علم الاخرويات

الفصل الرابع



الفصل الرابع

الفصل الرابع

14- القيامة هي الباب الموصل إلى السماء

مقالات ذات صلة

حينما يموت الإنسان، تنفصل روحه عن جسده. ولكن
الروح تظل تنتظر الجسد إلى يوم القيامة، فتتحد به، ويدخلان معا إلى السماء. إذن
السماء هي أملنا وهدفنا ومصيرنا الأبدى.

 

وقد وجه الله أبصارنا إلى السماء من أول آية في
الكتاب المقدس، إذ تقول “في البدء خلق الله السموات والأرض” (تك 1: 1).
والمقصود بالبدء هنا، بدء قصة الخليقة. ونلاحظ أنه ذكر السموات قبل الأرض لسموها
وعلوها وقداستها.

 

15- عدد السموات في المسيحية

وتحدث عن السماوات بصيغة الجمع، لأنه توجد أكثر
من سماء:

أ – سماء طيور: وهى المجال الجوى الذي تسبح فيه
الطائرات والطيور والكتاب يقول عن الطيور “طيور السماء” (مت 6: 26).

 

ب – سماء الفلك: التي توجد فيها الشمس والنجوم
والكواكب، وقد وضع لها الله قوانين دقيقة تحكمها.

 

وعنها قيل في المزمور “السموات تحدث بمجد
الله. والفلك يخبر بعمل يديه” (مز 19: 1).

 

ج – سماء الأرواح والملائكة. وقد أشار إليها
القديس بولس الرسول وسماها الفردوس أو السماء الثالثة.

 

د – وهناك ما هو أعلى وأسمى من هذا كله.

 

 وهو ما
سماه الكتاب “سماء السموات” (مز 148: 4) وهى عرش الله.

 

وعنها قال السيد المسيح في العظة على الجبل
“السماء كرسى الله.. والأرض موطئ قدميه” (مت 5: 34، 35).

 

وهنا نسأل:

16- ما معنى أن السماء هي عرش الله؟

ما دام الله في كل مكان، فما معنى أن السماء هي
عرش؟

معنى ذلك: أن السماء هي موضع مجده..

الله مطاع في السماء طاعة مطلقة وسريعة من كل
القوات السمائية ومن ملائكته “الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه” (مز
103: 20). في السماء مشيئة الله منفذة من الكل، بلا نقاش، بلا إبطاء، بل بكل طاعة
وحب. ولذلك نقول للرب في صلواتنا “لتكن مشيئتك. كما في السماء، كذلك على
الأرض” (مت 6: 10).

 

على الأرض نجد أناساً ينكرون وجود الله، وآخرين
يقاومونه ويعصون وصاياه، ويدنسون الأرض بخطاياهم.. أما السماء فهى مكان مقدس، يليق
بمجد الله، ويتم كل شئ فيه حسب مشيئة الله الصالحة.

 

والله في السماء مركز التسبيح من الأجناد
السمائية.

 

إن تأملنا في السماء يرفع مستوى تفكيرنا، ويجعلنا
نعيش في جو روحى.

 

لأننا طالما ننشغل بالأرض، وتصبح هي مركز
تفكيرنا واهتماماتنا، فإننا نعيش في جو مادئ، غرباء عن الله وعن الروحيات
والسماويات. أما القديسون الذين ركزوا فكرهم في الله وفى السماء وما فيها من
ملائكة وأرواح الأبرار، فهؤلاء شعروا أنهم غرباء على الأرض، موطنهم الأصلى هو
السماء، يشتاقون إلى الرجوع إليه.

 

ونحن، أترانا نفكر في عرش الله ومجده، أم أننا
ننشغل بالأرض والتراب والرماد والمادة.

 

ونظل هكذا للأسف الشديد، حتى يدركنا الموت،
فندرك أننا قد ضيعنا العمر في أمور عديدة لا نأخذها معنا في أبديتنا.

 

وفى مناسبة الحديث عن السماء وعرش الله، أتذكر
إننى قلت في إحدى قصائدي لله تبارك إسمه:

 

ما بعيد أنت عن روحى التي فى سكوت الصمت تستوحى
نداك

فى سماء أنت حقاً، إنما كل قلب عاش في الحب سماك

عرشك الأقدس قلب قد خلا من هوى الدنيا فلا يحوى
سواك

هى ذى العين وقد أغمضها عن رؤى الأشياء على أن
أراك

وكذا الأذن لقد أخليتها من حديث الناس حتى أسمعك..

 

فى مرة من المرات يا أخوتى، التقى بأحد القديسين
واحد من الملحدين. وسأله الملحد “أين يوجد الله؟ فوضع القديس يده على قلبه،
وقال “يوجد هنا “.. نعم، يوجد الله في كل قلب يحبه، لأن الله موجود في
كل مكان، لا تحده سماء ولا أرض..

 

17- نرفع أنظارنا إلى السماء، ومذاقة الملكوت

ولكن الله يريدنا أن تتعلق قلوبنا وأفكارنا
بالسماء، لكى نسمو.

وهكذا دعانا أن نصلى ونقول: “أبانا الذي في
السموات “لكى نتذكر السموات أيضاً في صلواتنا، بينما الله موجود في كل مكان.
ولكننا نذكره بالأكثر في سمائه، حيث هو ممجد ومسبح. كما نذكره في سمائه التي
سينقلنا إليها، لنكون معه في كل حين، في حياة قدسية طاهرة..

 

وهكذا فنحن دائما حينما نصلى، نرفع أنظارنا إلى
فوق، إلى السماء.

 

وفى ذلك نتذكر أن لنا أسرة كبيرة هناك، من الملائكة
ومن أرواح القديسين الذين سبقونا إلى السماء، بعد أن انتصروا في جهادهم على الأرض
ضد الخطايا والشهوات. وأصبحوا من “أهل بيت الله” (أف 2: 19).

 

ونجد أن الإنجيل المقدس يحدثنا كثيراً عن
“ملكوت السموات”، أى مملكة الله التي في السموات، من كل الذين أحبوه
وأطاعوه، وجعلوا قلوبهم هياكل مقدسة له.

 

إن السماء لا يدخلها إلا الطاهرون.

أما الخطاة، فيبقون في الظلمة الخارجية (مت 25: 30).
يكفى أنهم نجسوا الأرض بخطاياهم. فلم يعودوا مستحقين للوجود مع الأطهار في السماء.

 

لذلك حينما نذكر السماء: إنما نضع في أذهاننا
كيف نستعد لها. وكيف نسلك بالروح، ونتعلق بالأمور الروحية التي تقربنا إلى الله،
ونجد لذة في الصلاة وفى التأمل وفى الحديث عن الإلهيات، وفى محبة الله وكل ما
يوصلنا إليه.

 

وهكذا ندخل في مذاقة الملكوت ونحن على الأرض.

 

نذوق شيئاً – مهما كان ضيئلاً – من الجو الروحي
الموجود في السماء، ونتمتع بالعشرة الإلهية خلال حياتنا الأرضية، ونذوق محبة الله،
ونجد عمقاً في كلامه الإلهى يغذى أرواحنا. ونحيا تلك العبارة التي قالها الكتاب
وهى “غير ناظرين إلى الأشياء التي ترى، بل إلى التي لا ترى، لأن الأشياء التي
ترى وقتية. أما التي لا ترى فأبدية “(2 كو 4: 18).

 

18- تداريب الروح في المحبة

نتدرب أيضاً كيف نغذى أرواحنا بمحبة الله.

ونغذيها أيضاً بكلمة الله، لأنه “ليس
بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت 4: 4). ونغذيها
بالحديث مع الله في الصلاة بعمق وحب، وفهم وروحانية. كما كان القديسون يصلون،
فتسبح أرواحهم في كلمات الصلاة ويجدون فيها أعماقاً للتأمل. حتى أنهم من حلاوة
كلام الصلاة في أفواههم، ما كانوا يستطيعون بسهولة أن ينتقلوا من كلمة إلى أخرى..

 

إن لم ندرب الروح على كل هذا، ماذا يكون مصيرها
حينما تنتقل إلى السماء؟ كيف تحيا هناك وكيف تسلك؟!

 

نعم، إن كانت الروح مرتبطة بالجسد كل الارتباط،
وكل متعتها في شهواته. فعندما تفارق الجسد، كيف تحصل على متعتها بعيداً عنه إلى
يوم القيامة؟ وماذا يكون عملها؟ إنه سؤال يحتاج إلى جواب..! والجواب الذي أعرفه،
هو أنه يجب أن نتدرب ونحن هنا على متعة الروح. أى متعتها وهى قائمة بذاتها، وليس
من خلال الجسد..

 

ومتعة الروح تجدها بلا شك في الروحيات في الله،
في التأمل في الإلهيات، في الغذاء الروحى كما قال الكتاب “اعملوا لا للطعام
البائد، بل للطعام الباقى للحياة الأبدية” (يو 6: 27). هل فكرتم يا أخوتى في
طعام الروح وكيف يكون ومما يتكون؟

 

على قدر محبة الروح لله هنا، تكون متعته به في
السماء.

 

ففى السماء لا يكون الجميع في درجة واحدة، ولا
على مستوى واحد في المتعة الروحية. بل كما يقول الكتاب “لأن نجماً يفوق نجماً
في المجد” (1 كو 15: 41). كل سكان السماء يتمتعون بالنعيم الأبدى. ولكن كل
واحد منهم تكون له درجته الخاصة. مثل قوارير مختلفة الأحجام، وكلها ممتلئة لا تشعر
واحدة منها بنقص. ولكن الكمية التي في واحدة، غير التي في الأخرى. في هذه أكثر من
تلك بكثير. ولكن الكل ممتلئ.

 

يذكرنى هذا برسالة أرسلها أحدهم برسالة أحدهم
إلى شيخ روحانى يستأذنه فيها بلقاء قبل تدركه الوفاة، إذ كان ذلك الشيخ كهلاً وفى
أيامه الأخيرة. فقال له رسالته “هنا يا أبى يمكننى أن أراك، قبل أن تغادر
عالمنا، وتكون في درجة عالية في السماء ليس بإمكانى الإقتراب منها”.

 

19- التعرف على القديسين والملائكة في السماء

ومع ذلك فإحدى المتع في السماء أن نتعرف على
القديسين هناك. ولكن هل سنتعرف فقط على أشخاصهم، أم على أعمالهم أيضاً؟

 

هل سنتعرف على كل ما عملوه من خير في الخفاء
زاهدين في مديح الناس؟ وهل سنتعرف على ما كان لهم من تأملات ومن أفكار روحية؟ وهل
سنتعرف على كل الأنبياء والرسل بكل تفاصيل سير حياتهم التي لم يذكر التاريخ عنها
شيئاً. وكذلك ما في السماء من الشهداء والرعاة وأبطال التاريخ والنساك والعباد وكل
الذين عاشوا حياة مثالية من كل الشعوب..

 

لا شك أن معرفة كل هؤلاء متعة روحية في حد ذاتها،
تضاف إليها متعة التعرف على الملائكة بكل درجاتهم.

 

ولكن كيف سنتعرف على الملائكة وطبيعتنا غير
طبيعتهم؟

 

إنهم جميعاً أرواح قدسية (مز 104: 4) ونحن لا
نراهم بحواسنا الجسدية. فكيف سنراهم إذن في الأبدية؟ هل ستقترب طبيعتنا من طبيعتهم،
ونكون كملائكة الله في السماء، (مت 22: 30) نعم، هذا سيحدث لنا جميعاً حينما تتجلى
طبيعتنا البشرية في السماء. وتكون لنا أجساد روحانية، أسمى من المستوى المادى الذي
نعيشه الآن.. أجساد تليق بالسماء وسموها وقدسيتها
..

 

20- نوال إكليل البر في السماء

فى السماء، سوف يمنح لنا الله أكليل البر، الذي
وعدنا الكتاب به (2 تى 4: 6 – 8).

نكلل بالبر حينما ينزع الله من قلوبنا ومن
أفكارنا ومن ذاكرتنا كل ما يتعلق بالخطيئة وشهواتها. مجرد معرفتها تزول من أذهاننا
انثى وكذلك كل ذكرياتها واخبارها. ولا يبقى في ذاكرتنا سوى البر فقط.

 

ولسنا نعود فقط إلى بساطة وبراءة الإنسان الأول،
بل إلى ما هو أسمى من ذلك بكثير.

 

حقاً كان أبونا آدم وحواء حينما خلقهما الله في
حالة بر عجيبة، في بساطة وبراءة، وكانا عريانين ولا يخجلان (تك 2: 25)، إذ لم يكن
في ذهنهما أية معرفة عن الخطية ولا الشهوة.. ولكنهم مع ذلك كله كانت لهما حرية
إرادة يمكن بها أن يسقطا، وقد كان..

 

ولكن أكليل البر في السماء سيشمل الإرادة كما
يشمل المعرفة.

فلا يصبح بإمكاننا أن نخطئ فيما بعد. بل نكون
كالملائكة الذين تكللوا قبلنا بالبر، وما عاد ممكناً أن يخطئوا. فالخطية لا تناسب
السماء مطلقاً والحياة فيها.. ما أجمل هذا وما أروعه، أن تنتهى الخطية إلى الأبد.
ليس فقط ينتهى ارتكابها، بل تنتهى معرفتها أيضاً..

هذه هي الحياة في السماء. وأود أن أقدم لكم
تدريباً روحياً:

 

21- ليكن لنا فكراً سماوياً خالصاً

فلنتدرب أن تكون لنا أفكار سماوية خالصة، ولو يوماً
واحداً.

بحيث أن كل فكر أرضى أو مادى يزحف إلى أذهاننا،
نطرحه جانباً، ونتخلص منه. ونحيا خلال هذا اليوم مفكرين في السماويات: في الله
وملائكته وفردوسه ووصاياه، وفى الحياة الأبدية..

 

حينئذ نعيش في هذا اليوم وكأننا في السماء، على
الرغم من أننا على الأرض تكون السماء بمعناها الروحى قد هبطت إلينا..

 

ما دمنا لسنا الآن في وقت الذهاب إلى السماء،
فعلى الأقل ليتنا نرسل إليها أفكارنا وتأملاتنا.. ولو بعض أفكارنا، ولو إلى يوم..

 

22- كَنْز كنوز في السماء

تدريب آخر: هو أن نكنز لنا كنوزاً فى السماء.

كما قال السيد المسيح له المجد “لا تكنزوا
لكم كنوزاً على الأرض، بل أكنزوا لكم كنوزاً في السماء” (مت 6: 19، 20)..
عالمين أن كل شئ مادى نقدمه، سيتحول إلى شئ روحى في السماء. وسيعوضنا الله عن
الفانيات بالباقيات، وعن الأرضيات بالسماويات..

فما الذي أرسلناه إلى السماء، لكى يسبقنا إلى
هناك؟.. ما هو رصيد كل منا في حساب السماء؟

 

23- وجود الله عز وجل في السماء

فوق كل كما قلناه، وأعلى وأسمى من كل ما قلناه،
هناك الله في السماء.

الله –تبارك أسمه– الذي سنعود إليه بعد غربة
طويلة على الأرض. كيف سنلقاه وبأى وجه؟ وهل اعددنا قلوبنا لهذا اللقاء؟ وإن كنا قد
أخطأنا، فهل اصطلحنا مع الله؟

وكيف ستكون علاقتنا به في الأبدية؟ هل سننسى كل
شئ ونذكره؟ أترى سيكون الله هو متعتنا الوحيدة في السماء؟ وكيف سنعرفه؟ وكيف سيكشف
لنا عن ذاته ما تحتمل طبيعتنا البشرية أن تعرفه؟

 

هنا ويصمت قلمى، لأن الموضوع أكبر من اللغة ومن
الألفاظ، وأقوى من العقل ومن الفكر.

أترك هذا الذي لا أعرف، وأتكلم أخيراً عما أعرف.

فأرجو لكم جميعاً حياة سعيدة وموفقة، وليحفظ
الله كل الشعوب التي خلقها، والتى يرعاها بعنايته وكل عام وجميعكم بخير.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى