علم الاخرويات

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل الثالث

11- لماذا يهتم الله بالأجساد ويمنحها القيامة
من الموت؟

أهنئكم يا أخوتى الأحباء بعيد القيامة المجيد،
راجياً لكم فيه ولبلادنا العزيزة كل خير وبركة.

وفى مناسبة عيد القيامة، نود أن يكون لنا تأمل
روحى في القيامة، حتى نستشف ما تحوى من معان عميقة..

 

 المعروف
أن القيامة هي قيامة الجسد، لأن الروح عنصر حى لا يموت. فلماذا اهتم الخالق العظيم
بقيامة الأجساد، على الرغم من صعوبة عملية قيامة الأجساد؟

 

هذه الأجساد التي ماتت وتحللت وامتصت الأرض
كثيراً من عناصرها، وأكل الدود ما أكله منها، وتحول الباقى إلى تراب، حسب قول الرب
لأبينا آدم بعد أن أخطأ “لأنك تراب وإلى التراب تعود” (تك 3: 19). وكما
قيل في سفر الجامعة عن الموت “يرجع التراب إلى الأرض كما كان. وترجع الروح
إلى الله الذي أعطاها” (جا 12: 7). والأصعب من هذا أن بعض الأجساد قد حرقت،
والبعض أفترسته حيوانات، والبعض دخل في تركيبات أخرى معتدة.

 

إذن معجزة إعادة الأجساد إلى وضعها الأول هي
معجزة خارقة للطبيعة ليس من السهل فهمها يضاف إليها مناداة الأرواح من مستقرها،
لتتعرف على أجسادها وتتحد بها، فتعود إليها الحياة
..

 

 فقيام
الله -جل إسمه– بهذه المعجزة الجبارة التي تشمل ملايين الملايين من الأجساد من
أيام أبينا آدم حتى يوم القيامة.. لابد وراء هدف إلهى في الإهتمام بهذه الأجساد،
ليكون لها وجود واستمرارية في العالم الآخر..

 

فهل تستحق الأجساد من الله كل هذا الاهتمام؟
ولماذا؟

أما كان ممكناً أن تبقى الأرواح وحدها في العالم
الآخر، بينما تترك الأجساد للفناء؟‍! وتكون السماء للأرواح فقط ملائكة وبشراً! ولا
داعى لتلك المعجزة الصعبة في أقامة الأجساد!!

 

ولكن الروح وحدها لا تكون إنساناً. فالإنسان
مركب من روح وجسد. ولابد أن يقوم كله، ويقف أمام الديان العادل لينال حسابه وجزاءه
حسبما فعل وهو في الجسد خيراً كان أم شراً” (2كو 5: 10)

 

12- اهتمام الله بالجسد البشري

أحب أن أقول أولاً إن الله قد اهتم بالجسد
البشرى منذ بدء خلقه للإنسان:

وذلك بما وضعه في هذا الجسد من آلات دقيقة عجيبة.

مهما أوتى عقل الإنسان من ذكاء، لا يستطيع أن
يأتى بواحدة من هذه الأجهزة البشرية.

 

مثال ذلك ما وضعه الله في اللسان من النطق (إن
خدش هذا اللسان وأصابته لعثمة أو عجز في النطق، لا تستطيع كل مهارات البشر أن
ترجعه إلى وضعه السليم.. ونقول نفس الوضع عن جهاز السمع. إن فقدت الأذن البشرية
قدرتها، وأصيب الإنسان بالصمم، هل يمكن لكل التكنولوجيا الحديثة أن تعيد إليه
سمعه؟! كلا بلا شك (إن جهاز السمع معجزة إلهية)..

 

وكذلك ما وضعه الله في المخ من مراكز للحركة
وللبصر والنطق أيضاً مع مراكز التفكير..

 

المخ هو هذه الآلة الدقيقة العجيبة التي إن
توقفت، توقفت حياة الجسد كله. والتى إن أختل أحد مراكزها، صار الإنسان عاجزاً
تماماً من جهة عمل هذا المركز. إن أختل مركز الحركة مثلاً، أصيب الإنسان بالشلل،
وهكذا مع باقى مراكز المخ.

 

وما نقوله عن المخ، نقوله عن الأعصاب، وما وضعه
الله فيها من الإحساس. فإن تلفت الأعصاب تماماً، لا توجد قوة بشرية تعيدها إلى
حالتها الأولى..

 

وبالمثل ما وضعه الله في كل آلة من آلات جسدنا
الدقيقة العجيبة، ومن الوظائف المتنافسة.. التي إن أختل بعضها، يكون من الصعب جداً
أن يرجع إلى وضعه الأول، أو إلى دقة حالته الأولى.

 

نضيف إلى كل هذا اهتمام الله بالجسد في القيامة.

حينما يلبس هذا المائت عدم موت، (1 كو 15: 53،
54). وحينما يتحول الجسد الترابى – في القيامة – إلى الجسد سماوى، وإلى جسد روحانى
(1كو 15: 49، 44).

 

13- لماذا يُقام الجسد؟

ثم لماذا أيضاً يقام الجسد، على الرغم من كل من
يقال ضده؟!

 ما أكثر
الخطايا التي تنسب إلى الجسد، وما أكثر الفضائل التي تنسب إلى الروح. حتى أنه
كثيراً ما يوصف الشرير بأنه إنسان جسدانى، ويصف البار بأنه إنسان روحانى..! فلماذا
يقام الجسد إذن؟!

 

ومع أننا لا ننكر أن الجسد طبيعته مادية، والروح
طبيعتها روحية. ومع ذلك فغالبية الأخطاء يشترك فيها الجسد والروح معاً. وأيضاً قد
تكون بعض الأخطاء من خطايا الروح وحدها كالكبرياء مثلاً أو الحسد. وإن كان الجسد
قد يعبر أحياناً عن إحدى هاتين الخطيتين وأمثالهما بطريقته الخاصة.

 

على أننا لا نستطيع أن نقول إن الجسد شر في ذاته.

لأنه لو كان كذلك ما خلقه الله.. فالله لا يمكن
أن يخلق شراً. كما أنه مر وقت على البشرية – قبل الخطيئة – كان الجسد والروح
كلاهما بارين. ولو كان الجسد خطيئة في ذاته، ما كنا نكرم رفات القديسين وعظامهم
ونتبارك بها. أيضاً لو كان الجسد شراً في ذاته، ما كان يقيمه الله.. إنما الجسد
بطبيعته قابل للميل إلى الخير والشر، حسبما توجهه إرادة الإنسان. وكذلك الروح..

 

” الجسد يمكنه أن يعمل الخير. ولذلك قال
الكتاب “مجدوا الله في أجسادكم وفى أرواحكم التي هي لله” (1 كو 6: 20).

 

إذن يمكن أن نمجد الله بأجسادنا.

مثال ذلك الجسد العابد، الذي يركع أمام الله،
ويسجد، ويرفع يديه إلى فوق بالصلاة ويقرع صدره ندماً على خطاياه. الجسد الذي يضبط
نفسه بالصوم. والذى يستخدم لسانه في التسبيح والترتيل والصلاة، وفى تلاوة كلام
الله وإنشاده.. كما يستخدم لسانه في الوعظ والتعليم والنصح والكلمة الطيبة.. وهو
الذي يبذل ذاته من أجل وطنه، وهو الذي يمد يده ليعطى للفقير وللمسكين.

 

فلماذا ننظر إليه في إقلال لشأنه؟! أليست أصابع
الفنان هي التي تتحرك على آلة موسيقية، فتتحرك معها القلوب، ويمكنها أن تحركها نحو
الخير. أليست أصابع الفنان تتحرك بالرسم أو النحت أو التصوير، فتقدم فناً – إن
أرادت – تحرك به القلوب نحو الخير.

 

الجسد إذن ليس شراً في ذاته، إنما يمكن أن يعمل
في مجالات الخير أو الشر، والروح كذلك تعمل في كليهما. ويشتركان معاً.

 

إن بعض الذين ينكرون القيامة، يبدون في أسلوبهم
احتقار الجسد.

على اعتبار أن الجسد هو من المادة، بينما الروح
لها جوهر يسمو بما لا يقاس عن طبيعة الجسد. ولكننا نقول إنه على الرغم من أن
الإنسان من طبيعتين أحداهما روحية والأخرى مادية، وإلا أنهما اتحدا في طبيعة واحدة
هي الطبيعة البشرية.

 

والجسد على الرغم من أنه من المادة، إلا أنه
يستطيع أن يسلك بطريقة روحانية، إذا اشترك مع الروح في العمل الروحى.

 

ومثل الجسد العابد، الجسد الحر غير المستعبد
لعادة.

لا تستعبده عادة رديئة، كالتدخين، أو السكر،
وإدمان الخمر أو إدمان المخدرات، وغير خاضع لأية عادة شهوانية، لا شهوة الزنا أو
البطنة.. إنما هو جسد منضبط.

 

مثل هذا الجسد، هو جسد طاهر.

لا يسمح لنفسه أن يقع في دنس أو نجاسة، ولا أن
يوقع غيره في خطيئة ما. لا يسعى إلى الخطيئة. وإن طرقت بابه، لا يقبلها. كما فعل
يوسف الصديق الذي رفض الدنس حينما سعى ذلك إليه. وقال “كيف أفعل هذا الشر
العظيم، وأخطئ إلى الله؟!” (تك 39: 9).

 

وهكذا يكون الجسد الطاهر محتشماً أيضاً.

ومن الأجساد الخيرة، الجسد الذي يتعب لأجل عمل
الخير..

سواء في رفع مستواه الإنسانى، كما يقول الشاعر:

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجساد

 

ومن هذا النوع أيضاً: الجسد الذي لا يتكاسل ولا
يهمل في أداء، أو في القيام بمسئولية تعهد إليه، أو يتطوع من ذاتها لإدائها. والذى
يسرع لإنقاذ غيره بكل همة. ويكون موضع ثقة في كل ما يقوم به من عمل. إنه جسد خير.

 

إنه جسد خدوم، يبذل ذاته وراحته لكى يريح غيره.

 

نوع آخر من الأجساد الخيرة، الجسد الذي يقبل
تحمل الآلام.

 

مثل ذلك الشهداء الذين يضحون بأجسادهم، أو
يفقدون بعض أعضائهم من أجل وطنهم أو دينهم، أو من أجل إنقاذ الآخرين كعمال المطافئ
مثلاً، أو منقذى الغرقى، أو المتبرعين بدمائهم أو بأعضائهم لأجل حياة غيرهم.. كلها
أجساد تعمل في مجال الخير لنفع الغير بأسلوب من التضحية أو الفداء.

 

نوع آخر من الأجساد الفاضلة: الجسد الوديع
المتواضع.

 

الذى لا يتعالى على غيره، ولا يمشى في الأرض
مرحاً، ولا يجلس في كبرياء، ولا يسعى إلى الرفاهية والمتعة على حساب غيره، ولا
يتهافت على المتكآت الأولى، ولا يزاحم الناس في طريق الحياة. بل يقدم غيره على
نفسه إيثاراً وحباً وتواضعاً
..

وبالإضافة إلى كل هذا نقول إن الجسد هو المعبر
العملى عن مقاصد الروح.

 

إن كانت الروح هي السلطة التشريعية في حياة
الإنسان، يكون الجسد هو السلطة التنفيذية، والضمير هو السلطة القضائية.

 

الجسد هو الكيان المرئى للإنسان، وهو العنصر
العامل.

 

الروح العاقل تفكر، ولكن الذي ينفذ هو الجسد.
ولولا الجسد، لكان عمل الروح هو مجرد وضع نظرى لا يزيد عنه شيئاً.

 

كل العنصر العملى واقع على الجسد.

 

قد يضع الفكر خططاً لمخترعات أو تصميمات لها.
ولكن الجسد هو الذي يحولها إلى واقع عملى. والأمور النظرية التي تشاءها الروح،
الجسد هو الذي يجعل لها وجود عملى.

 

الروح والعقل يقدمان مفهوماً للخير. والجسد هو
الذي يعمل الخير. هو شريك للروح يعملان معاً: الروح للتخطيط، والجسد للتنفيذ.

 

الجسد هو الذي يعمر الأرض، لولاه ما عمرت.

الفكر وحده لا يقوم بتعمير، بدون جهاز تنفيذى.

 

 الروح
قد يكون لها بعض الأمانى والأحلام. ولكن الذي يحققها لها هو الجسد. وإلا بقيت في
حدود الرغبات وليس غير..

الجسد أيضاً هو سبب التكاثر في الكون.

الروح وحدها ليست مصدراً للتكاثر.

إذن لولا الجسد ما عمرت الأرض، سواء من جهة
العمارة أو الصناعة أو الزراعة وما إلى ذلك. ولولاه ما عمرت أيضاً بالبشر..

 

إننا لا نستطيع أن نفصل الجسد عن الروح في كل
تلك الأمور والأعمال. والله لا يفصلهما أيضاً في الأبدية.

 

فى العالم الآخر يعود الإتحاد بين الجسد والروح.
فلولا هذا الاتحاد لا يكون الإنسان إنساناً. طبيعته خلقها الله هكذا..

 

ولولا فنى الجسد ولم يقم، فأى فرق إذن بينه وبين
جسد الحيوان؟! بينما جسد الإنسان هو أكثر الأجساد سمواً في تركيبه، وهو أيضاً أجمل
الأجسام وأكثرها قدرة، وله طاقات متعددة.

 

الجسد هو الوعاء الذي يحوى الروح.

وكثيراً ما يكون الجسد مطيعاً للروح منقاداً لها،
شريكا ً لها في الخير، غير مقاوم لها.. متسامياً فوق مستوى المادة في نسكياته
وزهده.

 

بل إن الروح تزداد درجة، حينما تسلك سلوكاً
روحياً سامياً على الرغم من اتحادها بمادة الجسد. فتنتصر على هذا العائق المادة،
وتجعل الجسد المادى يسلك معها سلوكاً روحياً. فيتقدس باشتراكه معها في محبة الله،
وفى محبة الناس، وفى عمل الخير..

 

بالقيامة يلتقى هذا الصديقان – الروح والجسد –
اللذان عاشا في عشرة عجيبة طوال العمر الأرضى ليكملا عشرتهما معاً في العالم الآخر،
مشتركين في دينونة واحدة.

 

وفى القيامة سيتحول هذا الجسد المادى إلى جسد
روحى (1 كو 15) ويتجلى في طبيعته، ويسلك كما يليق بسكان السماء.

 

مبارك هو الرب الحكيم في خلقه للإنسان، العادل
في معاملته له جسداً وروحاً، الذي يستخدم الكل للخير.

 

أعود فأكرر تلك الآية الجميلة “مجدوا الله
في أجسادكم وفى أرواحكم التي هي لله” (1 كو 6: 19).. نعم لقد خلق الله الجسد
لكى يكون له: ينفذ مشيئته على الأرض، ويقوم لينال مكأفأته في السماء.

 

وانتهز فرصة هذا العيد، لأطلب أن يعيده الله
علينا كل عام بالخير والبركة، وأن يقدسنا الله جسداً وروحا، وأن يجعل السلام يسود
منطقة الشرق الأوسط، هذه التي شهدت أول قيامة ممجدة.. نطلب من الله القادر على كل
شئ، أن يعيد إليها الهدوء والسلام وكل عام وجميعكم بخير.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى