علم

موت المسيح على الصليب فى التراث العربى المسيحى



موت المسيح على الصليب فى التراث العربى المسيحى

موت
المسيح على الصليب فى التراث العربى المسيحى

جوزيف
موريس فلتس

استاذ
علم الاباء بمعهد الدراسات القبطية

 

إن
موت المسيح على الصليب؛ هو حقيقة تاريخية سجلّتها لنا أسفار العهد الجديد، وآمن
وبشّر بها الرسل مُعترفين بقيامته بعد أن انتصر على الموت، بل إن صَلْبِه وقبره
وقيامته صارت عقيدة إيمانية نص عليها قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني عندما ذكر
” وصُلب عنا على عهد بيلاطس البنطي تألم وقُبر وقام من الأموات في اليوم
الثالث كما في الكتب”[1].

 

وبالرغم
من أن كثيرين قد أثاروا ومنذ وقت مبكر جدًا أسئلة تتعلّق بماهية شخص المسيح وهل هو
الله أم نبى، بل وعن حقيقة تجسده، إلاّ أن موضوع كيفية موت المسيح على الصليب لم
يكن موضع تساؤل، إلى أن أُثيرت الموضوعات “الخرستولوجية” بمعنى تلك التي
تتعلق بطبيعة المسيح له المجد، وكيفيّة تجسده وإتحاد الطبيعة الإلهية بالطبيعة
البشرية في طبيعة واحدة.

 

ولقد
حاول آباء الكنيسة وخصوصًا آباء كنيسة الأسكندرية الدفاع عن الإيمان المستقيم،
وتوضيح البُعد الخلاصى فيما علّموا به عن كيفيّة إتحاد الطبيعتين الإلهية
والبشرّية فيما يسمى بالإتحاد الأقنومى، وبيان أن كل من الطبيعتين الإلهية
والبشرّية قد اتحدتا بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا افتراق. وبسبب هذا
الإتحاد الأقنومى صار موت المسيح على الصليب موتًا خلاصيًا. لأنه حتى وإن كان
المسيح قد مات بالجسد، إلاّ أن هذا الجسد هو جسده الخاص أى جسد الابن الوحيد وكلمة
الله وبالتالي نستطيع أن نقول إن مَنْ مات على الصليب هو الله المتجسد، والذي
بموته قد أعطى حياة للكل، أو كما يقول القديس أثناسيوس ” طالما أن
“الكلمة” كان من غير الممكن أن يموت، إذ أنه غير مائت، أخذ لنفسه جسدًا
قابلاً للموت حتى يمكن أن يقدّمه كجسده الخاص نيابة عن الجميع، حتى إذا ما تألم عن
الكل بإتحاده بالجسد، فإنه يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أى إبليس ويعتق
أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية “[2].

 

وفي
سياق حديثهم عن كل الأبعاد الخلاصية لتجسد الابن الوحيد وموته وقيامته وصعوده، من
أجلنا ومن أجل خلاصنا، لم يتعرّض الآباء لشرح كيفية موت المسيح له المجد، جسديًا
على الصليب، أو بمعنى آخر عن كيفيّة موت الجسد مع أنه متحد باللاهوت إذ لم يروا
فيه أمرًا غير لائق بالله.

 

ومن
الجائز أن يكون التساؤل عن عدم لياقة “موت الله” قد أُُثير من أُناس غير
مؤمنين من خارج الكنيسة بعد القرن السابع.

 

ويحفظ
لنا التراث العربي المسيحى للأقباط رسالة أرسلها البطريرك البابا فيلوثاوس ال63
(970995م) الذي كان راهبًا بدير ابى مقار، إلى أثناسيوس البطريرك الأنطاكى ال61.

 

ويتضّح
من هذه الرسالة أن هذا الأمر كان مثارًا في أنطاكية وشغل فكر البطريرك الأنطاكى،
الأمر الذي جعله يطلب من بطريرك الأسكندرية توضيحًا وشرحًا لما حدث على الصليب.

 

عن
هذه الرسالة:

جاءت
هذه الرسالة في مخطوط اعتراف الآباء رقم 196 لاهوت بالمتحف القبطي.

استشهد
كاتبها بالآباء الكبار الآتى أسمائهم لتوضيح وشرح هذه المسألة.

1
غريغوريوس النيسى (في ميمر الفصح).

2
ساويرس البطريرك (في رسالته للوقيانيوس).

3
أثناسيوس الرسولى (بدون ذكر المرجع).

4
إبيفانيوس أسقف قبرص (في كتاب المرساة).

5
غريغوريوس أسقف نوسا[3] (ميمر الفصح).

 

حمل
رسالة البطريرك الأنطاكى وفد مكون من مطران دمشق “توفيل” والذي يصفه
المخطوط بأنه “المعلّم المهذب البليغ في تفسير الكتب”، ومطران طبرية
“باسيليوس”، والذي كُتب عنه أنه هو “المشاكل (أى المماثل) في تصرفه
للقديس باسيليوس “معلّم الأرثوذكسية” وكان مع هذين الأسقفين القمص
“يوحنا” والشماس “سلمون”. ولقد حضر كتابة هذه الرسالة كل من
الأنبا ساويروس أسقف الأشمونين، والأنبا مرقص أسقف البهنسا والمُلقب في المخطوط ب
“الكاتب”، وكاتب الرسالة أسقف منوف.

 

جاء
فى المخطوط ما يلى[4]:

عرض
المسألة:


فهمت ما كتبته إليّ أيها الأخ الحبيب الكريم أطال الله بقاءك وأدام نعمتك ونكب
أعداءك ونجاك بشفاعة السيدة البتول وجميع القديسين. ووقفت على مسألتك التي خطرت
بقلبك أحياه الله وعمّره بالسرور. وهى موت سيدنا المسيح لما كان من مفارقة النفس
للجسد بحيث لم يفارقه اللاهوت كما لم يفارق النفس حال فراقها للجسد فلم يكن موتًا
لأن اللاهوت أعظم وأجّل وأقوى من النفس المخلوقة وكيف كان حيًا حال إتحاد نفسه
بجسده المخلوقين ولم يكن كذلك في حين أن اللاهوت لم يفارق الجسد؟ فأجيب على ذلك
اعلم أن الله الابن الكلمة بتجسده خلق له جسدًا في بطن العذراء واتحد به وكان ذا
نفس ناطقة عاقلة وهو البشر التام الذي اتخذه من غير نقص واتحد به الكلمة بوحدانية
أقنومية لا تنحل”.

 

من
التعاليم الآبائية في الرسالة:

1
غريغوريوس النيسى:

[
إنه تعالى في الوقت الذي حلّت على العذراء قوة العلي ليقيم منها الخلقة الجديدة
ويخلق بشرًا خلقة إله لا على حسب ناموس خلقة الأجنة ومنذ ذلك الوقت إتحد به وقامت
الوحدة من ذينك المتحدين وأن ذلك البشر الذي جعله الكلمة واحدًا معه كان ذا نفس
عاقلة أيضًا فكان أحد أجزاء هذا المجموع وهو الجسد قابلاً الآلام والموت لأن
اللاهوت والنفس البشرية لا يتألمان ولا يموتان.

 

فأما
القول بأن الله تألم ومات وإنما بجسده وإرادته من أجلنا فهو قول صحيح ومستقيم بسبب
الوحدة المنسوب لها كل شئ عدا أجزاءها أو بعضها ولذا فإن الآلام والموت الحاصلة
للجسد قد حسبت لهذا الواحد لهذا الإله المتأنس. غير أن القول بآلام أو موت اللاهوت
بحتًا فإنما هو قول فاسد وردئ وكفر لأن طبيعة اللاهوت بسيطة روحية غير هيولية
منزهة عن المادة وغير مركبة وبالتالى غير محدودة ولا مدركة وهى طبيعة الآب والابن
والروح القدس ولذلك فهى غير قابلة الألم والموت.

 

وإنما
موت المسيح تعالى كان بمفارقة نفسه لجسده فقط بحيث إن لاهوته لم يفارق أحدهما طرفة
عين ولمح البصر فكان اللاهوت ملازمًا الجسد على الصليب وفي القبر كما أنه كان
ملازمًا النفس حال نزولهما إلى عالم الأرواح البررة ] (ميمر الفصح).

 

2
مارساويرس البطريرك:

[مات
عمانوئيل من أجلنا وكان موته مثل موتنا الذي هو عبارة عن افتراق النفس من الجسد
وعن هذا الموت قال بسلطان يليق بلاهوته (إنى أضع نفسى عن غنمى ولي سلطان أن أضعها
ولى سلطان أن آخذها) وهو القائل هذا القول قال على الصليب (في يديك يا ابت اضع
روحى ولما قال هذا أسلم الروح). وقال أيضًا في الرسالة التي كتبها إلى أوقانيوس: إن
الذي أتى بعد ناموس موسى صبر على الصليب مصدر النجاة. هذا الذي بإرادته فصل نفسه
من جسده المتحد بهما الكلمة أقنوميًا بلا افتراق وأبطل فساد القبور بجسده وظهر
بنفسه التي هى متحدة معه في أماكن الجحيم حيث قطع أربطتها ] (من رسالته إلى
أوقانيوس).

 

3
أثناسيوس الرسولي:

[
إن الرب نزل إلى الجحيم لا بجسده بل بروحه وضبط كل الأرض لئلا تهلك قبل وقتها
وأراق دمه عليها ليحفظها ويحفظ ما فيها وترك جسده معلقًا في الهواء من أجل حفظ
العناصر ونزلت روحه القدوسة إلى الجحيم وبشرّت مَن كان فيه بالنجاة. نهب الجحيم
وضبط الكل بجسده. حملت روحه الأنفس التي كانت في الجحيم حين كان جسده معلقًا على
الصليب وفي ذلك الوقت انفتحت القبور ولما أبصره بوابو الجحيم جزِعوا وهربوا ومن ثم
سحق أبواب النحاس وكسر متاريس الحديد وحملت روحه الأنفس سكان الجحيم وصعد بهم إلى
أبيه ].

 

4
إبيفانيوس أسقف قبرص:

[
إن النفس نزلت باللاهوت إلى الجحيم وترك الجسد في القبر ثلاثة أيام ليظهر الجسد
مقدس واللاهوت مع النفس أتم السر في الجحيم الذي لم يستطع أن يضبطهما، وقال أيضًا
(إنه بإرادته تعالى نزل إلى الجحيم بنفسه) وقد قال بطرس الرسول إن الهاوية لم تقو
على ضبطه لأنه المخلّص الذي قال (إن لى سلطانًا أن آخذ نفسي ولى سلطانًا أن
أتركها) وقال أيضًا أنا الراعى الصالح وأنا أبذل نفسي عن غنمي) ] (من كتاب
المرساة).

 

5
غريغووريوس أسقف نوسا:

[
إن اللاهوت في وقت تدبير الآلام لم يفارق كلا من الجسد والنفس المتحد بهما دائمًا.
الذي مات فتح أبواب الفردوس للص بنفسه وكان هذان الاثنان أعنى الجسد والنفس ذى
قدرة في زمن واحد ].

 

ومن
الجدير بالذكر أن هذه المسألة مثلها مثل باقي الأمور العقائدية قد شرحها الآباء
ليس فقط في كتاباتهم العقائدية أو الدفاعية بل وأيضًا في النصوص الليتورجية. لهذا
نجد أن شرح كيفية موت المسيح على الصليب قد ورد في نص ليتورجى أو ما يسمى
“بالقسمة السريانية” والتي جاء فيها ” هكذا بالحقيقة تألم كلمة
الله بالجسد وذُبح وانحنى بالصليب. وانفصلت نفسه من جسده. إذ لاهوته لم ينفصل قط
لا من نفسه ولا من جسده. وطُعن في جنبه بالحربة. وجرى منه دم وماء غفرانًا لكل العالم،
وتخضب بها جسده. وأتت نفسه واتحدت بجسده “[5].

 

ومن
غير المعروف متى دخلت هذه القسمة إلى النصوص العربية للقداس في الكنيسة القبطية،
وما هو مصدرها. هل هى من وضع فيلوثاوس كاتب هذه الرسالة أم من وضع أحد آباء
الكنيسة السريانية[6] الذين اطلعوا على هذه الرسالة فوضع هذه القسمة، خصوصًا وأنها
معروفة “بالقسمة السريانية” وأنها ترجمت من القداس السريانى إلى العربية
ثم من العربية إلى القبطية كما يذكر واضع الخولاجى المقدس؟[7].

===

[1]
انظر قانون إيمان نيقية القسطنطينية.

[2]
عب14: 215. تجسد الكلمة. ترجمه عن اليونانية وتعليقات د. جوزيف موريس فلتس. المركز
الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، طبعة ثالثة 2004، فصل 6: 20.

[3]
هو نفسه القديس غريغوريوس النيسي.

[4]
احتفظنا بالنص كما جاء بالمخطوط ودون أى تدخل لغوى أو تدقيق للأسماء التى وردت به.

[5]
الخولاجي المقدس جمع وترتيب المتنيح القمص عبد المسيح صليب السعودي البرموسي. دير
السيدة العذراء برموس. الطبعة الثالثة 2002 ص547548.

[6]
يؤكد هذا الرأى مارثاوفيلوس جورج صليبا مطران جبل لبنان حيث يذكر أن مار يعقوب بن
صليبي أسقف إبرشية آمد (ديار بكر) عام 1148 والذي رقد سنة 1171 هو مؤلف القسمة
” هكذا حقًا تألم كلمة الله بالجسد. انظر: خبز الحياة، كتاب القداس الإلهي،
جبل لبنان 2002 ص282.

[7]
الخولاجي المقدس، المرجع السابق ص547.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى