علم

القصة الثالثة: حياة السائح



القصة الثالثة: حياة السائح

القصة
الثالثة: حياة السائح

قبل
أن أرحل عن (اركوتسك)، عدت إلى الأب الروحي الذي كان لي معه أحاديث وقلت له: ها
أنا منطلق بعد أيام إلى أورشليم. جئت أودعك وأشكرك لمحبتك المسيحية نحو شخصي أنا
السائح المسكين.

 

فقال
لي: بارك الله خطاك!… لكنك لم ترو لي شيئاً عنك: من أنت ومن أين… سمعت الكثير
من أخبار أسفارك وحبذا لو وقفت على شيء من منشئك وحياتك قبل البدء في التجوال.

 

أجبته:
سأروي لك هذا بسرور، ليست حياتي بالقصة الطويلة.

 

ولدت
في إحدى قرى مقاطعة (اوريل) {مركز مدينة اوريل
Orel،
في روسيا، وتقع على نهر الاوكا، وهي مسقط رأس الأديب المعروف إيفان تورغنييف}.
وبعد موت والدينا، كنا اثنين: أخي البكر وأنا. كان أخي في العاشرة وكنت في الثالثة
من عمري. فأخذنا جدي إلى بيته ليربينا وكان شيخاً وقوراً ميسور الحال، يدير فندقاً
على الطريق العام. وكان كثيرون من المسافرين ينزلون على جدي نظراً لطيبته. جئنا
إذن نعيش في كنفه.

 

كان
أخي يتدفق حيوية، فكان يسرح كل نهاره في القرية ويمرح، بينما كنت أبقى في أغلب
الأحيان بالقرب من جدي. وكان هذا يصطحبنا أيام الأعياد إلى الكنيسة، وفي البيت،
كان كثير القراءة للكتاب المقدس، لهذا الكتاب الذي أحمل معي. فشب أخي وبدأ يتعاطى
المسكر. وفي ذات يوم – وكان لي من العمر سبع سنين – بينما كنت مستلقياً معه على
المدفأة {في القرية الروسية، المدفأة مكان هام مشيد بالآجر دائم الحرارة، وفي
الشتاء يجعل الفلاحون فراشهم على الجزء الأعلى منها. وغالباً ما يمضي الشيوخ سحابة
يومهم في ذاك المكان. في أقصوصة ليون تولستوي الشهيرة (أموات ثلاثة) وصف مسهب
لاستعمالها على هذا الوجه} دفعني فوقعت. فأصيب ذراعي الأيسر. وأنا، منذ ذلك الحين،
لا أستطيع له حراكاً، فلقد تيبس وشل.

 

قرر
جدي، لما رأى أنه لن يسعني العمل في الزراعة، أن يعلمني القراءة، وبما أنه لم يكن
لدينا كتاب (ألف باء)، كان يستعمل لتدريسي الكتاب المقدس، هذا الذي معي. فكان
يدلني على الأحرف، ثم يجبرني على تهجئة الكلمات، ثم على نسخ الأحرف. وهكذا صرت
أعرف القراءة على أهون سبيل لكثرة ما رددت وراءه. وفيما بعد، حين ضعف بصره، كان
يطلب مني قراءة الكتاب المقدس بصوت مرتفع، فأقرأ ويصحح أخطائي.

 

وغالباً
ما كان كاتب المحكمة ينزل ضيفاً على جدي. كان جميل الخط وكنت أحب أن أراه يكتب.
وبدأت، من تلقاء نفسي، برسم الحروف على غراره. فعلمني كيف أعمل وأعطاني الورق
والمداد وبرى لي اليراع فتعلمت الكتابة كذلك. فسر جدي بذلك وفرح وكان يقول لي: لقد
وهبك الله معرفة الحرف، وستصير رجلاً حقاً. أشكر الرب وأكثر من صلاتك.

 

وكنا
نذهب إلى الكنيسة سوية لحضور كافة الخدم، بل كثيراً ما كنا نصلي في البيت أيضاً.
كان جدي يطلب إلي أن أقول: (يا الله! ارحمني أنا الخاطئ…) وكان يركع وجدتي
ويسجدان حتى الأرض. أو يجثوان أثناء الصلاة على ركبهما. عشت على هذا النحو حتى
السابعة عشر من عمري. وتوفيت جدتي وأنا في مقتبل العمر، فقال لي جدي: ها قد غدونا
بلا ربة بيت. كيف لنا أن نتدبر الأمر دون امرأة تعتني بنا؟ إن أخاك البكر لا يصلح
لشيء ولسوف أزوجك أنت.

 

فرفضت
الزواج بسبب يدي المشلولة، غير أن جدي ألح علي حتى زوجني من فتاة طيبة ورصينة.
كانت في العشرين من عمرها… وما مضى العام على زواجنا حتى مرض جدي فأشرف على
الموت. فدعاني إليه وودعني الوداع الأخير وقال: إني أترك لك البيت وكل ما أملك. عش
كما يليق ولا تخادع أحداً. اجعل الصلاة شغلك الشاغل، فإن كل عطية صالحة من الله
تأتي: فلا تتكل إلا عليه تعالى. واظب على الكنيسة واقرأ الكتاب المقدس دائماً
واذكرنا في صلواتك. هاك ألفي روبل فضة، احتفظ بها ولا تنفقها سدى، ولكن لا تكن
بخيلاً شحيحاً بل أحسن إلى الفقراء وتصدق إلى كنائس الله.

 

توفي
جدي فورايته الثرى. وأخذ الحسد يدب في قلب أخي لأني ورثت الفندق، فجعل يثير متاعب
شتى لي. وأوغر الشيطان المعاند صدره حتى أنه يبيّت قتلي. وفي ذات ليلة، وبينما نحن
نيام، ولم يكن في الفندق من نزلاء، تسلل إلى غرفة المؤن وأشعل فيها النار، بعد أن
سطا على كل ما في الصندوق من مال. واستفقنا والنار تلتهم البيت بكامله، فما كان
لنا إلا أن نقفز من النافذة، ولم نأخذ إلا ما علينا من ثياب.

 

وكان
الكتاب المقدس تحت الوسادة فأخذناه معنا. وجعلنا ننظر إلى بيتنا يحترق قائلين:
الحمد لله! لقد سلم الكتاب المقدس من الحرق. سنستطيع على الأقل أن نتعزى فيه عن
المصاب الذي حل بنا. هكذا احترق كل ما لنا واختفى أخي من المنطقة. وتفاخر فيما
بعد، وقد شرب، فعلمنا أنه هو الذي سرق الدراهم وأشعل البيت ناراً.

 

أصبحنا
عراة لا نملك شيئاً، شحاذين بكل معنى الكلمة. فاستدنا وعمرنا كوخاً حقيراً عشنا
فيه عيشة المساكين البؤساء. وكانت زوجتي ماهرة لا مثيل لها في الغزل والحياكة
والخياطة. كانت تذهب إلى بيوت الناس تسألهم ما يريدون، ثم تعمل ليلاً ونهاراً
لتعيلني. فلم يكن بوسعي، بسبب ذراعي، حتى صنع الأحذية من الألياف. فكانت، في أغلب
الأحيان، تغزل أو تحيك بينما أقرأ لها الكتاب المقدس وقد جلست قربها، فتستمع إلي
وتجهش بالبكاء أحياناً. ولما كنت أسألها: لماذا تبكين؟… إننا، والحمد لله، لسنا
في ضيق أو عوز، كانت تجيب: أنا متأثرة لأن الكلام الذي تقرأ في الكتاب المقدس حلو
جميل.

 

لم
ننس وصية جدي: فكنا نصوم أحياناً كثيرة ونقرأ كل صباح خدمة مديح العذراء المعروف
بالاكاثسطون. وأما في المساء، فكان كل منا يقوم بألف مطانية صغرى {احناء الرأس
وأعلى الجسم مع رسم إشارة الصليب} أمام الأيقونات، لئلا ندخل في تجربة.

 

عشنا
هكذا بسلام مدة عامين. والمدهش في الأمر أنه لم يكن لنا أية معرفة بالصلاة
الداخلية التي تتلى في القلب. لم نكن قد سمعنا عنها شيئاً، فكان لساننا يصلي وحده
ونقوم بالمطانيات بلا فهم. إلا أن شهوة الصلاة، بالرغم من هذا، كانت فينا، فلم نكن
نستصعب الصلاة العادية الطويلة بل نتممها بفرح. ولا شك في أن معلم المدرسة كان على
حق لما قال لي: إنه يوجد داخل الإنسان قوة عجيبة خفية لا يعرف هو نفسه من أين
تأتي، ولكنها تهيب بكل إنسان إلى الصلاة حسبما يستطيع ويعرف.

 

بعد
أن عشنا عامين على هذا النحو، أصيبت زوجتي بحمى شديدة. وفي اليوم التاسع من مرضها
توفيت بعد أن تناولت القربان المقدس. وبقيت وحيداً، ليس من يؤنسني، ولا بوسعي عمل
شيء. ولم يبق لي إلا أن أستعطي هائماً في الأرض، غير أني كنت أرى العار في طلب
الصدفة. زد على ذلك أن شقائي عند تفكيري بزوجتي كان عظيماً إلى حد لم أعرف معه إلى
أين ألتفت. فكنت عندما أدخل الكوخ وأبصر شيئاً من ملابسها أو منديلها، آخذ بالنحيب
وأنكفئ فاقد الوعي. ولم أعد أستطيع احتمال حزني، إذ أعيش في البيت هكذا. ولذا بعت
الكوخ بعشرين روبلاً ووزعت على الفقراء ثيابي وملابس زوجتي. وأعطيت بسبب ذراعي
جواز سفر دائم، فحملت كتابي المقدس العزيز وانطلقت لا ألتفت إلى ما ورائي.

 

ولما
وصلت إلى الطريق العام تساءلت: أين أمضي الآن؟ سأذهب إلى (كييف) أولاً لأصلي أمام
أيقونات القديسين وأطلب منهم أن يتشفعوا إلى الله لكي يعينني. وما صممت على هذا
حتى شعرت بتحسن حالي… ووصلت إلى (كييف) وقد انفرجت كربتي. وها قد مضى علي الآن
ثلاث عشرة سنة كنت فيها دائم التجوال. ولقد زرت الكثير من الكنائس والأديرة، غير
أني الآن أطوف في البوادي والبراري بنوع خاص. وما أدري إذا ما كان الرب سيسمح لي
بالوصول إلى مدينة أورشليم المقدسة. وإن تكن تلك مشيئة الله فربما يكون قد آن أوان
دفن عظامي الحقيرة فيها.

 


وما سنك؟

 


ثلاث وثلاثون سنة.

 

عمر
المسيح!

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى