علم

48- من رسالة إيرونيموس إلى يوستوكيوم



48- من رسالة إيرونيموس إلى يوستوكيوم

48- من رسالة إيرونيموس إلى يوستوكيوم

ويستطرِد
كاتِبنا شارِحاً أنه من الصعب على النفس البشرية ألاَّ تُحِب، فمن الضروري أن
ينجذِب عقلِنا إلى نوعٍ ما من المحبة، ومحبة الجسد لا تهزمها إلاَّ محبة الروح،
فالشهوة تُطفِئها شهوة أخرى، وكلّ ما ينقُص في الواحدة يزيد في الأخرى، ولذلك على
العذراء أن تنوح دوماً وتقول: ”في اللَّيل على فِرَاشي طلبتُ مَنْ تُحِبُّهُ نفسي“
(نش 3: 1) لأنَّ الرَّسول يقول ”أميتوا أعضاءكُمُ التي على الأرضِ“ (كو 3: 5) وقال
أيضاً بِثِقة ”فأحيا لا أنا بل المسيحُ يحيا فيَّ“ (غل 2: 20).

 

وكلّ
مَنْ يُميت أعضاءهُ ويسير بحسب مِثال بولس الإلهي لا يخشى أن يقول ”صِرتُ كَزِقٍ
في الدُّخان“ (مز 119: 83)، وأيضاً ”رُكبتاي ارتعشتا مِنَ الصوم“ (مز 109: 24)،
وكذلك ”سَهَوْتُ عن أكل خُبْزي. مِنْ صوت تنهُّدي لصق عظمي بلحمي“ (مز 102: 4 –
5).

 

فلابد
أن تُعوِّم سريرها كلّ ليلة بِدِموعها (مز 6: 7) وتكون مُستيقِظة وحيدة كعصفور (مز
102: 7) وتُرتِل بروحها وأيضاً بِذِهنها (1كو 14: 15)، قول المزمور ”بارِكي يا
نفسي الرب ولا تنسي كُلَّ حَسَنَاتِهِ. الذي يغفِرُ جميع ذُنُوبِكِ الذي يشفي
كُلَّ أمراضِكِ الذي يفدي من الحُفرة حياتَكِ“ (مز 103: 2 – 4).

 

ويُؤكِد
أنه في مدحه للبتولية لا ينتقِص من كرامِة الزواج، بل يُفضِّل البتولية عنه، فالله
يقول ”أثمِرُوا واكثُرُوا واملأُوا الأرض“ (تك 1: 28).

 

لقد
كانت حواء عذراء في الفِردوس، وبعد ثوب الجِلْد بدأت الحياة الزِيجية، فالفِردوس
هو المكان الذي تنتمي إليه العذارى، ويُشجِّعها چيروم قائِلاً لها أن تستمِر كما
وُلِدَت وأن تقول ”ارجعي يا نفسي إلى راحَتِكِ لأنَّ الرَّبَّ قد أحسن إليكِ“ (مز
116: 7) والدليل على أنَّ البتولية هي الحالة الطبيعية للإنسان وأنَّ الزواج جاء
بعد التعدِّي هو أنَّ الجسد الذي يُولد من الزواج يكون بتولاً لكي نستعيد في
الثمرة ما قد فُقِدَ في الجِذر.

 

وبِبَراعة
أدبية يقول كاتِبنا أنه يمتدِح الزواج، لكن يمتدِحه لأنه يُقدِّم له عذارى، فهو
يجمع الورد من بين الأشواك، الذهب من الأرض، اللؤلؤ من المحار، ويُخاطِب هُنا
الأُمهات اللائي يرفُضنَ أن يدعنَ بناتِهِنْ تُكرِّسنَ حياتِهِنْ للعريس السمائي،
فالزواج يُكرَّم أكثر عندما تكون ثمرته محبوبة أكثر، ويقول للأُمهات ”هل أنتِ
غاضِبة لأنها لا تُريد أن تكون عروس لجُندي بل ستصير عروساً للملِك؟ لقد وَهَبَتِك
كرامة عظيمة: أن تكوني حماة الله“.

 

إنَّ
الرَّسول يقول: ”وأمَّا العذارى فليس عندي أمرٌ مِنَ الرَّبِّ فِيهِنَّ“ (1كو 7:
25) لماذا؟ لأنه هو أيضاً كان بتولاً، ليس رغماً عنه بل بإرادته الحُرَّة، ويتساءل
چيروم لماذا لم يأخُذ الرَّسول أمراً من الرب بخصوص البتولية، ويُجيب بأنَّ ما
يُقدَّم بالإرادة الحُرَّة وليس بالاجبار تكون له قيمة أعظم، فلو كان هناك أمر
بالبتولية، لبدا الأمر كأنَّ الزواج ممنوع، ومن الصعب جداً أن نفرِض ما هو ضد
الطبيعة ونطلُب من البشر حياة الملائكة.

 

في
العهد القديم، كان هناك مفهومات مُتعدِّدة عن الغِبطة والسعادة، ”بنُوكَ مثل
غُرُوسِ الزيتون حول مائِدتك“ (مز 128: 3) أمَّا الآن فالقول هو ”لا يقُل الخصيُّ
ها أنا شجرةٌ يابِسةٌ.لأنه هكذا قال الربُّ للخِصيان الذينَ يحفظُونَ سُبُوتي
ويختارُون ما يَسُرُّني ويتمسَّكُونَ بعهدي. إنِّي أُعطيهم في بيتي وفي أسواري
نُصُباً واسماً أفضل مِنَ البنين والبنات“ (إش 56: 3 – 5) فإنَّ الفقير مُطوب،
والعازِر مُفضَّل عن الغني، الآن الضعيف هو الأقوى.

 

لقد
كان الأبناء بركة في العهد القديم، ولذلك تزوج إبراهيم بعد أن تقدَّم في الأيام من
قطورة (تك 25: 1)، ولذلك اشتكت راحيل من انغلاق رحمها، لكن البتولية نمت بالتدريج،
وهكذا كان إيليا بتولاً، وكان أليشع بتولاً، وكان الكثير من أبناء الأنبياء
بتوليين، ولإرميا قيل ”لا تتَّخِذْ لِنَفْسِكَ امرأةً“ (إر 16: 2) فإذ قد تقدَّس
في الرَّحِمْ، مُنِع من أن يتخِذ لِنفسه امرأة لأنَّ زمان السبي قد اقترب.

 

والرَّسول
يقول نفس الأمر بكلِمات أخرى ”فأظُنُّ أنَّ هذا حَسَنٌ لِسبب الضَّيقِ الحاضِر
أنهُ حَسَنٌ للإنسان أن يكون هكذا“ (1كو 7: 26) ولكن أي ضيق هذا الذي ينزع أفراح
الزواج؟ إنه قِصَر الوقت ”الوقتُ مُنْذُ الآن مُقصَّرٌ لكي يكُون الَّذِينَ لهُمْ
نِساءٌ كأنْ ليس لهُمْ“ (1كو 7: 29).

 

ويستمِر
چيروم في شرح تدرُجِيِة البتولية من العهد القديم إلى الجديد، ففضيلة البتولية
كانت موجودة فقط في الرِجال، وظلِّت حواء تلِد أطفالاً بالحُزن (تك 3: 16) لكن
بعدما حبلت عذراء في رَحَمْهَا وولدت لنا ابناً على كَتِفيهِ الرِئاسة، الله
القدير، زالت اللعنة.

 

فبِحوَّاء
جاء الموت، وبمريم أشرقت الحياة، ولذلك انسكبت على جِنْس حوَّاء نِعمة بتولية أغنى
لأنَّ الحياة ابتدأت بامرأة، وما إن وطئ ابن الله الأرض بقدمه حتّى أقام لِنفسه
أُسرة جديدة حتّى ”كما أنَّ الملائكة تعبُده في السماء، كذلك يكون له ملائِكة على
الأرض“.

 

ثم
جاء يعقوب ويوحنَّا اللَّذِينِ تركا أباهُما وشِباكِهُما والمركب وتبعا المُخلِّص،
فتركا رِباطات الدم ومسئوليات هذا العالم واهتمامات بيتِهِما، وللمرَّة الأولى
كانت الدَّعوة ”إن أرادَ أحدٌ أن يأتي ورائي فليُنكِر نفسهُ ويحمِلْ صليبهُ
ويتبعني“ (مت 16: 24) فليس هناك جُندي يذهب إلى المعركة ومعه زوجة، والتلميذ الذي
طلب أن يذهب ويدفِن أباه، لم يُسمح له بذلك ”لِلثَّعالِب أوجِرة ولِطُيُور
السَّماء أوكار. وأمَّا ابنُ الإنسان فليس لهُ أينَ يُسْنِدُ رأسهُ“ (مت 8: 20).

 

وينصح
چيروم العذارى بقراءِة كُتُب العلاَّمة ترتليان عن البتولية، والكِتاب الرَّائِع
الذي وضعه القديس كبريانوس أسقف قرطاچنَّة، وكِتابات القديس أمبروسيوس أسقف مِيلان
التي وضعها لأجل أُخته (هذه الكِتابات التي يتحدَّث عنها القديس چيروم هي عينها
التي قدَّمنا عرضاً لها في الفصلين الثَّاني والرَّابِعْ).

 

ويُشبِّه
عذراء المسيح بتابوت العهد، مُغطَّاة بالذهب من الداخِل والخارِج، حارِسة لِناموس
الرب، وكما أنه لم يكُن في التابوت إلاَّ لوحي العهد، كذلك يجب على العذارى ألاَّ
يترُكنَ داخِلهِنْ أي أفكار خارجية، إذ أنه في هذا الموضِع يُريد الرب أن يجلِس
كما يجلِس على الشاروبيم.

 

لقد
أرسل الرب تلاميذه لكي يحلُّوها (أي العذراء) من الاهتمامات العالمية، كما حلُّوا
الجحش (الذي ركبه في دخول أورشليم)، ولذا يجب أن تترُك طُوب وقش مصر وتتبع موسى في
البرِّيَّة حتّى تدخُل أرض الموعِد، لكن يجب ألاَّ تدع أحداً يُعيقها أو يمنعها،
لا أُم ولا أخت ولا قريبة ولا أخ، لأنَّ الرب يحتاجها، لكن إذا أرادوا أن يمنعوها،
لِتجعلهم يخافون من الضربات التي نزلت بِفرعون لأنه لم يُرِد أن يُطلِق شعب الله
لِيعبدوه.

 

إنَّ
يسوع عندما دخل الهيكل ألقى خارِجاً كلّ شيء لا يخُص الهيكل (مت 21: 12 وما بعدها)
لأنَّ الله غيور (خر 20: 5 + 34: 14) ولا يُريد أن يتحوَّل بيت الآب إلى مغارة
لُصوص، إذ حيثما تُحصى النقود وتوجد أقفاص الحمام وتُذبح البساطة، ينهض العريس
غاضِباً قائِلاً: ”هُوذا بيتُكُمْ يُتْركُ لكُمْ خراباً“ (مت 23: 38).

 

ويشرح
أنَّ العذراء عندما تُصلي تتحدَّث إلى عريسها، أمَّا عندما تقرأ، فعريسها هو الذي
يتحدَّث إليها.

 

ويُحذِّرها
من البُخْل ويحِثَّها على الصدقة مُؤكِداً على أهمية الصلوات وبالأخص صلوات
السواعي، مع تجنُّب الغِنَى.

 

وباسلوب
بليغ يقول أنَّ ليس شيء صعباً على المُحبين، ليس من جهد صعب على ذاكَ الذي يشتاق
بحرارة، وكما تحمَّل يعقوب لأجل راحيل ”فخدم يعقوب براحيل سبع سنينٍ. وكانت في
عينيهِ كأيَّامٍ قليلةٍ بسبب محبَّتِهِ لها“ (تك 29: 20) فلنُحِب نحن أيضاً المسيح
ولنطلُب أحضانه على الدوام وسنجِد أنَّ الأمر الصعب قد صار سهلاً ”ملكوت السموات
يُغصبُ والغاصِبون يختطِفونهُ“ (مت 11: 12) وإذا لم نتغصَّب فلن نأخُذ ملكوت
السموات.

 

وأخيراً
يتخيَّل چيروم يوم مُجازاة العذارى في السماء، وكيف سيكون ذلك اليوم، عندما تأتي
العذراء مريم أُم الرب لِتُقابِل استوخيوم في السماء، وبِصُحبتها خورس من العذارى،
عندما تطير تكلة فرحة إلى ذراعيها، عندئذٍ سيأتي عريسها نفسه لِيُقابِلها.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى