دراسة في الذبائح

تابع دراسة في الذبائح والتقدمات في الكتاب المقدس – الوجه الثاني من أوجه الصليب: ذبيحة الخطية חַטָּאת وشروط تقديمها (13)

تابع / دراسة في الذبائح والتقدمات في الكتاب المقدس
الذبيحة טֶבַח – ط ب ح ؛ θυσίας σΦάζω
تابع / ثانياً : الخمسة أوجه من ذبيحة الصليب
[2] الوجه الثاني من أوجه الصليب
تابع / ذبيحة الخطية – άμαρτία – חַטָּאת
ثانياً : ذبيحة الخطية חַטָּאת وشروط تقديمها

 

المقصود بالطبع بذبيحة الخطية هي إعادة الصلة بالله بعد أن عُرضَّت للخطر بسبب الخطايا الغير المتعمدة [ إذا أخطأت نفس سهواً في شيء من جميع مناهي الرب ] (لاويين4: 2) أو بسبب حالة نجاسة [ ثم يعمل الكاهن ذبيحة الخطية ويُكفرّ عن المُتطهر من نجاسته ] (لاويين14: 19) …
عموماً أننا نجد أن بعد ما كلم الله موسى عن القرابين المقدمة وقود رائحة سرور للرب على مذبح المحرقة في خيمة الاجتماع [ ذبيحة المحرقة ] كلمه عن الذبائح التي يلزم تقديمها في حال الخطأ السهو، ولا تقل بالطبع هذه الذبائح في أهميتها عن الذبائح المقدمة كذبيحة محرقة رائحة سرور للرب، لأنها تُكمل الصورة التي تُشير إلى ذبيحة الصليب في جانب من أهم جوانبها وهو الفداء والكفَّارة والتكفير عن خطايا العالم كله. ونجد أن هناك أربعة تقسيمات كبرى بالنسبة لتقديم ذبيحة الخطية وهي :

(1) ذبيحة خطية الكاهن [لاويين 4: 3 – 12]؛ (2) الجمهور كله أو الشعب أو الجماعة كلها [لاويين 4: 13 – 21]؛ (3) الرئيس (رئيس الجماعة أو القائد) [لاويين 4: 22 – 26]؛ (4) الشخص العادي من الجماعة أو الشعب [لاويين 4: 27 – لاويين 5: 13 ؛ لاويين 4: 27 – 35 ؛ لاويين 5: 1 – 6 وهو يُقدم أحكاماً خاصة للخطايا المستترة، وفي لاويين 5: 7 – 13 يٌقدم امتيازاً خاصاً للفقراء]

تابع دراسة في الذبائح والتقدمات في الكتاب المقدس – الوجه الثاني من أوجه الصليب: ذبيحة الخطية חַטָּאת وشروط تقديمها (13)متى تُقدم ذبيحة الخطية [ لاويين 4؛ 5 ]

1 – إذا أخطأت نفس سهواً في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها و عملت واحدة منها (4: 2)
نجد أن أول شرط لتقديم الذبيحة هو إذا أخطأت نفس سهواً أو عن غير دراية من جميع مناهي الرب التي نهى عنها واكتشفت هذه الخطية عليها أن تقرب عنها ذبيحة الخطية، وكذلك أن سمع أحد حلفاناً ولم يُخبر به، أو إذا مس شيئاً نجساً من غير وعي، أو إذا حلف مفرطاً بشفتيه [ وإذا أخطا أحد وسمع صوت حلف وهو شاهد يبصر أو يعرف فأن لم يُخبر به حمل ذنبه (المقصود هنا في حالة الشهادة أمام القضاء). أو إذا مس أحد شيئاً نجساً، جثة وحش نجس أو جثة بهيمة نجسة أو جثة دبيب نجس وأُخفيَّ عنه (بدون وعي منه) فهو نجس ومذنب. أو إذا مس نجاسة إنسان من جميع نجاساته التي يتنجس بها وأُخفيَّ عنه ثم علم فهو مذنب. أو إذا حلف أحد مفرطاً بشفتيه للإساءة أو للإحسان من جميع ما يفترط به الإنسان في اليمين (أمام القضاء) وأُخفيَّ عنه ثم علم فهو مذنب في شيء من ذلك. فان كان يذنب في شيء من هذه يقر بما قد أخطأ به. ويأتي إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيته ] (5: 1 – 6)

2 – إن كان الكاهن الممسوح يخطئ لإثم الشعب (لعثرة الشعب – يتسبب في عثرة الشعب) يقرب عن خطيته التي أخطأ ثوراً ابن بقر صحيحا للرب ذبيحة خطية (4: 3)، أو [ إن سها كل جماعة إسرائيل وأُخفي أمر عن أعين المجمع وعملوا واحدة من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وأثموا. ثم عُرفت الخطية التي أخطأوا بها يقرب المجمع (الجمع) ثوراً ابن بقر ذبيحة خطية يأتون به إلى قدام خيمة الاجتماع. ويضع شيوخ الجماعة أيديهم على رأس الثور أمام الرب و يذبح الثور أمام الرب ] (4: 13 – 15)
ونرى هنا ضرورة تقديم ذبيحة خطية في حالة إذا أخطأ سهواً كاهن ممسوح، وتسبب خطؤه في عثرة الشعب، فعلى الكاهن الذي أخطأ أن يُقدم عن خطيئته ثوراً ابن بقر صحيحاً للرب ذبيحة خطية، وكذلك على الجمع أن يُقدم نفس ذات الذبيحة. أي أن خطيئة الكاهن الممسوح لخدمة الرب تُعادل الجماعة كلها، لأن المفروض على الكاهن أنه مُعلِّم الشريعة: [ لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة، ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود ] (مل2: 7)، [ فكل من أُعطيَّ كثيراً يُطلب منه كثيرٌ، ومَنْ يُودعونه كثيراً يُطالبونه بأكثر ] (لو12: 48)، لذلك فأن خطية الكاهن على مستوى خطير جداً أدت أن يقدم ذبيحة تُقدمها كل الجماعة عن أنفسها، وذلك ليظهر الطقس خطورة خطيئة الكاهن أمام الله لأنه بذلك يعثر الشعب ويسرب الاستهانة بقدوس إسرائيل لقلوب الشعب الذين سيستهينون بالخطية لأن رسول الرب الذي يعلمهم الشريعة لا يلتزم بها ويضلهم بأعماله عن الالتزام بمخافة الله والحياة بالتقوى، لذلك نفهم لماذا الله قال لموسى لن تدخل الأرض هو وهارون وقد قال لهما: [ لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل ] (تثنية 32: 51) …

3 – أما إذا أخطأ رئيس [ وعمل بسهو واحدة من جميع مناهي الرب إلهه التي لا ينبغي عملها وأَثِمَ، ثم أُعْلِمَ بخطيته التي أخطأ بها، يأتي بقربانه تيساً من المعز ذكراً صحيحاً ] (4: 23)
4 – أما إذا أخطأ واحدٌ من عامة الشعب، فأنه [ يأتي بقربانه عنزاً من الماعز ، أنثى صحيحة عن خطيته ] (4: 28)، [ وأن أتى بقربانه من الضأن ذبيحة خطية يأتي بها أنثى صحيحة ] (4: 32)

وهنا عموماً يُلاحظ أن نوع الذبيحة قد تغير من ثور بقر يقربه الكاهن الممسوح أو جماعة الشعب كله، إلى تيس ماعز بالنسبة للرئيس، أو إلى عنزة من الماعز أُنثى صحيحة بالنسبة للفرد الذي من عامة الشعب، إشارة إلى هبوط مستوى خطورة الخطية من حيث أثرها على الآخرين أو الجماعة ككل .
وكذلك جمع الشعب، إذا أخطأوا مجتمعين وأُخفيَّ عنهم (أي سهواً) فخطيئتهم تُقدَّر في خطورتها كخطيئة الكاهن الممسوح. أما خطيئة الرئيس فهي أقل من خطيئة الكاهن الممسوح، لأن هناك من هو مسئول عنه وهو الكاهن؛ ولكن خطيئته لها أثر مباشر على من يرأسهم من الشعب. لذلك فذبيحة الرئيس تيس من ذكر الماعز، أما ذبيحة الفرد الذي من عامة الشعب فأُنثى الماعز، لأن خطيئته محصورة في نفسه فقط .
أما إذا كان الشخص الذي من عامة الشعب أفقر من أن يُقدم من الماعز أو الضأن ذبيحة خطية، فكان يُمكنه أن يُقدم يمامتين أو فرخي حمام، أحدهما ذبيحة خطية والآخر محرقة [ أنظر لاويين 5: 7و 8 ؛ عدد 15: 27 ]، وأن لم تنل يده ذلك، فكان يُمكنه أن يُقدم عُشر الإيفة من دقيق قربان خطية، إلا أنه لا يضع عليه زيتاً ولا لُبان بخور، لأنه قربان خطية (لاويين 5: 11) ..

+++ مناسبات أُخرى لتقديم ذبيحة الخطية +++

(1) تكريس الكهنة وتكريس اللاويين: وقد جاء الحديث عن تكريس هارون وبنيه في (خروج29) وكانت تقدم الذبائح الخاصة بتكريسهم لمدة 7 أيام (خروج29: 10 – 27)، ولا يبرحون فيها باب خيمة الاجتماع (خروج29: 35 – 37 + لاويين8: 33 – 35)، وكان على موسى أن يُقدم فيها كل يوم التقدمات الآتية لتقديسهم: [ 1 – ثور واحد ابن بقر: ذبيحة خطية؛ 2 – كبش صحيح: ذبيحة محرقة؛ 3 – كبش آخر صحيح: ذبيحة ملء؛ 4 – خبز فطير؛ 5 – أقراص فطير ملتوتة بزيت؛ 6 – رقاق فطير مدهون بزيت ]، والخبز والأقراص والرقاق تُصنع كلها من دقيق حنطة نقي، وتوضع في سلة واحدة، وتُقدم جميعها مع كبش الملء، ويأكلها هارون وبنوه. ويتكرر ذلك سبعة أيام إذ تُمثل دورة كاملة من الزمن، وذلك إشارة إلى أن الكاهن المُكرس لخدمة الرب يلزم أن يكون مقدساً كل حياته. لأن إن كانت الوصية لكل الشعب: [ فتتقدسون وتكونون قديسين، لأني أنا قدوس ] (لاويين11: 44)، فكم بالحري للذين صاروا كهنة للرب إلههم. وفي (لاويين8: 14 – 36) يُعيد سرد وقائع هذا التكريس الذي صنعه موسى والذي يرمز إلى كهنوت المسيح وتقديمه ذاته ذبيحة عن خطايا الشعب. فقد قُدَّم عن هارون وبنيه ثورٌ ذبيحة خطية مع ذبائح المحرقة والسلامة (خروج29: 10- 14 و36 و37؛ لاويين18: 1و14 – 17). وموسى النبي هو الذي قام بتكريسهم. وفي اليوم الثامن بعد التكريس قدَّم هارون عن نفسه عجلاً ذبيحة خطية، وقدَّمت الجماعة عن نفسها تيساً ذبيحة خطية.

وهُنا نُلاحظ أن ذبيحة الجماعة كانت أقل في قيمتها من ذبيحة هارون وبنيه، وذلك لأن هارون وبنيه كانوا مختارين للكهنوت ومكرسين لخدمة الرب، فبسبب موقعهم من المسئولية أمام الله صاروا مُطالَبين بذبيحة خطية أكثر من الجماعة كلها. من أجل هذا كان رئيس الكهنة الذي له الحق وحده أن يدخل إلى الأقداس مرة واحدة في السنة للتكفير عن خطايا الشعب، كان يفعل ذلك [ ليس بلا دم يُقدمه عن نفسه وعن جهالات الشعب… ] (عبرانيين9: 7)
وكذلك عند تكريس اللاويين كان يُقدم ثور ذبيحة خطية (عدد8: 8و 12). فقد كانوا هم أيضاً مُخصصين لخدمة الرب، ومع ذلك فقد كانوا محتاجين بالأكثر للتكفير عن خطاياهم بسبب مسئوليتهم الأكبر.

(2) في المناسبات والأعياد:

(أ‌) في بداية الشهور القمرية: كان يُقدم في كل يوم تيساً واحداً ذبيحة خطية (عدد28: 15) مع المحرقة الدائمة.
(ب‌) في عيد الفطير: كان يُقدم في كل يوم من سبعة أيام العيد تيساً واحداً ذبيحة خطية مع ذبائح المحرقة وتقدمة الدقيق (عدد28: 22)
(ج) وفي يوم الباكورة الذي هو يوم الخمسين: كان يُقدم تيساً واحداً ذبيحة خطية مع ذبائح المحرقة وتقدمة الدقيق (عدد28: 30)
(د) وفي اليوم الأول من الشهر السابع، وفي العاشر والخامس عشر إلى الثاني والعشرين من نفس الشهر (الذي هو عيد المظال): كان يُقدم تيساً واحداً ذبيحة خطية مع باقي الذبائح (عدد29: 5و11و16و19و22و25و28و31و34و38)
(هـ) وفي يوم الكفارة: كان هارون يُقدم عن نفسه ثوراً ذبيحة خطية، ثم يُقدم عن الجماعة تيسين، ويعمل عليهما قُرعة، ويُقرب أحدهما ذبيحة خطية، أما الآخر فيُطلقه حياً إلى البرية (لاويين16: 1 – 34)، وسوف نشرح هذه الذبيحة الخاصة بيوم الكفارة فيما بعد بالتفصيل.

(3) ذبائح الخطية للتكفير:

(أ‌) بعد الولادة: كان يُقدم عن المرأة بعد كمال أيام تطهيرها فرخ حمامة أو يمامة ذبيحة خطية (لاويين12: 6 – 8)، ولزماً هنا أن نُعلق قليلاً بسبب اللبس الحادث ما بين مفهوم تقديم ذبيحة خطية بعد الولادة في العهد القديم وبين المفهوم الخاطئ اليوم بحشر مفهوم الطهارة والنجاسة في هذا الأمر الذي وضع إفرازات المرأة موضع تدنيس ونجاسة على غير المفهوم الأصيل الذي لتعليم الكتاب المقدس وشروحات آباء الكنيسة المعتبرين فيها أعمدة، وذلك بسبب الفكر المشوش عن الدنس والطاهر والنجس بسبب التأثر بخبرة حياة الخطية والمجتمع عموماً وعلى الأخص في الشرق، كما أيضاً يأتي بسبب عدم الإفراز والتمييز الروحي لما قصد به الله أن يُعلم شعبه حسب ما يستطيعوا ان يفهموه في هذه الأوقات كما سوف نرى، لذلك نرى القديس كيرلس الكبير عامود الدين في مستهل شرحه لسفر اللاويين يقول : [ بحق، أن كلمة الله لما جاء إلى العالم وظهر في الجسد، كان في هيئته الجسدية مرئياً من الجميع، بينما كان لاهوته غير مرئي إلا لتلاميذه الخصوصيين فحسب، هكذا الكلمة المكتوبة: فإن لها هيئة حرفية أو معنى ظاهرياً واضحاً للقارئ العادي، ومعنى باطنياً لا يُمكن تمييزه إلا روحياً ]

وتطبيقاً لهذا القانون الذي وضعه القديس كيرلس الكبير عامود الدين، فأن شرائع التطهير في العهد القديم هي في ظاهرها علامات خارجية للتطهير من نجاسات تتعلق بالجسد الطبيعي كإفرازات لكي لا تسبب مرض لأحد في ذلك الزمان، وعلى الأخص إذ كان المفهوم الطبي في العهد القديم مجهول كثيراً بالنسبة لشعب بدائي لا يعرف الحقائق الطبية وممكن ان يمرض بسبب جهله بهذه الحقائق ويهلك في البرية، بينما هي تحمل في نفس ذات الوقت – في أعماقها – مغزى التطهير الروحي من نجاسة النفس والروح التي أصابت الإنسان من جراء الخطية، والتي لا يُمكن التطهير منها إلا بدم المسيح وحده [ كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح ] (1بطرس1: 19) وليس بدم تيران وتيوس وعجول ولا بماء خارجي لغسل الجسد يتطهر الإنسان طهارة داخلية حقيقية لا يعوزها شيء آخر، وهذا ما وضحه القديس بولس الرسول في رسالته للعبرانيين قائلاً: [ لأنه أن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش (يقصد التطهير الطقسي) على المُنجَّسين ، يُقدس إلى طهارة الجسد (التطهير الخارجي فقط)، فكم بالحري (بالأولى) يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدَّم نفسه لله بلا عيب، يُطهر (يغسل) ضمائركم من أعمال ميتة (بلا فائدة وأعمال تخرج من أموات بالخطايا والذنوب) لتخدموا الله الحي ] (عبرانيين9: 13و 14)

ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [ هكذا يقول: إنه إذا كان دم ثيران يُمكن أن يُطهر الجسد، فكم بالأحرى دم المسيح القادر على أن يُطهر نجاسة النفس. ولكي لا تعتقد وأنت تسمع أن (دم تيوس وثيران) “يُقدس”، وأن هذا الدم هو شيء مهم، فإنه يُشير ويُظهر الفرق بين كل من التطهيرين، وكيف أن التطهير بدم المسيح هو اسمى وأعلى بكثير، بينما التطهير (بدم الحيوانات) هو محدود وبسيط. ويقول أن هذا الدم هو دم طبيعي جداً. بينما ذلك الدم كان لتيوس، لكن هذا الدم فهو دم المسيح، ولم يكتفي بالاسم فقط، بل يذكر طريقة التقدمة، لأنه يقول: “الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب”، أي أن الذبيح كان بلا عيب ونقياً من الخطايا. وعبارة “بروح أزلي” تُعلن أنه لم يُقدم (نفسه) بنار ولا بأشياء أُخرى. يقول: ” يُطهر ضمائركم من أعمال ميتة” وبالصواب قال: “من أعمال ميتة”، لأنه إن لمس أحد آنذاك ميتاً كان يتنجس، وهُنا لو حدث أن شخصاً مارس أعمال ميتة يتنجس ضميره. ثم يقول: “لتخدموا الله الحي”، هُنا يُظهر أن ذاك الذي يُمارس أعمالاً ميتة، لا يُمكنه أن يخدم الله الحي وبالصواب قال: ” الله (الحقيقي) الحي”، مُظهراً بهذا أن التقدمات التي تُقدم له ينبغي أن تكون هكذا (حية). وبناء على ذلك فكل ما هو لنا (في المسيح) هي أمور حية وحقيقية، أما تلك التي كانت لليهود هي أعمال ميتة وكاذبة، وهي بالحق هكذا.
إذاً لا يأتي أحد إلى هُنا (يتكلم عن الكنيسة) وهو يُمارس أعمالاً ميتة. لأنه إن كان ذاك الذي يلمس جسد ميت لا ينبغي له أن يدخل (إلى الأقداس)، فبالأكثر جداً لا ينبغي لذاك الذي يُمارس أعمالاً ميتة أن يدخل (إلى السماء)، لأنه نجس بشكل مُخيف. والأعمال الميتة هي تلك التي ليست فيها حياة، والتي تنبعث منها عفونة. أي أنه كما أن الجسد الميت لا يتأثر بأي مشاعر، بل ويُثير الحزن لمن يقترب منه، هكذا الخطية فهي تُصيب الفكر بشكل مباشر، ولا تتركه للهدوء، بل وتجعله يضطرب ويهتز. يُقال أن شدة الوباء تُحطم الجسد. هكذا الخطية، إنها لا تختلف قط عن الوباء، فهي تفسد الهواء أولاً ثم بعد ذلك الأجساد، ولكنها تتجه نحو النفس مباشرة ] (القديس يوحنا ذهبي الفم عن شرح رسالة العبرانيين العظة 15 ص235 – 236)

فبالنسبة لتطهير المرأة بعد الولادة لا داعي لأن نؤكد، أن التناسل والجنس والحَبَل والولادة ليست في حد ذاتها خطية ولا نتيجة سقوط، ولا تحمل في أصلها أي دنس ولا نجاسة؛ لأننا نعلم أن الله في خلقته للإنسان “ذكراً وأُنثى خلقهم، وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض واخضعوها…” (تك1: 27و 28)، ولا داعي لأن نؤكد فساد المفهوم الذي يقول لو مش كانوا سقطوا الله سيجعل الإنسان أن يتناسل بطريقة أُخرى غير طريقة التناسل المعروفة طبيعياً، مع أن هذا الفكر يأتي نتيجة خبرة الانحراف بالشهوة والخطية التي عملت في قلب الإنسان حتى أن دنس ما خلقه الله ولا يقبله طبيعياً من الله بل يقبله من الشيطان وهذا في منتهى الخطورة لأنه يجعل كل الآباء منجسين ودنسين بسبب الولادة، وان يجعل الله مسئولاً عن السقوط لأنه غرس في طبيعة الإنسان مه هو دنس حسب فكر الناس المتدني والتي زرع فيه الخطية من عدو كل خير ….

ويقول القديس أثناسيوس الكبير (الرسولي) في رسالته للقديس آمون: [ أن كنا نعتقد حسب الكتب أن الإنسان هو من عمل يدي الله، فكيف يخرج عمل دنس من قوة نقية؟ وأن كنا نحن ذُرية الله، حسب قول سفر أعمال الرسل (أعمال17: 28و 29)، فليس فينا شيء غير نقي. لأننا نُصبح نجسين فقط حينما نرتكب خطية. ولكن حين تحدث إفرازات جسدية – دون تدخل الإرادة – حينئذٍ علينا أن نحسبها مثل سائر الأشياء، ضرورات طبيعية ] (Migne XXVI,1169,1176)

عموماً لشرح المعنى ببساطة (مع أننا سبق وشرحناه هنا في دراستنا هذه) ولكن أعيده بتركيز وببساطة دون شرح آبائي طويل وأقول: أن من أحد نتائج تعدي آدم وحواء على وصية الله بأكلهما من الشجرة التي منعهم الله من الأكل منها كان هو صدور الحكم الإلهي على المرأة بالمعاناة والوجع في حبلها وولادتها للأطفال، حتى انها تحسب أن ساعتها قد جاءت وقاربت الموت (أنظر يوحنا16: 21). وهكذا صار المدخل إلى الحياة الأرضية بالولادة الجسدية بالشعور بالموت وانتهاء ساعة الإنسان وبداية المعاناة، وشعوره بالموت يسيطر على حياته ويجعله في الخوف لأنه يشعر طبيعياً بما هو مكتوب: [ وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة ] (عبرانيين)، فالمشكلة كلها الخوف من الدينونة لأن الإنسان بسبب السقوط أصبح تحت سلطان الموت ومن ثمَّ العبودية [ ويعتق (المسيح) اولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ] (عبرانيين2: 15)، وقد قال كاتب سفر الجامعة عن الموت بسبب معاناة الإنسان وشعوره الداخلي بالدينونة والتألم في هذا العالم بسبب المعصية والشر: [ يوم الممات خير من يوم الولادة ] (جامعة7: 1)، وقد وصفه داود النبي قائلاً: [ هأنذا بالإثم صُورت، وبالخطية حبلت بي أُمي ] (مزمور51: 5)، وحذاري من أي أحد يشرح أو يفهم الآية على أساس أنه يقصد بسبب التناسل أو الجنس تم الحبل، هذا مفهوم خطير ومشوه جداً ومشوش للغاية..
ولا يصح – إطلاقاً ولا تحت أي حجة – لإنسان مسيحي أن يتخيله أو يفكر فيه أو أي شارح للكتاب المقدس أن يؤكد عليه أو يضعه قانون، ولا حتى تأمل لأنه بذلك يُهين الله نفسه الذي وضع هذا وزرعه في الإنسان، لأن نص سفر التكوين لم يقل أن الله غير طبيعة التناسل الطبيعي في الإنسان، لأن هذا المعنى غير وارد في الكتاب المقدس كله ولكنه مجرد استنتاج من أُناس متشددي الرأي بسبب كونهم، يا إما رهباناً عاشوا في دعوتهم مكرسين انفسهم لله لأنه طريقهم الخاص فتشددوا في موضوع الزواج والجنس، والبعض منهم ظن أن البتولية أعظم من الزواج وأسمى منها، أو يا أما نتج من لهم خبرة سيئة في الزواج وتعطلت حياتهم الروحية بسبب ارتباطهم بمن هم كانوا غير عارفين الله، فظنوا أن الزواج عموماً حياة غير منضبطة بالروح، أو يا أما من لهم خبرة طويلة في الخطية والانحراف الجنسي فظنوا أن هذا بسبب الغريزة التي هي ملتصقة بأجسادهم، وهذا كله خاطئ تمام وناتج عن خبرات منحرفة عن الطريق السليم ولا يصح نربط ما وضعه الله في الإنسان بخبرات الشر التي عشناها كلنا متأثرين بها فنظن أنه من المستحيل ان يكون الجنس من الله موضوع في الإنسان، وبخاصة أننا نعلم أن الجنس سينتهي بانتقال الإنسان من هذا العالم، ولكنه سينتهي مثل كل ما هو من احتياجات الجسد، لئلا يكون أيضاً الجوع والطعام والشراب أيضاً مثله يحمل دنس للإنسان، فاحذروزا يا إخوتي من تلويث وتدنيس ما خلقه الله وأعطاه للإنسان بتفسيرات غريبة عن روح الإنجيل بل والكتاب المقدس ككل، ولنتذكر كلام الله لبطرس الرسول حينما قال له: [ ما طهره الله لا تدنسه انت ] (أعمال10: 15)، فلا يصح أن نشوه الجنس وندنس إفرازات الجسد الطبيعية التي هي حاجة الجسد العادية جداً، والتي لا تدنس قلب الإنسان أو تنجسه قط، بل الخطية وحدها وهي التي تحتاج لتوبة للتطهير والتقديس بدم حمل الله رافع خطية العالم…

ولكن يشرح هذه الآية [ هأنذا بالإثم صُورت، وبالخطية حبلت بي أُمي ] (مزمور51: 5) – لكي يتم فهم معناها – العلامة أوريجانوس وهو في هذا الشرح يتفق مع جمهرة كبيرة من الآباء قائلاً: [ ولكن أن كان يوافقكم أن تسمعوا ما يُفكر به قديسون آخرون بخصوص يوم الولادة، فاسمعوا داود يتكلم قائلاً: “هأنذا بالإثم حُبل بي وبالخطايا ولدتني أُمي”؛ مُبيتاً بذلك أن كل نفس تولد بالجسد إنما هي مُحاطة بدنس الإثم والخطية، ومن أجل هذا يُمكننا أن نقول ما سبق ذكرناه سالفاً: “ليس أحد بلا دنس ولو كانت حياته يوماً واحداً”. ] ((On Lev.Hom.8,3,(2),(5)

أما بالنسبة لختان الطفل في اليوم الثامن، ولماذا اليوم الثامن على الأخص، لأن الختان علامة عهد بين الله وشعبه بني إسرائيل، سلَّمه الله لإبراهيم (تك17: 9 – 14)، ثم أكده لموسى في شريعة تطهير المرأة بعد ولادة الأطفال (لاويين12: 3)، وكان الختان يتم بقطع الغلاف اللحمي الخارجي دائرياً من عضو الذكورة في الطفل الذكر فقط، وذلك كعلامة عهد خاصة بين الله وكل فرد من بني إسرائيل ليكونوا له [ مملكة كهنة وأمة مقدسة ] لتكون خاصة بالرب، وكختم لبرّ الإيمان الذي آمن به إبراهيم بالله، حينما قدم ابنه إسحق وحيده ذبيحة لطاعة الله بالحب وثقه منه بأن الله قادر أن يُقيمه من بين الأموات لأنه أعطاه وعد في اسحق، وقد كان الختان بهذا المفهوم الروحي إشارة ورمزاً لقطع جسم خطايا البشرية، وخلع الإنسان العتيق، ولبس الجديد، وذلك بالاشتراك في موت المسيح وقيامته بالمعمودية، كما عبر عن ذلك القديس الشهيد يوستين قائلاً: [ إن الوصية بطقس الختان التي تأمر بأن يُختتن الأطفال في اليوم الثامن، كانت رمزاً أو مثالاً للختان الحقيقي للخلاص من الخطية والشرّ، بواسطة قيامة الرب يسوع المسيح من بين الأموات في اليوم الأول من الأسبوع (الأحد)، الذي بالرغم من بقائه مُعتبراً الأول لكل الأيام إلا أنه يُدعى الثامن (بعد مرور سبعة ايام الأسبوع التي تُمثل أيام الخلقة الولى) ] (Justin Mart.,Dial.with Trypho)

وقد أُختتن المسيح الرب أيضاً في اليوم الثامن لكي يُتمم الناموس، ولكي بختانه يُكمل لنا الخلاص ويهبنا الختانة الروحية بموته وقيامته، ويقول القديس كيرلس الكبير عامود الدين: [ في اليوم الثامن، إذن، اختُتن المسيح وتقبل اسمه (“سُمي يسوع”، كما تسمَّى من الملائكة” لو2: 21)، لأن عندنا، أي بهذا، خلَّصنا بواسطته وفيه. كما قيل: “وبه أيضاً خُتنتم ختاناً غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية، بختان المسيح. مدفونين معه في المعمودية، التي فيها أُقمتم أيضاً معه “(كو2: 11و 12). أي أنه كما كان موت المسيح من أجلنا وكانت قيامته (أيضاً من أجلنا) كذلك كانت ختانته ] (عن شرح القديس كيرلس الكبير لإنجيل لوقا)

والختان في اليوم الثامن، لأنه إشارة واضحة وبليغة جداً ليوم قيامة الرب الذي في يوم الأحد الذي هو بعد السبت وانتهاء الخليقة القديمة فأصبح أحد قيامة الرب هو اليوم الثامن، أي اليوم الجديد الذي للخليقة الجديدة في المسيح يسوع، لأن اليوم الثامن هو اليوم الجديد بعد اليوم السابع التي للخليقة القديمة، ولآباء الكنيسة شرح مطول جداً في هذا الموضوع ولكن وضعته باختصار شديد جداً، لكي أوضح المعنى فقط بالنسبة لليوم الثامن الذي هو إشارة ليوم الأحد، أو يوم الشمس الذي فيه أشرق الرب بقيامته معلناً اليوم الجديد الذي فيه فرح البشرية لأن أصبح لها خلق جديد في المسيح يسوع، لذلك الكنيسة كانت تُعمد في اليوم الثامن لتنبيه الأبوين أن يعيشوا خليقة جديدة ويسلموا أولادهم الإيمان الحي الذي يتناسب مع الخليقة الجديدة في المسيح يسوع، وهنا الطقس ليس حرفي إنما ينبغي أن نفهم روحه ولا نصير مثل شعب اليهود الذين عبدوا الحرف ونسوا القصد الإلهي ولم يعيشوا بالإيمان كشعب الله المختار …

عموماً وبتأسيس المعمودية التي يتم فيها الختان الروحي للإنسان، حيث يخلع جسد الخطية ويلبس الخليقة الجديدة بالروح القدس، ويتم الختم الإلهي للاتحاد بالله، ينتهي عهد ختان اللحم تماماً وفي ذلك يقول القديس كيرلس الكبير: [ ولكن بعد ختانة المسيح انتهى هذا الطقس إلى الأبد، وذلك بدخول المعمودية التي كان طقس الختان يرمز لها. لأنه بسبب المعمودية لا نعود نُمارس طقس الختان بعد… ] (شرح القديس كيرلس الكبير لإنجيل لوقا2: 21)

طبعاً اليوم بيتم الختان من الناحية الطبية الصحية فقط لا غير ولا ترتبط بالإيمان في شيء ما قط، ولا علاقة لها بأي طقس إلزامي في المسيحية ولا الإنجيل ولا الكنيسة عموماً في أي طائفة من الطوائف المسيحية التقليدية…

(ب) بعد الشفاء من البَرَص: كان الأبرص يُقدم في اليوم الثامن لتطهيره خروفين ونعجة وتقدمة دقيق ذبائح إثم وخطية ومحرقة. أما إذا كان فقيراً فكان يُقدم فرخي حمام أو يمامتين (أنظر لاويين 14: 19و 22و 30).

(جـ) بعد التطهير من نجاسة سيل: كان يُقدم كل من تنجس بسيل يمامتين أو فرخي حمام (وهي غالباً ناتجة عن مرض جنسي بسبب الخطايا الجنسية – وقد سبق وشرحنا الموضوع بتفاصيله في شرح ذبيحة المحرقة) (أنظر لاويين15: 14و 15و 30)

(د) إذا تنجس نذير في أيام نذره: كان يُقدم يمامتين أو فرخي حمام، أحدهما ذبيحة خطية والآخر ذبيحة محرقة للتكفير عنه. ومتى تمت أيام نذره كان عليه أن يُقدم للرب نعجة واحدة حولية صحيحة ذبيحة خطية (أنظر عدد6: 10و 11؛ عدد7: 16 –… الخ)، ولكي نفهم موضوع تنجيس نذير لابد من أن نفهم ما معنى نذير: عموماً كلمة “نذير” في اللغة العربية مأخوذة من الفعل العبري “نذر” بمعنى “تكريس” أو ” تخصُّص” أي كفعل “تخصيص”. ويُذكر موضوع النذر لله كثيراً في الكتاب المقدس، وخاصة في العهد القديم، وعلى الأخص في سفر المزامير. ولم يكن النذر أمر توجيه من الشريعة، أي أنه ليس قانون تشريعي في العهد القديم، بل هو أمر يعتبر تطوعي من الشخص نفسه بدون أي قانون أو نص في شريعة أو حتى طلب من الله إلا في حالات خاصة كما سوف نرى، وذلك على خلاف تقديم العشور والذبائح والتقديمات وحفظ السبت والختان الذي أمرت بهما الشريعة كأفعال إلزامية وليست اختياريه حسب وصية الله.
وبالرغم من ذلك فقد وضعت الشريعة مبادئ مُحددة للنذر لمن يحب أن ينذر شيئاً للرب. فالنذر الذي ينذره الرجل أو الأرملة أو الطلقة لا يجوز نقصه أو النكوص عن الوفاء به لأنه مقدم لله الحي كسيد عظيم جداً لا يصح ان يُقدم له ما هو معيوب أو ناقص أو الرجوع فيه كأنه مقدم لأي شخص أقل من أن يُحترم أو يُقدر، لذلك من الخطورة أن نقدم شيئاً ما لله باستهتار أو نقص أو بدون وعي منا أو إدراك لمن نُقدم أو لماذا نُقدم، لأنه ينبغي أن تكون التقدمة بلا تسرع أو عن مجرد انفعال بدون إدراك أو وعي…

أما إذا صدر النذر من فتاة دون مشورة أبيها، أو من امرأة دون مشورة زوجها، فكان من حق الأب أو الزوج متى سمع النذر أن يُثبته أو يُلغيه في يوم سماعه: [ وكلم موسى رؤوس أسباط بني إسرائيل قائلاً هذا ما أمر به الرب. إذا نذر رجل نذراً للرب أو أقسم قسماً أن يُلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه حسب كل ما خرج من فمه يفعل. وأما المرأة فإذا نذرت نذراً للرب والتزمت بلازم في بيت أبيها في صباها. وسمع أبوها نذرها واللازم الذي ألزمت نفسها به فأن سكت أبوها لها ثبتت كل نذورها وكل لوازمها التي ألزمت نفسها بها تثبت. وأن نهاها أبوها يوم سمعه (عن نذرها) فكل نذورها ولوازمها التي الزمت نفسها بها لا تثبت والرب يصفح عنها لأن أباها قد نهاها. وأن كانت لزوج و نذورها عليها أو نطق شفتيها الذي ألزمت نفسها به. وسمع زوجها فأن سكت في يوم سمعه ثبتت نذورها ولوازمها التي ألزمت نفسها بها تثبت. وأن نهاها رجلها في يوم سمعه فسخ نذرها الذي عليها ونُطق شفتيها الذي ألزمت نفسها به والرب يصفح عنها. وأما نذر أرملة أو مُطلقة فكل ما ألزمت نفسها به يثبت عليها. ولكن أن نذرت في بيت زوجها أو ألزمت نفسها بلازم بقسم. وسمع زوجها فأن سكت لها ولم ينهها ثبتت كل نذورها وكل لازم ألزمت نفسها به يثبت. وأن فسخها زوجها في يوم سمعه فكل ما خرج من شفتيها من نذورها أو لوازم نفسها لا يثبت قد فسخها زوجها والرب يصفح عنها. كل نذر و كل قسم التزام لإذلال النفس زوجها يثبته وزوجها يفسخه. وأن سكت لها زوجها من يوم إلى يوم فقد أثبت كل نذورها أو كل لوازمها التي عليها أثبتها لأنه سكت لها في يوم سمعه. فأن فسخها بعد سمعه فقد حمل ذنبها. ] (عدد30: 1 – 15).

لذلك وحتى اليوم وفي العهد الجديد رأت الكنيسة نفس ذات الأمر والقانون وذلك بكون الله لا يتغير ولا فرق ما بين العهدين من الجهة الأدبية وليست الطقسية، فبكون الأب هو المسئول أمام الله عن أولاده القُصر لأنهم لم يبلغوا بعد فمن حقه أن يلغي نذرهم الذي نذروه بتسرع أو بعدم وعي، وأيضاً كون الزوج مع زوجته جسداً واحداً فلا يصح للزوجة أو حتى للزوج أن ينذر أحدهما شيئاً بدون اتفاقه مع الآخر لتكون التقدمة أمام الله صحيحة ومُلزمة كما رأينا في سفر العدد….

سبب تقديم النذر كما هو واضح في الكتاب المقدس: نرى في سفر المزامير تعهدات الناذرين بوفاء نذورهم، وذلك كاعتراف بفضل الله عليهم وتقديمهم مشاعر شكرهم وتمجيدهم للرب الذي أحسن إليهم بدون أي استحقاق لهم بل هو فضل الله عليهم ورحمته، وهم يقدمون الشكر والحمد عملياً بالنذر:

+ مِن قِبَلك تسبيحي في الجماعة العظيمة. أُوفي بنذوري قُدام خائفيه (مز22: 25)
+ اللهم عليَّ نذورك، أُوفي ذبائح شكر لك، لأنك نجيت نفسي من الموت. نعم، ورجلَيَّ من الزَّلق… (مز56: 12و 13)
+ هكذا أُرنم لاسمك إلى الأبد لوفاء نذوري يوماً فيوماً (مز61: 8)
+ أدخل إلى بيتك بمحرقات، أوفيك نذوري التي نطقت بها شفتاي، وتكلَّم بها فمي في ضيقي (مز66: 13و 14)
+ ماذا أردُّ للرب من أجل كل حسناته لي؟ كأس الخلاص أتناول، وباسم الرب أدعو. أُوفي نذوري للرب مقابل كل شعبه (مز116: 12 – 14)

طبعاً كل ما ذكرناه بالنسبة لأي عطية تُقدم لله، ولكن يوجد من ينذر نفسه للرب، بمعنى أنه يكرس حياته للرب في عبادة نسكية وواجبات والتزامات خاصة يُقدمها طوعاً للرب وباختياره الخاص، إما طول الحياة أو لزمان محدد حسب اختيار كل واحد كنوع من الاعتكاف ونذر النفس للرب لمدة محددة، وقد تكلم الكتاب المقدس عن نذر الأشخاص بطرق متنوعة مثل:

1 – إما أن يكون نذر الشخص من قِبَل الله نفسه، مثل ما كان مع شمشون [ وكان رجل من صرعة من عشيرة الدانيين اسمه منوح وامرأته عاقر لم تلد. فتراءى ملاك الرب للمرأة وقال لها ها أنت عاقر لم تلدي ولكنك تحبلين وتلدين أبناً. والآن فاحذري ولا تشربي خمراً ولا مسكراً ولا تأكلي شيئاً نجساً. فها أنك تحبلين وتلدين أبناً ولا يَعلُ موسى (موس للحلاقة) رأسه لأن الصبي يكون نذيراً لله من البطن وهو يبدأ يخلص إسرائيل من يد الفلسطينيين ] (قضاة13: 2 – 5)، وايضاً في حالة يوحنا المعمدان [ لأنه يكون عظيماً أمام الرب (في عيني الرب أو في تقديره – تقديره في عيني الرب) وخمراً ومُسكراً لا يشرب ومن بطن أمه (لأنه نذيراً للرب – وبالطبع أكد على نذره وتكريسه للرب بأنه وهب نفسه للرب) يمتلئ من الروح القدس (وهي علامة تكريس وتخصيص كامل للرب للوظيفة وعمل خاص كما ترد في الآية التي بعدها: يرد كثيرين من بني إسرائيل، ويتقدم أمامه “أمام الرب” بروح إيليا وقوته، ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء، والعُصاة إلى فكر الأبرار، لكي يُهيئ للرب شعباً مُستعداً) ] (لوقا1: 15)

2 – أو أن ينذر الوالدان (الأبوين) أولادهم للرب، كما نذرت حنَّة صموئيل النبي ليكون للرب طول حياته وليس لمدة معينة، بل وهبته بالكامل لله وحده فقط طول حياته: [ ونذرت نذراً وقالت يا رب الجنود أن نظرت نظراً إلى مذلة أَمَتك وذكرتني ولم تنس أَمَتك (عبدتك) بل أعطيت أَمَتك زرع بشر فإني أُعطيه للرب كل أيام حياته ولا يعلو رأسه موسى (كشروط النذير) ] (1صموئيل1: 11)

3 – أو أن يُنذر الإنسان نفسه للرب فترة من حياته، وذلك كما جاء في شريعة النذير كما ذكرناها في سفر العدد. وبالطبع نجد ان الشريعة لا تُحدد المدة التي ينذر فيها الشخص نفسه لله، إذ أن الأرجح أن هذه المُدة كان يُحددها الشخص نفسه. وتذكر “المِشْنا اليهودية” أن المُدة كانت عادة ثلاثين يوماً أو ستين يوماً.

ونجد عموماً أن كلمة “نذر” لم ترد في العهد الجديد سوى مرتين، وكانت مرتبطة بالقديس بولس الرسول [ “وأما بولس فلبث أيضاً أياماً كثيرة ثم ودع الإخوة وسافر في البحر إلى سورية ومعه بريسكلا وأكيلا بعدما حلق رأسه في كنخريا لأنه كان عليه نذر”؛ ” فافعل هذا الذي نقول لك عندنا أربعة رجال عليهم نذر ” ] (أعمال18: 18؛ 21: 23)، طبعاً لن نشرح الملابسات في هذه الآيات التي يطول شرحها لأن كثيرين اطالوا في شرحها جداً ما بين فريقين وكل فريق له حجة مقنعه في الشرح والتفصيل، ولكننا نركز عموماً على شريعة النذير لنفهم ما هو التنجيس الذي يحدث ولماذا تقدم ذبيحة خطية عنها ولسنا في صدد شرح سفر أعمال الرسل وتفسير هذا الموقف، ولكن عموماً بالرغم من أن النذور كانت سائدة في العهد القديم كتعبير عن الورع والتقوى، إلا أنها أخذت في العهد الجديد صورة أكثر اتساعاً بتكريس الحياة كلها للرب تحت أي مُسمى، سواء كانت رهبنة، أو تبتلاً، أو خدمة …الخ؛ لأن محبة المسيح وبذله لنفسه من أجل خلاصنا قد اسرتنا وصارت محبته تحصرنا، فلم نَعُد مِلكاً لأنفسنا بل للذي مات لأجلنا وقام: [ لأنكم قد اشتُريتم بثمن فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله ] (1كورنثوس6: 20).
عموماً لكي ما نفهم ما المعنى المقصود بتنجيس النذير لابد من ان نتعرف على شريعة النذير والتزاماته فأن كسرها ستدنس ويحتاج ذبيحة خطية وذبيحة إثم كما سوف نشرحها فيما بعد، وهذه هي شريعة النذير والتزاماته:

1 – ألا يشرب خمراً أو يأكل حتى من ثمار الكرمة (العنب) (عدد6: 3و 4)
2 – ألا يحلق شعر رأسه (عدد6: 5)
3 – ألا يتنجس لأجل ميت (عدد6: 6 – 8)

+ عموماً المعنى العام والمقصود من وراء هذا كله بأنها توضح أن فترة نذر النفس للرب، هي فترة التصاق بالرب وتكريس الحياة لعباداته، فهي إذن تستلزم النسك والزهد وترك مباهج العالم بكل ما فيه، وبما أن المُسكر يُفسد ذهن الإنسان ويفقده توازنه، فمن اللائق أن يُمتنع عن الخمر المُسكر، وأي نوع يؤدي إلى السُكر وغيبة الوعي أو عدم الاتزان. من أجل ذلك أوصى القديس بولس الرسول أهل كنيسة أفسس قائلاً: [ ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة، بل امتلئوا بالروح ] (أفسس5: 18)، واحب أن أربط هذا الكلام بإنجيل لوقا في كلامة عن القديس يوحنا المعمدان: [ لأنه يكون عظيماً أمام الرب (في عيني الرب أو في تقديره – تقديره في عيني الرب) وخمراً ومُسكراً لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس ] (لوقا1: 15). وفي ايام انتهاء نذر النذير مُصرح له أن يشرب خمراً كإشارة على الفرح الروحي بالرب وأنه تمم هذا النذر بمسرة قلبه وليس غصباً عن إرادته.

+ وبالنسبة لترك الشعر بلا أي حلاقة أو هندمة أو تنظيم وترتيب، فهو علامة ظاهرة أمام الناس أنه شخص مخصص للرب وحده، كما أن حلاقة الشعر بالنسبة للرجل يُعتبر نوع من أنواع الزينة والشكل المهندم أمام الناس والمجتمع، ولكن لكونه للرب وحده يعطي ذاته فأنه لا يهتم بمباهج الحياة ورؤية الناس لشكله او شخصه، وهذا نوع من أنواع التكريس لله وحده، إذ أن اهتمامه كيف يُرضي الله وليس الناس.

+ وأيضاً النذير ملتزم بأن لا يأتي إلى جسد ميت كل أيام انتذاره، حتى لو كان الميت هو أبوه أو أمه أو أخته أو أخيه… الخ، فلا ينبغي أن يتنجس من أجلهم عند موتهم لأن انتذاره لإلهه على رأسه؛ ومثله مثل رئيس الكهنة والكهنة بني هارون (أنظر لاويين21: 11). فقد كان على النذير (كما للكاهن أيضاً) أن يرتفع فوق كل علاقة جسدية مهما ما كان نوعها، وخاصة وأن الجسد الميت كان يُعتبر نجاسة في العهد القديم، لأن الموت كان أُجرة الخطية وعلامة دخولها إلى العالم، لذلك يُحسب لمس الميت نجاسة حسب الشريعة حتى ولو كان الميت نبياً، فالموت دخل إلى العالم بالخطية، إذ أن بالخطية الموت والانفصال عن الله، والاهتمام بالجسد الميت ولمسه هو علامة موت، ولأن الله يريد أن الكل يشعر بفجاعة الخطية لا يُريد لأحد ان يتعلق بالموت ويهتم بجسد الموت ويعرف كم كانت الخطية خاطئة جداً وما فعلته في كيانه، ومن خصص نفسه للرب لا يمسه موت ولا يعرف ميت، بل هو منفصل كُلياً عن كل ميت وكل رباط جسدي لأنه ارتبط بالرب وحده الذي هو الحياة…

عموماً القصد كله من طقس تطهير النذير إذا تدنس انتذاره، وتقديسه والتكفير عنه، أنه يُظهر ويُبين إلى أي مدى يُريد الرب ممَّن يتكرس له أن يحفظ نفسه نقياً طاهراً من كل دنس، بريئاً من كل نقص، سواء كان بقصد أو بغير قصد: [ لأن هذه هي إرادة الله قداستكم ] (1تسالونيكي4: 3)، [ لأن الله لم يَدْعُنا للنجاسة بل في القداسة ] (1تسالونيكي4: 7)، وذلك كله لأجل أن نُعاين الرب ويكون هناك شركة حيه وحقيقية معه في النور، فالرب قدوس والذي يقترب منه لابد من ان يتقدس:

[ من مثلك بين الآلهة، يا رب من مثلك معتزاً في القداسة، مخوفاً بالتسابيح صانعاً عجائب ] (خروج15: 11)
[ اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب ] (عبرانيين12: 14)
[ فإذ لنا هذه المواعيد أيها الأحباء لنطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة في خوف الله ] (2كورنثوس7: 1)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى