضاً مخالفاً لاعتراف نيقية. وأدرك قسطانس أنهم بغير حق تصيَّدوا بول
(أسقف القسطنطينية) وأثناسيوس (أسقف الإسكندرية) وأنهم عزلوهما من الشركة، لا بسبب
اتهامات تخص السلوك كما هو ثابت في قرار العزل وإنما بسبب اختلاف العقيدة، وبذلك
طردهم دون أن يعطيهم أي تصديق على صور الإيمان (التي أحضروها وحضروا من أجلها).]([111])

ويعطينا
المؤرِّخ هيلاري أسقف بواتييه السبب المباشر في انتباهة الإمبراطور قسطانس لغش هذه
البعثة وخروجها عن الإيمان الصحيح، إذ يذكر أن مكسيمينوس أسقف تريف الرجل الصالح
صديق أثناسيوس، كان حاضراً هذه المقابلة، وهو الذي نبَّه الإمبراطور إلى خطورة
مقاصد هذه البعثة([112]).

كما
يذكر المؤرِّخ سوزومين أن مكسيمينوس أسقف تريف رفض السماح لأعضاء هذه البعثة في
الاشتراك معه في الصلاة معتبراً إياهم مقطوعين من الشركة لأنهم أريوسيون، الأمر
الذي انتقم له أساقفة الشرق بعد ذلك وحكموا بعزل مكسيمينوس وقطعه من الشركة([113]).

مقابلة أثناسيوس للإمبراطور قسطانس
وفكرة عقد مجمع عام
(خريف سنة 342م):

يقول
بعض المؤرِّخين ومن ضمنهم ثيئوذوريت إن أثناسيوس ترجَّى الإمبراطور قسطانس أن يدعو
إلى مجمع عام يضم أساقفة الشرق والغرب، ولكن الحقيقة يعرضها أثناسيوس نفسه بمنتهى
الوضوح في دفاعه لدى قسطنطيوس، باعتبار أنه استُدعي لمقابلة الإمبراطور في ميلان
عاصمة شمال إيطاليا، ليُعلمه الإمبراطور بنيته في عقد مجمع، الأمر الذي لم يشترك
أثناسيوس في الاقتراح بشأنه:

[وأنا
لم أكتب إلى أخيك (الإمبراطور قسطانس) إلاَّ عندما كتب إليه يوسابيوس، وأتباعه
سبقوا وكتبوا إليه يتهمونني، فكنت مضطراً وأنا مقيم في الإسكندرية آنئذ أن أدافع
عن نفسي، ثم كتبت إليه مرَّة أخرى عندما أرسلت إليه المجلَّدات (
pukt…a = طرد كتب) التي تحوي الأسفار
المقدَّسة، (وكان إقليم البهنسا مركز توزيع عالمي)، التي كان قد سبق وطلب مني أن
أعدها له، وإنه يليق لي وأنا بصدد الدفاع عن نفسي أن أقول الحق “لتقواكم”: إنه بعد
مضي ثلاث سنوات منذ إقامته في روما كتب إليَّ في السنة الرابعة (صيف سنة 342م)
يأمرني بالمثول أمامه وقد كان وقتها في ميلان وأنا
عندما استفسرت عن السبب لأني كنت أجهل ذلك والرب شاهد لي
علمت أن بعض الأساقفة ذهبوا إليه يترجُّونه في الكتابة لكم راغبين أن يُعقد مجمع.
وصدقني يا سيِّدي أن هذا هو حقيقة الأمر وأنا لا أكذب. وبناءً عليه ذهبت إلى ميلان
واستُقبلت منه بلطف كثير لأنه تنازل لرؤيتي، وأخبروني أنه أرسل خطابات إليك يرجو
فيها أن يدعو إلى مجمع. ولمَّا كنت في المدينة (ميلان) أرسل إليَّ لأذهب إلى
الغال، لأن الأب هوسيوس كان سيذهب إلى هناك، حتى نرحل معاً من هناك إلى سرديكا
(صوفيا عاصمة بلغاريا الآن على نهر الدانوب).]([114])

وبخصوص
المقابلة التي تمَّت في ميلان، فيعتقد المؤرِّخ جواتكن أنها تمت في مايو سنة 342م.
بحضور بروتاسيوس أسقف ميلان([115]).
أمَّا رحلة البابا أثناسيوس من ميلان إلى تريف بفرنسا، فكانت في خريف عام 342م،
وأمَّا انتقال قسطانس السريع من ميلان عاصمة شمال إيطاليا إلى تريف عاصمة فرنسا،
فبسبب ثورة الفرنسيين (الفرنك) التي أراد أن يخمدها بنفسه، وبعدها رحل قسطانس إلى
بريطانيا، ولم يعد منها إلاَّ قبيل ميعاد انعقاد مجمع سرديكا.

 

مجمع سرديكا (صوفيا) صيف عام 343م

أمَّا
سرديكا هذه، فهي “صوفيا” الآن عاصمة بلغاريا. وكانت تقع على الحدود الشرقية
للإمبراطورية الغربية، وهي على نهر الدانوب، وفي مقابلها وفي تخوم إمبراطورية
الشرق تقع مدينة فيلوبوليس. فإذا كانت آخر رحلة للبابا أثناسيوس هي التي قام بها
من ميلان إلى تريف في خريف سنة 342م، فالمعروف أن أثناسيوس بقي في تريف إلى أن
أمضى عيد الفصح هناك لسنة 343م. وأرسل خطابه الفصحي لهذه السنة إلى الإسكندرية
ولكن هذا الخطاب فُقد للأسف.

والآن
نأتي إلى التسجيلات التي حفظها لنا التاريخ لكي نعيش مع البابا أثناسيوس هذه
الفترة المملوءة بالأحزان والقلاقل، والتي حتى اليوم لا يزال المؤرِّخون في حيرة
من ثبت تواريخها.

أمَّا
أساقفة الغرب فبلغ عددهم 95، أمَّا أثناسيوس ومارسيللوس واسكليباس فقد وصلوا بصحبة
هوسيوس من تريف، أمَّا بول أسقف القسطنطينية فكان غائباً وأناب عنه اسكليباس أسقف
غزة، الذي كان قد عُزل من كرسيه منذ سبع سنوات.

أمَّا
الشرقيون فحضروا كجماعة واحدة متحدة، وقد انضم إليهم عشرة من أساقفة مصر
الأريوسيين ومن ضمنهم اسخيراس، لأنهم رسموه أسقفاً، ومعهم ضابط ومن
بينهم فيلارجيوس لحماية الأساقفة. ونزلوا في أحد قصور صوفيا (سرديكا)
وكان عددهم حوالي 76 أسقفاً. والمعروف أن المجموع الكلي لأساقفة سرديكا كان حولي
170 (أكثر أو أقل)، الغربيون اجتمعوا في سرديكا على الحدود بين الإمبراطوريتين،
والشرقيون هربوا واجتمعوا في مدينة فيلوبوليس المقابلة لسرديكا داخل حدود
إمبراطورية الشرق (لقسطنطيوس)، حيث كتبوا خطابات احتجاج شديدة اللهجة برفضهم دخول
المجمع إذا دخله أثناسيوس وجماعته وباقي الأساقفة الذين حكموا عليهم زوراً
وبهتاناً بالعزل والنفي، وإزاء إصرار الغالبية المطلقة على وجوب حضور المتهمين
المعزولين ليدافعوا عن أنفسهم، انسحب الأساقفة الشرقيون وهربوا ليلاً بعد أن تركوا
خطاباً بيد يوستاثيوس كاهن كنيسة سرديكا يعتذرون فيه أن الإمبراطور دعاهم للرجوع
بمناسبة عودته منتصراً من حرب الفرس! بعد أن
حرموا في خطابهم كل الرؤوس من هوسيوس إلى يوليوس إلى أثناسيوس فما دون …

وإليك
كلام القديس أثناسيوس فيما يختص بمجمع سرديكا:

[فلمَّا
رأى الإمبراطور قسطنطيوس وقسطانس الاضطرابات الحادثة في الكنائس من جراء أعمال
يوسابيوس وأتباعه وتدبير المؤامرات لتحطيم الكثيرين، أمروا أن يجتمع الأساقفة من
الغرب والشرق، أن يجتمعوا معاً في سرديكا. وفي هذا الوقت مات يوسابيوس النيقوميدي.

واجتمع
عدد كبير من جميع النواحي، وتوسمنا أن يوسابيوس وأتباعه سوف يخضعون للمحاكمة،
ولكنهم وهم عالمون بما صنعت أيديهم ورأوا أن خصومهم قد حضروا إلى المجمع، خافوا.
وبينما الكل أتى بنية طيبة إذا بهم يُحضرون معهم الكونت ميوزونيانوس (الذي كان
سابقاً والياً على الشرق) والكونت حزقيوس (رئيس ضباط القصر)، كما جرت معهم العادة
سابقاً حتى ينالوا أغراضهم بقوة سلطانهم.

ولكن
لمَّا اجتمع المجمع بدون ضباط على الإطلاق ولم يسمح حتى للعساكر بالحضور، بدأوا
يرتبكون وبدأت أفكارهم تضطرب لأنهم رأوا أن أمر الأحكام التي يرغبون في الحصول
عليها قد امتنع عليهم، إلاَّ ما سيمليه الحق والتعقُّل فقط.

(ولمَّا
أحجموا عن الحضور) بدأنا نتحدَّاهم وبدأ الأساقفة يدعونهم ملحِّين
للحضور قائلين لهم: لقد حضرتم للمحاكمة فلماذا تنسحبون، كان عليكم إمَّا أن لا تحضروا
كلية وإمَّا وقد حضرتم فلا تختبئوا؛ لأنكم بسلوككم هذا تثبتون التهمة على أنفسكم.
انظروا ها هو أثناسيوس وجماعته قد حضروا، هؤلاء الذين اتهمتموهم غيابياً، فإذا
كنتم تعتقدون أن لكم ضدَّهم شيئاً فعليكم أن تتهموهم وجهاً لوجه، ولكن إن كنتم
تدَّعون أنكم لا تريدون ذلك مع أنكم بالحقيقة غير قادرين على ذلك، فأنتم تكشفون
أنفسكم بوضوح أنكم مشاغبون ومدَّعون، وهذا ما
سيقرره المجمع عليكم. (فلمَّا سمعوا ذلك أُدينوا من جهة الضمير لأنهم
كانوا
يعلمون ما اقترفوه من مؤامرات وتلفيقات ضدَّنا). فاستحوا أن يظهروا ووضح أنهم
مدانون.

أمَّا
المجمع “المقدَّس” فقد أدان هروبهم غير المتزن والمشكوك فيه، وسمح أن
نقدِّم دفاعنا، فلمَّا سردنا وقائع سلوكهم ضدَّنا وبرهنَّا على أقوالنا بالحق
وبالشهود وبأدلة أخرى امتلأ الأساقفة بالدهشة، ورأوا أن هروب خصومنا بسبب خوفهم من
مواجهة المجمع كان أمراً واضحاً لئلاَّ تصير إدانتهم أمام وجوههم، كما اعتقدوا أن
هروبهم كان بسبب ظنهم أنهم بحضورهم من الشرق إلى المجمع ربما لا يجدون أثناسيوس
وجماعته، فلمَّا رأوهم واثقين من قضيتهم ومتحدِّين المحاكمة هربوا.

وبناءً
على ذلك قبلونا كأشخاص أُسيء إلينا واتُّهمنا باطلاً، وأكَّدوا لنا أُخوَّتهم
ومحبتهم.

وعزلوا
أتباع يوسابيوس في الشر، الذين أصبحوا بلا حياء أكثر من يوسابيوس نفسه: وهم
ثيئوذوروس أسقف هيراكليا، نارسيس أسقف نيرونيا، أكاكيوس أسقف قيصرية فلسطين،
اسطفانوس أسقف أنطاكية، أرساكيوس وفالنس أسقف بانونيا، مينوفانتوس أسقف أفسس، وجورج أسقف لاوديكا، وكتبوا لأساقفة العالم
وإلى كرسي الأساقفة المشار إليهم
هكذا:

المجمع
المقدَّس المجتمع في سرديكا بنعمة الله:

من
روما وأسبانيا والغال وإيطاليا وكمبانيا وكلابريا وآبيوليا وأفريقيا وسردينيا
وبانونيا وموسيا وداسيا ونوريكم وسيسيا وداردانيا ومكدونية وتسَّالي وأخائية
وأبيرس وتراس ورودوب وفلسطين وأرابيا (العرب) وكريت ومصر: (ويقول أثناسيوس إن عدد
الأساقفة بلغ أكثر من 400 أسقفاً)([116])

إلى
إخوتهم المحبوبين كهنة وشمامسة وكل كنيسة الله المقدَّسة الكائنة بالإسكندرية،
يرسلون تمنيات العافية في الرب.

لم
تكن الأمور مجهولة لدينا ولكنها كانت معروفة جيداً وقبل أن تصلنا الخطابات المرسلة
من الأتقياء الذين عندكم أن المدافعين عن هرطقة أريوس الكريهة كانوا يمارسون
المؤامرات الخطيرة التي هي بالأكثر لهلاك أنفسهم دون المساس بالكنيسة…

لقد
حاولوا جاهدين بالقوة والطغيان أن يباغتوا براءة أخينا وزميلنا الأسقف أثناسيوس
وسلكوا تجاهه مسلكاً بلا روية وبلا إيمان، وبلا أي نوع من العدالة، ومع أنهم
لا يملكون الثقة في إجراءاتهم التي يتلاعبون بها ولا في تقاريرهم التي أجروها
ضدَّه، بل وكانوا يرون أنهم غير قادرين على تقديم أي دليل لما يخطِّطون، فلمَّا
جاءوا إلى مدينة سرديكا أبدوا عدم رغبتهم في الاجتماع بالمجمع الذي يضم الأساقفة
القديسين. ومن هنا صار واضحاً أن تصميم أخينا وزميلنا الأسقف يوليوس كان
تصميماً عادلاً، لأنه بعد حرص وتروٍّ ودقة، صمَّم أنه لا ينبغي أن نتردَّد أبداً
بخصوص إقامة الشركة مع أخينا أثناسيوس، لأنه يملك شهادة تصديق من ثمانين أسقفاً،
كما استطاع أن يخوض هذه الاحتجاجات المقبولة لصفِّه، كذلك وبواسطة كهنته ورسائله
حطَّم كل تخطيطات يوسابيوس وأتباعه الذين كل اعتمادهم كان على العنف دون المحاجاة
القانونية.

لذلك
صمَّم جميع الأساقفة في جميع الأنحاء على إقامة الشركة مع أثناسيوس على أساس
براءته([117]).

على
أننا أيها الإخوة الأعزاء نحثّكم ونذكِّركم فوق كل شيء أن تحفظوا الإيمان الصحيح
مع الكنيسة الجامعة. أنتم الذين جُزتم هذه التجارب القاسية المريعة، لأنه ما أكثر
الإهانات والإساءات التي عانتها الكنيسة
الجامعة «ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص»
…]([118])

أمَّا
بخصوص تعيين غريغوريوس على كرسي الإسكندرية فقد قرَّر المجمع الآتي:

[أمَّا
بخصوص غريغوريوس الذي أرسلوه إلى الإسكندرية بواسطة الإمبراطور فقد أعلنوا أنه ليس
أسقفاً على الإطلاق ولا ينبغي أن يُدعى مسيحياً. وأن جميع الرسامات التي أجراها في
الإسكندرية باطلة وليست بذات فعل، والذين رسمهم لا تُذكر أسماؤهم في الكنيسة بسبب
خروجهم على القانون.]([119])

وقد
حضر هوسيوس أسقف قرطبة الأسباني، وكان قد بلغ سن الشيخوخة، وترأَّس المجمع وكان
أول مَنْ وقَّع بإمضائه وختم على قرارات المجمع، وذلك بحسب تحقيق وتسجيل البابا
أثناسيوس نفسه، ومن بعده يوليوس بيد مندوبيه، ثم أرخيداميوس أسقف سرديكا. ولكن
يحاول بعض المؤرِّخين المتأخّرين أن يثبتوا أن ممثِّلي يوليوس كانوا هم أصحاب
الأولوية.

ولكن
الذي يقطع في الأمر، هو قول أثناسيوس في الموضوع:

[ولكن
هروبهم لم ينجح بحسب رغبتهم، لأن المجمع المقدَّس، الذي كان مترئساً عليه هوسيوس
الكبير، كتب إليهم قائلاً: إمَّا أن تحضروا وتجاوبوا عن التهم الموجَّهة ضدَّكم
بخصوص اتهاماتكم الكاذبة التي قدَّمتموها ضد الآخرين، وإلاَّ فاعلموا أن المجمع سيحكم
ضدَّكم كمدانين، معلناً براءة أثناسيوس من أي لوم.]([120])

ومعروف
أن مجمع سرديكا استمر منعقداً كل شهر أغسطس وشهر سبتمبر، وفي نهاية المجمع أعلن
الإمبراطور قسطانس قرارات المجمع وأرسلها بيد الأسقفين الجليلين إفراتس أسقف
كابوا، وفنسنت أسقف كولونيا وهما على درجة “متروبوليت” إلى أخيه في أنطاكية. ولكن
أخطر ما كان في خطاب قسطانس إلى أخيه هو العبارة المشهورة أنه في حالة رفض
قسطنطيوس لعودة أثناسيوس إلى كرسيه يكون ذلك بمثابة
Casus belli أي بمثابة إعلان حرب.

أمَّا
نص الفقرة الخاصة بعودة أثناسيوس كما جاءت في الخطاب فيوردها سقراط هكذا:

[أثناسيوس
وبول موجودان هنا معي، وأنا مقتنع تماماً بعد الفحص أنهما مضطهدان بسبب تقواهما،
فإذا تكفَّلت أنت بإرجاعهما إلى كرسيهما وعاقبت الذين بدون وجه حق أساءوا إليهما،
فإني أرسلهما إليك. أمَّا إذا رفضت أن تعمل ذلك فتأكَّد أني سآتي بنفسي وأعيدهما
إلى كرسيهما (لاحظ أن بول هو أسقف القسطنطينية عاصمة إمبراطورية قسطنطيوس) بالرغم
من معارضتك.]([121])

وانطلق
الرسولان في الميعاد المناسب، وكان ذلك بعد اعتدال الطقس لإمكانية السفر، ويرجح
أنهما وصلا في موسم الفصح وذلك في بداية ربيع سنة 344م.

حرومات مجمع سرديكا:

وقد
وقع مجمع سرديكا الحرم والفصل من الكنيسة على أحد عشر أسقفاً أريوسياً، وكتبوا
هكذا: “وكما فصلوا الابن عن الآب، هكذا استحقوا أن يُفصلوا من الكنيسة الجامعة”.
ثم قام المجمع بتثبيت كل قوانين مجمع نيقية واتفقوا على أن تتبادل روما
والإسكندرية مواعيد الفصح وثبَّتوها لمدة خمسين سنة.

حرومات مجمع فيليبوبوليس الأريوسية:

أمَّا
خطاب الأساقفة الشرقيين الذين حرموا فيه هوسيوس أسقف قرطبة ويوليوس أسقف روما
وأثناسيوس أسقف الإسكندرية ومكسيمينوس أسقف تريف وبروتوجينيوس أسقف سرديكا فقد
ختموه بصورة عقيدتهم الجديدة التي صاغوها على ثلاث مراحل في مجامع أنطاكية الثلاثة
المتعاقبة سنة 339، سنة 340، سنة 341. وأرسلوا صوراً من خطابهم هذا إلى نواحي
عديدة كما أرسلوه لجماعة الدوناتيين في أفريقيا([122]).

وهكذا
لوَّثوا المسكونة كلها بأعمالهم وأفكارهم الشيطانية، التي قلبت الكنيسة منذ اليوم
المشئوم الذي ظهر فيه اسم أريوس في الكنيسة، فإن كان الأشرار كالعُصافة التي
تذريها الريح، إلاَّ أنها سريعة الانتشار تؤذي الأبصار وتطمس معالم الطريق وتسد
أنفاس الأتقياء. وابن الأفعى لا يكون إلاَّ أفعواناً.

الآثار المباشرة التي ترتَّبت على مجمع سرديكا:

استطاع
الأساقفة الشرقيون أن يبطلوا إلى حد ما النتائج التي وصل إليها المجمع من حيث
إمكانية عودة الأساقفة المعزولين إلى كراسيهم.

وقد
استخدم الأريوسيون الإجراءات الحاسمة الشديدة في مظهرها التي اتخذها أساقفة الغرب
وخصوصاً الحرم الذي أوقعوه على أحد عشر أسقفاً من رؤوس الأريوسيين المحركين
للأحداث والمقرَّبين من الإمبراطور قسطنطيوس، واستخدموا هذا لإثارة قسطنطيوس
وتحريضه لمزيد من القسوة والبطش برجال أثناسيوس وبقية الأساقفة الأرثوذكس، إذ أصدر
قسطنطيوس أوامره لولاة الإسكندرية بقتل أثناسيوس حال ظهوره في المدينة أو أيٍّ من
كهنته المرافقين له، وقد ذكرهم بالاسم، إذا هم اقتربوا من الإسكندرية. وأصدر أمره
بنفي خمسة من أئمة الإكليروس بالإسكندرية إلى أرمينيا.

[وربطوا
لوقيوس أسقف أدرينوبل بسلسلة من الحديد في رقبته وفي يديه وقادوه إلى المنفى حيث
مات، أمَّا بقية الشعب في أدرينوبل الذين رفضوا الشركة مع الأريوسيين تطبيقاً
لقرارات مجمع سرديكا، فقد انتخبوا عشرة من أئمة الشعب واستصدروا أمراً من قسطنطيوس
بذبحهم، وكان فيلارجيوس هو الوالي على هذه المنطقة، وقد قام بتنفيذ الإعدام
واستودعوا جثثهم قبوراً بجوار المدينة يراها المسافرون على جانب الطريق.]([123])

أمَّا
ما جرى لشعب الإسكندرية فيصفه أثناسيوس، بناءً على التقارير التي وصلته هكذا:

[أمَّا
في الإسكندرية فقد أرادوا أن يثبتوا هيبتهم ورعبهم كما فعل آباؤهم في “تراس” (تراقيا)، فقد استصدروا أمراً مكتوباً أن
تُحرس الموانيء وأبواب المدينة لئلاَّ يعود المنفيون بحسب قرار سرديكا إلى
كراسيهم، كما أرسلوا الأوامر إلى الولاة في الإسكندرية بخصوص أثناسيوس وبعض الكهنة
وقد ذكروهم بالاسم، أنه إذا رئى الأسقف أو أيٌّ من الآخرين مقترباً من حدود
المدينة يكون لهم السلطان لذبحهم، كل مَنْ يكتشفونه.]([124])

ثم يعود أثناسيوس أيضاً يصف حال بلبلة الشعب وهرب المختارين
منهم إلى الصحاري والبراري:

[وحتى
بعد ذلك لم يهدأوا أبداً. فكما كان أبو هرطقتهم يوسابيوس كالأسد يجول زائراً يريد
مَنْ يبتلعه، هكذا هؤلاء (الأريوسيون)، الذين تملَّكوا الوظائف العامة، كانوا
يتربصون بأي شخص يعيِّرهم بهروبهم الذي هربوه في سرديكا
أو أيّ من الذين يظهرون بغضتهم للهرطقة الأريوسية فإنهم كانوا يأمرون بضربه
بالسياط ويربطونه بالسلاسل وينفونه إلى أماكن بعيدة، وبذلك جعلوا من أنفسهم رعباً
وفزعاً للناس وعلَّموهم المراءاة ودفعوا بالآخرين للهرب إلى الصحاري أفضل من أن يتعاملوا
معهم.]([125])

محاولة شيطانية للإيقاع بشرف أساقفة قسطانس، فكانت هي
النهاية:

يصف
هنا أثناسيوس بنفسه هذه الواقعة المخجلة للغاية. ولكن مَنْ يريد التفاصيل أكثر
فليراجع: “تاريخ الكنيسة لثيئودوريت 7: 2”، حيث يذكر هذه الواقعة بدقة بالغة مع كل
الأسماء التي اشتركت فيها:

[معروف
أن الإمبراطور قسطانس أرسل وفداً من قبله بناءً على توصيات المجمع المقدَّس في
سرديكا، قوامه أسقفان شيخان هما فنسنتيوس أسقف كابوا وهو متروبوليت منطقة كمبانيا،
وأيوفراتس أسقف أجربينا وهو متروبوليت كل شمال فرنسا، حتى يستطيعا أن يحصلا على
موافقة قسطنطيوس على قرارات المجمع بخصوص رجوع الأساقفة إلى كراسيهم، نظراً لأن
قسطنطيوس هو في الأصل المتسبِّب في نفيهم بعيداً عن كراسيهم. وقد كتب الإمبراطور
التقي قسطانس موصياً أخاه من جهة هذين الأسقفين.

ولكن
هؤلاء الرجال المحترمين، الذين كانوا دائماً على مستوى الأعمال القذرة والدنيئة،
عندما رأوا هذين المندوبين في أنطاكية تشاوروا معاً في أمرهما، واهتدوا إلى مؤامرة
جديدة بل جريمة قام اسطفانوس أسقف أنطاكية بتنفيذها
بنفسه، إذ رأى أنه جدير بهذه المهمة، فقد استأجروا امرأة عاهرة عمومية
ونحن للعلم في موسم عيد القيامة المقدَّس سنة 344م. وعرُّوها
وأدخلوها بالليل في مسكن الأسقف إيوفراتس. وقد ظنَّت العاهرة أنه شاب فرافقتهم عن
رضى. ولكن عندما أدخلوها ورأت الرجل نائماً وغير واعٍ لما يحدث حوله وتطلَّعت إليه
فوجدته رجلاً شيخاً وبهيئة أسقف، صرخت في الحال بأعلى صوتها معلنة أنهم أدخلوها
بالقوة، وحاولوا إسكاتها وتفهيمها أن تلفِّق التهمة معهم ضد الأسقف، ولكن عبثاً،
فقد شاع الأمر في كل مكان، ولمَّا لاح الصباح تدافعت المدينة كلها وجاء قوم من قصر
الإمبراطور وهم في غاية الاضطراب منذهلين من الخبر الذي بلغهم آمرين أن لا يُترك
هذا الأمر ليعبر بسكوت.

وأُجري
تحقيق في الأمر فقدَّم متولي قيادة هذه العاهرة بيانات عن الأشخاص الذين جاءوا
إليه طالبين منه هذه العاهرة، ثم حقَّقوا مع هؤلاء الأشخاص وكانوا من
الإكليروس واستجوبوهم، فأرشدوا إلى اسطفانوس أسقف أنطاكية لأنهم
كهنته!! وهكذا عزلوا اسطفانوس (الأريوسي) عن كرسيه.]([126])

الإمبراطور قسطنطيوس يجوز انتفاضة إيمانية وأخلاقية:

أثَّرت
جريمة اسطفانوس أسقف أنطاكية (بدرجة بطريرك) في نفسية قسطنطيوس أيَّما تأثير، إذ
جعلته ينتفض (ولو إلى حين) انتفاضة جديدة في إيمانه وأخلاقه ويشعر بمدى الضلال
والتضليل الأخلاقي الذي عاشه الأريوسيون وعايشوه فيه معهم! وأمر في الحال بعقد
مجمع في أنطاكية، وهو المجمع الرابع لهؤلاء الأريوسيين، في نفس المدينة التي
اتخذوها مركزاً لمؤامراتهم على الإيمان وعلى حفظة الإيمان سواء بسواء … ويأتي
هذا المجمع بعد ثلاث سنوات تماماً من مجمع أنطاكية المعروف بمجمع التدشين، وذلك
بحسب تسجيل أثناسيوس، فلو علمنا أن مجمع التدشين كان في منتصف صيف سنة 341م. يصبح
تحديد هذا المجمع بحسب تسجيلات أثناسيوس في منتصف سنة 344م وهذا ينطبق تماماً مع
مجريات أزمنة الحوادث أمامنا حتى الآن.

وقد
حكم المجمع أول ما حكم، بعزل استفانوس عزلاً فاضحاً وأُقيم عوضاً عنه لاونديوس
الخصي، وهو رجل رزين هادئ محب للتعقُّل وإن كان لا يخلو إيمانه من تلوُّث
الأريوسية([127]).

ولكن
انتهز الأريوسيون فرصة التئام هذا المجمع وأخذوا يضيفون ويشرحون الأريوسية حتى
تطابق ولو من جهة الشكل إيمان نيقية، ولكن عبثاً، إذ جاءت الصيغة مطوَّلة إلى أقصى
حد. ثم ذيَّلوها بحرمانات على الصيغ الأريوسية
القديمة إمعاناً في التضليل. وجدَّدوا حرم مارسيللوس
وفوتينوس.

وأرسل
هذا المجمع الأخير المنعقد في أنطاكية بأمر قسطنطيوس وفداً إلى روما يحمل
التلطيفات المناسبة لجريمة استفانوس مع صيغ العقيدة الجديدة. وكان الوفد مكوَّناً
من إفدوخيوس أسقف جرمانيكا ومعه ثلاثة آخرون. ولمَّا وصلوا ميلان سنة 345م. وجدوا
أساقفة الغرب مجتمعين في مجمع هناك (ميلان)، فطلب منهم أساقفة الغرب بادئ ذي بدء
أن يعلنوا أولاً حرمهم للعقيدة الأريوسية فرفضوا وعادوا غاضبين.

الإمبراطور قسطنطيوس يتودَّد إلى أثناسيوس

ويرجو مقابلته قبل موت غريغوريوس
الكبادوكي:

حينما
تنهزم النفس البشرية إزاء اكتشاف خِسَّتها وضلالها، لا يسعها إلاَّ أن تنظر بعين
الإكبار والتعظيم إلى النفوس الأخرى التي لم تنحط إلى مستواها في الخسة والضلال
ولم تجارِها في أساليب الخداع والتفريط في الإيمان، فتتودَّد إليها. ولكن سرعان ما
يصرعها الكبرياء وتعود إلى أشد ما كانت عليه من الخسة والضلال.

هذه
كانت حال قسطنطيوس مع أثناسيوس.

ولنبدأ
الآن مرحلة التودُّد. وإليك كلام أثناسيوس في الموضوع:

[والآن
وقد أحسَّ الإمبراطور قسطنطيوس بوخز الضمير عاد إلى نفسه، وقد استدلَّ من سلوك
الأريوسيين تجاه إيوفراتس أن هجومهم تجاه الآخرين كان على نفس المستوى والنوع.
فأعطى أوامره أنَّ كل الكهنة والشمامسة الذين سبق أن صدرت أوامر بنفيهم من
الإسكندرية إلى أرمينيا، يعودون في الحال. ثم كتب إلى الإسكندرية مرسوماً علنياً
(أغسطس سنة 344م) يأمر فيه بأن تكُف كل أعمال العنف والاضطهاد إزاء كل الكهنة
والعلمانيين الموالين لأثناسيوس.

وحدث
أن مات غريغوريوس بعد مرض دام معه أربعة سنوات، في 26 يونيو سنة 345م بعد أن أرسل
الإمبراطور إلى أثناسيوس بعشرة شهور
خطابات مودة تحمل كل دلائل الإكرام ليس
أقل من ثلاث مرات. (يلزم هنا أن يكون أول خطاب وصل أثناسيوس في أغسطس سنة 344م.
وهذا هو المنطق السليم بمعنى أنه في الوقت الذي أرسل فيه الإمبراطور إلى
الإسكندرية في أغسطس سنة 344م مرسوماً يوقف فيه كل العداء ضد أثناسيوس يكون هو
نفسه الوقت الذي أرسل فيه أول خطاب إلى أثناسيوس وهو في أكويلا). وفي هذه الخطابات
يدعو أثناسيوس أن يتشجَّع ويحضر لمقابلته.

ثم
عاد وأرسل كاهناً وشماساً من قِبَله (إلى أكويلا) حتى يتشجَّع بالأكثر ويحضر
لمقابلته. لأن الإمبراطور كان يظن أن ما حدث في الماضي قد أزعجني وجعلني لا أعتني
بالعودة (هنا أثناسيوس يتكلَّم بصيغة المتكلِّم فجأة، ومن هنا يلزم جدًّا أن ننتبه
أن أسلوبه في الكتابة هو أن يتكلَّم عن نفسه بصيغة الغائب دائماً إلاَّ إذا اضطرَّ
اضطراراً أن يعبِّر عن نفسه بالتأكيد).

ثم
وأكثر من هذا أرسل إلى أخيه الإمبراطور قسطانس سنة 345م ليحثّني على
العودة، مؤكِّداً لأخيه أنه لا يزال سنة بأكملها وهو منتظر حضور أثناسيوس إليه،
(هذا معناه الأكيد أنه سبق وأرسل خطاباً له منذ سنة كاملة)، وأنه لن يسمح بأي
تغيير في الوضع أو بأي رسامة أخرى إذ أنه محتفظ بكنائس أثناسيوس (بعد موت
غريغوريوس) لتكون لأسقفها.]([128])

الخطابات الثلاثة التي أرسلها الإمبراطور قسطنطيوس إلى
أثناسيوس:

ولأهمية
هذه الخطابات ليس لنا فقط ولا للتاريخ وحسب، ولكن لأثناسيوس نفسه إذ جاءته بعد
جروحه النازفة كضمادات ملطِّفة في أوانها الحسن، رأيت أن أسجِّلها للقارئ لعلَّه
يلتقط فيها أنفاسه وهو يتابع هذا الأسقف الطريد على مدى هذه الحوادث الجسام، وهذه
الخطابات إن كانت تكشف عن الجانب الإنساني لهذا الإمبراطور المتقلِّب إلاَّ أنه
بعد أن نقضها بنفسه بعد ذلك، تُحسب عليه أنها لا تمثِّل شيئاً من طبيعته الفظة
الجبانة، ولكنها الظروف هي التي كانت تكيِّف سلوك هذا الإمبراطور.

الخطاب الأول:

[أغسطس
قسطنطيوس المنتصر إلى أثناسيوس

إن
مراحمنا المترأفة لم تعد تحتمل وقوفكم وسط أمواج البحر المستوحشة تلاطمون العواصف.
وإن تقوانا لم تكِل أبداً عن ملاحظتكم عن قرب، لمَّا حُرمتم من وطنكم، وجُرِّدتم
من كل ممتلكاتكم، وجُلْتم تائهين هكذا في البراري المستوحشة. وبالرغم من أني منذ
مدة طويلة وأنا أُؤجِّل فكرة كتابة خطاب إليكم أشرح فيه نية قلبي بخصوصك، لأني كنت
أترقَّب ظهوركم أمامي بمحض مسرتكم، طالباً خلاصك من الآلام التي تعانيها، ولكن
يبدو أن الخوف قد منعك من تتميم هذه الفكرة، لذلك أرسلنا لكم خطاباتنا المشدِّدة
لعزمكم المملوءة من كرمنا، بغرض الإسراع للظهور أمام حضرتنا بلا خوف حتى تحصل
بسرور على كل رغباتك. ولكي إذا ما اختبرتم لطفنا تعودون مطمئنين إلى بلدكم. ولأجل
هذا الأمر أرسل مترجياً سيدي وأخي أغسطس قسطانس المنتصر بخصوصك حتى يأذن لك
بالحضور حتى تعود إلى بلادك بموافقتنا جميعاً. اقبلوا هذا كعهد هبة منا.]([129])

الخطاب الثاني:

[ولو
أننا أوضحنا لكم تماماً في خطاب سابق لكي لا تتردَّدوا في الحضور إلى البلاط،
لأننا نرغب بشدة في عودتكم إلى الوطن، إلاَّ أننا نضيف أيضاً إلى ذلك خطابنا هذا
لتقوية عزمكم، نستحثكم بلا أي خوف أو مظنَّة أن تستخدموا وسائل مواصلاتنا الخاصة
مسرعين إلينا حتى تنالوا ملء رغباتكم.]([130])

الخطاب الثالث:

[ولسرورنا
بينما كنا في بلاد الرها (أوديسا) أننا صادفنا كهنة لك هناك، فرأينا أن نرسل واحداً
منهم إليك لكي تسرع إلى بلاطنا لكي تتشرَّفوا برؤيتنا، وحينئذ تتجهون مباشرة إلى
الإسكندرية. ولكن وقد مضت مدة طويلة جدًّا منذ أن تسلَّمتم خطاباتنا ولم تحضروا
إلى الآن، فنحن نسرع بتذكيركم أيضاً لكي تحاول الآن جاهداً في الحضور إلينا سريعاً
حتى تعود إلى بلادك وتنال تحقيق صلواتك، وليكن في علمك أننا أرسلنا أخياس
الشماس إليكم الذي منه يمكنكم أن تعلموا غرض نفسنا وهو أن تحصل على موضوع صلواتك.]([131])

وداع الأصدقاء وخطاب يوليوس الطيب القلب المملوء رقة:

ولكن
أثناسيوس لم يشأ أن يتوجَّه إلى الإمبراطور قسطنطيوس والبدء في العودة إلى
الإسكندرية، قبل أن يستودع من أصدقائه الأوفياء الذين ساندوه في محنته بكل ثقلهم،
وهل ينسى يوليوس أسقف روما الوقور الذي أكرم وفادته كل أيام تعبه، الذي دعاه
لمشاركة الأسرار الإلهية منذ أول يوم، الذي جمع كل أساقفته وأوقفهم إلى جانبه صفاً
واحداً متراصاً، الذي تبنَّى قضيته وتبنَّى حججه وبراهينه ودفاعاته وختم عليها، وأخيراً عانى المهزأة من هؤلاء الأريوسيين
وإهانة العزل من مجامعهم
بسببه؟

أم
ينسى قسطانس الذي أحبه واحترمه وأكرم وفادته ودعاه إلى مجالسه من مدينة إلى مدينة،
وأخيراً وضع نفسه في أحرج المواقف لنصرة قضيته وضمان عودته إلى كرسيه، بأن هدَّد
أخاه ليختار بين إعادة أثناسيوس أو إعلان
الحرب!! جاعلاً قضية أثناسيوس على مستوى شرف التاج الذي يلبسه!!

وإليك
كلمات أثناسيوس في الموضوع ونص الخطاب الذي أرسله يوليوس أسقف روما إلى أهل
الإسكندرية الذي ظل في حوزة أثناسيوس:

[وهكذا
كانت لهجة خطابات الإمبراطور التي حالما تسلَّمتها، ذهبت إلى روما لأستودع الكنيسة
ويوليوس أسقف روما، لأني كنت في أكويلا عندما وصلني الخطاب الأخير
فوجدت الكنيسة (في روما) مملوءة بالفرح، وتهلَّل الأسقف يوليوس معي لعودتي، وكتب
إلى الكنيسة (في الإسكندرية). وبينما كنا نعبر على المدن خرج أساقفة تلك النواحي
يشيعوننا بسلام، أمَّا خطاب يوليوس فأنقله إليكم كالآتي بنصه (كُتب في بداية سنة
346م):

من
يوليوس إلى كهنة وشمامسة وشعب الإسكندرية:

أهنئكم
أيها الإخوة لأنكم الآن ترون بأعينكم ثمرة إيمانكم، لأن هذه هي حقيقة قضية
أثناسيوس الأسقف الزميل التي يمكن أن يراها الآن كل واحد، الذي من أجل طهارة حياته
ومن أجل صلواتكم أعاده الله إليكم مرَّة ثانية. وهذا بيِّنة على أنكم كنتم بلا
انقطاع تقدِّمون لله تضرُّعات نقية مملوءة بالمحبة عالمين بالمواعيد الإلهية
والمحبة المؤدِّية إليها. هذه التي تعلَّمتموها من أخي، واثقين بكل تأكيد عن معرفة
وإيمان صادق أن هذا الذي احتفظتم به حاضراً دائماً في قلوبكم بالتقوى لن ينفصل
عنكم إلى الأبد.

وإني
أعتقد أنه ليست هناك حاجة أن أستخدم عبارات كثيرة في الكتابة إليكم، لأن إيمانكم
قد سبق وفاق كل ما يمكن أن أقوله لكم، وبهذا الإيمان نلتم كل الرجاء المنتظر كثمرة
لصلواتكم العامة.

ولهذا
فإني أفرح أيضاً معكم لأنكم حفظتم أنفسكم بالإيمان غير منهزمين، كما إني بالمثل
أفرح مع أخي أثناسيوس كونه وقد احتمل محناً هذا عددها لم يوجد في أي وقت ناسياً
محبتكم وشوقكم نحوه. فبالرغم من أنه ظهر وكأنه قد انتُزع منكم بالجسد إلى فترة،
إلاَّ أنه كان يحيا كحاضر معكم بالروح على الدوام.

وبالأكثر
فإني مقتنع يا أحباء أن كل تجربة عاناها لم تكن بدون مجد، إذ بها جاز إيمانكم
وإيمانه الامتحان ثم استُعلن للجميع. فلولا هذه الضيقات كلها التي عاناها، من كان
يصدِّق هذا التوقير وهذه المحبة وبهذا المستوى العالي من نحو أسقفكم الجليل، أو من
كان يعرف أنه موهوب بهذه الفضائل الممتازة التي على أساسها قد يتثبَّت رجاؤه أيضاً
في السموات؟ فهو بهذه الضيقات حصل على شهادة واعتراف حُسبا له بالمجد هنا في هذا
الدهر وفي الآتي. وعندما جاز هذه المحن كلها المتعدِّدة الأشكال في البر وفي البحر
عابراً على كل دسائس الأريوسيين، كان يتعرَّض دائماً للخطر بسبب الأحقاد، ولكنه
كان يستهين بالموت عالماً أنه في حمى الله القدير والرب يسوع المسيح، واثقاً أنه
ليس فقط سينجو من مؤامرات مضطهديه بل وإنه سيعود إليكم من أجل تعزيتكم ومعه شهادات
انتصار، هي أصلاً من صنع ضميركم، التي بها صار معروفاً وممجَّداً حتى وإلى أطراف
الأرض! وإنه مستحق لهذا باستحقاق نقاوة حياته وحزم عزيمته، وتشبُّثه الذي لا
يتزعزع بالعقيدة الإلهية، هذه التي شهدتم أنتم لها وأثبتموها له بتوقيركم وحبكم
الذي لم يتزعزع.

فها
هوذا يعود إليكم وهو أكثر تألقاً مما كان يوم غادركم!! لأن النار إن كانت تجعل
الذهب والفضة أكثر نقاوة بعد الاختبار، فكم بالحري ما يُقال بالنسبة لإنسان عظيم
مثل هذا يليق به كل استحقاق، الذي بعد أن جاز النار بغلبة مرات عديدة وبمخاطر،
يعود إليكم الآن وبراءته مُعلنة أمامه، ليس من جهتي بل والمجمع كله!

فالآن
أيها الإخوة الأحباء استلموا أسقفكم أثناسيوس بكرامة وفرح إلهيين مع كل الذين
رافقوه في الضيقات، وتهلَّلوا لأنكم نلتم رجاء صلواتكم، أنتم الذين كنتم بالطعام
والشراب تعضدِّدونه وبالخطابات كنتم تساندونه، أمَّا راعيكم هذا، فكان جائعاً
دائماً وعطشاناً إلى تقدمكم الروحي.

وفي
الحقيقة أنتم كنتم عزاء نفسه عندما كان متغرِّباً في الأرض البعيدة فصرتم إنعاشاً
لروحه بعواطفكم الصادقة وهو في أعماق المحن والاضطهاد.

أمَّا
أنا فإنه يسعدني، حتى ولمجرد تصوُّري فرحة كل واحد منكم عند عودته إليكم، وتحيَّات
التقوى الصادرة من كل الشعب وأعياد اللُّقيا المجيدة التي تتهيَّأ لها الجماعات،
وعجبي على تلك الصورة الكاملة لذلك اليوم الذي فيه يلتقي أخي هذا بكم مرَّة أخرى،
عند نهاية الضيقات كلها، عندما تلتحم القلوب جميعاً الملتاعة بالشوق للعودة
المبتغاة بأحرِّ ما تكون عليه تعبيرات الفرح. وإن هذا الشعور عينه ليمتد إلينا في
أعلى درجاته، نحن الذين نعتبره بيِّنة على فضل الله علينا أنه جعلنا أهلاً لهذا
الامتياز أن نتعرَّف على هذا الإنسان الجليل الشأن.

وإنه
ليليق بنا أن نختم هذه الرسالة بصلاة:

ليت
الله القادر على كل شيء وابنه ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح يمدكم بهذه النعمة على
الدوام، وهكذا يعوِّضكم عن الإيمان العجيب الذي أظهرتموه بشهادة عجيبة فيما يختص
بأسقفكم، بأن يجعل لكم وللذين معكم «ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على
قلب بشر ما أعده الله للذين يحبونه»، بالمسيح يسوع ربنا، الذي به المجد لله القادر
على كل شيء إلى الأبد آمين. وإني أصلِّي لكي تتشدَّدوا أيها الإخوة المحبون.]([132])

انتهى
خطاب يوليوس إلى أهل الإسكندرية

كما
سجَّله أثناسيوس بنفسه

تعليقنا على رسالة يوليوس أسقف روما لكنيسة الإسكندرية:

تعتبر
هذه الرسالة من أهم الوثائق في تاريخ العلاقات بين أساقفة الإسكندرية وروما، وهي
نموذج، أعلى نموذج، لما ينبغي أن تكون عليه الصلات بين الكنائس وبين رجال الدين
عموماً وتمتاز هذه الرسالة بالعناصر الآتية:

(أ)
الروح المسيحية تنطلق في هذه الرسالة لتعبِّر عن المشاعر الإيمانية والإنسانية
معاً في أُلفة منقطعة النظير، فليست القناعة وحدها بصحَّة العقيدة والإيمان هي
التي أَمْلَت هذه الرسالة، بل والمشاعر الإنسانية الصادقة التي قيَّمت الظلم
والعسف والجور الواقع على إنسان بريء. وما أحوج الكنيسة اليوم لهذا التناسق بين
اللاهوت والإنسانية.

(ب)
لقد نأى هذا الأسقف الطيب القلب في عبارات هذه الرسالة عن كل أساليب السياسة التي
تنبع أصلاً من الإحساس بالذات وتعظيم الامتيازات العنصرية بأي وجه من وجوهها: فقد
قرَّظ أثناسيوس كشخص أفضل، وقرَّظ شعب الإسكندرية كشعب أقدس باتضاع مذهل، وهو بذلك
رفع نفسه دون أن يدري فوق كل مستوى بشري!!

(ج)
لذلك نجد في هذه الرسالة أن هذا الأسقف يوليوس الجليل الشأن حقا قد ترك روحه
ومشاعره تتكلَّم عمَّا تحسه وتؤمن به، في إخلاص وصدق وبساطة ملفتة جدًّا للنظر،
فتكلَّم كلاماً إذا وُزن بموازين العزة والأنفة الرومانية، وُجد ناقصاً معيباً،
ولكنه إذا وُزن بميزان المسيح لوُجد كاملاً كمال المسيح ذاته!!

أثناسيوس يقابل الإمبراطور قسطنطيوس:

وأخيراً
وبعد هذه الإلحاحات سواء بالخطابات المباشرة لأثناسيوس، أو بإرسال وفود رسمية
إليه، أو بترجِّي أخيه ليتوسَّط في الأمر، سافر أثناسيوس مع وفد من الإكليروس
المصري وقد كان مقيماً وقتها في أكويلا ليقابل قسطنطيوس، وهو في أشد
الريبة من نيات هذا الإمبراطور المتقلِّب، ولأنه كان يشك في إمكانياته وحرية
إرادته أكثر مما كان يشك في نياته، طلب منه أن يستوثق أولاً أساقفته ورجاله
ويستحضر ليحاججهم أثناسيوس ليكشف كذبهم أمام الإمبراطور حتى لا يعودوا إلى ما
كانوا يعملون، ولكنه رفض وكأنه واثق من نفسه، مع أنه كان دون ذلك بكثير.

وإليك كلام البابا أثناسيوس في الموضوع، ويلاحظ أن
أثناسيوس يتكلَّم عن نفسه بصيغة الغائب دائماً:

[ولمَّا
ضغط عليه هكذا بكتاباته وأرسل يستحثه ويشجِّعه بواسطة كثيرين، لأنه جعل جماعة من
أشرف الولاة الذين يثق فيهم أثناسيوس يكتبون إليه مثل بوليميوس وداتيانوس وبارديون
وثالاسسوس وتوروس وفلورنتيوس، سلَّم أثناسيوس الأمر كله لله الذي حرَّك ضمير قسطنطيوس
ليصنع هذا، وحضر إليه مع أصدقائه، وقد أصغى إليه الإمبراطور بكل قبول، وشيَّعه إلى
وطنه وإلى كنائسه، وكتب إلى الولاة في كل مكان، الذين سبق وأن أمرهم أن يحرسوا
الطرق، بأن يعطوه الآن حرية المسير والعبور.

ولمَّا
اشتكى الأسقف (أثناسيوس هنا يتكلَّم عن نفسه) مما أصابه سابقاً من الآلام التي
عاناها ومن الخطابات التي وجهها الإمبراطور ضدَّه، متوسِّلاً إليه أن لا تعود
الاتهامات الباطلة وتتجدَّد بواسطة أعدائه بعد رحيله قائلاً: “إن حَسُن في عينيك
أرجوك أن تدعو هؤلاء الأشخاص لكي تكشف سلوكهم فيما يختص بنا، وهم لهم الحرية فيما
يواجهوننا”، فلم يشأ الإمبراطور ذلك، ولكنه أمر أن كل ما كُتب من وشاية وافتراء في
حقِّه يُمزَّق ويُلغى، مؤكِّداً أنه لن يصغي مرَّة أخرى لمثل هذه الاتهامات وأن
فكره ثابت ولن يتزحزح. وهو لم يقل هذا بمجرَّد الكلام فقط، وإنما ختم أقواله هذه
بقسم مستشهداً الله فيما قال وأقسم (ولكن للأسف فقد حنث في كل ما قال وكل ما أقسم)
وشيَّعه بكلام تشجيع، ولكي يثق في ذلك أرسل هذه الخطابات للأساقفة والولاة.]([133])

وقد
حاول الإمبراطور بإيعاز من الأريوسيين أن يقتطع من أثناسيوس كنيسة خاصة في
الإسكندرية للأريوسيين، وكأنما قد عزَّ على هؤلاء الشياطين أن يفقدوا الإسكندرية
كلها مرَّة واحدة، فحاولوا لتكون لهم بقية ليستأنفوا منها عملياتهم الشيطانية،
ولكن كان رد أثناسيوس حاضراً وسريعاً بدرجة مذهلة مما أسكت الإمبراطور وأنهى على
هذه المحاولة الأخيرة اليائسة.

وإليك تسجيل، للمؤرِّخ سقراط، لهذا الحوار الخطير الذي جرى
بين الإمبراطور والبابا أثناسيوس:

[وصل
أثناسيوس إلى الشرق ومعه خطابات الدعوة الثلاثة، ولم يقابله الإمبراطور بعداء
(كالعادة) إلاَّ أنه بتحريض الأريوسيين حاول الإمبراطور أن يلفَّ
عليه ويخدعه قائلاً: “هوذا أنت تعود إلى كرسيك بمقتضى قرار المجمع وموافقتنا، ولكن
وبما أن بعض الشعب في الإسكندرية يرفض أن يقيم
الشركة معك، فاسمح أن يكون لهم كنيسة خاصة بهم في
الإسكندرية”.

وإزاء
هذا الطلب أجاب أثناسيوس في الحال بقوله: “يا صاحب السلطان أنت لك القوة أن تأمر
وتنفِّذ أيضاً كما تشاء، وأنا أيضاً بناء على ذلك أستأذنك أن تمنحني من فضلك
شيئاً”. فأجاب الإمبراطور على الفور بالقبول، فاستطرد أثناسيوس في الحال أنه يرغب
في أن يُمنح هو أيضاً نفس الشيء الذي طلبه الإمبراطور منه: أي أن في كل مدينة
تُمنح كنيسة للذين يرفضون إقامة الشركة مع الأريوسيين! ولكن الأريوسيين سرعان ما
لمحوا من غرض أثناسيوس الأذية والضرر الذي سيحيق بهم هم([134])،
فأجَّلوا طلبهم وانسحبوا معطين التصرُّف للإمبراطور.

وقد
منح الإمبراطور لأثناسيوس وبول ومارسيللوس واسكلباس ولوقيوس العودة إلى كراسيهم،
لأن هؤلاء جميعاً قبلهم مجمع سرديكا … ولكن من جهة أثناسيوس كتب الإمبراطور
خطابات توصية للأساقفة والكهنة والشعب لتصير مقابلته بسرور، على أن تُسترد جميع
الخطابات التي كانت تحمل أوامر ضدَّه وتُلغى.]([135])

ويضيف
المؤرِّخ سوزومين أن الإمبراطور قسطنطيوس أمر بأن تكون رحلة أثناسيوس في العودة
سريعة وعلى وسائل مواصلاته الخاصة([136]).

ونحن
لا نستطيع أن نعبر على هذه المحاولة المستميتة واليائسة من جهة الأريوسيين للحفاظ
على وجودهم في الإسكندرية دون أن نشعر بأن الجانب الأريوسي لا يزال متحفِّزاً
للحفاظ على وجوده في الإسكندرية بالذات، لأن في ذلك ضماناً لوجودهم في بقية أنحاء
العالم كله! لأنهم يعلمون تماماً أن الإنهاء عليهم في الإسكندرية معناه الإنهاء
عليهم جميعاً في جميع أنحاء العالم، مع أن الإسكندرية ليست عاصمة للإمبراطورية
والشرق كالقسطنطينية أو أنطاكية، وذلك معناه الوحيد أن ثِقَل الإسكندرية اللاهوتي
والفكري كان يوازن العالم كله، وهذا ما برهنته الحوادث السالفة جميعاً وما سوف
تؤكِّده بشدة الحوادث القادمة أيضاً! …

أمَّا
خضوع قسطنطيوس لاقتراح هؤلاء الأريوسيين حتى إلى آخر لحظة، فهو ينبِّئ بأنه لا
تزال في أخلاق الرجل بقية من الخداع والتحيُّز وميل إلى الضلال.

العودة إلى الإسكندرية: 24 بابة
21 أكتوبر سنة 346م:

ومن
أنطاكية انحدر أثناسيوس جنوباً ماراً بسوريا وفلسطين ثم إلى مصر عن الطريق البري،
لأن أثناسيوس لم يستخدم البحر في رحلات العودة، ويضيف “تاريخ أسِفالوس” بحسب
التحقيق على الخطابات الفصحية أن جموعاً غفيرة من الشعب والرؤساء خرجوا
لملاقاته في الطريق من فلسطين إلى الإسكندرية على بعد مائة ميل من الإسكندرية في
المنطقة التي تُدعى
Chaereau (وهذا الاسم وارد في كتاب حياة أنطونيوس بقلم أثناسيوس فصل 86).

وقد
أفرد القديس غريغوريوس النزينزي في العظة رقم 21 وصفاً بليغاً لدخول أثناسيوس إلى
الإسكندرية بعبارات المديح الكثير، وقد ارتأينا أن نكتفي بوصف أثناسيوس نفسه لأنه
أكثر واقعية.

ويصف
لنا أثناسيوس بنفسه دقائق هذه الرحلة المفرحة والمثيرة هكذا:

[وأخيراً
وتحت هذه الظروف وبعد أن أخذوا الإذن بالمغادرة بدأت الرحلة، أمَّا الأصدقاء الذين
قابلونا ففرحوا إذ وجدوا صديقاً، أمَّا الحزب الآخر فبعضهم انتابه الارتباك عند
رؤيته (أثناسيوس يتكلَّم عن نفسه)، وآخرون لم توافِهم الشجاعة للظهور فاختبأوا،
وآخرون ندموا واعتذروا عمَّا كتبوه ضد الأسقف.

وهكذا
كل أساقفة فلسطين استقبلوا أثناسيوس بسرور ما عدا اثنين أو ثلاثة من
ذوي الأخلاق المشكوك فيها وأقاموا الشركة معه معتذرين
كتابة على أساس أن ما سبق وكتبوه (ضد أثناسيوس) إنما قاموا به ليس
بدافع من إرادتهم وإنما بالإرغام.]([137])

وفي
موضع آخر يصف أثناسيوس مقدار حماس أساقفة فلسطين ويذكر أنهم عقدوا مجمعاً في
أُورشليم برئاسة مكسيموس أسقفها لاستقباله بمنتهى الحرارة وشيَّعوه بعد أن كتبوا
رسالة رقيقة إلى أساقفة مصر، وإليك تسجيلات أثناسيوس في هذا الموضوع:

[ولمَّا
مررت على سوريا([138])
قابلت أساقفة فلسطين الذين عقدوا مجمعاً في أُورشليم استقبلوني فيه بحرارة قلبية
وكتبوا هذا الخطاب إلى الكنيسة (الإسكندرية) والأساقفة:

المجمع
المقدَّس المنعقد في أُورشليم، إلى زملائنا في الخدمة في مصر وليبيا، وإلى كهنة
وشمامسة وشعب الإسكندرية، الإخوة المحبوبين الذين نشتاق إليهم جدًّا، يرسل تمنيات
العافية في الرب.

لا
نستطيع إلاَّ أن نقدِّم الشكر اللائق إلى الله من أجل الأمور العجيبة التي يعملها
دائماً وبالأخص الآن من جهة كنيستكم بإرجاع راعيكم وسيدكم إليكم، زميلنا في الخدمة
أثناسيوس. لأنه مَنْ كان يصدِّق أن عينيه
ستريان ما قد صار لكم الآن. حقا إن الله الذي
يعتني هكذا بكنيسته، قد سمع صلواتكم ونظر إلى دموعكم وأنينكم واستجاب
لتوسلاتكم …
]([139])

ويعود
أثناسيوس ليستأنف وصف الرحلة من فلسطين إلى مصر:

[أمَّا
من جهة أساقفة مصر ونواحي ليبيا وشعبيهما وشعب الإسكندرية، فلا داعي للاسترسال في
الوصف، لأنهم تقاطروا جميعاً وقد تملَّكت عليهم فرحة لا يمكن التعبير عنها، ليس
لأنهم استقبلوا أصدقاءهم أحياءً، الأمر الذي لم يكونوا قط يتوقَّعونه، بل وبالأكثر
لأنهم تخلصوا من الهراطقة الذين كانوا كالسفَّاحين أو كالكلاب المسعورة نحوهم،
ولذلك تعاظم سرورهم (باستجابة تقوية)، فكان الشعب يحمس بعضه البعض لمزيد من
الفضيلة.

كم
من عذارى نذرن أنفسهن للمسيح بعد أن كن يطلبن الزواج!

كم
من شباب تغايروا بسبب رؤيتهم لنماذج الآخرين فخرجوا للحياة الرهبانية.

كم من آباء قد أقنعوا أولادهم، وكم من أولاد أقنعوا آباءهم
لمزيد من النسك المسيحي.

كم
من زوجات أقنعن أزواجهن، وأزواج أقنعوا زوجاتهم وتفرَّغوا للدخول في عهد الصلاة
كما أوصى الرسول.

كم من أرامل كم من يتامى كانوا جياعاً عرايا وبحماس الشعب
امتلأوا شبعاً واكتسوا.

وفي
كلمة، كم كانت غيرة الشعب ومنافسته في الفضيلة حتى لتكاد تظن أن كل عائلة وكل بيت
قد صار كنيسة! من أجل صلاح الساكنين فيه والصلاة التي يرفعونها أمام الله.

أمَّا
في الكنائس فكانت هناك موجة سلام عميقة وعجيبة، والأساقفة كتبوا من كل ناحية
في العالم لأثناسيوس، وأثناسيوس كتب لهم الرسائل السلامية كالمعتاد

ومَنْ
كان يرى هذه الأمور ولا يمتلئ عجباً، والسلام يرفرف على الكنائس!

مَنْ
ذا الذي لا يتهلَّل بسبب رؤيته لأُلفة الأساقفة واتفاقهم في كل مكان!

مَنْ
ذا الذي يرى سرور الشعب في كل اجتماعاتهم ولا يعطي المجد لله!

كم
من أعداء تابوا،

كم
من أشخاص اعتذروا عما بدر منهم نحوه من ظلم أو اتهام بالزور!

كم
من أشخاص كانوا معه في عداوة، فصاروا في تعاطف وحب!

كم
من الأشخاص الذين انحازوا تحت الضغط والإرهاب جاءوا ليلاً وقدَّموا توبتهم! معلنين
حرمهم للهراطقة، متوسِّلين منه العفو لأنهم وإن كانوا قد انغمروا في المؤامرات
والمكايد وظهروا كأنهم في انحياز شخصي للأريوسيين، إلاَّ أنهم اعترفوا أن قلوبهم
كانت دائماً في شركة صادقة معه …

صدِّقوني
هذا صدق! (أثناسيوس في النهاية يكشف عن نفسه متكلِّماً بصيغة الحاضر).]([140])

رهبان باخوميوس يهنِّئون أثناسيوس بالعودة حاملين له رسالة
من القديس أنطونيوس:

لم
يعش باخوميوس ليسمع خبر عودة أثناسيوس من منفاه الثاني، لأنه بحسب التحقيق
التاريخي كانت نياحة القديس باخوميوس في 14 بشنس (9 مايو)، وكانت عودة أثناسيوس في
24 بابة (21 أكتوبر) من نفس السنة الميلادية 346م.

أمَّا
القديس أنطونيوس فكان يتبقَّى على نياحته عشر سنوات لأنه تنيَّح سنة 356م. وقصة
إرسال أنطونيوس خطاب تحية وتهنئة للقديس أثناسيوس عند عودته من المنفى الثاني،
وردت في سيرة القديس باخوميوس هكذا:

[وعرض
فيما بعد من الأمور المباركة أن الأب الفائق قدسه أثناسيوس المتوشِّح بالمسيح رأس
أساقفة الإسكندرية عاد من القسطنطينية (صحتها من أنطاكية) وتسلَّم كرسيه وصار
الأكثرون يقصدونه للسلام عليه وللمفاوضة معه وأخذ صلاته وبركته.

ووافق
ذلك أن إخوة من الدير “بافو” توجَّهوا وقتئذ إلى الإسكندرية في مركبهم الخصيص
لأسباب تختص بمصالح الدير، وفي حال مسيرهم وقد حصلوا عند الجبل الذي كان فيه الأب
الكبير أنطونيوس تذاكروه، وآثروا أن يبصروه ويأخذوا بركته، فخرجوا من المركب
وصعدوا في الجبل وعندما اقتربوا من مغارته، اقتسر ذاته لأنه كان شيخاً هرماً (95
سنة) ونهض للقائهم. ولمَّا سلَّموا عليه سألهم عن أخبار الأب باخوميوس (كان قد
تنيَّح منذ فترة قصيرة جدًّا ولم يكن قد شاع الخبر بعد) فبكوا بشجْو كثير. حينئذ
علم أنه قد انتقل إلى الرب، فقال لهم: لا تبكوا لأنكم كلكم بصلواته قد صرتم
باخوميين كثيرين. وبالحقيقة أقول لكم: إنه قد خدم الرب خدمة كبيرة في جمعه هذه
الجماعات الوافرة وجعلهم على رأي واحد عابدين الإله، وسلك منهج الرسل واقتدى بهم،
وصار مصباحاً منيراً …

ولمَّا
عرف أن قصدهم المضي إلى الإسكندرية للسلام على أنبا أثناسيوس ولأسباب أخر، كتب لهم
كتاباً إلى المذكور رئيس الأساقفة يهنِّئه بقدومه معافى إلى كرسيه ويقول له عن
الإخوة حاملين كتابه تأمل أولاد الإسرائيلي حقا. ثم صلَّى عليهم وباركهم وسرَّح
سبيلهم، ولمَّا وصلوا إلى الإسكندرية قبلهم الأب أثناسيوس الأسقف أحسن قبول وزاد
في كرامتهم لا سيما لأجل كتاب المغبوط أنطونيوس لأنه كان عارفاً بفضيلته وسمو
سيرته ولمَّا قضوا أشغالهم عادوا إلى ديرهم.]([141])



اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى