علم

4- البتولية عند آباء الإسكندرية 1



4- البتولية عند آباء الإسكندرية 1

4- البتولية عند آباء الإسكندرية 1

كانت
مدرسة الأسكندرية اللاهوتية عقل المسيحية يأتي إليها الغرب طلباً لاستنارة أعظم
باعتبارها أقدم مركز للعلوم القُدسية في تاريخ المسيحية، حيث تُمارس العِبادة
جنباً إلى جنب مع الدراسة، ويحيا فيها المُعلِّمون وتلاميذهم حياة نُسكية.. فقد
عُرِف غالبية أساتذة هذه المدرسة اللاهوتية الشهيرة بحبهم لحياة البتولية والزُهد
في العالم.

 

واعتبر
الآباء السكندريون أنَّ البتولية شَرِكَة عميقة مع الله وأنها ليست غاية في ذاتها
إنما هي طريق للدخول العميق في المَعِيَّة الإلهية، وأنَّ الإتحاد مع الرب بِداية
شوطها ونهايتها، ولهذا سَلَكْ فيها كثيرون كطريق ضيِّق لكن ليس مُستحيل.

 

ومن
بين أشهر رؤساء مدرسة الأسكندرية نجد القديس كلِمنضُس السكندري أحد أعمدة التقليد
السكندري والذي أكَّد المُؤرخون على بتوليته، فقال عنه جونز كواستن
Quasten المُؤرِخ الآبائي الشهير: ”سَلَكْ بالبتولية إذ لم يتزوج حُباً في
الرب“، وكان كلِمنضُس مراراً كثيرة يمدح البتولية والذين وهبهم الله إيَّاها،
مُقتنِعاً بأنَّ مَنْ يبقى بمُفرده لكي لا يُحرم من خدمة الرب يربح مجداً سمائياً،
وحين قارن القديس بين المُتزوج والأعزب، رأى أنَّ المُتزوج أسمى من الأعزب، لكنه
ميَّز بين الأعزب والبتول.

 

وكَتَبْ
القديس كلِمنضُس أيضاً عن قُدسية الزواج ورفع من شأنه كعمل شَرِكَة مع الخالِق،
إلاَّ أنه يُؤكِد على مفهوم أنَّ الكلّ ليس مُلتزِم بالزواج ولا الكلّ مُلتزِم
بالبتولية، مُعتبِراً أنَّ الإيمان هو بِدء الحياة المسيحية وسِرْ قُوَّة الله
العاملة فينا وسَنَدْ الحياة الأبدية، هذا ويُلخِص القديس كلِمنضُس رؤيته
للبتوليين باعتبارهم مُختارين أكثر من المُختارين.

 

أمَّا
العلاَّمة أوريجانوس أحد أشهر مُعلِّمي الأسكندرية فكان تعليمه عميقاً عظيماً
ومُعاشاً، إذ بينما كان يشتاق أن ينال إكليل الاستشهاد مع والده الشهيد، أرسل إليه
يُحذِّره ”إحذر أن تغيَّر قلبك بسببنا“، وبعدئذٍ وجد أوريجانوس أنَّ حياة البتولية
هي ظِلْ للاستشهاد، لذلك قدَّم حياته مثلاً للحياة الإنجيلية مُكرِساً إيَّاها
بالكامِل.

 

ورأى
العلاَّمة أوريجانوس أنَّ الإنسان البتول يطلُب الإتحاد مع الله خلال التمسُّك
بحِفْظ البتولية، ولذلك كان قائِداً لتلاميذه وسامعيه في ذات الطريق، واقترنت
كِتاباته بزيادة الحُبْ الإلهي أكثر فأكثر والسعي نحو الكمال والنقاوة والحواس
النورانية.

 

وقد
تضمنت تفاسير العلاَّمة أوريجانوس لأسفار الكِتاب المُقدس إشراقات كثيرة حول مفهوم
البتولية، فاعتبر أنَّ كنيسة الأبكار هي أعلى مرتبة في الملكوت السمائي وأنها أرقى
هذه الدرجات التي سيرتقيها البتوليون باعتبارهم أعضاء في كنيسة الأبكار ينعمون
بِشَرِكَة تبعية المسيح البِكْر.

 

وفي
كِتابه عن ”المبادئ“ تكلَّم عن البتولية كذبيحة، فقال: ”إن أردت تفسيراً أخلاقياً
وسلوكياً لِمَا وَرَدْ في (لا 1: 1) فلديكَ أنتَ أيضاً عِجْل، عليكَ أن تُقدِّمه،
وهذا العِجْل هو حقاً تقدِمة ثمينة، إنه جسدك، فإذا أردت أن تُقدِّمه هِبَة للرب،
وأن تحفظه طاهراً بتولاً..يجب أن تبتعِد عن الشهوة وتهرب من الزلل، وضع يدك على
ذبيحتك لكي تُقبَلْ من الرب، إذبحها أمام الرب، أي ضع عليها لِجام العِفة البتولي،
ولا تنزع عنها نير التأديب (1كو 9: 27) واذبحها أمام الرب، أمِتْ بلا تردُّد
أعضاءك.. فالكلِمة الإلهية تُريد إذن منك أن تتقدَّم لله بعاطفة مقبولة، وتُقدِّم
له جسداً عفيفاً، حسب قول الرَّسول (رو 12: 1)، فهناك قوم يُقدِّمون بلا شك
أجسادهم مُحرِقة، أعضاء بالجسد لكن نِفوسهم ليست عفيفة، فربما قد تدنَّسوا بشهوة
المجد البشري أو تنجَّسوا بمُغريات البُخْل أو تلطَّخوا بشر الغيرة والحسد“.

 

ويعتبر
أوريجانوس أنَّ الذبيحة الأولى في الكنيسة بعد ذبيحة الرُّسُل هي ذبيحة الشُّهداء
والثَّانية هي ذبيحة البتوليين.. لكنه يُنبِه أنَّ أجساد البتوليين والعُّبَاد إذا
تنجست بدنس الكبرياء ونجاسة الكِذب، لا تعود بعد ذبيحة مُقدسة مرضية أمام الله،
طالما أنها بتولية في الجسد فقط، لأنه في الناموس عندما كانت تُقدَّم الذبيحة كان
الكاهن يفحص باهتمام ليس فقط لكي تكون الذبيحة المُختارة من بين الحيوانات الطاهرة
بل وأيضاً أن تكون بلا عيب في عينيها وأُذُنيها فلا يقرُب إلى المذبح المُقدس
حيواناً أعرج أو أعور أو أصم.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى