علم الاخرويات

الله والشر والمصير



الله والشر والمصير

الله
والشر والمصير

كوستي
بندلي

الفهرس

مقدمة

مقالات ذات صلة

1. طبيعة الشر

2. الأرواح الشريرة

3. تحديدها وأنواعها

4. مفهوم ” الخطيئة الجدّية”

5. الخطيئة والتوبة والاعتراف

6. موقف الله من الخطيئة

 جزء1

 جزء2

7-A. الدينونة والمصير:

 جزء1

 جزء2

 جزء3

 

مقدمة

دافعنا
للكتابة:

هذا
الكتاب مكوّن من مجموعة من مقالات كُتبت بين حزيران 1982 وكانون الأول 1991، وقد
استعيدت هنا وبُوّبت وأُدخل عليها بعض الإضافة والتعديل، وكانت تقوم على أسئلة
يطرحها الشباب حول كل ما يتصل بالإيمان الأرثوذوكسى، وعلاقته بفكرهم وحياتهم، ثم
يشاركون فى الإجابة عنها تحت إشراف محاضر (وقد كنت واحدًا من هؤلاء المحاضرين) كان
ينسق مداخلاتهم ويختتمها بعض يلقيه حول السؤال المطروح.

 

هذا
وإذا تمعنّا فى الأسئلة التى انطلقت منها مواضيع الكتاب، لفتت نظرنا صورة عن الله
تُستشف من خلاله، وهى صورة إله جبار منتقم ” يُنزل غضبه على الإنسان”
و” يقتل فى سبيل التأديب” و” يرسل إلى جهنم” ويضحى بابنه
الوحيد لارضاء عدالته المهانة، وأخيرًا ” يفنى البشرية” فى اليوم الأخير.

 

ذلك
التصوّر عن الله استمده الشباب من محيطهم العائلى والاجتماعى وتشربوه عبر التربية
التى تلقوها (وهى تربية قمعية عادة، تستند لتبرير نهجها إلى هذا التصور وتغذيه
وتخلده بآن).

 

لكن
الشباب لم يرتاحوا إلى هذه الصورة، رغم تليقهم إياه، لا لأنها صدمت حسّهم الإنسانى
وحسب، بل لأنهم اكتشفوا – كما تعبر بعض أسئلتهم – تناقضًا صارخًا بينها وبين
الصورة التى وصلتهم عن الله من احتكاكهم بالإنجيل وتأثرهم بمناخه عبر انتمائهم إلى
حركة الشبيبة الأرثوذكسية، فأثار هذا التناقض مشكلة لديهم ودفعهم إلى السعى
لاستجلاء الحقيقة رفعًا لكا غموض.

 

هذا
ما قادنا إلى التركيز، فى هذا الكتاب، على التعرض لصورة شائعة بين الناس، تشوّه
وجه الله تشويهًا فادحًا. إنها صورة إله تُنسب إليه الشرور الطبيعية كالأمراض
والمصائب والكوارث، سواء أتمّت هذه النسبة بصورة فظّة كما فى التعبير الشعبى الذى
يتردد على الألسنة بشكل تمنِّ: ” الله لا يضرك” (مما يفترض أن الله كائن
يُخشى ضرره وأذاه)، وبالصيغة الملطفة التى يستخدمها المتنورون وهى أن الله ”
يسمح” بهذه الشرور، وكأنه يتنصل منها ويغض النظر عنها بآن (وكأن هؤلاء، كما
أشار أحد اللاهوتيين، يجعلون من موقف الله موقفًا شبيهًا بموقف بيلاطس البنطىّ
عندما ” غسل يديه” متنصلاً من موت يسوع المسيح)، هذا بالنسبة للشر
الطبيعى.

 

هل
الله إرهابى:

أما
الشر الخلقى، أى الخطيئة، فموقف الله منه، على حدّ الرأى الشائع الذى نحن بصدده،
أشبه ما يكون بموقف أحدنا إذا ما لحقته إهانة، فهو متربص لمرتكبى الخطيئة ويصبّ
عليهم جام غضبه وينزل بهم أشد الويلات، ويميتهم ” تأديبًا”، وإذا ما
أصروا على عصيانه ” يرسلهم” بعد موتهم إلى جهنم ويعذبهم بالنار بلا رحمة
إلى الأبد.

 

هذا
الإله ” الإرهابى”، الذى هو على صورة قسوة قلب الإنسان (الناتجة عن ضعفه
وعجزه وفنائيته)، بدل أن يكون نقيض الشر، إنما هو كليًا من جهته، فهو الذى يرسل
الشر الطبيعى ويتغاضى عنه، وهو الذى يعاقب على الشر الخلقى بشر أعظم، باسم عدالة
هى أشبه ما تكون بالانتقام. وبالتالى، فى هذا المنظور، يكون الشر هو المنتصر
الأكبر، ويكون للموت الكلمة الأخيرة فى الوجود.

 

الله
محبة:

إلا
أن هذا ” الإله” إنما هو على نقيض الإله الذى انكشف لنا فى تعليم يسوع
وسيرته، والذى ” لا نعرف آخر سواه”، لأن كل تصور لله ما عداه مشوب
بالأهواء والهوامات البشرية. وقد عرفنا بيسوع المسيح أن:

 

[
اللهَ مَحَبَّة ] و[ وَمَادَامَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هَذِهِ الْمَحَبَّةَ
اَلْعَظِيمَةَ، أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، فَعَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضاً أَنْ نُحِبَّ
بَعْضُنَا بَعْضاً ][ 1يوحنا 4: 8، 11 ].

وأن
المحبة اسمه الفريد وصفته المميزة. من هنا أن هذا الإله لا يرسل الشرور الطبيعية
.

بل
لا يجوز أن يقال أنه ” يسمح بها”، ما يسمح به بالحقيقة هو أن توجد
الخليقة فعلاً لا شكل، أى أن لا تكون مجرد ظل له، مما يفترض أن يمدّها بالوجود
(وإلا لما كانت) وأن ينسحب منها بآن (وإلا لما كانت متمايزة عنه، أى لما كانت
فعلاً).

 

هذا
ناتج عن كون الله محبة وعن كون الخلق هو فعل محبة، ومن شأن المحبة أن تقيم المحبوب
بإزائها وأن ترفض تذويبه فيها وإلغاء فرادته. لكن ارتضاء الله بأن توجد المخلوقات،
يعنى السماح لها بأن توجد بما لديها من خصوصية، أى بما تتسم به من محدودية ناتجة
عن طبيعتها كمخاوقات صادرة من العدم وبالتالى بعيدة عن كمال الوجود.

 

وبعبارة
أخرى السماح بأن تكون الكائنات الطبيعية ناقصة وبأن تكون العاقلة معرضة إلى جنوح
حريته، هكذا فإن الله، إذ ارتضى الخليقة، قيد قدرته الإلهية، إذ قبل أن تجد هذه
القدرة لها حدودًا ترسمها محدودية المخلوقات، وهذا ليس تعبيرًا عن ضعف فى الله،
كما قد نتصوره، بل عن هذه القدرة المذهلة لديه أن يعلو فوق اقتداره بدل أن يكون
أسير هذا الاقتدار. سر الشرّ (بوجهيه الطبيعى والخلقى)، هذا السرّ الذى لا يمكن
لأحد أن يدّعى جلاءه بالكلية إنما جلّ همنا هنا أن نتصدى للتعابير المشوهة عنه،
هذا السرّ إنما هو كامن فى ذلك الاحترام، المحيّر لمداركن، الذى يبديه الله لواقع
مخلوقاته المحدود، وفى إحجامه عن أن يغتصبها اغتصابًا.

 

ولكن
الله، لكونه الخير المطلق والمحبة المطلقة، لا يمكنه أن يكون حياديًا حيال الشر
الناتج عن محدودية مخلوقاته، كما توحى العبارة القائلة بأنه ” يسمح”
بهذا الشرّ
.

 

كل،
فالشر نقيض الله ولا يمكن أن يقف منه الله موقف الحياد، إنه طعنة له فى الصميم
.

 

والله
يعانى من هذه الطعنة (وإن كانت كيفية هذه المعاناة تفوق مداركنا وتتجاوز تصوراتنا)
كما انكشف لنا فى صليب يسوع المسيح
.

 

إن
ارتضاء الله بأن توجد الخليقة فعلاً لم يكن إذًا قبولاً بحد قدرته الإلهية وحسب،
بل كان أيضًا دخولاً بمعاناة هى بمثابة صليب الجلجلة سوى أبلغ ترجمة له فى التاريخ
البشرى
.

 

قصة
الخليقة:

من
هذه الزاوية، ومنها فقط، يمكن أن نفهم مأساة الشرّ الخلقى، أى الخطيئة، على
حقيقتها. فقصة الخطيئة ليست قصة عصيان وعقاب، إنها قصة حب مرفوض يعذّب المحبوب
والمحبّ معًا. فالموت، بمعناه لا البيولوجى بل الكيانىّ، ليس قصاصًا ينزله الله
بالإنسان، بل نتيجة محتومة لاغتراب الإنسان، بالانغلاق والرفض، عمّن هو ينبوع
حياته، وضياعه، من جراء ذلك، فى صحراء العزلة والعقم والجفاف والعطش
.

الله،
بهذا المعنى، لا يحكم على الإنسان ولا يدينه، إنما الإنسان يحكم على نفسه بالجدب
والتلاشى
.

 

وما
أبدية جهنم إلا ترجمة لهذه القدرة الرهيبة التى خُوّل الإنسان إياه، بأن يقول، إذا
شاء (ولكن هل يشاء؟)، ” لا” لله إلى الأبد، تلك القدرة التى هى الوجه
الآخر، المظلم، لقدرته على أن يستجيب بحرية لنداء الحب الذى يخاطب به الله قلبه،
فيسعد بلقائه إلى الأبد
.

 

فلا
بدّ للحرية المخلوقة من أن يكون لها هذان الوجهان، والله، إذ ارتضاه، دخل، بسابق
علمه المطلق، فى التعرض لرفض المحبوب له، بما يعنيه هذا الرفض من شقاء، لا للإنسان
الرافض وحسب، بل لله أيضًا الذى، بما أنه يحب الإنسان أكثر مما يحبّ الإنسان نفسه،
يشقى بالتالى لشقائه أكثر مما هو يشقى به
.

 

الله
معاديًا للشرّ:

لكن
الله ليس معاديًا للشر فحسب، إنه مقاوم له أيضً، هذا ما يشير إليه وجها السرّ
الفصحىّ: صليب وقيامة.

إن
احتجاب الله الظاهرى عن الخليقة (كى يدعها تكون، كى لا يذيبها ذاته) مقرون بحضور
خفىّ فى قلبه، حضور لولاه لما كانت أصلاً ولما استمرت فى الوجود
.

 

هذا
الحضور (هذه ” الطاقات الإلهية” المنبثّة فى الموجودات) يوجّه الخليقة
بخفر بدل أن يغتصبها اغتصابً، ويسمو بها تدريجيًا فوق نواقصها وحدودها
.

 

ولنا
فى الخط التصاعدى الذى سلكه تطور المادة والحياة فى الكون رغم عثراته، صورة عن هذا
التوجه الإلهى الخفى، الفاعل من خلال نواميس المادة
.

 

ولنا
فى المنجزات التى حققها تدريجيًا الرقىّ الإنسانى عبر آلاف من السنين، فى مجالات
تنظيم الطبيعة وتحسينها وتجميله، ومكافحة المرض والبؤس والظلم، وإحقاق القيم
الحضارية من معرفة وفن وعدل وأمن ورفاهية، صورة عن كيفية إكمال الله لعملية الخلق
من خلال الإنسان ” صورته”، على حد تعبير الكتاب المقدس، ”
وخليفته”، كما ورد فى القرآن
.

 

ولنا
فى خطّ الوحى، الذى تُوّج بيسوع المسيح وبالكنيسة التى هى امتداده فى التاريخ،
صورة عن تربية الله المتأنية، الصبورة، للإنسان، بغية مساعدته على التحرر من شروره
وعلى إحقاق إنسانيته وفق المثال الإلهى
.

 

ولم
يكن موت يسوع المسيح، فى هذا المنظار، وسيلة لإخماد الغضب الإلهى، بل كان تتويجًا
لنهج حياة كشفه الله لنا فى إنسانية يسوع المسيح، نهج محرّر من انحرافاتنا المميتة
وقادر، إذا ما تمثلناه، أن يعتقنا منها وأن يعيدنا إلى أصالتنا الإنسانية
.

 

هكذا
يعانى الله (على طريقته الإلهية التى تفوق إدراكنا) ما نعنيه من شرور، ويكافحها
معنا بآن. ولأنه يكافحه، فالكلمة الأخيرة لن تكون للشرّ بل له. لأنه وحده حقيقة
الوجود، ولأن الشر لا حقيقة كيانية له، بل هو مجرد تزييف للوجود، يحيا منه ويشوهه
بآن، كما تستمد الطفيليات حياتها من الكائنات الحية التى تعيش على استغلالها
وتدميرها. انتصار الله النهائى على الشر، الذى هو أيضًا انتصار الإنسان، هو ما سوف
يتجلى فى ” اليوم الأخير”، الذى به سيتوّج الله عملية تجديد الكون التى
بدأها منذ القديم والتى دُشِّن اكتمالها بقيامة المسيح، وللمؤمنين رجاء، عبّر عنه
أبرار كبار فى المسيحية والإسلام، بأن لا يبقى أحد خارج هذا التجديد، وبأن تعود كل
حرية منحرفة عن انحرافها وتقبل إلى الله فى مصالحة شاملة يكتمل بها فرح الله
بانتصار الحياة فى كل إنسان
.

 

هدف
الكتاب:

تلك
هى صورة الله التى حاولنا أن بيرزها من خلال صفحات هذا الكتاب. إنها تشكّل لحمته
وحصيلته، ونرجو أن تتوضح للقارئ كلما تقدم فى مطالعة هذا المؤلف الذى حاولنا قدر
الإمكان أن تأتى لغته خالية من التعقيد ومفهومة من إنسان اليوم. نأمل أن تكون هذه
الصورة الإنجيلية مبيدة لأوهام طالما تساورما وتشوه علاقتنا بالله وبالتالى
علاقتنا بالناس. نأمل أن تكون نورًا للقلوب والأذهان وسبيلاً إلى ألفة متزايدة مع
الإله الذى كشف لنا ذاته بيسوع المسيح، وحافزًا على مزيد من الثقة بأننا محبوبون
منه، وبأن حبه هذا أقوى من كل شر، وبأنه عربون لمصير نحظى به بما [ مَا لَمْ تَرَ
عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا
أَعَدَّهُ اَللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ ] [ 1كو 2: 9 ]. إذا قبلنا أن نندرج فى
تيار المحبة هذا ونقلنا لإخواتنا ما نتلقاه من حبّ.

المؤلف

طرابلس
– الميناء(لبنان) في 30/4/1993م

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى