علم الانسان

المعمودية بالمفهوم الروحي كمدخل للخليقة الروحانية الجديدة



المعمودية بالمفهوم الروحي كمدخل للخليقة الروحانية الجديدة

المعمودية
بالمفهوم الروحي
كمدخل
للخليقة الروحانية الجديدة

أعظم
أسرار الكنيسة وبابها المفتوح في السماء

nvlvn

أول
مَنْ كشف هذا السر العظيم وربطه ربطاً محكماً بملكوت الله هو المسيح، عندما جاء
إليه نيقوديموس ليلاً في أورشليم مضمراً أن يسأله عن ملكوت الله الذي يبشِّر به،
فابتدره المسيح: ” الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولَد من فوق لا يقدر
أن يرى ملكوت الله.”
(يو 3: 3)

مقالات ذات صلة

التعبير
هنا سرِّي وبديع، فالذي يولَد من فوق هو وحده الذي يرى ما فوق!

ولَمَّا
تعذَّر على نيقوديموس فهم إمكانية الولادة مرة أخرى، إذ ظنها أنها ولادة جسدية
ثانية، انتقل المسيح في الحال ليكشف له ولأول مرة “الولادة من الروح”: ”
الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولَد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل
ملكوت الله”
(يو 5: 3). والكلام هنا أيضاً منطقي وبديع، فلأن ملكوت الله
ملكوت روحي، أصبح لا يمكن أن يدخله إلاَّ المولود من الروح. ولكي يقطع المسيح خط
الرجعة على نيقوديموس فلا يعود يفكِّر في الجسد، قال له: ” المولود من
الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح”
(يو 6: 3). هنا السر عميق،
فالمسيح يشير إلى ولادة روحية جديدة غير الولادة الجسدية العتيقة. فبالولادة
الأولى لَبِسَ الإنسان الجسد، وبالولادة الثانية لَبِسَ الإنسان الروح. وصارت ذات
الإنسان جسداً بالميلاد من الجسد، وروحاً أيضاً بالميلاد من الروح. “أما
الجسد فلا يفيد شيئاً” (يو 63: 6) من جهة ملكوت الله، لأنه من التراب أصلاً
وإلى التراب يعود بالموت؛ أما الإنسان الثاني الروحاني المولود من الروح القدس
والماء فهو إنسان السماء، الإنسان الذي من فوق، المخلوق ليرى ويدخل ملكوت الله
ويحيا.

وهكذا
عبَّر المسيح عن المعمودية أنها الباب المفتوح في السماء ليدخل منه كل مَنْ وُلِد
من الماء والروح القدس.

السر
الأول والأعظم في الكنيسة:

لقد
استؤمنت الكنيسة وحدها على سر التعميد، لأنها الآن محسوبة أنها تعمل عمل ملكوت
الله على الأرض وتكمِّله، كما استؤمنت على الروح القدس وإعطائه، فأصبح من حقِّها
وواجبها معاً أن تلد للمسيح أولاداً وبناتٍ للملكوت. فالآن إن كان بدون أن نولَد
من فوق لا نرى الملكوت، وبدون أن نولَد من الماء والروح لا ندخل الملكوت، هذا يعني
مباشرة أن الكنيسة تحتفظ بسرِّ رؤية الملكوت والدخول فيه، المطلب الأول والأعظم
للإنسان، وذلك بواسطة التعميد الذي فيه يولَد الإنسان من جديد ميلاداً روحياً
بإنسان جديد يحيا فيه بانتظار الخروج من الجسد العتيق ليستوطن ملكوت الله.

الاتصال
الثابت والدائم في المسيح:

وإنسان
المعمودية الجديد الذي يولَد به الإنسان روحياً ميلاداً سرِّياً من فوق، لا
يحيا داخل الإنسان بمفرده تحت سطوة الإنسان العتيق.
ولكن لأنه يولَد من طبيعة
المسيح القائمة من بين الأموات، فهو يولَد منه ويظل متصلاً به اتصالاً
دائماً ووثيقاً، لا يفكُّه من المسيح إلاَّ خطية إنكار المسيح أنه ابن الله الذي
تجسَّد وصُلِب وقام من بين الأموات:

+ “مَنْ اعترف أن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه
وهو في الله.
ونحن قد عرفنا وصدَّقنا المحبة التي لله فينا. الله محبة، ومَنْ
يثبت في المحبة، يثبت في الله والله فيه” (1يو 15: 4و16)

+
“مَنْ هو الكذَّاب، إلاَّ الذي يُنكر أن يسوع هو المسيح! هذا هو ضد المسيح،
الذي ينكر الآب والابن” (1يو 22: 2)

+
“والآن أيها الأولاد، اثبتوا فيه، حتى إذا أُظْهِرَ يكون لنا ثقة، ولا نخجل منه
في مجيئه” (1يو 28: 2)

+ “كل مَنْ يثبت فيه (حالة شركة روحية بالإنسان
الجديد) لا يخطئ. كل مَنْ يخطئ لم يبصره ولا عرفه (هنا البصر والمعرفة تعبير عن
الإيمان القلبي بالإنسان الجديد وليس العقلي)” (1يو 6: 3)

إنسان
المعمودية الجديد له صورة المسيح وطبيعته:

+
“لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع، لأعمال صالحة، قد سبق الله
فأعدَّها لكي نسلك فيها” (أف 10: 2)

+
“وتلبسوا الإنسان الجديد (بالمعمودية) المخلوق بحسب الله (على صورته) في
البر وقداسة الحق” (أف 24: 4)

+
“إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله (بالإيمان والتوبة والاعتراف والعماد)،
ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كو 9: 3و10)

+
“لأن كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل 27: 3)

هنا حالة وجود والتصاق دائم بالمسيح كقول القديس بولس: “مَنْ
التصق بالرب فهو روح واحد” (1كو 17: 6)، الذي أسماه القديس يوحنا شركة روحية
دائمة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح.

ولكن
الذي يسترعي انتباهنا في هذه الآيات أنها تصوِّر لنا بالفعل حالة خلقة داخلية
روحية جديدة للإنسان يحياها، وله صورة الله وطبيعة القيامة في المسيح التي لا يسود
عليها الموت بعد والمهيَّأة للارتفاع.

على
أن المعمودية يتم فيها بالسر موت الإنسان العتيق مع أعماله:

لأن
إجراء سر المعمودية في إيمان الكنيسة يُعتبر لاهوتياً بمثابة الموت مع المسيح على
الصليب والدفن في القبر ثلاثة أيام بثلاث غطسات باسم الآب والابن والروح القدس:

+
“نحن الذين متنا عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها؟ أم تجهلون أننا كل مَنْ
اعتمد
ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت،
حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جِدَّة
الحياة” (رو 2: 64)

والذي نود أن نركِّز عليه، وهو الذي دفعنا للكتابة، هو أن
إجراء المعمودية كسرٍّ ليس مجرد طقس وتمثيل، بل هو بالإيمان حالة مشاركة واقعية
بالروح مع المسيح في آلامه وصلبه وموته ثم قيامته. فبمجرد أن يُعرَّى الإنسان من
ملابسه وينزل ليُدفن في الماء تحت يد الأسقف (أو الكاهن)، فهذا هو الاعتراف الفعلي
بالتجرُّد من العالم وأعماله. وحينما يُطلب من المعتمد أن يجحد الشيطان علناً، فإن
ذلك يُحتسب له مشيئة شخصية وعهد. وحينما يخضع برأسه ويُدفن في الماء ثلاث مرات،
يُعتبر أنه شارك بروحه وقلبه الداخلي (الإنسان الآخر الجواني) في عملية الموت
والنزول إلى القبر والبقاء فيه ثلاثة أيام بمعنى تكميل حقِّ عقوبة الموت.

ولا يظن الإنسان بسذاجة أن هذه تمثيلية فاقدة فعلها، بل هي
تُحسب فعلاً إرادياً موازياً لإرادة الصلب عند المسيح وموته ونزوله إلى القبر. على
أن ما عمله المسيح على الصليب وفي القبر، هو بالإيمان فعل إلهي أكمله ابن الله
وجعله فعلاً مفتوحاً ليشترك فيه كل إنسان بإيمانه القلبي وسيرته الروحية. فقوة
أفعال المعمودية هي بعينها قوة أفعال ابن الله الوحيد على الصليب من أجل كل مَنْ
يؤمن. لأن ابن الله لم يكن بحاجة أن يُصلب ويموت، فهو القدوس البار الذي لم يفعل
خطية ولا وُجد في فمه غش؛ إنما خضع تحت مشيئة الآب ليصنع بإرادته هذه الأفعال
ليخلِّص بها الإنسان من الخطية والموت. فأصبح كل مَنْ يؤمن بها ويُثْبِت إيمانه
بفعل المعمودية، يدخل شريكاً فيها ويتقبَّل كل نتائجها.

خلع
الإنسان العتيق:

+
إذ خلعتم (بالمعمودية والمشيئة والنية) الإنسان العتيق مع أعماله،
ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كو 9: 3)

+ “إن كنتم قد سمعتموه وعُلِّمتم فيه كما هو حق في
يسوع، أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات
الغرور،
وتتجدَّدوا بروح ذهنكم” (أف 21: 423)

+
“قد تناهى الليل وتقارَب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة
النور.. البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات”
(رو 12: 13و14)

هنا
يستنهض القديس بولس الإحساس بقوة عمل المعمودية فينا.

+
وبه أيضاً خُتنتم ختاناً غير مصنوع بيدٍ (المعمودية في المسيحية
توازي الختان في اليهودية)، بخَلْع جسم خطايا البشرية، بختان المسيح.
مدفونين معه في المعمودية، التي فيها أُقمتم أيضاً معه بإيمان عمل الله، الذي
أقامه من الأموات. وإذ كنتم أمواتاً في الخطايا وغَلَف جسدكم، أحياكم معه، مسامحاً
لكم بجميع الخطايا”
(كو 11: 213)

هنا
يشبِّه القديس بولس خلع الإنسان العتيق في المعمودية بما يتم في ختانة
اليهود ومعناها، إذ تعني التخلُّص من الجزء النجس في الإنسان تعبيراً عن تطهير
الإنسان. فأصبحت في المعمودية التي توازي فعل الختان اليهودي، التخلُّص من الجسد
العتيق جملة بكل أعماله، وأسماه: ” خلع جسم خطايا البشرية”، الذي
تمَّ لنا لاهوتياً بشركتنا في موت المسيح ودفنه: “مدفونين معه في
المعمودية” ما يحقِّق لنا إيمانياً صحة اعتقادنا بأننا في المعمودية
نشترك في صلب المسيح وموته، الذي وصفه بولس الرسول بكل صحة لاهوتية هكذا:

+
“وإن كان المسيح فيكم (بالمعمودية)، فالجسد (العتيق) ميِّت بسبب
الخطية
(التي أبطلها المسيح في الجسد)، وأما الروح (الإنسان الجديد) فحياة
بسبب البر (الذي هو بر الله في المسيح، الذي وهبه لنا بجسد قيامته)” (رو 10: 8)

+
“لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع (بالقيامة من بين الأموات في الجسد
الجديد) قد أعتقني (أي خلَّصني) من ناموس الخطية والموت (الذي يعمل في الجسد
العتيق)” (رو 2: 8)

ويلتفت
بولس الرسول ويكلِّم المؤمنين بالمسيح الذين اعتمدوا وخلعوا جسد الخطايا الذي كان
واقعاً تحت الناموس وحكم الموت بالناموس، ولبسوا الإنسان الروحي الجديد الذي لا
علاقة له بالناموس أو الخطية أو الموت الأبدي هكذا: “وأما أنتم فلستم في
الجسد (العتيق) بل في الروح (الإنسان الجديد)، إنْ كان روح الله ساكناً فيكم
(بالإيمان والمعمودية والمسحة)” (رو 9: 8)

هذا
يعني أن خلع الجسد العتيق مع أعماله هو أصلاً عمل المسيح على الصليب وفي القبر من
أجلنا، ونحن نلناه معه بالإيمان وفي شركة المعمودية والدفن في الماء. ويوضِّح بولس
الرسول معنى ذلك بأننا أُعتقنا من ناموس الخطية والموت العامل في أعضاء الجسد
العتيق، فحتى إن كان لا يزال يعمل في الجسد العتيق، ولكن لا قوة ولا سلطان
للخطية أو الموت على الإنسان الجديد الروحي الذي أخذناه بالمعمودية،
والذي
يُحسَب أنه قام من الموت مع المسيح وداس الخطية استعداداً لارتفاعه إلى فوق، حيث
وُلِد وأخذ طبيعته لميراث الحياة الأبدية مع المسيح الساكن فيه. ويؤكِّد ذلك أيضاً
بقوله: “لا شيء من الدينونة الآن (على أي خطية) على الذين هم في المسيح
يسوع” (رو 1: 8)، أي الذين اعتمدوا ومات فيهم الإنسان العتيق مع أعماله التي
صارت أعمالاً مائتة، ولبسوا الإنسان الجديد المحسوب أنه خليقة جديدة على صورة
خالقها في البر وقداسة الحق.

استعلان
البنوَّة لله للإنسان الجديد في المعمودية:

+ “وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد
الله،
أي المؤمنون باسمه. الذين وُلِدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من
مشيئة رجل، بل من الله (وُلِدوا)” (يو 12: 1و13)

+
“انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله. من أجل هذا
لا يعرفنا العالم، لأنه لا يعرفه” (1يو 1: 3)

+
“أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون..”
(1يو 2: 3)

+
“كل مَنْ هو مولود من الله (بالمعمودية بالروح وبالإيمان) لا يفعل
خطية، لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله” (1يو
9: 3)

+ “كل مَنْ يؤمن أن يسوع هو المسيح (منطوق اعتراف
المعمودية) فقد وُلِدَ من الله” (1يو 1: 5)

حين
اعتمد المسيح شهد له الله الآب من السماء أنَّ: “هذا هو ابني الحبيب الذي به
سُررت” (مت 17: 3). وهكذا كل الذين يولدون لله من الماء والروح يشهد لهم
الروح فيهم: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف (روح الناموس)، بل
أخذتم روح التَّبني الذي به نصرخ يا أَبَا الآب! الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا
أننا أولاد الله”
(رو 15: 8و16)

+
“شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه (بميلاد الماء
والروح كخليقة جديدة)” (يع 18: 1)

هنا
الولادة بكلمة الحق إشارة واضحة إلى فعل الخليقة الجديدة بكلمة الله.

+
“مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولَدَنا ثانية لرجاءٍ
حيٍّ، بقيامة يسوع المسيح من الأموات” (1بط 3: 1)

هنا
تعبير جميل أن الميلاد الثاني هو لرجاء حيّ يبقى محفوظاً في السموات.

+
مولودين ثانية، لا من زرع يفنى، بل ممَّا لا يفنى (بالمعمودية)،
بكلمة الله الحيَّة الباقية إلى الأبد” (1بط 23: 1)

هنا
تعبير القديس بطرس بأن الميلاد الثاني هو من “زرع الله”
sperma الذي لا
يفنى، كناية عن الروح القدس، وهو عامل التوليد في الإنسان (الجديد) عِوَض “زرع
الإنسان”الذي هو سائل الإخصاب
sperma. وهو نفس التعبير الذي نسمعه عند القديس يوحنا أن المولود من الله
لا يخطئ، لأن زرع الله ثابت فيه (1يو 9: 3)، بمعنى أن الروح القدس لا يفارِق
الإنسان الجديد الذي ولده في المعمودية بالماء، بل يبقى متَّحداً به ليمدَّه بالحياة
الدائمة (الأبدية). فالإنسان الجديد حيٌّ بالروح القدس وحياته ممتدة في الأبدية.

+
“وكأطفال مولودين الآن (بعد المعمودية مباشرة وهم كبار)، اشتهوا اللبن العقلي
(كلمة الإنجيل) العديم الغش لكي تنموا به” (1بط 2: 2)

وقوله:
“كأطفال مولودين”، مع أنه يكلِّم شعب الكنيسة وكلهم كبار رجالاً ونساءً الذين
اعتمدوا بعد الإيمان مباشرة، يوضِّح مقدار التماثل في الميلاد الروحي الثاني.
وقوله عن اشتهاء اللبن العقلي هو كناية عن مقدار شهوة الأطفال الرضَّع لرضاعة لبن
الأم بنهم. فهو يدعونا أن نشتهي اللبن العقلي وهو
كلمة
الإنجيل التي ننمو بها روحياً بوعي عميق كما ينمو الطفل بدوام اشتهاء رضاعة اللبن.
و“عديم الغش”تعبير عن مصداقية الإنجيل والتعليم الرسولي.

لِبس
الإنسان الجديد:

واضح
أن “لِبس الإنسان الجديد”هي عملية متوازنة، فبقدر ما نخلع العتيق مع أعماله
الشريرة، نلبس الجديد بأعماله الصالحة التي سبق الله فأعدَّها لنا لكي نسلك فيها
(أف 10: 2). وإن كان بولس الرسول يؤكِّد هذا: “لذلك لا نفشل، بل وإن كان
إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدَّد يوماً فيوماً” (2كو 16: 4)، ولكن هذا
إنما يكون بحسب شعورنا وملاحقتنا للجسد العتيق الذي لا يكف عن اشتهاء مشيئاته.

أما
بحسب حقيقة عمل الله العجيب في سر المعمودية، فالإحلال والإبدال يكون كاملاً، لأن
خلقة الإنسان الجديد بالروح تتم مرة واحدة وتكمل في ذاتها ولا يبقى على الإنسان
إلاَّ اكتشاف مدى كمال العمل العظيم الذي أكمله الله له. فعطايا الله كاملة،
والإنسان الجديد مخلوق على صورة خالقه في البر وقداسة الحق، وعلى الإنسان أن يؤمن
ويستوعب الحق الذي عمله الله فيه.

وإن
عَسُر على العقل البشري أن يُدرك عظمة هذا العمل، فذلك لأنه ليس خاضعاً للعقل أو
المنطق وهو لا يُفهم قط على مستوى الاستحقاق، لأن الأصل في خلقة الإنسان الجديد
للإنسان هو لينتقل به من الأرض إلى السماء ويحيا في ملكوت الله، فهو عمل مشيئة
الله الكاملة من طرف واحد: “شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من
خلائقه” (يع 18: 1)

ولا
يمكن ولا يصح أيضاً قياس عمل بر الله باستحقاقنا لهذه الخليقة الجديدة. فهذا أمر
لا يجوز مجرد التفكير فيه، لأن مدى البذل الذي بذله الآب لابنه، ومدى العذاب الذي
لاقاه الابن في خلاصنا وإلباسنا هذه الخليقة الجديدة لنحيا بها أمام الله في
المسيح، لا يمكن أن يُقاس ولا يمكن أن يُقيَّم بشيء آخر أو حتى يُفهم بالعقل
والمنطق. ولكن الذي يمكن، بل الذي يلزم علينا إدراكه، هو قيمة هذا الإنسان الجديد
وعظمة خلقته الفائقة للعقل والمنطق. لأن كلما أدركنا عظمة هذا العمل ومجده كلما
اقتربنا من حقيقة محبة الله وسرِّه المجيد.

حقيقة
هذا الإنسان الجديد المخلوق لنا في سر المعمودية

«لأن
كلَّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح”
(غل 27: 3)([1]):

أقصى
ما يمكن أن يشتهيه الإنسان ويتمناه بعد أن يكون قد عرف المسيح جيداً وآمن به
وأحبَّه، أن يقترب إليه ويحسّه أو يراه ويسمع صوته. لماذا؟

لأن
المسيح هو الذي أثار طمعنا في ذلك، إذ بعد أن عرفنا أنه هو “الكلمة”الذي عند
الآب وأنه هو صورة الله ورسم جوهره غير المنظور، وأنه كائن في الله: “وكان
الكلمة الله” (يو 1: 1)؛ عاد وسمح الله أن يتجسَّد ابنه ويولد من امرأة
(عذراء) ويصير إنساناً مثلنا تماماً (ما خلا الخطية). من هنا ثارت فينا شهوة عارمة
أن نتعرَّف على المسيح أخينا البكر ونقترب إليه ونراه، لأنه حامل سر الله وصورته
وجوهره ومجده!! وحاملنا بآن واحد. والذي جعل شهوتنا في التعرُّف عليه والاقتراب
إليه تزداد، أننا تيقَّنا أنه إنما تجسَّد لكي يرفع عنَّا ثقل الإنسان العتيق مع
أعماله وخطاياه، الأمر الذي مرَّر حياتنا وجعلنا نيأس من أن نحيا بالقداسة والبر
أمام الله.

إذن،
فتعرُّفنا على المسيح عن قرب ورؤيتنا له في ذاته واتصالنا به سيكون ضماناً لحياة
القداسة والبر أمام الله كونه هو القدوس البار. هذا لسان حالنا وحقيقة ضمائرنا
التي كشفها الله وأعطانا إيَّاها قبل أن نسألها وبدون أن نفكر فيها أو نتصورها.

إذ
بعد أن أكمل المسيح كل أعمال الفداء والكفَّارة لمغفرة الخطايا بالموت على الصليب
وبقائه في القبر ثلاثة أيام ليوفِّي عقوبة الموت ولعنته عنا، أقامه الله من بين
الأموات ورفعه فوق أعلى السموات وأجلسه عن يمينه كعمل كامل كمالاً
فائقاً للإنهاء على خطايانا وعقوبة الموت واللعنة وفك غضب الله عنا
ومنح صلاحية البنوَّة لنا لكي نصبح أولاد الله، ووهبنا ميراثاً مع المسيح في
ملكوته والحياة الأبدية.

بعد
كل هذا ظلَّ الإنسان في حاجة واقعية فعلية للاتحاد بالمسيح نفسه لضمان سريان عمله
الفدائي والخلاصي فينا، وسريان روحه وبره ونعمته لروحنا؛ حتى به، وبالاتحاد به،
نضمن دوام خلع إنساننا العتيق الذي مات معه على الصليب، كما نضمن دوام لبس الإنسان
الجديد الذي خلقه لنا من جسد قيامته بروحه. وهذا هو ما عمله الله فينا في سر
المعمودية!! إذ جعل إنساننا الجديد الروحي يلبس المسيح الرب الروح، وهو أصلاً ليس
غريباً عنه، لأنه سبق وخلقه على صورته في البر وقداسة الحق. فأصبح لِبْس المسيح
بمثابة اتحاد بطبيعة المسيح القائم من بين الأموات، وليس مجرد نوال صفات المسيح.
وأصبح الإنسان الجديد يستمد منه برَّه الذاتي وقداسته الذاتية.

تقول
في نفسك هذا كثير وفوق العقل والمعقول، ولكن هذه هي عطية الله والمسيح. ويتحتم أن
تكون فوق العقل والمعقول، لأن الله عظيم والمسيح كذلك، ويلزم أن تكون عطاياه عظيمة
وبلا حدود. اسمع القديس بولس وهو يصف عمق وامتداد خطة الله في عطاياه العظيمة:

+
“مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في
السماويَّات
في المسيح، كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا
لوم قدَّامه في المحبة. إذ سبق فعيَّننا للتبنِّي بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرَّة
مشيئته” (أف 3: 15)

لذلك
لا يستغرب القارئ حينما يسمع بولس الرسول يقول:

+
“مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في
الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه
لأجلي” (غل 20: 2)

هكذا
ملأ المسيح إنساننا الجديد حتى أصبح للإنسان أن يقول إن المسيح يحيا فيَّ.

إنها
بحسب تدبير نعمة الله ورحمته، عملية تعويض عظمى، هي حلم الإنسان أن يفرِّغه الله
من إنسانه الخاطئ العتيق ويُلبسه إنساناً جديداً على صورة الله في البر وقداسة
الحق. هذا هو الإيمان المسيحي!!! فنحن خليقة جديدة في المسيح: “مخلوقين
في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها!” (أف 10: 2)

الإنسان
الجديد مخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق:

هنا
خلقة الإنسان الجديد تجيء على أساس طبيعة الله: “بحسب الله”
kat¦ QeÒn، وقد تُرجمت بالإنجليزية the likeness of God،
في البر وقداسة الحق (أف 24: 4). ذلك مقابل خلقة الإنسان العتيق” الإنسان
العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور”
(أف 23: 4). عملية مبادلة يقوم بها الله
من داخل سر المعمودية، دون أن نشعر بها أو ندركها، ولكنها عمل خلقة فائق
على ملاحقة العقل وتصوُّراته. ولا نعرف عن دقائق عمل الله في هذا التبادل إلاَّ في
النهاية حينما يَسْتَعلِن لنا الله عمله، أننا خليقة لإنسان جديد بحسب الله في
البر وقداسة الحق، في مقابل “الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور”

العملية
تمت في الكنيسة بالمعمودية بالتوازي مع ما عمله المسيح على الصليب وفي القبر وفي
القيامة. فسرُّ المعمودية تسنده قوة الموت على الصليب، وقوة القيامة من بين
الأموات! وكلا العمليتين سرِّي للغاية لا يُدرَك عملهما إلاَّ بالاستعلان الروحي.
لذلك أصبح الإيمان بموت المسيح وقيامته يُجازَى أو يُحقَّق للمؤمن عملياً في سرِّ
المعمودية!! حيث في الموت أنهى المسيح على جسد الخطية وفساده، وفي القيامة استَعْلَن
البر والقداسة والحياة الأبدية: “الذي أُسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل
تبريرنا” (رو 25: 4)

بالجسد
الجديد فينا نحصل تلقائياً على شركة مع المسيح:

«قد
لبستم المسيح”
(غل 27: 3):

نحن
الآن أمام حصيلة الإيمان المسيحي وليس أعماله. فالإيمان بالمسيح، أنه ابن الله
الذي أتى بالجسد وأكمل لنا الفداء بالموت على الصليب والخلاص والحياة الأبدية
بالقيامة من بين الأموات، يحقِّق لنا من داخل سر المعمودية استحقاق الشركة مع
المسيح. على أن الإيمان بالمسيح ونوال الخليقة الجديدة بالمعمودية عند القديس بولس
هو بعينه عند القديس يوحنا استعلان الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا
في شخص يسوع. وهكذا فإن هذا الاستعلان، استعلان الحياة الأبدية، يحقق لنا الشركة
التي تتم لنا مع المسيح في المعمودية؛ حيث استعلان الحياة الأبدية كاستعلان النور،
يجعلنا في حالة شركة فيه(
[2])، وكاستعلان الحق أي معرفته
يجعلنا في الحق والحق فينا. هكذا نعمة استعلان الحياة الأبدية التي في المسيح
تجعلنا في شركة طبيعية مع المسيح والآب:

+
“فإن الحياة أُظْهِرَت (في المسيح)، وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة
الأبدية التي كانت عند الآب وأُظْهِرَت لنا (في المسيح). الذي رأيناه وسمعناه
نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه
يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1يو 2: 14)

وهذه
هي أعظم وأهم مميزات الإيمان المسيحي التي يحصل عليها كل مَنْ آمن بقلبه
واعتمد باسم المسيح.

الإنسان
الجديد لا يخطئ ولا يجوز الدينونة:

لأن
طبيعة الإنسان الجديد المولود ثانية بالروح هي من طبيعة جسد المسيح المُقام من بين
الأموات، وهي متَّحدة بها، فأصبح الإنسان الجديد بحسب القديس يوحنا ذا طبيعة لا
تخطئ ولا تستطيع أن تخطئ؛
وبالتالي لا يدخل الدينونة بحسب القديس بولس: “كل
مَنْ هو مولود من الله لا يفعل خطية، لأن زرعه يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطئ لأنه
مولود من الله” (1يو 9: 3)

واضح
أن طبيعة الإنسان الجديد روحية: “إن كان أحد لا يولَد من الماء والروح لا
يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو 5: 3)، وهي طبيعة سماوية: “إن كان أحد لا
يولَد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله” (يو 3: 3)

إذن،
فميراث الإنسان الجديد، وهو ملكوت الله، يمنع كليَّة أي صلة بطبيعة الخطية التي هي
أصلاً من الجسد الترابي وتنتهي إليه: “لأنك ترابٌ وإلى ترابٍ تعود” (تك
19: 3)

وهذه
الرؤية الصافية للإنسان الجديد عند القديس يوحنا، كونه لا يخطئ بسبب طبيعته
المخلوقة على صورة خالقه في البر وقداسة الحق والمتصلة به، بل ولا يستطيع أن يخطئ
لأنه مولود من الله وروح الله (زرعه) ثابت فيه يقابلها عند القديس
بولس رؤية لاهوتية أخرى للإنسان الجديد، كونه أخذ طبيعة روحانية انفكّ بها الإنسان
من الارتباط بالناموس القديم، وبالتالي بالخطية والدينونة. وهكذا أصبح الإنسان
الذي آمن بالمسيح واعتمد ونال مسحة الروح القدس وحاز على خلقة الإنسان الجديد
الروحي، غير قابل للدينونة التي ستأتي على الخطاة الذين لم يؤمنوا وعاشوا في
الإنسان العتيق، إنسان الخطية، وهو يقول:

+ “فإني أُسرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن
(الإنسان الجديد الروحي). ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي (الإنسان العتيق)
يُحَارِب ناموس ذهني (ناموس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة
الحق)، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي” (رو 22: 7و23)

هنا
أخطر موقف للإنسان المسيحي بعد أن حاز على خلقة الإنسان الجديد الروحي، يظل ناموس
الجسد العتيق ويقصد به أهواء وشهوات الإنسان العتيق مع عاداته
القديمة تعمل وتشتد في محاصرتها للإنسان الجديد حتى تسبي الإنسان، أي
تطغى عليه وتفرض سلطان الخطية. هنا يقف القديس بولس موقف الحائر المخذول ويصرخ:
“ويحي أنا الإنسان الشقي! مَنْ ينقذني من جسد هذا الموت؟” (رو 24: 7)

ولكن
تنفرج الرؤية الإيمانية عند القديس بولس ويرى نفسه أن الله لم يتركه تحت سطوة
الجسد العتيق وعاداته وخطاياه التي تجرُّه قسراً إلى الخطية، إذ أعطانا بالمسيح
يسوع معيناً آخر خلقه فينا من روحه وجسده القائم من بين الأموات غالباً الخطية
ومُبطلاً الموت والناموس جملة، وهو “الإنسان الجديد المخلوق فينا بحسب الله في
البر وقداسة الحق”. هذا يستمد ناموسه من الروح ومن المسيح، ويعمل البر لحساب
القداسة والحق، لا كصفات، ولكن كطبيعة تغذيها النعمة من الله. هنا أدرك
بولس الرسول التعادل المدهش الذي دخل فيه الإنسان بالإيمان بالمسيح، إذ في مقابل
الإنسان العتيق بعاداته المستحكمة وخطاياه التي تطغى على ملكات الإنسان وتسبيه إلى
الخطية، وُجِدَ الإنسان الجديد المخلوق بطبيعة القيامة وبروح الله وعلى صورة خالقه
في البر والقداسة والحق، يعمل منتصراً لحساب الله والبر والقداسة والحق، فيلغي
سلطان الجسد العتيق وينتصر على إيحاءاته الباطلة، وإليك:

+
“أشكر الله بيسوع المسيح ربنا، إذ أنا نفسي

1. بذهني (الإنسان الجديد المسيطر على الذه‎ن الروحي) أخدم
ناموس الله،

2. ولكن بالجسد ناموس الخطية” (رو 25: 7)

والنتيجة:

+
“إذاً”لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع (بالإيمان
والمعمودية)” (رو 1: 8)(
[3])

ولماذا؟

يعود
القديس بولس ويعطي هو نفسه الإجابة: “لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع
(الذي خُلق به الإنسان الجديد الروحي فينا) قد أعتقني من ناموس الخطية
والموت” (رو 2: 8)

هنا
يُلاحَظ أن كلمة “أعتقني”تأتي في مقابل كلمة “يسبيني”السابقة،
والعتق من ناموس الخطية هنا لم يأتِ بأعمال الإنسان، بل بسبب عطية الله المجانية
بلِبْس الإنسان الجديد الحائز على ناموس روح الحياة. فبقدر ما أن الجسد العتيق
بخصاله وعاداته وتعهُّده السابق مع الخطية كان له القدرة أن يسبيني إلى ناموس
الخطية؛ إذا بناموس روح الحياة (النعمة) في المسيح يسوع، الذي استقر في أحشائي
مع الإنسان الجديد، قد أصبح له القدرة الأعلى من قدرة الجسد العتيق في أن يعتقني
أصلاً من ناموس الخطية والموت.

هذا
يعني أن الله أعطانا هذا الجسد الجديد الروحي فينا، بالإيمان بالمسيح وبالمعمودية،
بقدراته الروحية الجديدة الفائقة، ليبطل به سيادة وتجبُّر الإنسان العتيق فينا،
ليس في أعيننا وفي إحساسنا؛ بل أمام الله وعدله الفائق في البر والرحمة.

ولكن:

لا
تزال الميزة العظمى التي نلناها بالإيمان المسيحي بسبب حصولنا بالإيمان وسر
المعمودية على هذا الإنسان الجديد (الذي يمثِّل شخصيتنا وذاتنا الحقيقية أمام الله
كما تسميه الترجمة الإنجليزية
The
new self
، أي الذات أو الأنا
“الإجو”الجديد للإنسان المعمَّد)، هذه الميزة هي أننا أُعفينا من الدينونة
العتيدة نهائياً: ” لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح
يسوع”.
وإذا أخذنا فرضاً ببقية الآية (وهي غير موجودة في المخطوطات
القديمة، وأُسقطت نهائياً من الترجمة الإنجليزية)، والتي تقول: “السالكين ليس
حسب الجسد بل حسب الروح” فهي تُفهم على أنها تشرح القول “الذين هم في
المسيح يسوع” وليست مُضافة إليه.

والشرح
بهذه الروح الإيجابية الذي يطيِّب قلب الإنسان، أُهمل في التعليم، وقلَّ مَنْ
ينتبه إلى حقِّه الإلهي في هذا الوعد. مع أنه حق مجاني لا يحتاج إلى سعي أو جهد،
فهو هبة. وهو عند القديس بولس على وزن ما جاء في الإنجيل: ” مَنْ آمن
واعتمد خَلَصَ”
(مر 16: 16)، حيث الإيمان يتحتَّم أن يكون بالقلب.

الموازنة
بين المعمودية والصليب:

بولس
الرسول هو الذي التفت إلى هذه الموازنة الخطيرة: “أم تجهلون أننا كل مَنْ
اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته،
فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما
أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جِدَّة الحياة”
(رو 3: 6و4)

بمعنى
أن سرَّ المعمودية هو على غرار سر الإفخارستيا: مشاركة فعلية واتحاد!!

فكما
أعطانا المسيح عملية(
[4]) سر الإفخارستيا ليكون لنا على مدى الدهر الفرصة
الحية العملية أن نشترك اشتراكاً سرِّياً واقعياً، إنما بالروح، في ذات جسد المسيح
ودمه المسفوك على الصليب باعتباره ذبيحة فداء ندخل في صميمها ونتحد بها لنحيا بها
حياة جديدة أبدية؛ هكذا أعطانا عملية(4) سر المعمودية ليكون لنا شركة
عملية حيَّة فعلية في عملية صلبه وموته ودفنه بالكامل، وبالتالي يكون لنا فعاليتها
ونتائجها التي ذكرها على التو بعد ذِكر الموت والدفن: “حتى كما أُقيم المسيح
من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جِدَّة الحياة” بمعنى أننا
إذا شاركناه في موته ودفنه بالمعمودية، يكون لنا الحق بالتالي أن نشاركه في قيامته
التي قامها بمجد الآب، وبالضرورة نحيا معه في حياة القيامة الجديدة الأبدية.

ولكن،
ما هو أصل وسبب إعطائنا سر المعمودية؟

المسيح لا ينقل لنا عملية صلبه وآلامه وموته ودفنه وقيامته
كمجرد هبة أو أمر أو وثيقة نطقها فكانت! وإنما حقيقة ذلك عميقة ومدهشة، لأن المسيح
لم يُصلب ويتألم عن نفسه! فهو لم يخطئ ولا كانت له أي علاقة بالخطية حتى
يُعاقَب وتحل عليه العقوبة ويحل عليه الموت! لولا أنه لمَّا لَبِسَ جسدنا أولاً
بالميلاد من العذراء القديسة ومن الروح القدس، ثم ارتضى وسلَّم نفسه للسنهدريم
وقَبِلَ أن يُحاكمه على خطايا كاذبة وهمية من صنع فكر الرؤساء وشهود الزور، ولم
يعترض لا على القضاة (وهم غير مؤهلين) ولا اعترض على التهم التي لفَّقوها عليه، ثم
ارتضى أيضاً ووافق وسلَّم نفسه للمحكمة الرومانية ولم يعترض ولم يرد على الاتهامات
ولا دافع عن نفسه نهائياً؛ فبهذا السلوك يكون قد وافق على جميع التهم الموجَّهة
ضده وجميع الخطايا التي نُسبت إليه، وبالتالي قَبِلَ بالحكم وما يلزم من
الآلام. ولهذا حُسِبَ له أنه قَبِلَ وحمل خطايانا في جسده على خشبة الصليب ليموت
بمقتضاها.

إذن،
فالآلام التي جاءت عليه هي أصلاً آلامنا التي نستحقها. كذلك الموت وتكميله بالدفن
هو في الحقيقة موتنا. لهذا اعتُبِرت أعمال الآلام والصلب والموت والدفن مشاركه منه
في عقوبتنا، أو في الحقيقة نحن الذين اشتركنا معه بطبيعتنا الجسدية الخاطئة لكي
يستطيع بعد أن يكمِّلها معنا ولنا بقيامته من بين الأموات كابن الله، أن يقيمنا
معه بلا خطية مبرَّئين بلا عقوبة ولا غضب، بل ومصالَحين مع الله الآب بطبيعتنا
الجديدة المخلوقة لنا فيه.

ولكي
يسلِّمنا المسيح هذه الطبيعة الجديدة المخلوقة فيه بالقيامة من بين الأموات
الخالية من الخطية والمعتوقة من الدينونة؛ دبَّر لنا عملية المعمودية كعمل روحي
سرِّي، يُجرِي فيه وبواسطته تسليم هذه الطبيعة لنا على صورة خالقها في البر وقداسة
الحق، بأن أعطانا أن نلبسه لبساً بالروح ليصير هو قائماً حيًّا فينا ونحن فيه على
صورته في البر وقداسة الحق. لذلك حُسِبت المعمودية بكل أعمالها السرِّية المجانية
موازية تماماً لكل أعمال الفداء التي عملها الآب في ابنه ولها كل مفاعيلها
ونتائجها، بل وكرامتها ومجدها.

ومرة
أخرى تكشف لنا الآية كل هذا الحق:

+
“أم تجهلون أننا كل مَنْ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه
بالمعمودية للموت،
حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد الآب، هكذا نسلك نحن
أيضاً في جِدَّة الحياة. لأنه إن كنَّا قد صرنا متَّحدين معه بشِبه موته (على
الصليب، وفي المعمودية)، نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد
صُلب معه ليُبطل جسد الخطية،
كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية. لأن الذي
مات قد تبرَّأ من الخطية..
فإن الخطية لن تسودكم، لأنكم لستم تحت الناموس بل
تحت النعمة” (رو 3: 67و14)

فكما أبطل المسيح الخطية بموته، أُبطلت الخطية
بالمعمودية.

وكما أن إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه، هكذا
صُلِبَ الإنسان العتيق في المعمودية ومات.

وكما أن بموت الصليب قد نلنا الفداء والبراءة
من الخطية، هكذا بموت المعمودية قد نلنا البراءة من الخطية.

وكما بعد الموت والدفن قام جسد المسيح بمجد
الآب وبرِّه ونحن فيه، هكذا في المعمودية نأخذ بعد شركة الموت والدفن مع المسيح
قوة قيامته بمجد الآب وبرِّه، أي نقوم مبرَّرين وبلا لوم أمامه في المحبة والنعمة.

بل ويؤكِّد بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس أن كل مكاسب
الصلب والموت والدفن وما بعدها أيضاً من القيامة والارتفاع بالمجد إلى أعلى
السموات وإخضاع كل القوات السمائية، قد أُعطيت لنا في شخص الكنيسة هكذا:

+
“وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين، حسب عمل شدَّة قوته الذي
عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات، وأجلسه عن يمينه في السماويَّات، فوق كل
رياسة وسلطان وقوة وسيادة، وكل اسم يُسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل
أيضاً، وأخضع كل شيء تحت قدميه، وإيَّاه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة،
التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكلَّ في الكلِّ” (أف 19: 123)

أي
أن كل مكاسب المسيح، إن بموته أو قيامته، صارت للكنيسة أو بالحري لنا. على
أن أهم عملية في الفداء بالكفَّارة على الصليب كانت موت إنسان الخطية، وقيامة
الإنسان الجديد الروحي، وهذه يحقِّقها سرُّ المعمودية: بخلع الإنسان العتيق الذي
صُلب ومات مع المسيح، ولِبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق
أي المسيح نفسه. هذه العملية السرية الهامة جداً، وهي خلع الإنسان العتيق ولبس
المسيح أي الإنسان الجديد، صارت أعظم عمليات الإيمان بالمسيح التي تجرى مجاناً
وسرًّا بواسطة المعمودية،
التي يخرج منها الإنسان جديداً ليحيا مع المسيح في
جدَّة الحياة، أي الحياة الأبدية في شركة كاملة سرِّية مع المسيح بالروح القدس.

من
هنا يشدِّد طقس العماد بضرورة خلع الملابس التي تشير إلى الإنسان العتيق ونزول
الإنسان عرياناً تماماً للغطس تحت الماء بشبه الدفن ثلاث مرات على اسم الثالوث
القدوس، ثم بمجرد خروجه من الماء يُعطى ثوباً أبيضَ جديداً يلبسه إشارة إلى
الإنسان الجديد. وهذه وإن كانت إشارات إلاَّ أن مرادفها على الصليب كانت حقائق
خطيرة وذات مفاعيل إلهية.

وكما استُعلن الموت والقيامة في عملية الفداء والخلاص التي
أكملها المسيح من أجلنا؛ كذلك، وعلى نفس المستوى، استُعلن في المعمودية موت
الإنسان العتيق في الإنسان ولِبس الإنسان الروحي الجديد. لهذا أصبح الإيمان بهذا
بالصليب وبالقيامة هو بذاته الإيمان بذلك في المعمودية على نفس القوة
والفاعلية، لأن جوهر الإيمان وفاعليته هو في تصديق استعلان الله في الصليب
والمعمودية. وهذا يتم بواسطة الوعي الروحي للإنسان الجديد.

وعي
الإنسان الجديد المؤسَّس على الإيمان والرجاء والمحبة:

وظيفة
الوعي (الذهن المفتوح) للإنسان الجديد هو الارتباط الوثيق بخالقه، ويتم بناءً على
ثلاث مواهب مُنحت له لهذا الغرض أي لتكميل الاتصال والاتحاد بالله والمسيح:

1
قوة الوعي الأولى للإنسان الجديد هي الإيمان ويتوقف على تصديق
استعلانات الله:
الأمر الذي يُنشئ في الحال للذات البشرية الجديدة الإحساس ببر
الله يسري فيها كدالة، كما يشعر الابن بقربه من أبيه وصلته الذاتية كابنٍ لأب.
بمعنى أنه بمجرد أن يصدِّق الإنسان بحاسة الإيمان لإنسانه الجديد الروحي في الداخل
أن الله أحبنا واستعلن لنا الحياة الأبدية في ابنه، فإن الجزاء المباشر من الله هو
إعطاؤنا هذه الحياة الأبدية في ابنه، بل وإعطاؤنا ابنه بذاته ليكون لنا حياة جديدة
فيه، وبالتالي لننال نفس الدالة مع الآب ذاته: “أما شركتنا نحن فهي مع
الآب
ومع ابنه يسوع المسيح” (1يو 3: 1)، لماذا؟ (بلغة القديس يوحنا)
لأننا صدَّقنا محبة الآب التي لنا، وصدَّقنا عطيته لنا في ابنه، وهي الحياة
الأبدية.

2
قوة الوعي الثانية للإنسان الجديد هي الرجاء: ويعطينا الرجاء
الثقة بالله وترقُّب تنفيذ وعوده بيقين وكأنه قد حدث. ويكون نتيجة هذه الثقة في
وعود الله أن يحفظ حقوقنا فيها ويسبق ويعطينا أن نتذوَّقها كالعربون وكأننا نعيشها،
فترتفع درجة فرحنا بالله للغاية: “فرحين في الرجاء” (رو 12: 12)

3 قوة الوعي الثالثة للإنسان الجديد هي
المحبة:
وتعطينا أن يظهر الله في حياتنا كأول كل شيء وأهم من كل شيء، وتختفي
ذواتنا وراءه فيُرَى الله فينا ولا نُرَى نحن. ويصير اسمه محبوباً عندنا كأعظم
هدية نقتنيها، فيجازينا هو بمحبته الفائقة عن الوصف كمحبة الآب لابنه: “والذي
يحبني يحبه أبي، وأنا أُحبه، وأُظُهِر له ذاتي” (يو 21: 14)، “لأن
المحبة هي من الله، وكل مَنْ يحب فقد وُلِد من الله ويعرف الله” (1يو 7: 4)

ومن
مفاعيل هذه القوة الروحية الثلاثية الأبعاد في الإيمان والرجاء والمحبة التي
للإنسان الجديد، أن ينمو الإنسان المسيحي في معرفة الله وحبه وطاعته بلا عائق،
ويتربَّى على الخضوع والطاعة الكاملة. وهكذا إذا استخدم الإنسان الجديد مواهبه
الممنوحة من الله للإيمان والرجاء والمحبة، يتقدَّس الإنسان ويصير من خاصة الله،
لا بالأعمال التي يعملها، بل باستخدام المواهب والقوة الكائنة فيه.

هذه
الثلاثة: الإيمان والرجاء والمحبة، هي من صميم طبيعة الإنسان الجديد التي وُهبت له
لتهيئ له حياة الشركة الدائمة مع الله. وإن كانت المحبة أعظمهن، فالإيمان أولهن
الذي يفتح الباب على أسرار وعطايا الله الفائقة، لأن: “بدون إيمان لا يمكن
إرضاؤه” (عب 6: 11). على أنه من العسير أن توجد واحدة منها بمفردها. فالإيمان
والرجاء والمحبة، هي مثلث النعمة المتَّجه برأسه إلى فوق، ذو الثلاثة أضلاع
المتحدة في نقطة واحدة، هي العين الرائية.

(ديسمبر
1996)



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى