علم

الفصل الثَّامِنْ



الفصل الثَّامِنْ

الفصل
الثَّامِنْ

يوسابيوس
القيصري
*

الكَاتِب
والمُؤرِخ الكنسي (263 – 339م)

 

يوسابيوس
القيصري

من
الأسكندرية نتجه إلى سوريا وفلسطين لنبحث عن مفاهيم لاهوتية أخرى، وأوِّل من
نتقابل معه هو أبو التاريخ الكنسي يوسابيوس القيصري، الذي استخدِم لفظِة ” ثيولوچيا “ استخداماً واسِعاً في كِتاباته، ومن
الواضِح أنه يعرِف ويستوعِب آراء القديس إكليمنضُس الأسكندري والعلاَّمة
أوريجانوس، وفي كِتابه ” أوليات وبِدايات إنجيلية
Preparatio Evanglica “ يُشير إليهما بأنهما اللاهوتيان العجيبان،
ولا عجب في ذلك، بعد أن صار العلاَّمة أوريجانوس مُؤسِس المدرسة اللاهوتية في
قيصرية، حيث تعلَّم يوسابيوس القيصري.

عرف يوسابيوس التمييز السكندري بين الثيولوچيا الحقَّة
والأخرى المُزيفة، لذلك نجده قد اتبع هذا التمييز في العديد من المُناسبات، وعلى
وجه العموم، يُميِز يوسابيوس ثلاثة أنواع للاَّهوت: 0

1.           
لاهوت الفلسفة.

2.           
لاهوت اليهود (العِبراني).

3.           
اللاهوت الكنسي.

1.
النوع الأوَّل: لاهوت الفلسفة:

يحتل
مكاناً بارِزاً في ثيولوچيا يوسابيوس ومنهجيته، وهو
يراه في ثلاثة أجزاء: 0

” الأُسطوري “ و” الفيزيقي – الطبيعي “ و” السياسي “ (1) (Μυθικόν ,
Φυσικόν ,
Πολιτικόν
).

وتنتمي
الفلسفة الأُسطورية لشُعراء الإغريق والكُّتَاب التراچيديين، وتنتمي الفلسفة
الطبيعية للفلاسِفة الإغريق، أمَّا الفلسفة السياسية فهي التي اعتُبِرت بمثابِة
قانون في كل مدينة إغريقية.

وهذا
التصنيف الثُّلاثي للاَّهوت الإغريقي يظهر عند ڤارو
Varro،
الذي يُعتقد، بحسب شهادِة أُغسطينوس، أنه قد استنبطها من بانيتيوس (2) ويعرِف
ترتليان أيضاً هذا التصنيف ويذكره في كِتابه ضد الأُمم
Ad Nationes (3).

والغرض
من هذا العرض التحليلي للاهوت الإغريق الذي يُقدمه يوسابيوس هو غرض تمهيدي تعليمي
Propadeutic (تعليم أوَّلي) فهو يريد أن يعرِض نقائِص ومُعضِلات التقليد الثيولوچي الإغريقي، قبل أن يُمهِّد لطُلابه وقارئيه ”
اللاهوت الكنسي “ الذي يُعتبر بحسب قوله ” قد سُلِّمَ لنا من خلال ظهور واستعلان
مُخلِّصنا وإلهنا وربنا يسوع المسيح (4) “.

وينتقِد يوسابيوس بشدَّة هذا اللاهوت المُزيف الملِئ بالمذمات
والشرور، فهناك حديث عن الآلهة التي تتزوج وتُنجِب أطفالاً! وآلهة تسكر ويمكن
خِداعها، وأخرى تغضب!! مع إضفاء صِفات بشرية بطريقة ساذِجة، مما يجعلها تحُط من
الثيولوچيا وقُدرِة الإلهيات.

ويقول يوسابيوس إنَّ هذه الثيولوچيا هي الحاد مخزي وجهالة أكثر منه
لاهوت، ويُكمِل قائِلاً أنه ينبغي أن نعتبِرها جنوناً (
Φρενοβλάβεια).

ويرى يوسابيوس أنَّ اللاهوتيات الإغريقية والبربرية مصدرها الشياطين،
الذي أباد اللاهوت الحقيقي خداعهم وكِذبهم بحضور مُخلِّصنا يسوع المسيح، الذي
ذُبِح واشترانا..

وكان انتقاد يوسابيوس لهذا اللاهوت لاذِعاً وشديداً، استخدِم فيه
العديد من البراهين لتفنيده ووصفه، فهو خُرافة واُسطورة (
δεισισαιμονία)، واعتبر يوسابيوس أنَّ ذلك خِداع تعدُّد
الآلهة (
Πολύθεοσ
πλάνη
)
وأنه نشاط شيطاني وعمل شرير، مملوء بالخِداع والخطأ.

ولكن
نشكر الله لأنه باستعلان تجسُّد الكلِمة اللوغُوس قد تحررَّنا من هذه الثيولوچيا الأُسطورية، وتبددت عِبادات الأوثان، التي نُصلِّي
لكي يقلعها الله من العالم.

لقد امتلأت العِبادات واللاهوتيات القديمة بالسخافات والخُرافات
والحِسِيات والمزاجات، لكنها لم تبحث عن الله والحق الإلهي الذي غاب عنها، فهي لا
تحتوي على أي شئ إلهي يليق بالله، فهي ليست إلهية (
Θεοπρεπήσ).

وفي يقينية الإيمان يُعلِن يوسابيوس أننا هجرنا هذا اللاهوت
والعقلانيات الفِكرية، مُعتبِراً أنَّ هذا النوع من الثيولوچيات هو ” طغيان شيطاني
“، تحرَّرنا منه من خلال السِّر العظيم سِر ” التدبير الإنجيلي “
(الإيكونوميا الإنجيلية)،
وقد جعلنا هذا السِّر والتدبير الإنجيلي نتهكم
على الخُرافات ونرفُض الخِداعات الأُسطورية التي لآلهة هذا العالم، فنصير مُحبين
للتقوى الإلهية الحقيقية حيث حلاوِة العِشق الإلهي ومحبة الصَّلاح.

وكانت
غايِة يوسابيوس من تحليل وعرض أنواع الثيولوچيا
الإغريقية الفلسفية
، هي ببساطة التمهيد للحق
المسيحي والاستعلان المسيحي، فبالرغم من كونِهِ كاتِب ومُؤرِخ كنسي، إلاَّ أنه لم
يكن مُهتماً بالتاريخ في حد ذاته كتاريخ، لكن التاريخ في دِراساته كان يمده بفرصة
تعليم اللاهوت المسيحي الحقيقي، فيكشِف عظمِة الإنجيل وسمو روحانية المسيحية،
موضحاً عملياً كيف يُحرِّرنا التعليم الإنجيلي عن المُخلِّص من تلك الأباطيل
والخِداعات غير المقبولة.

2.
النوع الثَّاني: اللاهوت العبراني:

وهو
اللاهوت العبراني أو ثيولوچيا اليهود، وهي بحسب
يوسابيوس مُتصِلة بالإيمان بخالِق كل الأشياء
The Faith of the Creator، وهنا لا نرى أية اجتهادات أو مُناظرات بشرية، فاللاهوت العبراني
ليس مُحصِلة التعقُّل والحدس البشري والفِكر الإنساني، لذا فهو يختلِف عن لاهوت
الإغريق والأُمم (الوثنية) لهذا فهو يتميز بالأكثر بالسِمة العقائِدية
dogmatic، لأنه مسوق بالروح القدس.

ويتضح
ذلك وبشكل واضِح في تلك الآيات الوارِدة في سِفر التكوين حيث بدأ موسى النبي
المُتشِح بالقوة الإلهية (الوحي الإلهي
Θεοφορούμενοσ) بِدايات هذا اللاهوت:

” في البدء خلق الله السموات والأرض ثم قال ليكُن نور فكان نور ثم
قال الله أيضاً ليكن جَلَدٌ فكان… “.

وليس اللاهوت العبراني نتيجة محاولات بشرية لاكتشاف واستقصاء أصل
الإنسان (الأنثربولوچيا) ولا أصل الكون (الكوزمولوچيا)، لكنه استعلان الله.

فهو
لاهوت مركزه الله
Theocentric، بعكس لاهوت الإغريق الذي مركزه الإنسان والكون.

” الله نفسه يستعلِن معرفة العقائِد والحقائِق الإيمانية والدروس
الجديرة به، لا من خلال المُناظرة والتخمينات البشرية لكن باستنارِة (

έκφάνσει
) الحق ذاته الذي يُنير الفِكر الإنساني “.

واستعلان الله يمتد عبر التاريخ لهذا يتطلب اللاهوت إعلانات وتلامُس،
فإله العبرانيين هو الله الذي ” بقُّوته الخالِقة “ صُنِعت كل الأشياء والذي ”
بحكمه وسُلطانه وتدبيره “ يحكم كل الأشياء ويضبُط الكل، بطريقة تجعل الكون كله
باعتباره الصورة الكامِلة للعالم يُعلِن حقيقة وجود الله.

هذا الاستعلان الإلهي الذي امتد في عمق التاريخ صنَّفه يوسابيوس إلى
حقبتين ” عبرانية ويهودية “، فالعبرانيون قبل موسى النبي عرفوا الله حتى دون أن
يعرفوا الشريعة الموسوية (
Νομοθεσία)، فمثلاً أخنوخ ونوح عرفا الله، لكن كان
المِثال الأعظم في موسى النبي كليم الله، الذي كان الله يسكن فيه (
Θεοφορούμενοσ) والذي استلم وقَبَل لاهوت الآباء العبرانيين، فصار موسى رئيس
الأنبياء هو اللاهوتي العبراني الأصيل.

ويتبع
يوسابيوس في هذا الرأي كلٍ من فيلو والقديس إكليمنضُس الأسكندري، ويقصِد القديس
يوسابيوس بلفظِة ” لاهوتي “ لا الشخص الذي يتحدَّث عن الله أو حول الله، بل الشخص
الذي يتحدَّث الله به ومن خلاله!!

وكما
تحدَّث يوسابيوس عن اللاهوتيين القُدامى وموسى النبي، تحدَّث أيضاً عن اللاهوتيين
الأنبياء..

واللاهوت
النبوي مثل لاهوت موسى واللاهوت العبراني القديم، مُتمركِز حول الله،
فالأنبياء ليسوا فلاسفة ولا شُعراء ور رُواة أساطير، بل هم أُناس الله المسوقين
بقُّوته المُقدسة أي الروح القدس الذي به يستنيرون ويستلِمون النُّبوة (
Θεοφορούμενοι).

ويُعتبر
(خر 3: 14) أساسياً ومركزياً في اللاهوت الموسوي الذي يكشِف عن الاستعلان الإلهي
(الثيوفاني) الذي يُميِّز اللاهوت العبراني ” فقال
الله لموسى أهيه الذي أهيه
(أنا مَنْ أنا).
وقال هكذا تقول لبني إسرائيل أهيه أرسلني إليكم “
I am who I am (هو مَنْ كائِن) (هو الذي كان) He – who – is، ومَثَل آخر لهذا التصريح النبوي الثيوفاني (الاستعلان الإلهي)
نجده في إرميا (23: 23 – 24) وإرميا كباقي الأنبياء يتحدَّث بلِسان الله:

” أنا الله الذي يقترِب (قريب) يقول الرب ولستُ إلهاً من بعيد (يبقى
مُنعزِلاً وبعيداً)، إذا اختبأ الإنسان في أماكِن مُستتِرة أفما أراه أنا يقول
الرب؟ أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب؟ “.

ومن
ثمَّ فاللاهوت العبراني ينتمي إلى مستوى يختلِف تماماً عن لاهوت الأُمم (الوثنيين)
” فلا شئ مُشترك بينهما أبداً “، ونحن هنا لا نرى ذلك
اللاهوت المُتخم والمُشوش الذي يخلِط الله الواحِد بكيانات العالم المُختلِفة،
لأنَّ كل آلِهة الأُمم شياطين.

هنا نرى التعليم الإلهي (Éνθεοσ) الذي تُستعلن فيه الإلهيات في وضوح ووقار وسمو، فالأنبياء لا
يتكلمون بفلسفات، بل في لغة لاهوتية سماوية لا تحتمِل التأويل والتحليل العقلاني،
وهم لا يستخدِمون قِياسات منطِقية خادِعة ومُتغيرة، لكن تعليمهم إلهي بسيط وأصيل (
Ảπάνουργοσ)، مباشِر ومُستقيم، عميق الصِلة والارتباط بالحياة والسيرة
والفضيلة الشخصية التي تُؤهِل لمعرِفة الله (5).

أمَّا
عن محتواه، فيتمركز اللاهوت العبراني حول المبدأ الأسمى الفائِق غير المخلوق، الذي
يفوق قُوى الادراك البشري والذي منه اشتُقت كل الأشياء وضُبِطت في إحكام، وهذا
المبدأ هو الخير المُطلق الذي لا يُعبَّر عنه، ويبقى هو هو الذي يُعطي العالم
وجوده ويحفظه، وكما يُعبِّر يوسابيوس في كِتابه
Demonstratio:

” إنَّ كلِمات اللاهوتيين العبرانيين والأنبياء تتقدَّم بنا بِداية
إلى ما قد تأسَّس من فوق، ومنهم نتعلَّم أنَّ هناك مبدأ واحِد لكل الأشياء، بل
بالحري هو أسمى من مبدأ، وكائِن بلا بِداية، وأعظم من أي دِلالة أو معنى، غير
مُدرك لا يُعبَّر عنه ولا يُحوى، صالِح، عِلِّة الكل خالِق قادِر وفعَّال ومُقتدر
ومُدبر وحافِظ ومُخلِّص، الله الواحِد الذي لا إله آخر سِواه الذي منه وله كل
الأشياء “.

وفي كِتابه ” تمهيدات “ يُؤكِد يوسابيوس على الركيزتين اللتين يدور حولهما
” اللاهوت العبراني “ الذي يضم التعليم عن الله الخالِق، والتعليم عن الله
العامِل الفائِق في التاريخ الذي يمنح ويحفظ.

إنَّ
الثيولوچيا العبرانية تُعلِّم أولاً أنَّ كل الأشياء قد
تأسَّست بكلمة الله الخالِقة ثم تستمِر لتعليم أنَّ الكون كله محفوظ بتدبير الله
إلى الأبد، لأنَّ الله ليس خالِقاً فحسب وصانِعاً للكل بل هو أيضاً مُخلِّص وحافِظ
ومُدبِر وملك عظيم، يُدبِر الأرض والسماء بكامِلها إلى أبد الدُّهور، ويضبِط كل
الأشياء في هذا العالم (6).

وفي عرضه للاَّهوت العبراني لا يقف يوسابيوس عند التوحيد monotheism بل علَّم عن الثَّالوث.. مُستشهِداً باللاهوتي والنبي العظيم موسى
عندما عبَّر لاهوتياً ولهوِت تعبيرياً عن ربين حين قال ” فأمطر الرب على سدوم
وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب “
(تك 19: 24).

ويُعلِن
داود النبي ومُرنِم إسرائيل الذي كان مَلِكاً للعبرانيين، نفس التعليم اللاهوتي
الثَّالوثي حينما يقول:

” قال الرب لربي، اجلس عن يميني “ وليس
الجالِس عن يمين العظمة الإلهية إلاَّ الله،
كلِمة الآب خالِق الكل
الذي هو كائِن، ويجدُر بنا أن نتأمله لاهوتياً، لأنه قال: ” بكلِمة الرب صُنِعَت السموات “ (مز 33: 6) (7).

ويُضيف
يوسابيوس قائِلاً:

” يعتبِر داود اللوغُوس (الكلِمة) مُخلِّص الذينَ يحتاجون أن يشفيهم،
حينما قال ” أرسل كلِمته (اللوغُوس) فشفاهم “ (مز 107:
20)… أمَّا سُليمان ابن داود وخليفته على العرش الملكي فيقدِّم نفس التعليم بقول
آخر مُتحدِّثاً عن الحكمة، الذي هو اللوغُوس، مُعلِناً أنَّ الحكمة تقول
أنا الحِكمة أسكن الذَّكاء وأجِد معرفة التدابير “
“ (أم 8: 12) (8).

ويُعلِن
يوسابيوس القيصري عن فِكره اللاهوتي فيقول:

” كرَّم أنبياء الله اللوغُوس بنفس التأمُلات اللاهوتية، فدعاه واحِد
روح الله حينما قال ” ويخرُج قضيب من جذع يسَّى وينبُت غُصن من
أُصوله ويحل عليه روح الرب روح الحِكمة والفهم روح المشورة والقُوَّة روح المعرِفة
(إش 11: 1 – 2)، وآخرون من بين الأنبياء يدعونه (أي اللوغُوس) النور
حينما يُخاطِبون الله قائلين ” لأنَّ عندك ينبوع الحياة. بنورك نرى نوراً
(مز 36: 9) “ (9).

وأخيراً
يُحاجِج يوسابيوس مُؤكِداً أنَّ اللاهوتيين العبرانيين لم يحذِفوا في تأمُّلهم
اللاهوتي شخص الأُقنوم الثَّالِث في الثَّالوث: ” إنَّ
أقوال العبرانيين في حديثهم عن الروح القدس في الترتيب الثَّالِث بعد الآب والابن،
يُعلِن (الثيولوچيا التريادولوچيا) الثَّالوث القدوس المُبارك (10) “
.

وفي
تأييده لعرض التريادولوچيا العبرانية، يقتبِس يوسابيوس
أقوال فيلو (11)، وأفلاطون (12)، ونومينيوس (13)، مُحاجِجاً مع إكليمنضُس السكندري
بأنَّ كل هؤلاء قد تكلَّموا عن ” كيانات أساسية ثلاثة “ (14)، كما في اللاهوت
العبراني (15).

ومن الواضِح أنَّ يوسابيوس كان يُؤمِن إيماناً راسِخاً بسمو
الثيولوچيا العبرانية على الإغريقية، فيقول: 0

” العقائِد العبرانية تسمو على خِداع الإغريق الشيطاني الذي يُؤمِن
بتعدُّد الآلِهة، وتنقِل لنا فقط الله الواحِد وتُوقِره فقط، الذي تُسبِّحه
وتُمجِّده السموات وكل ما فيها وما وراءها وتُعلِّم كيف نعيش الذُّكصولوجية
ونتأمَّل لاهوتياً (16)، على عكس تلك الثيولوچيا الإغريقية، فالإغريق ليسوا فقط
محرومين من اللاهوت الحقيقي، بل أيضاً من الفلسفة والحِكمة التي تُقدِّم الحلول
والمهارات والقُدرات… ومن ثمَّ نحن نُفضِّل اللاهوت العبراني على الفلسفة
الإغريقية البربرية (الهمجية) “ (17).

وليس اللاهوت العبراني مجرد مناظرة بل ” عقائِد وتعاليم إلهية “،
مشهود لها ويُثبِت صحتها وحقها ” رِجال أحبَّهم الله “ (
Θεοφιχείσ
άνδρεσ
).

وليس
اللاهوت العبراني صِياغة أُسطورية للعقل والفِكر
الإنساني بل ” التقوى والحق “ الذي يتطلب العِشق
والرغبة القوية (18).

وقارن
يوسابيوس القيصري بين مُسحاء العهد القديم (العبرانيين) من كهنة وملوك وأنبياء
وبين السيِّد المسيح نفسه مُوضِحاً أنَّ ما ناله رِجال العهد القديم كان رمزاً
فكانوا عاجزين عن أن يُقيموا من أتباعهم مُسحاء، أمَّا السيِّد المسيح فهو وحده
الذي دعى أتباعه ” مسيحيين “ لأنهم صاروا فيه مُسحاء:
ملوكاً وكهنة.

3.
النوع الثَّالِث: اللاهوت الكنسي:

نأتي
هنا إلى النوع الثَّالِث من اللاهوت بحسب تصنيف المُؤرِخ يوسابيوس القيصري، ” لاهوت الكنيسة “ أو اللاهوت الكنسي الذي يُكمِّل ويُتمِّم
اللاهوت العبراني… واللاهوتيون العبرانيون يرون الحق ويُعانِقونه من بُعد
مَاتَ هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيدٍ نظروها “
(عب 11: 13)
(19).

أمَّا
لاهوتيو الكنيسة فقد أعلنوه كحياة كانت في الآب والابن قد استُعلِنت ” كلِمة الحياة (اللوغُوس) الذي سُمِع وترآى ولُمِس “،
الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من
جهة كلِمة الحياة. فإنَّ الحياة أُظهِرت وقد رأينا ونشهد ونُخبِركم بالحياة
الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه…… “

(1يو 1: 1 – 7).

ويُركِز
يوسابيوس تركيزاً أساسياً على التجسُّد الإلهي، تجسَّد الله اللوغُوس الكلِمة
كاستعلان للسِّر الذي تحدَّث عنه شعب الله في العهد القديم (إسرائيل القديم) (20)،
فيقول:

” اللوغُوس المُتجسِد هو فقط الذي أعطانا نِعمِة معرفة الثَّالوث
القدوس
بالميلاد السِّرِّي، لا أحد من الأنبياء ولا حتى موسى وُهِب خدمة هذه
النعمة لشعب الله في العهد القديم، لأنه في ابن الله اللوغُوس فقط أُعلِنت نِعمة
الآب للكل، لأنَّ الناموس بموسى أُعطِيَ أمَّا النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا “
(21).

ويتساءل
يوسابيوس ” كيف تعلَّم الإنجيلي تلك الأمور؟ “، ويُجيب
قائِلاً: يُؤكِد الإنجيلي نفسه أنه قد شُرِح بالابن الوحيد فقط الذي في حِضن الآب،
فلا موسى ولا أي أحد من الأنبياء لكن ابن الله الوحيد هو الذي خبَّر وشرح… وليس
الله غير المنظور هو الذي شرح بل الابن الوحيد الذي صار منظوراً وأعطى تفسيراً عن
الآب (22).

وفي
مقارنة بين سمو اللاهوت المسيحي وبين اللاهوت العبراني والإغريقي، يقول:

” كما لم يقبل اللاهوت اليهودي ذلك الخِداع والزيف الأُسطوري
الإغريقي الذي يعتقِد بتعدُّد الآلِهة، واعترف بوحدانية الله، هكذا المعرفة
الفائِقة المُستنيرة للكنيسة، والتي تخُص الابن قد أعطت شيئاً أعظم وأوفر وأفضل،
فأضافت تعليماً عن الله الآب الذي له ابناً وحيداً، هو الابن الحقيقي الحي والأبدي
اللامخلوق “ (23).

فالكنيسة
إذن ” تملُك الطريق الملوكي “، ومن ثمَّ ” تُعطي معرفة النعمة الإلهية “ (24)، وليس
هذا مجرد نظام أو تعليم عن الحق، لكن هذا هو الحق الفِعلي كلِمة الحياة (اللوغُوس)
الذي فيه، ” مُذخرة كل كُنُوز الحِكمة والمعرِفة “
(25)، والذي يدعوه يوسابيوس ” سِر التجديد “، ويجعله أساس ” لاهوت كامِل
وتام ودقيق “
(26)، ويعترِف بإله واحِد في مواجهة تعدُّد الآلِهة الإغريقية،
وإله آب في مواجهة التعليم اليهودي، وإله قدير في مواجهة المُلحدين المُنحرفي
الرأي (27).

وللتمييز
بين اللاهوت المسيحي والعبراني، ركِّز يوسابيوس على الاستعلان الذي تم في تجسُّد
ابن الله الذي استعلِن نفسه مُستعلِناً الله الآب:

” لقد حَفَظ وجوده نِعمة الكرازة (كيريجما) بلاهوته الذي تتشِح به
كنيسته، لتمتد من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها، وهي مُتسربِلة بلُباس الاتضاع
والحِشمة، الذي تسلَّمته سِراً قديماً مُخبأً صامِتاً مكتوماً “ (28).

ونَعَت
يوسابيوس لاهوت موسى والأنبياء بأنه يمتلِك إلى حدٍ ما
معرفة ابن الله الوحيد “” السِّر الذي كان مكتوماً وصامِتاً “، ومن ثمَّ فإنَّ
الروح النبوي يلهوِت (يتحدث لاهوتياً) عن الابن سِرياً لكن جموع الأُمم اليهودية
كانت في جهل مُطبق بالسِّر المُخبأ (29).

وهنا
نستطيع أن نُفرِق بين اللاهوت العبراني ذلك السِّر المكتوم والمُخبأ، وبين اللاهوت
الكنسي
في العهد الجديد وقد استُعلِن بالكامِل في كل مجدِهِ (30)، أو بعبارِة
يوسابيوس ” لقد رأينا مجده، مجداً لا يُدرك ولا يُوصف،
يفوق كل فهم وتصوُّر، بين المائتين “ (31).

لقد
رأى الأنبياء البركات من بعيد، أمَّا الكنيسة فتملُك اللاهوت الكامِل، ” هذا السِّر ظلَّ محفوظاً للكنيسة، التي تجمعت من الأُمم،
ووُهِبَ لها بفضل نِعمة فائِقة مُختارة، لأنَّ فيه، كما يقول الرسول، كل كُنُوز
الحِكمة والمعرفة “ (32).

وفي
وُضوح تام نقول أنه لا وجه للمُقارنة بين اللاهوت المسيحي الكنسي، وبين لاهوت
الفلسفة الإغريقي ولاهوت العبرانيين اليهودي، فاللاهوت الكنسي ليس أعظم فحسب، بل
هو الحق نفسه، لأنه مُؤسس على حُضور المسيح الذي هو الطريق والحق (أليثيا)،
ومنه ومن خلال ميلاده وتجديده، تستلِم الكنيسة ثالوث الآب والابن والروح القدس السِّرِّي
المُبارك، وتحفظه كرجائها الذي لا يُخزى، وهذا هو الإنجيل الذي لا يتبدَّل ولا
يتغير ولا يُحرَّف على مر الدُّهور (33).

ودُعامِة
اللاهوت الكنسي وركيزته الأساسية هي الحق المُستعلن باللوغُوس الله الكلِمة الذي
ظهر في الجسد… فما هي بالضبط طبيعة هذا الحق؟

إنه
مجد الله الذي هو ” مملوء نِعمة وحق “، هو مجد ” لا
يُدرك بل ويفوق كل ادراكات البشر “ (34).

فاللاهوت
ليس معرفة شيء لأنَّ الله لا يُشيَّئ، وهو ليس موضوع لأنَّ حق الله ليس موضوعياً
(أي لا يخضع لمقاييس التعريف الموضوعي) بمعنى أنَّ الإنسان لا يستطيع فحصه ولا
استقصائه كما يتحقق من المخلوقات والظواهِر الحِسِية التي تُحيطُ به، فالله يُصبِح
موضوع معرفة الإنسان بالقدر الذي يسمح به الله نفسه، وفي الوقت الذي يُعيِّنه هو
ويختاره بمِلء حُريتهِ وإرادتهِ وسُلطانه الإلهي المُطلق.

حقاً
إنَّ اللاهوت يرتكِز على عمل وحضور الله، المُتمِم والمُتحقِق في شخص المسيح إلهنا
مِلء اللاهوت لذلك يتحدَّث يوسابيوس عن التعليم اللاهوتي في كنيسة الله الغير
قابِل للفساد أي ” لاهوتنا المُختص بالمُخلِّص “، والذي تسلَّمته الكنيسة من أعلى ومنذ البدء من شهود
عِيان وسامعين للوغُوس، والذي تحفظه بلا تبديل ولا تحريف ولا اجتهاد ذاتي، لأنه
تعليم نقي غير قابِل للفساد (35).

ركِّز
يوسابيوس مثل سابقيه على الكِتاب المُقدس كشاهِد أوَّلي وأساسي، دقيق وأمين،
لاستعلان الله في التاريخ خاصة في أمر التدبير المسيحي (الإيكونوميا)، إنها حقيقة
كمال استعلان الله في المسيح، والتي شغلت اهتمام يوسابيوس في لاهوتياته وتأكيده
على العهد الجديد.

ويُشير
يوسابيوس إلى المفاهيم اللاهوتية الأساسية لمُقدمة إنجيل القديس يوحنا الحبيب،
ليُدلِّل على الأولوية التي للعهد الجديد:

اللوغُوس
(الكلِمة)

والله

والنور
(36)

وكلِمة
” لوغُوس “ لا تُستخدم بأية طريقة معروفة قبلاً، لذلك
يُعلِن يوسابيوس أنَّ ” الإنجيلي يُقدم مفهوماً جديداً للفظِة لوغُوس يختلِف عن ما
هو معروف قبلاً “ (37).

فهو
ليس لوغُوس العقل الذي يجعلنا نُفكِر، ولا لوغُوس النُطق الذي يجعلنا نتكلَّم، ولا
لوغُوس الفِكر الذي يجعلنا نكتُب ونُصيغ، ولا لوغُوس الطبيعة والنماء والتطور، ولا
اللوغُوس العِلمي الذي يتصِل بالعلوم والفنون (38)، بل هذا اللوغُوس كما يُعبِّر
عنه الإنجيلي هو الله.

فالله
اللوغُوس ليس في حاجة إلى أي وجود سابِق، لأنه كائِن وحي بذاته وموجود في كل زمان
ومكان، وقد واجه يوسابيوس مُعضِلِة مارسيللوس الذي خلط بين الآب والابن فدعا الآب
جوهراً والابن اللوغُوس الكلِمة (كأنه غريب على جوهر الله).

فبدون
أن يدري، وقع مارسيللوس في خطأ اعتبار أنه كان هناك وقت لم يكن اللوغُوس موجوداً
فيه في الآب!!! فسقط في البِدعة الهرطوقية التي تعتبِر الله إلهاً لا عقلاني (غير
عاقِل)، عقله أو كلِمته (اللوغُوس) شئ عارِض فيه وليس بالحري الله الذي هو
اللوغُوس حقاً (39).

ويُركِز
القديس يوحنا اللاهوتي على ذُكصولوجية اللوغُوس الله الكلِمة أي الاسم ” نور “ (40)، وهو
النور الذي يُنير كل إنسان أتياً إلى العالم، (أي النور الذي أتى إلى العالم)
والذي كُوِّنَ العالم به، فالنور واللوغُوس واحِد، النور هو اللوغُوس واللوغُوس هو
النور وهو ليس ذلك النور المحسوس المادي كنور الشمس الذي يُنير الأعيُن
الجِسدانية، لأنه حتى الحيوانات غير العاقِلة تشترِك في مِثْل هذا النور المحسوس (41).

إنه
نور اللوغُوس الإلهي الذي بقدرتِهِ الذاتية خلق النِفوس العاقِلة الناطِقة لتكون
على صورتِهِ (أيقونته وشبهه) (42)، وينبغي الإشارة إلى أنَّ هذا النور الإلهي هو
نور اللوغُوس، ولا يُشير إلى الإله الذي هو يفوق كل الخلائِق، لأنَّ هذا الإله،
الله الآب، هو نور لا يُدنى منه ولم يرهُ أحد قط ولن يراه (43)!

إذن
فالنور الناطِق الذي يُشير إليه القديس يوحنا هو الابن الوحيد، لوغُوس
الله، الذي به خلق الآب كل العالم والذي أتى إلى العالم وكان فيه يُنير كل إنسان
أتياً إليه، وهذه الرؤية لنور اللوغُوس الإلهي صارت مُمكنة خاصة في استعلان تجسُّد
الابن الوحيد الذي به جعلنا مُستحقين لاستعلان وظهور أُلوهيته الذاتية (44).

فبواسطة
اخلائِهِ الإلهي
Kenosis جعل اللوغُوس نفسه منظوراً من الإنسان أي أنه أعلن وكشف مجده
للإنسان، ويقول يوسابيوس ” نحن لا ننظُر إلى جسده لأنَّ
هذا الجسد هو هيئِة العبد، بل إلى مجده الذي يتميز عن جسدهِ والذي لا يُعايَن
إلاَّ بالفِكر النقي “، أو كما يصيغها الرسول بولس ” رأينا مجده الغير مُدرك ولا
مُحوى من فهم المائتين – مجد ابن الله الوحيد “.

وهذه الرؤية سوف تكون دائِمة إلى الأبد في حياة الدَّهر الآتي في
الملكوت، حيث اللوغُوس الإلهي وحيد الملِك ملِك الجميع، هو السَّاطِع بالنور ومن
ثمَّ دعى شمس البِّر والنور الفائِق للنور، أو نور من نور، بحسب الكلِمات
اللاهوتية الغير مُدركة – (كلِمات يوسابيوس في رسالته إلى الإمبراطور قُسطنطين)
(45).

لم
يقُل القديس يوحنا أنَّ اللوغُوس صار نوراً بفضل التجسُّد والاخلاء الذي تم به،
فهو النور والله لأنه وحيد الآب قبل استعلانه بالتجسُّد الذي كشف ببساطة الحق
للناس (46).

ويُعلِن
يوسابيوس هذا التعليم الأُرثوذُكسي لمواجهة بِدعِة مارسيللوس ذي الميول
السابيليانية (47)، ويُركِز يوسابيوس على حقيقة ” أنه
في الظهور الإلهي لابن الآب الوحيد، وُهِب للكنيسة روح الحق الذي ينبثِق من الآب “
(48).

حقاً
إنَّ الحق كله، حق الثَّالوث المُبارك قد استُعلِن بتجسُّد اللوغُوس ومنذ ذلك
الحين ظلَّ في الكنيسة يقودها ويمنحها المواهِب المُتعددة، مواهِب الروح، والحِكمة
والمعرِفة والإيمان والمحبة، ويقول يوسابيوس: ” إنه
الآب حقاً الذي له السُّلطان المُطلق والأولوية في النِّعمة وصار الابن صيرورتها،
كما قيل في الكِتاب المُقدس، أنَّ النِّعمة والحق بيسوع المسيح صارا، أمَّا
بالنسبة للروح القدس (الباراقليط المُعزِّي)، فهو نِعمة الآب بالابن وهو مانِح
المواهِب، فلإنسان تُمنح الحكمة بالروح القدس، ولآخر الإيمان بنفس الروح، وهكذا
بالنسبة لكل المواهِب الأخرى، فالروح القدس إذن يدخل فقط في القديسين كهِبة بالابن
للذينَ أعلن الآب استحقاقهم “ (49).

ويتضح
أنه بالتجديد الذي تم في المسيح، تنال الكنيسة
ثيولوچيا – لاهوت “ الثَّالوث القدوس المُبارك السِّرِّي، ثالوث الآب والابن
والروح القدس (50).

وأينما
ذكرنا حديث ليوسابيوس عن لاهوت الابن، يجب أن نُضيف أنه يتمسك بهذا النوع من
اللاهوت بحيث تظهر المُصطلحات ” يلهوِت “ و” لاهوت “ و”
ناطِق بالإلهيات “ كألفاظ تُدلِّل على التعليم الأرثوذُكسي الخاص بالله اللوغُوس
(51).

ولا
يُقدِّم تعليمه عن اللوغُوس أيَّة إشارة إلى التوحيد المُطلق
Monism في اللاهوت، ولا هو يفصِل بين اللوغُوس والأُقنومين الآخرين في
الثَّالوث، بل بالحري يُؤكِد على لاهوت الابن بدقة لكي يُعلِن لاهوت الثَّالوث
الكامِل التام الدقيق كله (52).

وينبغي
ألاَّ ننسى أنَّ يوسابيوس عاش في حقبة من الهرطقات اللاهوتية والمُجادلات وكان
عليه أن يُواجِه مباشرةً تهديد الذينَ يدعون أصحاب
الثَّالوثية التدبيرية “، والتي كانت تُشكِّل قلب تعليم مارسيللوس، ويبدو أنَّ
مارسيللوس قد تبنَّى وجهِة نظر مُؤداها أنَّ اللاهوت كان في بِدايته ” مُوناداً “
أي إلهاً واحِداً أحداً
Monad لكنه صار تدريجياً ثالوثاً!! يتألَّف من قُوَى ثلاث لكن ليس من
ثلاثة أقانيم مُتمايِزة!! وأنَّ اللوغُوس الذي كان في الله قد صار ابناً فقط من
خلال تجسُّدِهِ!!

لكن بالنسبة لتعليم يوسابيوس لم ينفصِل عن الأُقنومين الإلهيين
الآخرين لكنه واحِد مع الآب لاهوتياً، وواحِد مع الروح القدس أيضاً (53).

وكان
عمل يوسابيوس القيصري ” الرد على مارسيللوس
Adv. Marcellus“، وكِتابه ” اللاهوت الكنسي Theologia Ecclesiasticaمن أوائِل وأقوى الأعمال الأُرثوذُكسية
عن اللاهوت الثَّالوثي، والاختلاف الجوهري بين يوسابيوس ومارسيللوس هو اختلاف
مفهومهما عن الآب والابن والروح القدس.

فهُم
بالنسبة لمارسيللوس مجرد قُوى أو طاقات من المادة أو الجوهر يرجع عملهم المختلِف
للحاجة إلى خلاصِنا!!

أمَّا
بالنسبة إلى يوسابيوس فهُم أقانيم أزلية، قد استُعلِنوا في تجسُّد المسيح
خلال نعمة الخلاص الواحِدة، وتجسُّد ابن الله الوحيد الجِنس هو الاستعلان أو
الظهور وليس أساس أو أصل الثَّالوث الأزلي، إنه الحق (أليثيا) – هكذا يُعلِّق
يوسابيوس – الذي أخفق مارسيللوس في إدراكه.

ونستنتِج
أنَّ المسيح بنِعمته قد وضع في كنيسته كما في كِنز السِّر الذي كان مكتوماً
ومستوراً قبل الدُّهور والأجيال، ذلك السِّر الكامِن فيه فهُم الثَّالوث القدوس
الآب والابن والروح القدس (54).

أمَّا
بالنسبة لمنهجيِة اللاهوت الكنسي، فلابد أن نذكُر أنه كان ليوسابيوس ” ميثودولوچية “ أي منهجية لاهوتية، ومع هذا فإنَّ
اُسلُوب تفكيره اللاهوتي ينطلِق من الله نفسه الذي استُعلِن للإنسان وجعل نفسه
موضوع اللاهوت، فاللاهوت إذن لا يتبع المنهج العام للفحص والاستقصاء وِفقاً لنقطة
بِدء تبدأ بالإنسان!! وبمعنى آخر فالإنسان لا يستقصى الإلهيات، بل الإلهي هو الذي
يُستعلن ويجعل نفسه معروفاً للإنسان أو من الإنسان، وهذا لا يتم على أكمل وجه
إلاَّ في تجسُّد اللوغُوس وتأنُّسِهِ، أو كما وصف يوسابيوس في كِتابه ” عرض إنجيلي “:

” ابن الله المُتأنِس علَّم تلاميذه أنه هو الحياة والنور والحق وكل
المفاهيم الأخرى الخاصة بلاهوته (55)، وقد قدَّم تفسيره الخاص بالآب والخاص بروح
الحق “ (56).

كما
يقول في كِتابه ” ضد مارسيللوس “ ” هو فقط بميلاده
السِّرِّي أعطى البشر نِعمِة معرفِة الثَّالوث القدوس “ (57).

وقد
أسَّس هذا المبدأ اللاهوتي على ركيزة جديدة تماماً فالتأمُّل في الإلهيات ليس
اختياراً سهلاً لكل أحد، وقد افترضت فكرِة اللاهوت الكنسي أن يكون للاَّهوتي
شَرِكَة مع اللوغُوس الله الكلِمة المُتجسِد.

وهذه
الشَرِكَة والاقتراب من حدث الخلاص العجيب، حدث يتحقق في الكنيسة وبالكنيسة وحدها،
واللاهوت المسيحي خارِج الكنيسة – كنيسة المسيح – هو استحالة في رأي يوسابيوس لأنه
كما يقول:

” استعلن سِر الخلاص لكنيسة المسيح فقط بنعمتِهِ “ (58)

ويربُط
يوسابيوس بين الثيولوچيا والإكلسيولوچيا،
ففي الكنيسة فقط تقوم الكرازة، وينتشِر صداها عبر المسكونة كلها (الإيكيومين) من
أقاصيها إلى أقاصيها، ويقول:

” بحضورِهِ، حفظت نِعمة الكيريجما الخاصة بلاهوته وهذه هي النِعمة
التي قبلتها كنيسته المُنتشِرة في المسكونة كلها (الإيكيومين) وكرَّمتها كسِر قديم
مكتوم ومخفي “ (59).

والتأمُّل
في اللاهوتيات معناه شَرِكَة الخليقة الجديدة في المعمودية، التي هي أوِّل
درجة وأوِّل ثِمار لاهوت رؤيِة الله، وكما يقول يوسابيوس، من يمُر بالحق والأصالة
خلال السِّر، سِر الغسل والتجديد، ينال اللاهوت عن المسيح، ويُعايِن بهاء مجد
المُخلِّص، فيُردِّد مع القديس بولس:

” إن كنا عرفنا المسيح قبلاً بحسب الجسد….. فنحن لا نعرِفهُ بعد
حسب الجسد “ (60).

فالتأمُّل
في اللاهوتيات معناه أن يحيا الإنسان بسلوك مُعيَّن، مُقتفِياً خطوات المسيح، وأهم
شرط هنا حياة الطهارة:

” فقط من خلال الفِكر النقي الغير مُشوش يمكن أن يُتأمل لاهوتياً
ملِك الجميع الله اللوغُوس، ويُعبد بكل طاقات النَّفْس واشتياقاتِها “ (61).

فعدم
الطهارة يعني عدم التقوى، وهذا في فِكر يوسابيوس القيصري يعني ظُلمِة الجهل، أمَّا
نقاوِة الفِكر من جهة أخرى، فهي التقوى والتقوى تُلازمها مُعاينة الله (62).

إذن
اللاهوت الحقيقي هو هِبة الله للإنسان في المسيح ومن ثم في كنيسته.

===

مراجِع
الفصل

1)           
Preparatio
Evangelica N, 1, 2, P.G. 21, 22, 229 AB
.

2)           
De Civ. Dei
P.L. 41, 180
.

3)           
P.L. 1, 587
B
.

4)           
Preparatio
Evang. II, 5, 1, P.G. 12, 133 CD
.

وعن
التصنيفات الثَّلاثة للثيولوچيا الإغريقية اُنظُر:

& J. Pepin ” la Theologie Tripartite de Varron “.

& Re Ang. 11
(1956), 283 – 284
.

5)           
Demonstratio
1, 1, 9, P.G. 22, 20 A
.

6)           
Preparatio
VIII, 11, 4, P.G. 21, 537 CD
.

7)           
Preparatio
XI, 14, P.G. 21, 884 B, Gen. 19: 24; Ps 110: 1, 33: 6
.

8)           
XI, 14 P.G.
21 884 B, cf. Ps. 107, 20, prov.
8: 12 etc. cf. also,
ibid. 884 B – 885 A and VII, 12, P.G. 21, 541 B – 544 B
.

9)           
1, 20, P.G.
24, 888 BCD cf., Isaiah 11, 1 – 2 & Ps. 36: 9
.

10)       
Ibid. XI,
20, 1, P.G. 21, 901 B
.

11)       
Ibid. XI,
14. 10 – 15, 7, P.G. 21, 885 AB CD
.

12)       
Ibid. XI,
16, 1 – 4, 888 ABC
.

13)       
Ibid. XI,
18, 1 – 26, P.G. 21892 C – 9004
.

14)       
Ibid. XI,
20, P.G. 21, 901 A
.

15)       
Ibid. XI,
16, 3, 21 888 B; 14, 18 – 19, 840 – 841 A
.

16)       
Ibid. VII,
15, 18, P.G. 21, 558 AB
.

17)       
Ibid. X, 4,
30 – 31, P.G. 21, 785 CD
.

18)       
Ibid. VIII,
1, 1, P.G. 21, 585 B
.

19)       
CF. Hebr.
11, 13
.

20)       
Against
Marcellus, P.G. 24, 716 C
.

21)       
Ibid., P.G.
24, 716 B
.

22)       
Eccl. Theo.
1, 20 P.G. 24, 869 BC
.

23)       
Against
Marcellus 1, 1, P.G. 24, 717 AB
.

24)       
Eccl. Theol.
1, 8. P.G. 24, 837 A
.

25)       
Ibid., 1,
20, P.G. 24, 893 A
.

26)       
Ibid. 1, 8,
837 A
.

27)       
Ibid., cf,
also 837 B
.

28)       
Ibid. 1, 20,
P.G. 24, 892 C
.

29)       
Ibid. 1, 20,
P.G. 24, 892 C
.

30)       
Ibid. P.G.
24, 892 D
.

31)       
Ibid., 868
C, cf. John 1: 14
.

32)       
Ibid. 893 A
cf. 893 C
.

33)       
Against
Marcellus 1, 1 P.G. 24, 716 C – 717 A
.

34)       
Eccl. Theol.
120 P.G. 24, 868 C or Demonstratio IV, 1, 5, P.G. 22, 252 C, Ad. Costantinum
II, P.G. 20, 1381 AB
.

35)       
Ibid. 1,
P.G. 24, 829 A
.

36)       
Ibid. 1, 20,
P.G. 24, 868 B
.

37)       
Ibid. II,
14, P.G. 24, 928 A
.

38)       
Ibid. II,
13, P.G. 24, 925 C – 928 A
.

39)       
Ibid., 928 C
cf, 925 B
.

40)       
P.G. 24, 866
B
.

41)       
Ibid., 865 B
– 866 B
.

42)       
Ibid., 865 B
– 868 A
.

43)       
Ibid.

44)       
Ibid., 868 C.

45)       
P.G. 24,
1394 C
.

46)       
P.G. 24, 869
C
.

47)       
Ibid., 869
A, 713 B, 869 C
.

48)       
Ibid., 10 –
09 A 1005 B
.

49)       
Ibid. 1013 A
B
.

50)       
Against
Marcellus I, i P.G. 24, 716 C – 717 A
.

51)       
Ibid. 769 A,
800 D, 1016 A, P.G. 20, 1393 D, 22, 488 B; 24, 724 B, 728 A, 799 A, 805 A B,
869 B, 1016 A, 1020 B, etc
.

52)       
P.G. 24, 837
A
.

53)       
P.G. 24, 769
A, 1013 A
.

54)       
P.G. 24, 960
B C
.

55)       
P.G. 22, 717
C
.

56)       
P.G. 24, 840
C – 841 A, 869 B, 925 B & Ibid. 1013 A
.

57)       
Ibid., 716 B.

58)       
P.G. 893 C.

59)       
Ibid, 892 C,
716 C – 717, 829 A
.

60)       
Demonstratio
IX, 6, 10, P.G. 22, 673 C
.

61)       
P.G. 24,
1380 C D
.

62)       
P.G. 24, 536
B.



* ( نِصْف
أريوسي ) ، لم يكن أريوسياً بالمعنى اللاهوتي المعروف ، لكنه أعطى لنفسه حرية
الحركة بالفِكر والكلِمة وسط الأريوسيين ممالأة لهم ، ولم يخلَ فِكرهُ وعملهُ من
الأريوسية – فقط سنعرِض لفِكره ونستفيد بما يتناسب مع تعليم كنيستنا القبطية
الإنجيلي الرَّسولي الآبائي العقيدي الليتورچي والإيماني.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى