علم

في محبّة الفقراء للقدّيس غريغوريوس اللاهوتي 390 +



في محبّة الفقراء للقدّيس غريغوريوس اللاهوتي 390 +

في
محبّة الفقراء للقدّيس غريغوريوس اللاهوتي 390 +

في
سحر أحد مرفع اللحم (أحد الدينونة) بعد الستيخولوجية المعتادة نقرأ ميمر.
الثاولوغس عن محبّة الفقراء أوّله:

 


أيها الرجال الاخوة والمشاركي في المسكنة”.

القدّيس
غريغوريوس من كبادوكيا، صديق للقدّس باسيليوس الكبير. كان شاعراً أكثر منه راعياً،
يتمتّع بإحساس رهيف للنفس كما هو موهوب للنأمل أكر منه للعمل. مع ذلك لعب دوراً
هاماً في إرساء قواعد الأرثوذكسية ضدّ الاريوسيّين. كان خطيباً مسيحياً، تعكس
مواعظه طبيعته الحادة والحسّاسة للغاية. هذا يظهر في ميامره في رعاية الفقراء.

 

 أماّ
الميمر الحاضر فقد أُعطي على الأرجح في قيصرية كبادوكيا سنة 373 في مرحلة أسقفية
باسيليوس وذلك خلال أحد الأعياد التي فيها يجتمّع عددٌ من المستعطين.

 

 لم
تكن لغريغوريوس قدرةُ باسيليوس لكن إحساسه الحاد أمام الألم يُعطيه قيمة خصوصاً
لعصرنا الحاضر.

 

 لماذا
الألم؟ لماذا الوجع؟ لماذا الذلّ؟ نحن في عالم مظلم، كاذب. أخزتنا الأشقياء قابعون
في عوز قاتل. مصيرهم مصيرنا. الإنسان يعيش في عدم استقرار. أمام العدم تأتي رحمة
الله فيلجأ الإنسان إليه هارباً من عالم خداّع ويحاول أن يتشبّه بصورة خالقه
ويتّحد به هو الحق، المحبّة والدوام.

 

 هذا
الصراع بين الغنى والفقر داخلٌ في مسيرة الإنسان نحو الله فهو ينسجم مع جواب عملي
لسرّ الألم والظلم: عن طريق الإحسان ويكتسب الإنسان معنىً لحياته. إن كان مصيره
غامضاً إلاّ أن حقيقة واضحة: المحبّة، الرحمة، الإحسان كلّ هذا يساعد الواحد على
تخطيّ واقعه المرير فيجعله يشترك في أزلية الله.

 


كيف أداوي هذا القلب المتألم الذي أمامي، ذلك هو السؤال الوحيد الذي يتطارحه
الكريم”

الميتروبوليت
جورج

 

في
محبة الفقراء

القدّيس
غريغوريوس اللاهوتي

 

مقدمة

إن
رهافة إحساس القدّيس غريغوريوس أمام الألم تُضفي على عظاته لهجة معاصرة تدهشنا.

 ما
سبب الشرّ؟ ما سبب الألم؟ ما سبب الذلّ؟ ليس في ما حولنا إلاّ الليل وليس العالم
سوى كذبة ووهم وعبور. فإخوتنا المنكوبون يكشفون ما في هذا العالم من عدم ثبات في
الأساس. ذلك أن نصيبهم ونصيبنا واحد، مهما اختلفت الأحوال في الظاهر: إنما الإنسان
يحيا في عدم الثبات، في سرّ غامض. إزاء هذا العدم تثبت محبّة الله الحيّ، ويمكن
للإنسان الإفلات من عالمه الخدّاع إن هو جعل نفسه على صورة الله، إن تماهى
s’identifie وهذا الله الذي هو حقّ وحبّ وثبات.

 

إنّ
جدال الفقر والغنى يندرج ضمن حركة الإنسان هذه نحو الله، ويتسّع نطاقه فيبلغ حدّ
الإجابة على السرّ الجوهريّ: إنّ الإنسان من خلال الإحسان يَغْنَم صلابة جوهره
وحقيقته. فمهما كان مصيره غامضاً تبقى وجه سيرة واضحة: إنّ المحبّة سوف تساعد على
تخطيّ مستوى الأرضيات وستُشركه في أبدية الله.

 

يا
إخوتي وشركاء مسْكنتي، بما أننا جميعاً فقراء وجميعاً جائعون إلى النعمة الإلهية،
وأقول ذلك لأن الكرامات الظاهريّة التي تبرزها بعض المقاييس الضَّئيلة لا تستطيع
أن تحجب هذه الحقيقة يا إخوتي اقبلوا أن تتعلموا محبة الفقير، لا بقلب غيِر مكترث،
بل على العكس، مندفعين بتلك الحماسة التي ستربحون بواسطتها الملكوت.

 

 صلّوا
لكي تنجح كلماتي في إغنائكم وإشباع نفوسكم، ولكي تتمكن من عجن الخبز السماوي الذي
أنتم إليه جائعون. فإمّا أن تُنزل عليكم من السماء، على مثال موسى، وتغذّي الناسَ
بذلك الخبز الملائكي وتتوصَّل باليسير الذي لا يذكَر إلى إشباع آلاف البشر في
البرّية، كما فعل، في وقت لاحق، يسوع خبزنا الحقيقي وأبو حياتنا الحقيقية.

 

الفضائل

 يعسر
علينا أن نمييز بين الفضائل كلّها الفضيلةَ الأسمى التي تستحقّ أن نفضلها على
أخواتها. فالأمر أشبه بمن عليه أن يبحث في حقلةٍ مزدانة بآلاف الأزهار الساحرة على
أروعها جمالاً وأطيبها أريجاً، فيما تجتذب كلٌ منها المتنزّه لرونقها وعطرها،
فتدعو اليد إلى قطفها قبل سواها. لكن سأحاول على الأقل أن أعددها بالترتيب.

 

 ما
أجمل الفضائل الثلاث معاً، الإيمان والرجاء والمحبّة. على الإيمان يشهد ابراهيم:
فقد آمن وحُسب ذلك له برّاً. وعلى الرجاء أنوش، وهو أول من ألقى رجاءه على الله،
وكذلك جميعُ الصدّيقين الذين اضطهدوا لأجل هذه الفضيلة. وعلى المحبّة، الرسول
الإلهي الذي تجرّأ علىالتفوّه على نفسه بدعاء في سبيل إسرائيل1 ثمَّ الله نفسه
الذي يُدعى محبّة (1يوحنا 4: 8).

 

 جميلةٌ
كذلك فضيلة الضيافة، يمثّلها بين الصّديقين لوط الصادومي الذي اختلف عن مواطنيه
كلَّ الاختلاف (تك 19)، وبين الخطأة راحاب الزانية التي حافظت على قلبها نقيّاً.إن
ضيافتها أهّلتها للثناء والخلاص (يشوع 2: 1-21).

 

 جميلة
فضيلة المحبّة الأخوية: عليها يشهد يسوع الذي لم يكتفِ بأن يدعى لنا أخاً بل قبل
أن يُحكم عليه بالعذاب لخلاصنا.

 

 وجميلة
فضيلة محبّة البشر التي يشهد عليها هو أيضاً بخلقه إيّانا لنعمل الأعمال الحسنة
وبمزجه طين أجسادنا بالصورة الإلهية التي سوف ترتقي بنا إلى الكمال. أوَلم يَصرْ
إنساناً لأجلنا؟

 

 وما
أحبَّ شهامته على قلبي، لمّا رفض مساعدة جيوش الملائكة التي رامت أن تناضل عنه
أمام فرقة الخونة والمجرمين، وكيف عاتب بطرس لمّا جرّد سيفه، ثم شفى الجندي الذي
قطع له هذا الأخير أذنه. وفي وقت لاحق أبدى استيفانوس تلميذ المسيح المروءة نفسها
حينما أخذ يصليّ للذين وقفوا يرجمونه.

 

 وكم
تجذبني فضيلة الوداعة. عليها موسى وداود شاهدان، والكتاب المقدس يعطيهما قصب
السَّبق في هذه الفضيلة. ومعلمهما يشهد عليها أيضاً إذ إنه لم يشاجر ولم يَصِحْ
ولم يهيِّج الجموع في الطرقات بل انقاد مُذعناً للذين استاقوه.

 

 وأحبُّ
حرارة الروح التي حرّكت فنحاس حينما أنفذ حربته في بنت مدين وبنت اسرائيل بضربة
واحدة كي يمحو اللعنة التي أثقلت كاهل اسرائيل فنال لقبه من مبادرته تلك. ومن بعده
يشهد الآخرون بالكلمات الآتية: ” غرتُ غيرة للرب” (3 ملوك 19 – 14)
و” إني أغار عليكم غيرة الله” (2كور 11: 2) و”غيرة بيتك
أكلتني” (موز 68: 10). فتلك الكلمات التي فاهت بها شفاههم إنما صعدت مباشرة
من القلب.

 

وجميلة
فضيلة إماتة الأهواء. عسى أن يقنعكم القدّيس بولس الذي قسى على جسده وأدبَّ
الرّعبَ في الذين بالغوا في وضع الثقة بأنفسهم ولم يعودوا يعرفون كيف يقاومون
الجسد، وضرب لهم إسرائيل مثلاً1. وانظروا إلى يسوع كيف يصوم ويضيّق على نفسه،
وينتصر على المجرِّب.

 

 ما
أجمل الصلاة والسهر مثل إلهنا: فلتكن لكم ليلة الآلام خير حجَّة.

 

وجميلتان
فضيلتا العفّة والبتوليّة.استعيدوا ما وضعه القدّيس بولس من مبادئ وشرائع في
الزواج والعزوبيّة. لاحظوا أن يسوع وُلدَ من عذراء ليُكرم الإنجاب لكن أيضاً
ليفوِّق عليه البتولية.

 

 وجميلة
فضيلة التقشف: امتثلوا بداود عندما أراق الماء الذي أتوه به من خزان بيت لحم من
غير أن يذوقه، لأنه لم يحتمل الفكرة أن يروي غليله على حساب حياه الناس.

 

 وما
أجمل الوحدة والسكنية. ايّاهما يعلّمني إيليا في جبله الكرمل، ويوحنا في برّيته،
ويسوع على جبله، حيثما أحبَّ أن يختلي بنفسه للتأمل براحة.

 

 وأتعلم
الزهد من إيليا الذي اختبأ في بيت أرملة، ومن يوحنا الذي لبس وبْرَ الإبل ومن بطرس
الذي كان يأكل آساً من الترمس كلّ يوم.

 

 أمّا
التواضع فتصوِّر أمثلةٌ شتّى جماله، إلاّ أنه يخطر على فكري أبهاها: أنّ المخلّص
وسيد العالم يسوع قد تسربل بالتواضع حتى أخذ صورة عبد، وعرض جبهته للبصاق، وقَبِلَ
أن ينزلوه بمنزلة الأردياء الساقطين وهو الذي طهّر العالم من الخطيئة، وتصرّف
تصرّف العبيد غاسلاً أرجل تلاميذه.

 

 وجميلتان
فضيلتا الفقر واحتقار الغنى، ممّا يبيِّنه لنا يسوع في حادثته مع زكّا: هذا الأخير
وزع معظم أمواله الطائلة يوم دخل يسوع بيته، فعلّمه يسوع أنّ في مثل هذا العطاء
تكمن كلّ قداسة.

 

 وأشيد
بكلمة بالتأمل والعمل. فالواحد يرفعنا عن هذه الأرض حتى إلى قدس الأقداس ويُعيد
فكرنا إلى ما يماثله. والآخر يستقبل المسيح ويخدمه ليُظهر بالأعمال قدرة المحبّة.

 

 فكلّ
واحدة من تلك الفضائل تكفي بحدّ ذاتها لتقودنا إلى الخلاص وتؤول إلى أحد مساكن
السعادة الأبدية. ذلك أنّ المساكن السماويّة هي بعدد طرائق العيش الأرضيّة، والله
يُعطي كلاًّ منها لكلّ واحد على قدر ما يستحقّ. فمارِسوا أي فضيلة، بل مارسوها
كلّها إذا استطعتم. لكنّ اهتموا بالأساس بأن تثابروا قُدُماً في سبيلكم وابذلوا
جهدكم في اتباع المرشد الصالح خطوة خطوة، حيث إنّ مسيرته الواثقة ستسير بكم في
معارج ضيقة وابواب ضيقة لتصل بكم إلى سهول الغبطة السماوية الرحبة.

 

 لكن،
على قول القديس بولس ويسوع نفسه إنّ المحبّة هي الوصيّة الأولى والعظمى التي عليها
أساس الشريعة والأنبياء. وأظنّ، لَعَمْري، أن إحدى مفاعيلها الرئيسية محبّةُ
القريب. فليس ما يكرم الله مثل الرّحمة لأنه ليس ما ينتسبُ نسبهً أقرب إليه منها،
فهو الذي يسلك الرحمة والحق أمام وجهه ويريد رحمة لا ذبيحة (هوشع 6: 6 ومتى 9: 13و
12: 7). فالله يُجزي الجميلَ بصنع الجميل وثوابه عادلٌ، وهو يَزين الرحمة بالميزان
ويكافئ عليها.

 

مساعدة
الفقراء

ينبغي
أن ننفتح بكل كياننا على سائر الفقراء وكافّة البائسين مهما تنوعت آلامهم. هذا ما
تفرضه علينا تلك الوصيّة التي ترغب إلينا بمشاطرة الفرحين فرحهم والباكين بكاءهم.
أليسوا بشراً مثلنا؟ فلنبرهن إذاً محبتنا لهم إن احتاجوا إليها: فالأرامل والأيتام
والمنفيوّن وضحايا كلٍّ من الأسياد الجافين الخشنين والقضاة الخسيسين والجباة
الأقسى من الحديد واللصوص البرابرة والسرّاق الشرسين، والناس الذين فقدوا ثروتهم
من جراء وضع يد الدولة عليه وغرق سفينة، هؤلاء، جميعهم يستحقّون منّا الإشفاق. فهم
يرفعون نحونا نظرات التوسّل كما نتوسّل نحن إلى الله عندما نطلب منه طلباً.

 

 غير
أن الذين تقرع ساحتهم الأحزان قسراً يبدون لي مثيرين للشفقة أكثر من أولئك الذين
تعوّدوا على الألم. وإني بذلك أشير إلى ضحايا مرضٍ لعينٍ يُنتن فيه اللحم حتى
العظام والنّخاع منها، كما يهدّد النبيّ (أشعياء 10: 18). يغادرهم رويداً رويداً
ذلك الجسد الذي ما كان إلاّ وجع وعار وكَذب.

 

الجسد.

لكن
يا ترى أيُّ سرّ يُتحدني بجسد؟ لستُ أدري. كيف أكون على صورة الله وأنا من الطين
جُبلت؟ أقويٌّ جسدي؟ يعذّبني. أمريضٌ؟ يزعجني. أحبّه حبي لرفيق أسري وأمقته كرهي
لعدو عمري. أهرب منه هروبي من السجن وأجِلّه إجلالي شريكاً في الميراث عينه. فإن سعيت
إلى إضعاف قواه، من يساعدني على القيام بمشاريع ضخمة؟ ذلك أني عالم بغايتي: ينبغي
أن أرتفع إلى الله من خلال الأعمال.

 

 لكن
إذا تساهلت مع هذا الرفيق فأيُّ سبيل إلى الإفلات من ضرباته والثبات قرب الله،
فيما السلاسل الثقيلة تُعثِّر خطواتي وتحول دون نهوضي من جديد؟ فيا له من عدوّ
ظريف وصديق غدّار! آه، يا له من وفاق، ويا لها من قطيعة! خالصتُ الود لمن أخشاه
وتوجَّستُ خوفاً من حبيب. عشيّة الحرب نتصالح ولمّا يحلّ السِّلم بيننا تندلع
المعارك. فأيّ حكمة تسوسني؟ وأيّ سرٍّ لا يسبر غورُه؟

 

 هو
أننا جزء من الله ومن ألوهته نتحدر. لكن تلك الكرامة العظيمة قد تحدو بنا إلى
الترفّع والكبرياء فننتهي إلى ازدراء خالقنا. لذلك شاء أن نتطلَّع إليه دوماً من
قلب مبارزتنا والجسدَ ومن ساحة حربنا معه. وهكذا يُصلح ما يعلق بنا من الضعف كلَّ
تعظّمنا. فندرك أننا عظيمون وصغار الشأن في آن، أرضيّون وسماويّون، فانون وخالدون،
وارثون للنور والنار، ومقضيٌّ علينا بالظلمات، وفقاً للطريق التي سلكناها.

 

نحن
إذاً هذا المزيج. فإن تباهينا كثيراً بأنّنا على صورة الله، أعادنا الطين الذي
جُبلنا منه إلى الاتضاع. تأملوا في هذه المسألة إن رغب قلبكم في ذلك. أما نحن فسوف
يتسنى لنا الحديث عنها في مكان آخر.

 

 والآن
أعود إلى سابق قولي. طالما أنّ جسدي مثير لمثل هذه الشفقة، وضعفي ينكشف بآلام
الآخرين، علينا، يا إخوة، أن نعتني برفيق عنائنا الذي هو جسدنا. فمهما أتهمه بذنب
العداوة لما يلقيه في نفسي من اضطراب، إلاّ أني أُصْدِقُ الولاء له كأخ من أجل
الذي جمعنا. فهلا نسهر على صحة القريب كما على أنفسنا، سواء كان قوي وضعيفاً
واهناً من جراء المرض الذي نحن فيه شركاء جميعاً. كلّنا واحد في الرب، سواء أغنياء
أم فقراء، وعبيداً أم أحراراً، وأصحاء أم سقماء. ليس لنا كلّنا إلاّ رأس واحد هو مبدأ
كلّ شيء: إنه المسيح. فكما أعضاء الجسد الواحد، هكذا ليهتم كلُّ واحد بكلّ آخر،
والجميع بالجميع. فلا نهملنَّ الذين وقعوا أولاً وقعة تنتظرنا كلّنا، ولا
نتركنّهم. بل عوض أن نبتهج لصحتنا الجيدة، فلنحزن بالأحرى على أمراض إخوتنا ولنضع
في فكرنا أنّ ضمانة نفسنا وجسدنا لا تتوقف إلاّ على ما نبديه حيال هؤلاء الإخوة من
رفق وعناية. لكن لأوضحنَّ فكرتي.

 

مأساة
البرص

بعض
الناس لا يعاني إلا من العوز، وهذا ما يعالجه الزمن والعمل والأصدقاء، والأقارب
وتقلبات الدهر. أما البُرص1 فتُمسي لهم هذه المصيبة مأساة فعلية لأن تشوّه أعضائهم
يحول دون قيامهم بأي عمل ويُغلق في وجههم باب الرزق. لهذا السبب يتغلب عندهم هَول
المرض دائماً على رجاء الشفاء. ولذلك قلّما يستندون على هذا الرجاء، الذي إنما هو
دواء المحزونين الوحيد. فعلى فقرهم يضاف أشنع الأوبئة بل شرُّها، وهو الداء الذي
يُذكر في اللعنات. وممّا يزيد على بكائهم أنّ الجموع لا تجرؤ على مقاربتهم ولا على
النظر إليهم بل تنفر منهم نفورها من كلّ ما يثير الاشمئزاز والقرف. وما تلك
البغضاء التي تجلبها عليهم البليّة إلاّ لتذيقهم عذاباً أمرَّ من الوَصَب وأقسى.
إني لا أستطيع التفكير بتعاستهم من غير أن تدمع عيني وأشعر بقلبي ينفطر. عساكم
تشاركونني مشاعري حتى تُجنبِّكم عبراتُ اليوم دموعاً أخرى فيما بعد. وها أنا أراكم
مضطربين ولا ريب، يا من أنتم جميعكم أصدقاء المسيح وأخِلاّء الفقير، يا من نلتم من
لدن الله رحمة إلهيّة. وعلى كلّ حال ألستم أنفسكم شهوداً على مأساتهم؟

 

هنا
أمام أعينكم ينبسط مشهد مثيرٌ للشفقة ومُروع، لا يصدقه إلا من يراه بأم العين:
أناس أموات وأحياء في آن، مشوّهين تشويهاً فظعاً، وقد تبدلت هيأتهم وقبحت، حتى
تعذّر التعرف عليهم وتمييز الأسرة التي ينتمون إليها. أناس؟ لا بل أشلاءٌ حقيرة:
يذكرون اسم والد ووالدة، وأخ ووطن، محاولين أن يعرّفوك بأنفسهم يقولون: ” أنا
ابن فلان وفلانة”، و” يدعونني كذا”، و” في الماضي كنتَ
صديقي”. هذه معلومات ضرورية: فالمرء لا يستطيع أن يدرك شيئاً من ذلك عند
رؤيتهم. إنهم كائنات مشوّهة، لا مال لهم، ولا أهل، ولا أصدقاء واكاد أقول لا جسد.
أناسٌ وحيدون في وسط الجماعة، يُشفقون على أنفسهم ويُبغضون ذواتهم في الوقت نفسه،
لا يعرفون أَعليهم أن ينوحوا على فقدان أعضائهم وعلى الاحتفاظ بقسط منها، ويبكوا
على أن المرض لم يقتلعها جميعها. لكان أهون عليهم أن يفقدوا أعضاءهم كلّها من
الاحتفاظ بنتفٍ منها. مات بعض جسدهم قبل هلاك الجسم كلّه ولن يرضى أحد بدفن ما
تبقى. فأرقّ القلوب وأبرزها شهامة لا تتأثر لمصيبة البُرص. لعلنّا نسينا أننا لسنا
على هذه الأرض سوى بشرة تلتحف بالبؤس، وعوض أن نهتم بالقريب أندعي ضمانة سلامتنا
بفرارنا من قربهم. في معظم الأحيان لسنا نخشى الدّنو من جثة تنحلّ، وقد نواجه
رائحة الحيوانات الكريهة من غير قرف، ونحتمل أن نتمرّغ في الطين. غير أننا نهربُ
حالما نرى أولئك المصابين. آه يا للوحشية!فتنفّس الهواء نفسه تكاد تقشعرّ منه
أبداننا!

 

أفي
الدنيا أحنَّ من أب؟ أفيها أرق من أمّ؟ أمّا بالنسبة لأولئك فالطبيعة نفسها تخالفُ
سنَّتها. إنسان أنجب ولداً ورباه ورنا إليه كأحلى فرحَةٍ مُنيَ بها في حياته،
ولَكَم صلّى من أجله! وها قد بدأ يبغضه ويطرده من غير أن يُسرَّ بفعلته ولكن من
غير أن يمقتها. والدة تستعيد آلام المخاض فيتمزّق القلب منها وتعوِلُ عويلاً ينفطر
له الكبد وتنوح على ابنها الحيّ كأنه قضى نحبه وتقول: يا ولدي التعيس! بأيّ قساوة
ينتزعك الدّاء من حضني! يا ولدي البائس، يا ولداً لم أعد أعرفه الآن، يا ولداً
وضعته في الدنيا لأراه يتوارى في الجبال والأودية السحيقة الخالية بين الوحوش! سوف
تسكن مغارة ولن يرضى بإلقاء نظرة عليك إلاّ نُسّاك قديسون. وترثي لحالها مثل أيوب
فتقول: ” لِمَ لَمْ تمت قبل أن تولد؟ لِمَ لَمْ تفِضْ روحك على الأقل عند
خروجك من البطن قبل أن تنال منك المصيبة؟ لماذا حضنتك الركبتان ولِمَ الثديان حتى
تَرضَع، إن كنت ستحيا حياة أعسَرَ احتمالاً من الموت؟ (أنظر أيوب 3: 11). وتنساب
مع الكلمات دموعٌ مدرارة. وتروم المسكينة أن تقبّل ولدها، غير أنها تنفر من بشرته
فتقصي الولد عنها.

 

لعمري
إن الشعب لا يثور ثائرهُ على الأشرار بل على المساكين. نرى أناساً يؤوون قتلة
ويستضيفون زناة في منازلهم وعلى موائدهم ويعقدون عُرى الصداقة مع منتهكي الحُرمات
ويتملّقون أشخاصاً أضرّوا بهم. غير أنهم يلاحقون المرضى وما ذنب هؤلاء سوى أنهم
يتألمون. إنّ الأردياء أفضل حالاً من الذين دكّهم المرض لأن الناس يتفاخرون بقسوة
قلوبهم ويلوذون بالفرار من وجه الرأفة كأني بها رذيلة من الرذائل. فأصحابنا أولئك
منبوذون من المدن ومطرودون من البيوت والساحات العامة والتجمعات، والطرقات
والأعياد والولائم. آه ويا للشقاء، ممنوع عليهم حتى استخدام المياه. لا يسمح لهم
بالاستقاء من مياه اليانبيع والأنهار لأنهم قد يلوثونها بالوباء.

 

ولكن
إليكم ما ينافي العقل تماماً: إننا نُقصيهم عنّا أقصاء المجرمين ونأبى إلاّ أن
يعودوا إلينا عودة الأبرياء. والحق أننا إذ لا نهتم بإيوائهم ولا بإطعامهم ولا
بمداواة قروحهم، ولا بكَسْوِ مرضهم برداء قدر ما نستطيع، فهم يهيمون على وجوههم
ليل نهار، بلا مال وبلا ثياب وبلا مبيت، وجراحهم مكشوفة، مكرِّرين قصتهم
ومُعيدينَها، متضرّعين إلى الخالق العليّ. يسيرون معكّزين على أعضاء الآخرين
لإكمال ما ينقصهم، وينظمون أغاني تدعو إلى الرحمة والإحسان، ويستعطون كسرة خبز
وغذاءً زهيد وخرقاً بالية يسترون بها عارَهم ويعالجون بها قروحهم. ونعتبر أنفسنا
رحومين، ليس إن مَدَدنا لهم يد العون، بل إذا لم نطرحهم خارجاً ممطرين عليهم
بالشتائم.

 

ولا
يكفي العار في كلّ الأحيان ليمنعهم من الظهور في الاجتماعات: على العكس، نراهم
يتهافتون إليها مدفوعين من الفاقة. نعم، إنّهم يختلطون بتلك الإحتفالات التي
عيّناها لأجل تقدمنا الروحي. فنحن نحتفل بسرٍّ مقدس ونعيّد لأحد الشهداء، لكي
نحاول التشبه بتقوى القديسين الذين نكرم جهاداتهم. وها أمامنا هؤلاء المساكين
الذين يخجلون من أنهم بشر مثلنا. كانوا يؤثرون البقاء مختبئين في الجبال وبين
الصخور وفي الغابات وظلمات الليل الحالكة. لكنهم يظهرون وسط الجمهور في مظهر يستحق
منّا الشفقة والدموع. لعلّهم يريدون تذكيرنا بهشاشتنا وإثباط إقبالنا على
المحسوسات التي نخالها أبدية. وربما يأتون عن حاجتهم إلى سماع أصواتنا والنظر إلى
وجوهنا. ولينالوا مساعدة بسيطة من الغارقين في البحبوحة. وعلى كل حال فهم يأتون جميعاً
بحثاً عن تلك اللذة التي نشعر بها عندما ما نبرز الآمنا للآخرين.

 

فمن
لا يضطرب من أناشيدهم الحزينة تقاطعها تنهداتهم. من يحتمل سماع هذا الغناء؟ من
يصبر على هذا المشهد؟ هم مطروحون أرضاً وقد أذلهَّم الدّاء الرهيب الفظيع، يمزجون
أوجاعهم ببعضها بعضاً ليزيدوا من حدّة شقائهم في أعين الناس. فكلّ واحد منهم
تتضاعف مرارة آلامه بسبب علّة جاره، فإذا بهذه الشفقة أتعس من الدّاء الذي يوصبُ
كلاً منهم.

 

والناس
يتجمّعون حولهم وترقّ لهم أكبادهم بضع لحظات. أمّا هم فيتلوّون عند أقدامهم
متمرّغين في الغبار في القيظ، ومُقَفْقِفين من البرد ينخر عظامهم، ومن المطر
والريح الجليديّة. ولو لم نأنف من لمسهم لكنّا دسنا عليهم من غير وجل.

 

يتجاوب
أنين صلواتهم وتراتيلنا، وتترجّع نداءاتهم الصارخة صدى لأصواتنا الروحيّة.

 

لكن
ما فائدتي من الإسهاب في وصف أساهم في يوم العيد الحاضر؟ لعليّ كنت أُبكيكم لو أني
نظمتها لكم أبيات شعر مأساوي؟ حينذاك لظفر الألم بابتهاجكم. لكن بما أني ما زلتُ
عاجزاً عن إقناعكم، فاعلموا على الأقل أنّ الحزن أحياناً أفضل من السرور، والعبوسة
أفضل من لحن العيد والعبرات من الضحك السّفيه.

 

غير
أنّ ما يؤثر في النفس أكثر هو أن نعي أنّ هؤلاء الناس إخوتنا في الله وهم من
الطبيعة نفسها، شئنا أم أبينا. ذلك أنهم خرجوا من الطينة الأصلية نفسها، وهم من
أعصاب وعظام مثلنا، ومثلنا يكسوهم اللحم والبشرة، كما قال أيوب الصديق في تأمله
ببلاياه ومقته لجسدنا المنظور برمّته. وأهمّ من ذالك أنهم على صورة الله مثلنا
ولعلهم يشوّهون تلك الصورة أقل منّا رغم مذلتهم. ذلك أنّ إنسانهم الداخلي لبس
المسيحَ نفسه الذي لبسناه، وقد نالوا عربون الروح عينه. كذلك لهم الشرائع نفسها
والأسرار نفسها والرجاء نفسه. لقد مات يسوع المسيح، الذي يمحو خطيئة العالم من
أجلهم كما مات من أجلنا وهم أيضاً يرثون الحياة العلويّة، ولو نقصهم قسطاً كبيراً
من هذه الحياة الأرضية. إنهم شركاء في آلامه وسوف يصيرون شركاء في مجده.

 

ماذا
تظنون؟ لقد أطلق المسيح علينا أسماءً غريبة رائعة: ” شعباً مختاراً وكهنوتاً
ملوكياً وأمّة مقدسة وجنساً مصطفى سبق تحديده، وغيورين على الخير وعلى
الخلاص”، وتلاميذ المسيح الوديع الرحيم الذي حمل آثامنا على عاتقه وتواضع حتى
اتّخذ جسداً وعاش مسكنة هذا الجسد بل هذا الخباء الأرضي، وقبل الإهانة وانتهاك
حرمته لكي يُغنينا بألوهيّته. فبعد هذا المثال العظيم على العطف والنعمة، كيف
سننظر إلى هؤلاء البشر وما عسانا نفعل؟ أنحتقرهم؟ أنمضي من غير أن ننظر إليهم ولو
عن عُرض؟ أنتركهم شأن الجيَف والقباحات، وشأن أخبث الأفاعي وأشرس الكواسر؟ لا يا
إخوتي، لن نفعل مثل ذلك، فإننا حملان المسيح الراعي الصالح، الذي أعاد الخروف
الضالّ ووجد النعجة التائهة وشدّد تلك التي أوهنها المرض. إنّ الطبيعة الإنسانية
نفسها لا يمكنها أن تأتي هذا العمل، وهي التي تسنّ لنا أن نرأف بالآخرين وتعلمنا
شمولية المصيبة على الجميع، فتلقننا درساً في الإنسانية وفي المحبة معاً.

 

أفنتركهم
يتألمون معرّضين لكل الأخطار فيما نحن في منازل فخمة مرصّعة بألوان الحجارة
الكريمة وملبّسة بالذهب والفضّة ومزيّنة بالفسيفساء الرفيعة الذوق والرسوم
الخلاّبة المبهرجة؟ ونبني أخرى جديدة غير راضين بسكنى مثل هذه البيوت؟ ومن
سيسكنها؟ ليس بالضروري وارثونا. فقد يستولي عليها غرباء لا نعرفهم ولا يكنّون لنا
أدنى مودّة، بل على العكس يتأكّلهم الحسد فيمقتوننا! فيا لها من نهاية تعيسة! هم
سيرتجفون في أسمالهم الحقيرة، هذا إن حالفهم الحظّ وحصلوا عليها. أمّا نحن فسوف
نجرُّ أذيالنا المسبلة الناعمة كبْراً وسنختال بأثوابنا الفضفاضة المنسوجة من
الكتان والحرير، مما يجعلنا عثرة شائنة عوض أن يجعلنا أنيقين، لأني أرى في كلّ ما
زاد عن الضروري وخرج عن المنفعة عثرة شائنة. أمّا باقي ثيابنا المحفوظ في صناديق
حديدية فسيجلب علينا هموماً كنّا بغنى عنها. لأننا لن نستطيع أن نردع الدّود عن
أكلها ولا أن نمنع الزمن عن تحويلها بعد وقت طويل إلى غبار. هم لن يأكلوا حتى
الشِّبع. فيا للحياة من عيش رغيد بالنسبة لي، ويا لها من حزنٍ شديد لهم! ها قد
انطرحوا على عتبة بيوتنا منهوكي القوى، يعضّهم الجوع وتخونهم قواهم، فبالكاد
يستطيعون رفع التوسل، ولا صوت لهم للشكوى ولا يدين للتسوّل ولا رجلين للذهاب ودق
أبواب الأغنياء، ولا نَفَس ليرنموا ألحانهم الرتيبة الحزينة. وأمّا أفظع آلامهم،
وأعني به العمى، فيحلو على قلوبهم ويغبطون أعينهم لأنها تخفي عنهم منظرهم ومذلتهم.

 

ذلك
نصيبهم. أمّا نحن فسننام على أسرّة عالية وثيرة لا يقترب منها أحد، مفروشة بأنسجة
ثمينة مزخرفة، وسوف نغتاظ من صرخة يطلقونها إذا طرقت مسامعنا. لا بدّ، كذلك، من ان
تعبق مخادعنا بالأزهار حتى في غير موسمها وأن تُهدر أثمن العطور وأزكاها على
طاولاتنا حتى نضيق بها ذرعاً. ويجب أن يحتفّ بنا فتيان يافعون بعضهم مصطفّون
بانضباط، وشعرهم مشعّث وهيأتهم مخنّثة وذقونهم محلوقة ناعماً، وكأني بتلك النظافة
والتأنّق المتقن لتزيد من إشباع شهوة أعيننا القليلة الحياء. وعلى آخرين منهم أن
يمسكو الكؤوسَ من طرف الأصابع، في حركة ملؤها الأناقة والثقة في آن. وعلى آخرين
أيضاً أن ينسِّموا على صدغينا نسيماً عليلاً بواسطة المراوح ويبرِّدوا أبداننا
مروّحين عليها بالأيدي. وعليهم كذلك أن يفعموا المائدة من لحوم وفرتها لنا العناصر
الثلاثة من ذاتها، وأعني الهواء والأرض والماء. وستَعْيا مهارة الطباخين ومعاونيهم
في محاولة ابتكار أطباق جديدة تتنافس لترضي شراهة بطن لا يشبع: فيا لذلك البطن من
عبء ثقيل بل إنّه علة رذائلنا وحيوان ماكر لا يشبع، مصيره أن يتلاشى بسرعة تلاشي
الأطعمة التي يبتلعها! أمّا هم، فيعدّون أنفسهم سعداء إن شفوا غليلهم بالماء،
وأمّا نحن فنأبى إلاّ ونتجرّع الخمر بكؤوس مُترعة، حتى الثمالة وأبعد منها
أحياناً، عند الذين ينقادون بيننا انقياداً أشدَّ وراء الملذات. وفي انتقائنا
الخمور، لن نستبقي إلاّ على أطيبها نكهة وسوف نناقش في أمر جودتها ولن نرضى إلاّ
أن نستورد نخبة الخمور من الخارج، كما لو قصدنا المس بكرامة نتاج أرضنا. محبين
للذّة ومبذّرين بلا وعي، هكذا نشاء أن نكون وأن نظهر، وكأننا نخاف على أنفسنا إن
لم تُستعبد استعباد الذلّ لبطوننا وشهواتنا.

 

ماذا
تظنون يا إخوتي الأعزاّء؟ إنّنا نحن أيضاً، لمصابون ببرص يتأكّل أرواحنا، وهو
أرْدى من الذي ينخر لحمهم. والحقّ إن الواحد يخرج من الإرادة فيما الآخر ينتج
عنها. الواحد يكفّ بتوقف الحياة والآخر يرافقنا طوال السفر. الواحد يثير الشفقة
والآخر، أقلّ ما يثيره في النفوس المتعقّلة النفورَ والاشمئزاز. فلِمَ لا نسعف
الطبيعة ما دامت الفرصة سانحة؟ لِمَ ننصرف إلى الملذات وإخوتنا ينتحبون؟ آه! لا
رضيَ اللهُ أبداً أن أغتني ومثل تلك المصائب قيد البقاء! لا تمتعتُ يوماً بصحة جيدة
إن لست آتي وأضمد قروحهم، ولا أكلتُ يوماً حتى الشبع ولبست ثياباً تقيني البرد
وبتُّ تحت سقفٍ، إن لستُ أُطعمهم وأكسوهم وآويهم قدر الإمكان! أجل علينا أن نتخلىّ
عن كلّ شيء لاتباع المسيح بالحقّ، وحمل صليبه على مناكبنا والانطلاق مجنحين بخفة
نحو العالم العلويّ، أحراراً مفلتين من كلِّ رباط. حينذاك نجتني يسوع المسيح عوض
العالم، وقد أكبرَنا التواضع وأَثْرانا الفقر. وينبغي على الأقل أن نشاطرَ المسيح
ثروتنا، فإنما الكرم في العطاء يبرر ذوي الأموال ويفيد لتقديسهم. إن كنت لا أزرع
إلاّ لفائدتي الخاصة، فليَجنِ آخرون ثمر غلالي، وعلى قول أيوب: ” فعوض الحنطة
لينبت الشوك وبدل الشعير زؤان” (أيوب 31: 4 9)، وليذهب تعبي أدراج الإعصار
والريح العاصفة، ولتبؤ جهودي كلّها بالفشل. وإن بنيتُ الأهراء لأحتفظ فيها بالمال
ولأكدس الكنوز فلينزع الله نفسي من هذه الليلة لكي أؤدّي جواباً عن الأموال التي
جمعتها، وذلك حتى أخزى.

 

الازدراء
بالحاضرات الزائلة وطلب الباقيات.

هل
نتعقّل في النهاية؟ هل نتخلّى عن قلة إحساسنا، لم أقل عن بخلنا؟ ألن نمعن النظر
متأملين في أفعال البشر؟ ألن نتعلم من مصائب الآخرين الوقاية والحذر؟ ليس في أمور
الناس ما هو بيِّن أكيد، وليس ما هو مستديم ولا طويل الأمد ولا ثابت وطيد. مصائرنا
متقلبة كالدواليب، وغالباً ما يكفي نهار وساعة لتغيير مجرى أقدارنا في هذا الاتجاه
وذاك. خيرٌ لنا أن نثق بمشيئات الرّياح وخطوط جري السّفن في عرض البحر، وخداع
الحلم وحلاوته الوجيزة، وبالقصور التي يشيدها الأولاد من الرمل من أن نثق بالسعادة
البشريّة. من الحكمة أن نرتاب في أمر الحاضرات ولا نفكر إلاّ بكسب الأبديّة، وأن
نؤثر على سرعة زوال البحبوحة الأرضيّة وعدم ثباتها، ذلك الإحسانَ الذي لا يغدر
بأحد، بل على الأقل يؤمّن لنا أحد المكاسب الثلاثة الآتية: إمّا أن يصونكم من
البلايا، لأن الله غالباً ما يثيب المحسنين بالغنى الوقتيّ حتى يحثهم على إعطاءِ
الفقير، وإمّا يعطيكم يقيناً غيرَ منتزع، إذا حلّت المحنة، بأنّها ليست عقاباً على
خطاياكم، بل من باب قضاء الله وسماحه. وإمّا يمكّنكم من رفع حاجاتكم إلى الأغنياء،
طالبين ما كنتم تتصدّقون به أنتم في أيام الخير على المعوَزين.

 

لا
يفتخرنَّ الحكيم بحكمته ولا الغنيّ بغناه ولا القوّي بقوّته حتى لو بلغوا قمّة
الحكمة والغنى والقوة (ارميا 9: 23). وأنا أضيف إلى ذلك: لا يذهبن بأنفسهم أصحاب
الأمجاد ولا المتمتعين بالصحة ولا المتميّزين بالجمال وبالثياب وبامتياز يحسده
عليهم العالم. أمّا إن أردتم الأفتخار فافتخروا بمعرفة الله وطلب وجهه وارأفوا
بالمساكين واحتفظوا برأسمال المحبّة لحياتكم الأبدية. ذلك أن أموالنا في هذه
الدنيا زائلة وعابرة وهي تنتقل من يد إلى أخرى كما في لعبة النَّرد، ونحن في الحقيقة
لا نملك شيئاً: فإن سلِمْنا شرَّ الحسد، يأتي الزمان ويأخذها منّا في نهاية
المطاف. أما الخيرات الأخرى فلا تتغيّر بل هي أبديّة: ليس ما ينتشلها منكم ولا ما
يهدمها ولا ما يخيّب الرجاء الذي تعقدونه عليها. وإنّي، في خداع الخيرات الوقتيّة
وعدم ثباتها لأستشفُّ نيّةَ الكلمة المبدِع. فالله في حكمته التي تفوق كلّ إدراك
يطلب منّا ألاّ ننظر نظرة الجديّة إلى تلك الأموال التي لا يوثق بها والتي تأتي
وتذهب وتختفي لحظة نظنّ أنفسنا ممسكين بها. وبما أننا عارفون بعدم ثباتها على عهد
وسرعة زوالها فلا ينبغي أن نهتّم لها أكثر من الحياة الأبديّة. فلأي إفراط كنّا
سنستسلم لو أن رغدة هذه الأرض دائمة إن كنّا، وهي قصيرةُ الأمد، نتعلق بها هذا
التعلق الشغوف، ونسلّم أنفسنا إلى خداع هذه المباهج الختّارة الغشاّشة، حتى أنه لا
يعود بإمكاننا أن نتصور في الوجود أقوى من هذه الخيرات الوقتيّة وأعظم منها شأناً؟
وفوق ذلك، نفكر ونقبل بالقول إنّنا مخلوقون على صورة إله سماويّ يسعى لتعظيم شأننا
حتى نبلغ ملء قامته!

 

فأيّ
حكيم يفهم هذا الكلام؟ من يهرب من هذه الخيرات الخاطفة كالبرق؟ من يتعلق بالثروات
الأبديّة؟ من ينظر إلى الخيرات الحاضرة فيراها زائلة باطلة، ويرى تلك التي وضعنا
فيها رجاءنا باقية دائمة؟ من يميّز الواقع من الظاهر ليمسك بأهداب الواحد ويرذل
الآخر؟ من يعرف الخدعة من الحقيقة والخباء الأرضي من المدينة السماويّة وأرض
المنفى من الوطن السرمدي والظلمات من النور والطين من القدس والجسد من الروح والله
من أمير هذا العالم، وظل الموت من الحياة الخالدة؟ من يقايض اليوم بالأبد، والفاني
بالذي لا يفنى، والمنظور بما لا يرى؟ طوبى لصاحب البصيرة النافذة، الذي ينقش في
قلبه ” المصاعد ” كما يقول داود الإلهي، فيفرّ من وادي البكاء هذا بأسرع
ما يمكن، ولا يتطلع إلاّ إلى كسب السماء. طوبى للذي يقوم مع المسيح، بعد أن صُلِبَ
للعالم مع المسيح، ويصعد مع المسيح إلى السماء، وارثاً حياة أضحت غير قابلة
للزّوال وحقيقية. لن يحتاج في طريقه للحَذَر من الأفاعي الرّاصدةِ عقبَه. وبالنسبة
لنا، فداود نفسه ينادي نحونا بصوت المنذر الجهير بإعلانات سامية وشاملة، يفضح فيها
قلّةَ إحساسنا وميلنا إلى الكذب، ويتوسّل إلينا ألا نحبَّ فراغ المظاهر ولا نقيس
سعادتنا بوفرة ما نقتنيه في مخازننا وأقبيتنا. ويتوجّه إلينا ميخا المغبوط بنصيحة
مماثلة حينما يحذرنا من إغراء الخيرات الزمنية قائلاً: ” اقتربوا من الجبال
الأبديّة. قوموا، انطلقوا من هنا، ليست هذه هي الراحة”.

 

تلك
تكاد تكون كلمات معلّمنا ومخلّصنا التي بها حثَّنا على اتبّاعه: ” قوموا
ننطلق من هنا” (يوحنا 14: 13). بهذه الكلمات لم يدعُ التلاميذ الذين رافقوه
آنذاك وحدهم، كما قد يخطر ببالنا، ولكنه أراد أن يُبعدَ كافة المسيحيين عن الأرض
والأرضيات ليرفعهم إلى السماء والسّماويّات.

 

العطاء:
لنعطِ تشبّهاً بالعليّ.

فلننطلق
في إثر الكلمة ولا نطلب الراحة إلاّ هناك فوق، ولتصغر في أعيننا خيرات العالم، ولا
نستغلَّنَّها إلاّ لما يمكنها أن تفيدنا به: فلنكسب خلاصنا بالإحسان ولنتقاسمها
والفقر لكي نغتني في السماء.

 

أعطِ
شيئاً للنفس، لا تعطِ الجسدَ وحسب، شيئاً لله، لا للعالم وحسب. إخصِمْ مماّ للبطن
كي تحفظه للروح ولا تدع النّار تأكل كلّ ما عندك، بل صن بعضاً منه في مأمن من
اللهيب الأرضيّ، وانتزع من يد الطاغية ما تقدّمه للسيّد. أعطِ جزاءً من سبعة(أي من
هذه الحياة) وحتى من ثمانية (أي من الحياة التي ستستقبلنا لاحقاً). أعطِِ النَّذر
التافه لمن أجزل لك العطاء، لا بل قدِّم مالك كلّه للذي منحك إياه بجملته. لن
تباري خضمّ كرم الله ولو جُدتَ بكامل ثروتك وبذاتك أيضاً، لأن إعطاء النفس لله
إنّما هو أخذ. فمهما وهبت سيبقى لك المزيد ولن يكون عطاؤك من عندك، طالما أنّ مالك
كلّه من الله يأتي. فكما لا يستطيع أحد أن ينفصل عن ظلِّه لأنه ينسحب من تحت قدميه
ويسبقه دائماً، وكما لا نستطيع الانتصاب أعلى من هامتنا لأنها دائماً في قمّة
الجسد، كذلك يستحيل علينا أن نتفوق على الله بتقادمنا. ذلك أنّنا لا نهب إلا ما هو
ملكه، ولا يمكن لكرمنا أن يضاهي غزارة فواضِله.

 

إعلَمْ
من أين لك ان تنوجد وتتنفس وتفكر، ولا سيما أن تعرف الله وتمنن النفس بالملكوت
وبحالة الملائكة، ومشاهدة مجد يختفي اليوم في ظلال مرايا وألغاز، ولكنه سينكشف
غداً في صفائه وبهائه. من أين لك أنك أبن لله وشريكُ المسيح في ميراثه وأجرؤ على
القول، أنك أنت أيضاً إله؟ أنى لك هذه النعم ومن وهبك إياها؟ وإن أكتفيتُ بذكر
الامتيازات الصغيرة، أعني المنظورة، أقول: من أعطاك أن تتأمّل في جمال الجلد ومدار
الشمس، وفي البدر وفي آلاف النجوم، وفي الانسجام وإلإيقاع المتوازن المنبعثين من
العالم انبعاثَ لحن الكنّارة، وفي انتظام الفصول وتعاقب الشهور، وتوالي السنين،
وتساوي الليل والنهار، وفي ثمار الأرض ورحابة الهواء وفي الأمواج الموليّة هاربةً
في مكانها، وفي الأنهار العميقة وهبوب الرّياح؟

 

من
أعطاك المطر والزّرع والغذاء والفنون والبيوت والشرائع والدولة وحسن الأخلاق
ومحبّة القريب؟ من سمح لك بتدجين الحيوانات ووضعها تحت النير فيما تستخدم البقيّة
منها للغذاء؟ من أقامك ملكاً وسيّداً على كل حياة تدبّ في الأرض؟

 

ولئلا
ندخل في التفاصيل، من تراه أعطاك كل ما يجعل منك إنساناً يسمو على الحيوانات
الأخرى؟ أليس هو نفسه الذي يطلب منك الآن أن تحب الآخرين مقابل ذلك كلّه؟ فيا له
من عار علينا إنْ كنّا، بعد هذه الإحسانات كلّها وبعد الوعود التي أغدق بها علينا
نمتنع عن تقديم هذه الهديّة الوحيدة أن نُحبَّ الآخرين. لقد ميّزنا عن ذوات الأربع
وخصنا وحدنا على هذه الأرض بمَلَكَة العقل، أفنغدو وحوشاً لأتراب جنسنا وننقاد إلى
الأهواء فتفسدنا؟ أم نحن مجانين؟ ولعل، كيف أقولها، لعلََّّ أقتناءنا الشعير
والتبن، ربمّا بطريقة غير شرعيّة، سيضع في عقلنا أننا أسمى من الفقير شأناً؟ هل
نعايش أبناء جنسنا مثلما عايش عمالقة الأسطورة في غابر الزمان سائر البشر، ومثل
نمرود (تكوين 10: 8) وقبيلة عناق التي استبدّت ببني إسرائيل، وأولئك الأشرار الذين
جعلوا الله يعزم على تطهير العالم بواسطة الطوفان؟ إن الربّ لم يخجل من أن يُدعى
أبانا، فكيف نجرؤ نحن على نبذ أبناء جنسنا؟

 

يا
إخوة، لا نسيئنَّ تدبير الخيرات التي ائتُمناّ عليها كيلا نسمع صوت بطرس يزمجر
قائلاً: ” احمرّوا خجلاً يا من تمسكون بمال الآخرين. ماثلوا مساواة الله بين
الجميع، ولن يكون من فقير بعد”. لا نُكبَّن على تكديس الأموال فيما أخوتنا
يموتون جوعاً، لئلا نعرّض أنفسنا لتأنيب عاموص تأنيباً شديداً بقوله: ”
اسمعوا هذا أيها المتهممون المساكين لكي تبيدوا بائسي الأرض قائلين متى يمضي رأس
الشهر لنبيع قمحاً والسبت لنعرض حنطةً؟” (عاموص 8: 5). وكذلك يهدّد التجارَ
الذين يعَوِّجون موازين الغش بغضب الله عليهم. ويقوم ضدّ الترف وما يولدّه من نهم
إلى الملذّات لا يشبع فيقول عنهم ” المضّجعون على أسرّة العاج، والمتمددون
على فُرُشهم والآكلون خرافاً من الغنم وعجولاً من وسط الصّيرة، الهاذرون مع صوت
الرّباب…الشاربون من كؤوس الخمر والذّين يدّهنون بأفضل الأدهان” والأسوأ من
ذلك أنهم يؤمنون بدوام هذه الأباطيل (عاموص 6: 4- 6). ولعلّه رأى ضروب السكر
والعربدة تلك بحد ذاتها أقلّ شناعة من عدم اكتراث الأثرياء بنكبة يوسف (عاموص 6:
6). وعلى كلّ حال، فهذا يردفه النبي إلى التبكيت السابق. فلنقينّ أنفسنا من مثل
هذا الوعيد، ولا نتماد في ملذاتنا حتى الاستهتار بصلاح الله، الذي تثير هذه
المشاغبات حفيظته، ولو أن غضبه لا يقصفُ المذنبين على الفور.

 

لنماثلنَّ
هذه الشريعة السَّنية الأوليّة لإله يمطر على الأبرار والخاطئين ويُشرق شمسه على
البشر أجمعين، بلا تفرقة. فهو يمنح لمخلوقاته على الأرض فلوات وسيعَة وينابيع
وأنهار وغابات. ولذوات الجناح خلق الهواء وللحيوانات المائيّة المياه. يؤمّن بوفرة
لكلّ منها قوته. فلا تقع هباته في أيدي الأقوياء، وهي لا تقاس بالمقاييس ولا
تتقاسمها الدّول. لا يُعطي إلاّ بقدر كبير. هكذا يكرم المساواة الطبيعية من خلال
مساواته في توزيع الهبات، وبذلك يعلن عن بهاء سماحته.

 

ألغنى
لا بالمال بل بالفضيلة

أمّا
البشر، فعندما يكدسون الذهب والنقود والثياب الفخمة والتي لا فائدة منها في آن،
والماس وما يشابهه، وهذه جميعها إشارات حرب وانقسام وطغيان: حينذاك يتصلبّون
بعجرفة حمقاء، فلا يرقّ القلب منهم لإخوتهم المنكوبين، ولا يرثون لحالهم. فإنّ ما
يفيض عن أولئك لن يؤمن لهؤلاء لقمة العيش. يا لها من عماوة فظيعة! لا يرد على
ذهنهم أبداً أن الفقر والغنى، والحرية والعبوديّة، كما ندعوها، والفئات الأخرى
المشابهة لها أنما طرأت على الإنسان في وقت متأخر وسرت بين الناس سريان الأوبئة،
وقد جلبتها الخطيئة التي استنبطتها. أمّا في البدايّة، فلم يكن الأمر كذلك (متى
19: 8). فالله خلق الإنسان في البدء وتركه حرّاً طليقاً، سيّداً على مشيئاته، وما
خلا حظراً واحداً، تركه للتمتع بأطايب الفردوس. لقد تمنى له الله لو تشارك كلّ
الأجيال الإنسان الأوّل سعادته. فالحرّيّة والغنى إنما ارتبطا بالامتثال لوصيّة
واحدة، وكان في تعدّيها التعرض للفقر الحقيقي وللعبوديّة. ومنذ أن دخل الحسد
والخصومات في العالم مع طغيان الحيّة الخبيث، تلك الحيّة التي تجذبنا في فخّ اللذة
وتنصب القويّ ضد الضّعيف، منذ ذلك الوقت تشرذمت البشرية التي ما كانت تشكل من قبل
سوى أسرة واحدة إلى شعوب متعدّدة اتخذت أسماء مختلفة، فيما قضى البخل على الكرم
الفطري، مستنداً في ذلك على سلطة القوانين.

 

فهلاّ
تنظرون إلى تلك المساواة الأوليّة وتتناسون الشقاقات اللاحقة. هلاّ تتوقفون، لا
عند شريعة الأقوياء، بل عند شريعة الخالق. هلاّ تنجدون الطبيعة قدر ما تستطيعون.
هلاّ تُظهرون لله عرفانكم جميله لكي تكونوا ممَّن بوسعهم العطاء، لا ممَّن يحتاجون
إلى الهبة. ولكي لا تضطروا إلى استمناح أحد حاجاتكم، بل لتروا الآخرين يستمطرون
معروفكم. لا تغتنوا بالأموال وحدها، بل كذلك اغتنوا بالرّحمة، ولا بالذهب فحسب، بل
بالفضيلة أيضاً، وعلى الأحرى بالفضيلة وحسب. لا تسْعوا إلاّ للتفرد بالسخاء،
وكونوا للفقراء آلهة بحذوكم حذو الإله الرّحيم.

 

ليس
نقطة التقاء بين الإنسان والله أكثر من القدرة على فعل الخير، ولو أنّ الإنسان لا
يسعُه ذلك إلاّ بمقدار مختلف كل الاختلاف. فليفعل على الأقل قدر المستطاع. إنّ
الله خلق الإنسان وصالحه بعد أن سقط. فلا تزدروا أنتم بالذين تزلّ خطاهم. لقد أرسل
الله للإنسان الشريعة والأنبياء لأنه تأثر بهول شقائه، وذلك بعدما منحه شريعة
الطّبيعة غير المدوَّنة، واهتم هو نفسه أن يهدينا السبيل ويُرشدنا ويعاقبنا. وفي
النهاية أسلم نفسه فدية لحياة العالم، وأجدى علينا بالرسل والمبشرين والمعلّمين
والرّعاة، وبالأشفيّة والمعجزات. أعادنا إلى الحياة وحطّم الموت وانتصر على الذي
غلبنا، وخوّلنا العهدَ بالرمز والعهد بالحقيقة، ومواهبَ الروح وسِرَّ الخلاص
الجديد.

 

إن
شعرتم أن لكم القوّة الكافية لتساعدوا النفوس (بما أنّ الله يمنحنا الخيرات
الرّوحيّة إن أردنا تقبلها)، فلا تتردّدوا بمدّ اليد إلى المحتاجين. لكن أعطوا
أوّلاً، وبشكل خاص لمن يسألكم حاجته، وحتى قبل أن يسأل وأفضلوا عليه طول النهار
بالتعليم والعقيدة إحساناً وقرضاً، مطالبين بإلحاح برد الدّين مع الفائدة، وأريد
بذلك أن يجعل مدينُكم التعليمَ مثمراً بتركه التقوى المزروعة في قلبه تنمو شيئاً
فشيئاً.

 

أمّا
إن عدِمْتُمْ إمكانية تلك الهبات، فاعرضوا عليه على الأقل خدمات أبسط تبقى في
متناول يدكم: أطعموه واخلعوا عليه ما عتق عندكم من ثياب وأمنّوا له الدواء واعصبوا
جراحه، واستخبروه عن معاناته وزيّنوا له الصبر. اقتربوا منه ولا تخافوا. لا خطر
عليكم من ان تسوء حالكم وان ينتقل إليكم داؤه، شاء أم أبى سادتي الرّقيقو الشعور
الذين يختلط عليهم الرأي السديد، وبالأحرى الذين ينكمشون على جبنهم وكأن الجبن فيه
حكمة وعظمة، وذلك لكي يبرّروا تقاعسهم وكفرهم. لا بدّ ان يقنعكم العقل ومثال
الأطباء وكلّ من يعتنون بهؤلاء المرضى: لم تنتقل إلى أحد ممّن قاربوهم عدوى المرض.
وأنتم، فمهما كان الأمر يستدعي الشجاعة والجرأة أنتم يا خدام المسيح، أنتم يا
أحباء الله والبشر، لا تردّوا الطلب من باب الجبانة. عكِّزوا على الإيمان ولتغلب
المحبّةُ تحفّظَكم، ومخافةُ الله رقةَ شعوركم، عسى أن تبدد التقوى نعومةَ الجسد.
لا تستصغروا شأن إخوتكم ولا تتصامموا عن نداءاتهم ولا تنفروا منهم نفوركم من
مجرمين وسفلة ومقيمين مثيرين للقرف. إنهم أعضاؤكم، ولو كسرتهم المصيبة. إليك
“وُكّل المسكين” كما إلى الله (مز 10: 14)، ولو حدت بك كبرياؤك إلى
التعالي عليه. لعلّكم تحمرون خجلاً من هذه الكلمات. فإن محبّة القريب وصيّة
أُوصِيتم بها، ولو لهاكم العدوّ عن الانتباه لها.

 

كلّ
بحّار معرّض للغرق وتهوّره يزيد الخطر. وطالما لنا جسد، فنحن عرضة لكافة أنواع
الأسقام الجسديّة، لا سيّما إن كنّا ممَّن يتابعون سيرهم ببرودة، غير ملتفتين إلى
المساكين الذين سقطوا أمام أعينهم. طالما تبحرون في رياح مؤاتية، مدّوا يد العون
للغارقين، طالما أنتم أصحاء وذوو أموال، أغيثوا المنكوبين. لا تنتظروا أن تتعلّموا
على حسابكم الخاصّ كم أنّ الأنانية بغيضة، وكم جدير بالمدح ان يفتح المرء قلبه
لجميع الذين في عوز. خافوا من يد الله ان تضرب أولئك المُدّعين الذين ينسون
المحتاجين. تلقنوا درساً من شدائد غيركم وساعدوا البائس ولو بالطفيف اليسير.
وليحلّ إسراعكم إلى تلبيته محلّ زهادة عطائكم. وان ألفيتُم أنفسكم صفر اليدين،
جودوا عليه بدموعكم. فشفقتكم الصادرة من القلب سوف تريحه، لأن الرأفة الصادقة
تلطّف مرارة الألم. أيّها البشر! لا تستخفوا بإنسان أكثر ما تستخفون برأس ماشية
تأمركم الشريعة بإعادته إلى سواء السبيل، وبانتشاله من جبّ سقط فيه. لعلّ هذه
السنّة تخفي بين سطورها معنى أعمقَ سرّياً؟ فأنا أعرف ان الكتاب لا يخلو من
الغموض. لكن ما شأني أنا في ذلك؟ فتلك المعرفة تعود إلى الروح القدس وحده، وهو
يسبر كلّ الأمور. أمّا أنا فيزين لإدراكي ان هذه الفكرة تتوافق مع كلامي بجملته:
أنّ الله يمتحن محبّتنا في الأمور الصّغرى حتى يُحسّنها ويقوّيها. فإن وجب علينا
الإسراع إلى نجدة البهائم غير العاقلة، ما الحال بالنسبة للبشر، بما أننا لنا
كلنّا الكرامة ذاتها والعظمة عينَها؟

 

سرّ
أحكام الله

هذا
ما يقنعنا به العقل والشريعة وكذلك هؤلاء الرّجال المتواضعون، الذين يؤثرون البذل
على الأخذ، ويُبدون همّة في التوزيع أكثر من التكديس لأنفسهم. هذا ناهيك عن
الحكماء منّا، إذ أنني لست أتكلم عن الوثنيين الذين يصوّرون آلهتهم على شاكلة
رذائلهم، ويخصوّن بالعبادة ذاك الذي يتسلط على الرّبح1، فيما تقدّم شعوب أخرى
لآلهتها ذبائح بشرية، مقترفة بذلك جريمة أفظع وأشنع، وتحوّل القتل إلى طقس من طقوس
العبادة. إنّهم يسرّون بمثل هذه الذّبائح، وفي حسبانهم أنها طعام لذيذ لآلهتهم،
فيا لهم من كهنة ومُلقني أسرار رذيلين لآلهة رذيلة. أمّا نحن، فبيننا، ويا للأسف
الشديد، أناس ينهمرون على المساكين بألوان الشتائم والكلام البذيء، ويتلفظون
بالأباطيل الفارغة عوض أن يبذلوا مسعاهم في عونهم ويُشفقوا عليهم، حتى صدق القول
فيهم إنّ ” صوتهم من الأرض يصعد”. وهم يتكلمون في الهواء، ولا تطرق
كلماتهم مسامع حكيمة قد آلفت الإصغاء إلى العقائد الإلهية. ويؤول بهم الأمر إلى
القول: ” إن مصيبتهم هي مشيئة الله فيهم. فمن أنا لا أقاوم قراراته وأُظهر
نفسي أفضل منه؟ فلتتوال عليهم الأمراض والأحزان والحرمان إذاً، بما أن تلك مشيئة
الله”.

 

فهؤلاء
لا يظهرون ما عندهم من تقوى إلاّ عندما يتعلق الأمر بالاحتفاظ بأموالهم، والمسِّ
بكرامة المساكين. وفي كلامهم هذا ما يثبتُ عدَم إيمانهم بأنّ بحبوحتهم من الله
آتية. وإلاّ فمن يستطيع أن يصوّر تجاه الفقراء مثل تلك المشاعر وهو يؤمن بأن الله
هو المبدىء المعيدُ لثروته؟ فإن من أفْضَل عليه الله بعائدة يتصرَّف بها وفقاً
لروح الله.

 

لا
يمكننا أن نتبيّن إن كانت محنُهم من الله أم لا، طالما أن المادة تنبعث منها هذه
البلبلة، هذه الدوامة، لأن من ذا يستطيع الإثبات أنّ هذا يعاقب على جرائمه وذاك
يُرفع لفضائله، ومن يعلم إن لم تكن رذائل الواحد سبباً لسموّه إلى المَعالي،
وشدائد الآخر امتحانًا لشِيَمه؟ واحدٌ يرفع إلى أعلى لكي تظهر سقتطه أفظع، وإنما
يسمح الله بتفشي ما ينضح به جلده من اللّؤم اليوم كيما يضربه غداً ضربة قاضية.
وبالعكس، قد تسيء الأقدار إلى آخر ونحن في ذهولٍ من أمره: ذلك أنه يمحص كالنار في
البودقة لتمّحي شوائب طفيفة لا يخلو منها أحد حتى عندما يولد، كما كتب (أيوب 25:
4)، ومهما بدا جزيل الشِّيَم. إني لألقى هذا السرّ في الكتاب المقدّس، ولكنتُ
أطلتُ عليكم الكلام لو قرأت لكم كلّ مقطع يتصل بذلك. ” من يحصي رمل
البحار” (جامعة 1: 2)، ويسبر غور حكمة إلهية تتجلّى وتزهو في كل هذه الخليقة
التي يسيّرها الله بمشيئته الحرّة؟ ينبغي لنا أن نكتفي بالوقوف منها موقفَ
الدّهشة، من غير أن ندّعي أننا نستطيع التعمّق فيه وإدراك معانيها: ” يا لعمق
غنى الله وحكمته وعلمه. وما أبعد أحكامَه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء، لأنّ من
عَرَفَ فكر الرب؟” (رو 11: 33 – 44). ولنَقُلْ قول أيّوب: ” من تنصّت في
مجلس الله ونفذ إلى أصول حكمته؟ أيّ حكيم يفقه هذا السِّرّ؟” (أيّوب 15: 8).
هل يستعين بما يجهله تمام الجهل ليقيس ما لا يقاس؟

 

أترك
لآخرين هذا التهوّر وهذه الجرأة، بل إنيّ لأحظّرهما عليهم. ذلك أنه، من جهتي، ليست
لي جرأة على أن أعزو مصائب هذه الدنيا إلى ارتكاب الجرائم، ولا ازدهار الأحوال إلى
التقوى. قد يَحدُث طبعاً أن يُخزى الأشرار ليكونوا مثلاً للآخرين، وليثبط عقابهم
عزم غيرهم على الشرّ، ويحدث أن يكافأ الأخيار تشجيعاً على الفضيلة. لكن هذه
القاعدة التي ليست مطلقة ههنا ولا جلية الوضوح، لن توضعَ قيد التطبيق الكامل إلاّ
في الحياة المستقبلة، حيث ستنال الفضيلة ثوابها والرذيلة عقابها. قيل: يقومون
لحياة ولدينونة (يوحنا 5: 29). ولو أنّ الأمور تجري ههنا بشكل آخر ووفق قوانين
مختلفة، فكلّ شيء سيؤول بنا إلى هناك فوق، ومنطق الله يتخفّى وراء غرابةً أمور
العالم الظاهريّة. ذلك أنّ ما يُضفي على الأجساد جمالاً هو تفاوت الأشكال وتباين
الأعضاء وكذلك ما يضفي على منظر الطبيعة سِحراً هو الجبال والوهاد. فالمادّة التي
يشغلها الفنّان تُصبح تحفة جميلة عندما يعطيها الشكل الذي جالَ في خاطره، بعد أن
كانت خاماً بلا شكل. أمّا نحن فلا ندرك من أمر التحّفة شيئاً ولا نُبدي إعجابَنا
إلاّ لمّا نراها كاملة. لكن الله ليس بجاهل مثلنا، والعالم لا تسيِّره الصدف، ولو
كنا لا نميّز له سُنة.

 

ولكي
أَحسِر عنكم ظلامَ الإبهام فيما يختصّ بمأساتنا، أقول إنّنا أشبه بأولئك المصابين
بالغيثان والدوّار ويَخالون أنهم يرون الكون كلّه يهوي، وهم الذين فقدوا توازنهم.
إنّ الذين أشير إليهم هؤلاء مغبونون في رأيهم بالخديعة نفسها: إنهم لا يريدون
الإقرار بأنّ الله أعقل منهم فيفقدون صوابهم عند أقلّ حادثة. كان الأجدر بهم أن
يدرسوا الأسباب حتى تنجلي الحقيقة إزاء مساعيهم، وأن يتباحثوا في الأمر مع أناس
أحكم منهم وأتقى، ولو أنّ هذه المعرفة تتطلب نعمة خاصة وليست بمتناول الجميع.
عليهم إذاً أن يمشوا في إثر الحقيقة من خلال طهارة السيرة وينهلوا الحكمة من معين
الحكمة الحقيقيّة. لكن يا للغباوة! إنهم يختارون أسهل الحلول ويصِلون إلى
الاستنتاج الفاسد بأن الكون لا يسيَّر بعقل، والحقّ أنهم يعتنفون الأمور
لجهلهم[4]! إن سفاهة رأيهم تجعلهم يظهرون حكماء، لا بل إنّ حكمتهم الزائفة هذه، إن
جاز القول، تجعلهم حمقى وقصيري النظر. فبعضهم يؤمن بالصدف والعشوائية: فيا له من
رأي عشوائي وابتكار يصدِفُ التعقلُ عنه[5]! وبعضهم الآخر يقول بقدرةٍ عبثية لا
تقهر للكواكب والأفلاك، وأنها تدير شؤونها على هواه وبالأحرى حسب جبريتها الخاصّة:
فيروحون يرصدون سير الشهب والنجوم وانكسافها، والحركة المتحكمة بسير الكون. وآخرون
يثقلون كاهل البشريّة المسكينة بنظريات هي من الخيال المحض. وبما أنهم يجهلون
مقاصد العناية الإلهية تمام الجهل وهم أجنبيين منها، ينقسمون إلى شيع لا تحصى ولا
تعدّ تتباين في مذاهبها. وبعضهم أيضاً حكم على العناية الإلهية بأنها فقيرة
للغاية، فاعتقد أنها لا تهتم إلا بعالم الماورائيات، وأَنِفَ من أن يَدَعَها تنزلُ
إلينا، رغم حاجتنا الكبيرة إليها. لعلّهم يخافون على المحسن العلي أن يبدو جزيلَ
الصلاح إن أدرَّ أخلافَ نعمه على قوم كثيرين. وتراهم يخشون ان يسأم من سخائِه؟
لكنني أعود وأقول: يا أسفي لحال أولئك الناس. إنّ الكتاب سبق وانتقم منهم بقوله:
” حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبيّ وبينما يزعمون أنهم حكماء صاروا
جهلاء، وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى (رو 1: 21) وأهانوا بالخرافات والترهات تلك
العناية الشاملة كلّ شيء1

 

فلا
ننصبنّ لأنفسنا آراء مقيتة مثل هذه، نحن المتعقلين الذين نحمل وديعة العقل التي
ائتمنا عليها. لا نستصوبنّ هذه المغاليات مهما تدفقت سيول البلاغة على ألسنتهم
بأفكار فظّة ومبادئ سفيهة تبدو جذّابة خلابة بجِدّتها. فلنؤمن بأن الله مبدئ الكون
وصانعه. لأنه كيف يستطيع العالم الاستمرار قيد البقاء من غير علّة عَقَلَتْه (أي
بعقلها) وربطت أواصره؟ فلنستنتج في الوقت نفسه أن عناية سنيّة لا ريب قد نظمته
ووفّقت بين أجزائه. لكن لا بدّ من أن العلّة التي أبدعت الكون هي التي تسوسه
أيضاً. وإلاّ، إن كان الكون لا يسيّره سوى خبط عشواء، لحطمته تموجات المادّة تحطيم
قارب صغير في العاصفة الهوجاء، ولعاد إلى فوضاه وخواءه البدائيين. لنوقن إذا ًبأن
الله يسهر بانتباه على حياتنا، سيّان دعوناه “خالقنا” أم “حِرفيّاً
مبدعاً”.

 

ورب
قائل إنّ حياتنا مليئة بالتناقضات. فلعل فهمها مُنع عن إدراكنا ليوحي إلينا أن
نُعجب بالعقل الذي يسود على الوجود، بفضل عجزنا عن الفهم. ذلك أن ما يسهّل علينا
سبر معانيه سرعان ما نزدريه، لكن كلّما زاد العسير على فهمنا إعجازاً لعقلنا زاد
إعجابنا به.

 

لذلك
لا نمدحنّ كلّ أنواع الصحة ولا نقبحنّ أي مرض، ولا يولع قلبنا بثروات سريعة العبور
ولعاً زائداً، ولا نجرينّ خلف هذا الدخان الذي سنبدِّد فيه جزءاً من روحنا. ولا
نتوجَّسْ شراً من الفقر كمن أمر نحقره ونلعنه ونبغضه، بل هلاّ نعرف أن نستخف بصحة
مفعمة من الغباوة تولد الخطيئة. فلنوقّر السَّقم المرفق بالقداسة ولنكرم أولئك
الذين ساقتهم الأوجاع إلى الغلبة والظفر: لعلّ بين أولئك المرضى أيوب جديداً له
كرامة غير كرامة الأصحاء، مهما حكَّ قروحَه ومهما صبر على الأحزان ليل نهار، وهو
بلا ملجأ ولا مبيت: يتعرض للمضايقات من جهة المرض، ومن جهة زوجته ومن جهة
الأصدقاء. لننبذ الثروات غير العادلة التي بسببها يقاسي الغنيّ عذاباً عادلاً في
لهيب النار، ويتسوّل قطرة ماء يبرد بها لسانه. لنقرّظ فقراً شاكراً قرير العين، به
خلص لعازر الذي تترادف اليوم عليه النعم في أحضان أبراهيم.

 

يبدو
لي إذاً أنه لا بد من ممارستكم الإحسان وإجزال الهبات على المعوزين حتى نغلق أفواه
أولئك المحدثين المتحذلقين، غير منبهرين بآرائهم المتفلسفة المريضة، آراء ستنصب
ضدكم القساوة التي سرتم بموجبها.

 

تحريض
على العطاء أنه كوصيّة إلهية

لتقع
وصية الله ومثالُه في أنفسنا موقعاً جليلاً. وما هذه الوصيّة؟ انظروا صدقها
وإصرارها: فالملهمون من الروح القدس لم يكتفوا بالقاء عظة وعظتين في موضوع
الفقراء، ولا قالوا فيها كلاماً رخواً من باب الصّدفة، كأنه أمرٌ طفيف غير مستعجل،
بل علّموا جميعاً بصوت متّفق ومن غير كلل عن الفقراء، وكادوا يجعلونه لسان حالهم،
واستفاضوا في التحريض والزجر والعتاب. لم يتوانوا عن ذكر المحسن أجمل ذكر، غير
متوقفين عن دعوتهم إلى الطاعة لندائهم: ” من أجل شقاء المسكين ومن أجل أنين
البائسين، الآن أقوم يقول الرب” (مز 12: 5). ومن لا ترتعد فرائصه من قيام
الله؟ “قم يا رب لترتفع يدُك، ولا تنسى بائسيك” (مز 10: 12).

 

فلنصعد
إلى الله التضرع نفسه لئلا ترتفع يده على الكافرين وخاصّة لئلا تنهال ضرباً على
متحجري القلوب. إنه لا ينسى ” صرخة المساكين”. لن “ينسى المساكين
إلى الانقضاء”، ” عيناه ترقبان البائس” (وتشير ” عيناه ”
إلى التفاتة أقوى من كلمة ” جفناه”). جفناه يعجمان بني البشر”
(وهنا الفحص أقلّ تدقيقاً) (مز11: 4).

 

لكنكم
قد تعترضون قائلين إنّ الآيات المذكورة لا تعني إلاّ المساكين والبائسين الرّازحين
تحت نير الاستبداد. أنا لا أنكر ذلك. لكن لا يُقلِّلنّ ذلك من عزمكم على فعل
الخير: فإن كان الربّ يخبئ مصيراً مثل هذا للمحزونين. أفلا يعزز بالأكثر فاعلي
الخير؟ وإن كان في ازدراء الفقير إهانة لله تعالى، فالعكس صحيح أنّ في إكرام
الخليقة تعظيماً من شأن الخالق. وإذا قرأ أحدكم في الكتاب المقدّس أنّ الغنيّ
والفقير يتلاقيان لأن الله صنعهما كليهما، لا يجولنّ في خاطره أنه خلق كلاًّ منهما
على حال فقره وغناه، فيتّخذها حجة إضافية للقيام ضدّ الفقير. ذلك أني لست على يقين
من أنّ التمييز بين غنيّ وفقير من الله آتٍ. بل إنّ الله صنع الأول والثاني معاً،
حسب قول الكتاب، ولو بدت حالتهما الخارجيّة متناقضة.

 

عسى
هذا التأمل أن يُدخل إلى أنفسكم الشفقة والمحبّة حيال إخوتكم، حتى متى زهاكم
كِبَرُ الغنى وخيلاؤه، كسر البؤس أنوفكم المتشامخة وأقعدكم إلى اتضاع أوفر.

 

وماذا
بعد؟ ” من يرحم الفقير يقرض الله” (أمثال 19: 17). فمن يسعه ألاّ يبالي
بمدين يرد الدين في اليوم المحدد إلى مئة ضعف؟ وقيل أيضاً ” الإحسان والإيمان
يطهّران من الخطيئة”. فلنتطهّر إذاً بواسطة رحمتنا، ولنُزِلْ ما يشوب أنفسنا
من الأوساخ بهذا المرهم ولنصر ناصعين كالصوف وكالثلج، على قدر إحساننا.فإن كنتم لا
تشكون في نفوسكم من أيّ كسور ورضوض وجراحات متقيّحة وإن كنتم خالين من برص
وقوباء1أو نمش، وكلّها أمراض عجزت دونها الشريعة، إلاّ أنّها تستدعي عناية المسيح،
فأنتم مدينون له بعرفان الجميل، لأنه كابد مضايق كثيرة من أجلكم. وإن أظهرتم لطفاً
ومحبة لأحد أعضائه تؤدّون بذلك واجب شكركم لصنيعه. أمّا إن هجم عليكم الطاغي، لصُّ
النفوس، في طريقكم من أورشليم إلى أريحا، وفي أي مكان آخر، وألفاكم عُزَّلاً وغير
محتسبين له حساباً فصحَّ فيكم القول” أنتنت وقاحت جراحاتي من جرى
جهالتي” (مز 37: 6)، وإن اشتدّ عليكم المرض حتى ما عدتم ترومون الشفاء وتجربة
أي علاج، فما أعظم محنتكم وما أعمق هوّة أساكم! أمّا إن أحتفظتم بشيء من الرجاء،
ولم تيأسوا من الشفاء، فاذهبوا إلى الطبيب وتوسّلوا إليه وعالجوا جراحاتكم بمداواة
جراح الآخرين، وأسعفوا أنفسكم بإسعاف القريب، وداووا الأمراض الكبرى بالعلاجات
الصغرى. حينئذ يقول لكم الطبيب: “أنا خلاصك. إيمانك خلّصك. ها قد عوفيت”
(مز34: 3 ومتى 9: 22 ويو 5: 14). فيا لها من كلمات حبّ رائعة ستسمعونها لمجرّد
التفاته إلى رأفتكم تجاه المساكين.

 


طوبى للرحماء فإنهم يُرحمون”. هذه التطويبة ليست أقل شأناً من سواها. ”
طوبى للمعتني بالفقير والضعيف” (مز 40: 1) وأيضاً ” الرجل الصالح يرأف
ويقرض” (مز 112: 5)، وفي موضع آخر”النهار كلّه يرأف الصدّيق ويقرض”
(مز 36: 26). فلنختطف هذه البركة اختطافاً، ولنُدْعَ حكماء ولنكُن محسنين. لا يعطل
الليل مفاعيل حماستكم. لا تقولوا غداً غداً فأعطيك (أمثال 3: 28). لا تتركوا
مجالاً بين اندفاعة قلبكم وأعمالكم. فالإحسان وحدَه لا يحتمل أيّ تأخير. ”
شارك الجائع خبزك وآوِ من لا سقف له” (أشعياء 58: 6)، وافعل ذلك عن طيب خاطر
لتُنِير البهجة فعل رحمتك (رو 12: 8). إنّ اندفاعكم يضاعف قيمة فضلِكم. أمّا
العطاء بانقباض وبتغصّب فيخسر بهاءه وقيمته. لا نتأفّف من الإحسان، بل لنعطِ بقلبٍ
يفيض سروراً. فإن حطمت سلاسل بخلك وتخوفك من الآخرين وهززت نيرهما، إن كففت عن
التردد والتذمر، ماذا يحصل؟ ” يشرق نورك مثل الضحى وشفاؤك يظهر بسرعة”
(أشعياء 58: 6). ومن لا يرغب في النور والشفاء؟

 

 إني
لأوقر قصّة يسوع وصرّة النقود، حيث يدعونا إلى إعالة المعوزين، وأُجِلُّ كذلك
الاتّفاق الذي ساد علاقة بطرس وبولس: مع أنهما افترقا لأجل البشارة، فقد اعتنايا
معاً بالمساكين. وتعيّن على الشاب الذي طلب الكمال أن يوزع ماله على الفقراء. ذلك
ما يتطلبه الكمال وما يرمي إليه. لكن أتتصوّرون أن الإحسان متروك لحرّيّة الإنسان
وليس إجبارياَّ؟ وأنه نصيحة لا شرعة غير قابلة للمساومة؟ كنتُ أود ذلك أنا أيضاً،
وكم أحب الاعتقاد به. إلاّ أن يُسرى الله تُرعبني، وكذلك ” الجداء ”
وكلّ الملامات التي ألقاها عليهم، لأنهم سرقوا مال الغير ولا لأجل زنى ارتكبوه
ولأجل أيّ جرائم أخرى، بل لأنهم تغافلوا عن المسيح في شخص الفقراء (متى25: 31 –
46).

 

 فإن
تريدون منّي كلام الصدّق، أنتم يا خدّام المسيح وإخوته وشركاءه في الميراث فطالما
الفرصة سانحة، أعينوا المسيح، أغيثوا المسيح، أطعموا المسيح، ألبسوا المسيح،
استقبلوا المسيح، كرّموا المسيح، لا بأن تدعونه إلى ولائمكم كما فعل بعضهم، ولا
بأن تسكبوا عليه الطيوب كمريم المجدلية، ولا بإضجاعه في القبر شأن يوسف الراميّ،
ولا بتجنيزه مثل نيقوديموس الذي أحبّ يسوع حباً بيْن بيْن وغير كامل. ولا بالذهب
ولا بالبخور ولا بالمرّ كما فعل المجوس قبل هؤلاء. فإن ربَّ العالمين يريد منّا
الرحمة لا الذبيحة، والرأفة عوض آلاف الحملان محرقةً، فلنقدمها له إذاً على أيدي
المساكين هؤلاء، الجاثين عند أقدامكم، فيستقبلوننا في المظال الأبديّة يوم نرحل عن
هذا العالم، وفي المسيح نفسه، ربّنا الذي له المجد إلى دهر الداهرين. آمين.

——————-

[1]
هذه المقدّمة هي للمعربّ

[2]
أهتممتُ به بحماس كبير.

[3]
أي اليهود الذين آمنوا بالمسيح.

2
أي اليهود الذين آمنوا بالمسيح.

3
هذا ما يذكرّ بالحفلات العالميّة غير المناسبة طبعاً، التي تحصل في أيامنّا نهار
السبت مساءً ونهار الأحد.

4
النص الأصلي يقول ” ليحملوا نعمتكم إلى أورشليم”.

5
يبدو أن الكلمة ” يستحق ” تشير إلى ذلك أي إلى كمية المساعدات.

6
يقول الكتاب “إافدِ خطاياك بعمل الإحسان “

7
التبر والعسجد من أسماء الذهب

1
طائر من نوع السمنة
grive يأكل الجراد.

1
” فإني أودّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب
الجسد ” (رو 9: 3).

1
أنظر 1كور 10: 1-3

1
في عهد القدّيس غريغوريوس اللاهوتي كان البَرص منتشراً. أما اليوم فحلّت محله آفات
أخرى ومصائب تدعو للشفقة أيضاً: الإدمان على المخدرات والكحول، السّيدا والسرطان،
وشتى أنواع الإعاقة وغيرها ممّا يستدعي الرحمة..

1
يعني الإله عُطارد
Mercure

1
أي يحكمون في ما لا يعلمون

2
صدف عن الأمر: أعرض عنه

1
ألا ينطبق هذا الكلام على آراء وفلسفات سفيهة ظهرت في القرن العشرين وامتدت إلى
جيلنا فضلّلت كثيرين عن الإيمان القويم وآلت بهم إلى الإلحاد؟ أمّا الجواب عليها
ففي المقطع التالي

1
في العاميّة حزاز. داء يظهر في الجسد فيتقشر ويتسع.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى