علم التاريخ

الانشقاق العظيم 1054



الانشقاق العظيم 1054

الانشقاق
العظيم
1054

بدء
الانشقاق العظيم

الكاردينال
هومبرتو: وكان الكاردينال هومبرتو يمين البابا ورئيس أركانه على شيء من العلم
والثقافة وبعض الشيء من التقوى ولكنه كان ضيق الخلق جافي الطبع شديد التصلب صفيق
الوجه لا يندى له جبين. وكان يكره اليونانيين فجاء وفي رأسه خطة وعزم على الذهاب
بنفسه إلى القسطنطينية حاملاً رد البابا. فأعد باسم سيده رسالة إلى الفسيلفس شكا
فيها البطريرك وأخبر بسوء فعله وأنذر بالمقابلة بالمثل وخوّف من العواقب. وأعلم
بقيام وفد باباوي إلى القسطنطينية وطلب تسهيل مهمته. وكتب رسالة أخرى إلى البطريرك
المسكوني أكد فيها أولوية روما وسيادتها ولام البطريرك على التلقب بالمسكوني وشك
في قانونية انتخابه وأنكر عليه تطاوله على حقوق كنائس الإسكندرية وأنطاكية وأنبه
على تطفله وانتقاده الطقس اللاتيني ولا سيما التقديس على الفطير ورجا الله أم يجده
ممثلو البابا الذاهبون إلى القسطنطينية في التوبة والندامة!.

 

الوفد
البابوي المفاوض: وتألف الوفد المفاوض من الكاردينال الأسقف هومبرتو والشماس
فريدريكوس اللوريني حافظ الختم وبطرس رئيس أساقفة أمالفيس. وسهل النورمنديون
المفاوضة. فدعا لاون التاسع إلى مجمع محلي في باري في صيف سنة 1053 فتشاور الآباء
اللاتينيون في أمر الانبثاق من الآب والابن وزودوا الوفد بما يجادلون به. وفي مطلع
السنة 1054 قام الوفد إلى أبولية للاتصال بأرجيروس المجيستروس والإصغاء إلى
إرشاداته. فنصح إليهم أرجيروس أن يتصلوا بأخصام البطريرك المسكوني في القسطنطينية
وأن يتعاونوا معهم في السعي لدى الفسيلفس لإحباط مشاريع البطريرك المسكوني
وإبطالها. فجاء رأيه سخيفاً فاسداً لأن البطريرك ميخائيل الأول كان قد غبّر في
وجوه أخصامه في القسطنطينية وأصبح لا يباري ولا يمادي في سياسة العاصمة. والتمس
على هومبرتو وجه الصواب وأخذ بهذا الرأي الطائش وقاطع من رغب في مفاوضته قبل
الاتصال به.

 

هومبرتو
في القسطنطينية: (1054) ووصل الوفد المفاوض إلى عاصمة الروم في أواخر آذار أو
أوائل نيسان سنة 1054. وعملا برأي أرجيروس العاثر، أهمل الوفد البطريرك واتصل
بالفسيلفس أولاً فخالف العرف الكنسي. ثم عرَّج على البطريركية فاستقبله البطريرك
في قاعة التسجيل يحيط به رهط من المطارنة وكبار الموظفين الاكليريكيين. وقضى العرف
المسيحي بأن يدخل الكردينال الأسقف على البطريرك المسكوني متواضع النفس خافض
الجناح متنحياً عن مقاعد الكبر ولكن هومبرتو أقبل شامخ الأنف رافع الرأس سموداً.
وقضي البروتوكول البطريركي بأن يجلس الأسقف بعد المطارنة فجاوز هومبرتو قدره وتعدى
حده وامتنع عن الجلوس. ثم نصب صدره ومط حاجبيه ودفع برسالة لاون التاسع دفعاً وسما
بنفسه ثم خرج أزهى من الغراب. فاعتبر البطريرك هذا العمل وقاحة وخرقاً لحجاب
الحشمة.

ثم
قرأ البطريرك رسالة البابا ودقق في ختمها فرابه أمرها واعتبرها من وحي أرجيروس
خصمه فامتنع عن الاعتراف بصلاحية الوفد المفاوض وأبى أن يشترك مع أعضائه. وتوفي
لاون التاسع في الثالث عشر من نيسان سنة 1054 وشغر الكرسي الروماني سنة كاملة ولم
يرقَ فيكتوريوس الثاني السدة قبل الثالث من نيسان سنة 1055 وعلم البطريرك هذا كله
فنام عن أمر هومبرتو وتركه رهن الطوارق.

ولكن
هومبرتو أسهر قلبه واستوقد غضبه وراح يتحرّق ويتلهّب فعكف على ملفه وقلّب أوراقه
فوجد فيه الردين الأولين على رسالة لاون أخريدة وعثر أيضاً على رسالة كانت قد وردت
على روما من أورشليم وفيها ما يؤيد روما في بعض طقوسها فأعاد النظر في نصوص هذه
الرسائل “وهذبها” وتقلها إلى اليونانية وأتحف الروم برد على لاون أخريدة
أفرغ فيه ذنوباً وذنوباً. فهب الراهب نيكيتا ستيثاتوس الاستودي فصنف رسالة في حق
اللاتين. وطعن في حالة العزوبة المفروضة على الكهنة عندهم وفي ممارسة القداس
العادي في أثناء الصوم على الرغم من تحريمه في القانون الثاني والخمسين من قوانين
مجمع تروللي ولكنه لم يرَ في هذا كله هرطقة بل انحرافاً عن التعليم الرسولي. وسمى
كنيسة روما “عين المسكونة كلها”.

فعاد
الكردينال إلى طيشه وخلع جلباب الحياء فأوسع نيكيتا شتماً وسباباً وجعله سافلاً
وحماراً وزانياً ورئيس الهراطقة. واحتج لدى الفسلفس وأصر على الاعتذار متخذاً
لنفسه صفة القاضي الروماني الذي جاء ليصدر حكماً مبرماً لا المفاوض بالسلام
والمحبة. “فاعتبر الكرسي القسطنطيني العظيم أسقفية متمردة خاضعة لبطريركية
روما وعامل صاحبها معاملة مرؤوس مذنب يجب عليه التماس الصفح من رئيسه الكريم. وظن
أن ميل الفسيلفس نحوه لأسباب سياسية يكفي لقهر البطريرك والشعب” وسال لعابه
من فمه فأثار مشكلة الانبثاق وأدعى أن اليونانيين حذفوا من دستور الإيمان النيقاوي
القسطنطيني العبارة “ومن الابن” فأساء التصرف وكشف جهله. واضطر الفسيلفس
أن يطلب إليه شرح ذلك كتابة. ففعل وقدم مذكرة خطية بهذا المعنى قبل الرابع
والعشرين من حزيران سنة 1054. وقد عثر على نسخة قديمة منها العلامة الألماني ميشال
ونشرها في مؤلفه عن هومبرتو وكيرولاريوس. وحاول الفسيلفس جهده للتقريب بين الطرفين
ولكن البطريرك أصر على مجانبة هومبرتو وأوجب دعوة مجمع مسكوني للبت في أمر
الانبثاق. فازور الكردينال وانقبض ولجأ إلى الحرمان والتحريم.

 

حرم
هومبرتو: وفي السادس عشر من تموز سنة 1054 دخل الوفد الباباوي إلى كنيسة الحكمة
الإلهية والقداس قائم فيها واتجهوا نحو الهيكل فالمائدة ورفعوا الإنجيل الطاهر
ووضعوا حرماً تحته بحضور الاكليروس والبطريرك. ثم نفضوا غبار أرجلهم وخرجوا
قائلين: “الرب يحكم في ما بيننا وبينكم”. ومكثوا يومين في القسطنطينية
ثم غادرها حاملين الهدايا حسب العادة! “فجاء عملهم أقرب إلى التمثيل المسرحي
منه إلى عمل كنسي”.

والأمر
الذي يؤسف هو نص الحرم ولهجته. فقد نسب الكردينال إلى البطريرك المسكوني سلسلة من
التهم والهرطقات الخيالية. فقد جاء في هذا الحرم عن البطريرك ميخائيل الأول أنه
ذاك الذي يزعم أنه بطريرك وجاء عن المؤمنين أنهم تبعوا جنون هذا الذي يزعم أنه
بطريرك وأنهم كالغيلاسين يرقون الخصيان إلى درجة الكهنوت الأسقفية وكالآريوسيين
يجددون عماد اللاتين وكالدوناطيين ينكرون وجود كنيسة المسيح خارجاً عنهم
وكالنيقولاويين يزوجون الكهنة بعد رسامتهم وكالسافاريين يلعنون شريعة موسى وكأعداء
الروح القدس حذفوا من قانون الإيمان العبارة “والابن” وكالمانيين يقولون
بأن الخمير حي ذو نفس كالناصريين لا يعمدون ولو في خطر الموت من كان في حالة من
الأحوال التي تسمى نجاسة في شريعة موسى وأنهم يرفضون تقديم القربان لمن يحلق لحيته
إلى ما هنالك من الافتراءات التي لا أساس لها. وجاء في هذا الحرم أخيراً أن
ميخائيل الأول أغلق كنائس اللاتين واضطهدهم ومنع المندوبين من إقامة القداس وأنه
بإنزاله الحرم ببعض اللاتين تجرأ على حرم الكرسي الرسولي نفسه. وانتهى الحرم هكذا:
“ميخائيل الحديث في الاكليروس الذي يحمل بلا حق لقب بطريرك الذي اتخذ اللباس
الرهباني بعامل الخوف البشري فقط ومعه لاون الذي يزعم أنه أسقف أخريدة ونيقيفوروس
كاتب ميخائيل الذي انتهك حرمة القدسيات فداس برجليه ذبيحة اللاتين وكل الذين
يتبعونهم في ضلالاتهم المذكورة وتجاسراتهم المتغطرسة كل هؤلاء فليسقطوا تحت اللعنة
-ما ران انا- مع السمونيين والفلاسييين والآريوسيين والدوناطيين والنيقولاويين
والسافاريين وأعداء الروح القدس والمانيين والناصريين وجميع الهراطقة لا بل مع
الشيطان وملائكته ما لم يتوبوا. آمين آمين آمين”!.

وخرج
هومبرتو من كنيسة الحكمة الإلهية وخرج شريكاه أيضاً فلحق بهم شماس أرثوذكسي حاملاً
الحرم بيده راجياً استرجاعه. فأبوا فرمى بالحرم إلى أرض الشارع ثم التقط الحرم
ورفع إلى البطريرك فأمر بترجمته. فنقله إلى اليونانية كل من البروتوسبثاريوس كوزما
وبيروس الروماني والراهب يوحنا الأسباني.

 

البطريرك
والفسيلفس: ووقف البطريرك على الرجمة اليونانية فاتصل بالفسيلفس وأطلعه عليها.
وكان قسطنطين قد ودع ضيوفه بقبلة السلام والمحبة فلم اطلع على مضمون الحرم اشتعل
غضباً وكاد يخرج من ثيابه. ثم رجعت أناته وخشي أن يكون البطريرك قد بالغ في الأمر
فأرسل من لحق بالوفد الروماني وطلب نسخة من الأصل اللاتيني. ولدى اطلاعه على هذا
الأصل وضح الأمر وبان الذنب فأرسل الفسيلفس يأمر الوفد بالعودة إلى القسطنطينية
والمثول أمام السينودوس المقدس. فأبوا وتابعوا المسير.

ولم
يلبث خبر الحرم أن ظهر وشاع في العاصمة. فاضطربت به الألسنة وصار على الأفواه ففار
فائر الشعب وثار ثائره وبات يرعد من الغضب. فخشي قسطنطين سوء العاقبة فأمر بمعاقبة
الوسطاء بين الوفد وبين الأوساط الرسمية وألقى القبض على أقرباء أرجيروس وزجهم في
السجن ثم أمر بإحراق الحرم علناً. وكتب بهذا كله إلى البطريرك المسكوني:

“أيها
السيد الجزيل القداسة. إن دولتي قد دققت في الأمر الذي حصل فوجدت أصل الشر ناشئاً
عن المترجم وعن أرجيروس. أما غرباء الجنس فإنهم مرسلون من آخرين ولا نستطيع أن
نعمل معهم شيئاً. وأما المسببون فقد ضربوا. ثم إنا أرسلناهم إلى قداستك ليؤدب بهم
آخرون. أما ‘الورقة’ فمن بعد حرمها وحرم الذين أشاروا بها والذين أصدروها والذين
كتبوها والذين لهم أقل علم بها فلتحرق أمام الجميع. وقد أمرت دولتي بسجن
الفيستارشيس صهر ارجيروس وابنه الفيستياريوس ليقيما فيه تحت الشدة بحسب
استحقاقهما”.

 

السيميومة:
ودعا البطريرك المجمع المقدس إلى النظر في قضية هومبرتو. فالتأم المجمع في العشرين
من تموز بحضور رسل الفسيلفس الثلاثة الذين حملوا رسالته إلى البطريرك. فلعن المجمع
الحرم وواضعيه وكل من عاون في إعداده. وأبى البطريرك إحراق الحرم لأنه رغب في
“أن يبقى شهادة على العار الأبدي والذنب الدائم اللذين لحقا بأولئك الذين
جدفوا على إلهنا مثل هذا التجديف”.

وفي
الرابع والعشرين من الشهر نفسه عاد المجمع إلى الانعقاد فجلس في كنيسة الحكمة
الإلهية في المكان المعين للموعوظين واتخذ قراراً رسمياً في قضية هومبرتو عُرف
بالسيميومة
Semeiouma أي “الحاشية” وقرئ على المؤمنين في الوقت نفسه الذي أفسح
لتلاوة قرارات المجمع المسكوني الخامس. وكانت العادة قد جرت بقراءة هذه القرارات
في مثل ذلك اليوم (24 تموز/
July) من كل عام.

“لقد
جاء الآن رجال أردياء الإيمان وكرهون رجال نبغوا من الظلام لأنهم أولاد المغرب
ودخلوا هذه المدينة الحسنة الإيمان المحفوظة من الله التي تتدفق منها ينابيع الرأي
القويم فتجري إلى أقاصي المسكونة لتسقي النفوس بالعقيدة الحسنة. وقفز هؤلاء الرجال
وشرعوا يفسدون التعليم الصحيح وتمادوا فوضعوا صكاً على المائدة السرية مائدة كنيسة
الله العظمى وبه وضعونا وكنيسة الله الأرثوذكسية وسائر الأرثوذكسية تحت الحرم
لأننا نريد أن نواظب على الإيمان الحسن ونعيش على استقامة الرأي. وقد طعنوا فينا
ببعض المطاعن وبأننا لا نطيق أن نحلق لحانا فنحول صورة الإنسان الطبيعية إلى صورة
غير طبيعية مثلهم وبأننا لا نرتاب في أمر تناول الأسرار من قساوسة متزوجين وبأننا
لم نرغب في الدس في الدستور الشريف المقدس وفي تزويره بآراء نغيلة وأقوال دخيلة
فلم نقل مثلهم أن الروح القدس ينبثق من الآب والابن بل من الآب.

وقد
تظاهروا بأنهم جاؤوا من روما وأوفدوا من البابا والصحيح أنهم جاؤوا من تلقاء
أنفسهم وبإرشادات ارجيروس الغشاشة ولفقوا تحارير وادعوا أنها صادرة عن البابا. وقد
كشفنا هذا التزوير بتدقيق الأختام وأمور أخرى وجاء الصك بأحرف إيطاليا ووضعه هؤلاء
الأردياء أولاًً على مائدة كنيسة الله العظمى بحضور سبعة ايبوذياكونة القسم
الثاني. فرفضه الابيوذياكونة ورموه عن المائدة الإلهية وقالوا لواضعيه أن يأخذوه.
فامتنعوا. ثم تناقلته الأيادي فأخذته حشمتنا وحفظته كي لا تنشر التجاديف التي فيه.
ثم إننا دعونا من يجيد الترجمة وسمحنا بنقل الصك إلى اليونانية . فتبين منه أن كل
من يقاوم إيمان السدة الرومانية وبيحتها فليكن اناثيما وليدع خميرياً وضداً جديداً
للمسيح. فأعلنت حشمتنا هذا الأمر لملكنا صاحب القدرة والقداسة. فأرسل يستدعيهم إلى
المدينة العظمى لأنهم كانوا قد سافروا قبل ذلك بيوم واحد. فعادوا ولكنهم لم يريدوا
أن يحضروا أمامنا ولا أن يواجهوا المجمع العظيم المقدس ويجيبوا عما يتقلدون رتبة
السفارة بحسب الظاهرة. ولكن بما أنه لا يليق أيضاً ولا يحق أن تبقى هذه السفاهة
بلا قصاص فقد دبرّ الملك علاجاً ناجعاً وأرسل إلى حقارتنا كتاباً شريفاً محترماً.
وهذه صورته بالحرف الواحد: (أنظر أعلاه – الفقرة ما قبل السيميومة) “.

 

البطريرك
المسكوني وسائر البطاركة: وسارع ميخائيل إلى الاتصال بزملائه البطاركة الشرقيين
لاطلاعهم على واقع الحال وحثهم على اتخاذ موقف مماثل لموقفه فحرر رسالتين إلى بطرس
الثالث بطريرك أنطاكية. وكتب الأولى فور انتهائه من إصدار السيميومة فذكر أعمال
هومبرتو باختصار وبين موقفه منها ولا سيما من قضية الفيليوكه ووعد بإرسال نسخة عن
حرم هومبرتو ورجا زميله الأنطاكي أن يتصل بزميله الأورشليمي والإسكندري ويحضهما
على الدفاع عن الأرثوذكسية. ثم عاد إلى الكتابة فأسهب وتكلم في موقف الكنيسة
اليونانية الأرثوذكسية من الكنيسة اللاتينية الكاثوليكية. ومما قاله ما معناه:

“ولما
علمت ما كان يتحلى به البابا الذي توفي من فضائل كتبت إليه كتابة مسهبة بوجوب
الاتفاق على نقاط الاختلاف في الإيمان. وكنت أرجو أن أستميل البابا للتعاون مع
الأفرنج ضد النورمنديين في إيطاليا. ودفعت بهذه الرسالة ورسالة من القيصر إلى
البستياريوس ليسلمها أمينة وينقل الجواب عنها. فلما وصل هذا الرسول إلى إيطاليا
اتصل بأرجيروس فخدعه وأخذ الرسائل منه مدعياً أنه بإمكانه أن يقدمها للبابا بشرعة
أكثر منه. وأخذ بارجيروس الدراهم الملوكية المرسلة إلى البابا وتصرف بها لمنفعته الشخصية.
ودعا إليه تابعيه وبينهم واحد كان أسقفاً على مدينة املفينا فطرد من كنيستها
لأسباب شرعية. وبينهم أيضاً الكردينال هومبرت له اسم رئيس أساقفة فقط ولم تكن
أبرشيته معروفة. أما الثالث فإن أرجيروس لقبه كانكيلاريوس الكنيسة الرومانية
ليجعله برجاً حصيناً لمقاصده. ثم فتح ارجيروس رسالتي وكتب إليّ جواباً متستراً تحت
اسم البابا. ثم جعل هؤلاء الثلاثة يحملون هذا الجواب إلى القسطنطينية. ولما وصلوا
إلى هنا حضروا أولاً أمام القيصر بعنفوان غريب. ثم زاد هذا العنفوان حين جاؤوا
إليّ. فإنهم لم يقولوا لي كلمة واحدة ولم يحنوا رأسهم ولم يسلموا السلام العادي
ولم يرضوا بالجلوس بعد المطارنة. وما لي والقول عن نفسي فإنهم دخلوا على القيصر
حاملين بأيديهم الصلبان والعكاكيز. واكتفوا بأن سلموني الرسالة المختومة وابتعدوا
ولاحظت الرسالة قبل فضها فرأيت ختمها مزوراً. أما فحواها فإنه كان مملوءاً ممالقة
وخبثاً لأنه شمل جميع المواضيع التي كان أرجيروس قد ذاكرني بها يوم كان في
القسطنطينية ولا سيما موضوع الفطير. وكنت قد اضطررت إلى حرمه أربع مرات. وإني مرسل
إليك نسخة عن رسالتي إلى البابا وترجمة يونانية لجوابه الذي حمله إلي أولئك الكفرة
لكي تعلم الحقيقة حق علمها. ثم إن خبثهم ظهر بجلاء بعد حضور رئيس أساقفة تراني
فإنه كشف لنا كل شيء فإذا به يتفق وما كنت قد سردته للقيصر”.

ولام
ميخائيل زميله الأنطاكي فراجعه بذكر اسم لاون التاسع في الذيبتيخة مؤكداً أن أسماء
الباباوات حذفت من ذيبتيخات الكنائس بعد البابا فيجيليوس. وطعن في استعمال الفطير
في كنائس اللاتين وفي أمور أخرى انحرفوا بها عن التسليم الأبوي القديم وخالفوا
القوانين المسنونة ولا سيما أكل المخنوق والدم وحفظ صوم السبت بدلاً من الأربعاء
ومنع زواج الكهنة والسماح بالزيجة بين الأقرباء والتعميد بغطسة واحدة والزيادة على
دستور الإيمان والقول بالانبثاق من الآب والابن والخاتم الذي يلبسه أساقفتهم
وخروجهم في الحروب كالعسكر وهرق الدم لهلاك النفوس. وأضاف ميخائيل أن الذين يرسلون
من الغرب يسعون لبث تعاليمهم المنحرفة ويكرهون الناس على قبولها.

 

أنطاكية
تذكر بالمحبة: وقال بطرس الثالث بطريرك أنطاكية قول سلفائه بطاركة أنطاكية
بالبنتارخية أي برئاسة البطريركيات الخمس على الكنيسة وصارح روما بذلك في رسالة
الجلوس التي وجهها إلى لاون التاسع حين تسلم عكاز الرعاية. وكرر هذا القول في رده
على دومينيكوس رئيس أساقفة اكويلية. وقد سبقت الإشارة إلى هاتين الرسالتين في
موضوع سابق. واعتبر بطرس زميله الروماني مقدماً على البطاركة عملاً بقرارات
المجامع المسكونية. وأوضح لميخائيل البطريرك المسكوني أن موقفه من ذكر البابا في
الذتبيخة لا يتفق والواقع. فأكد أنه يذكر أن اسم البابا كان مكتوباً في ذيبتيخة
أنطاكية في عهد بطريركها يوحنا وأنه عندما زار القسطنطينية قبل أربعين سنة سمع اسم
البابا يوحنا يذكر مع أسماء سائر البطاركة.

ورأى
بطرس الثالث أن أضاليل روما التي ذكرها ميخائيل ثلاثة: منها ما يجب بجنبه ومنها ما
يجب إصلاحه ومنها ما يجب السكوت عنه “لأنه ماذا يهمنا إذا كان الأساقفة
اللاتينيون يحلقون لحاهم ويلبسون الخواتم. ألا نقص نحن شيئاً من شعر قمة الرأس
إكراماً لبطرس ونلبس ألبسة مذهبة. ولا حرج فيما يتعلق بالأطعمة واللحوم الغير
طاهرة لأن رهباننا يفعلون ذلك. ولا يجب أن يكره الإنسان شيئاً مما خلقه الله بل
يجب أن يقبل كل شيء بالشكر”.

أما
“الشر العظيم الذي استحق الاناثيما” في نظر البطريرك الأنطاكي فإنه كان
تلك الإضافة إلى نص الدستور المقدس أي القول بالفيليوكه. ولكنه رأى أنه من الواجب
“أن ننظر بانتباه إلى الطوية الصالحة. فإنْ لم يكن الإيمان على خطر فعلينا
حينئذ أن نرجع السلام والمحبة على غيرهما لأن الغربيين أخوتنا وإن كانوا يخطئون
أحياناً كثيرة بسبب توحشهم وجهالتهم. ولا يجوز أن نطلب من البربر الكمال الذي
عندنا نحن الذين منذ نعومة الأظفار ننشأ في مطالعة الكتب المقدسة. ويكفي أن يحفظ
الغربيون التعليم القديم في الثالوث القدوس وسر التجسد”.

ولم
يستحسن بطرس الثالث منع القسوس المتزوجين عن مسك القدسات ولم يرضَ أيضاً عن عدم
حفظ الأصوام كما حفظها هو. وأسهب في الكلام عن الفطير. ومما قاله في هذا الموضوع
ما يلي: “إن من يقدم الفطير يقدم جسداً ميتاً لا حياً وإن من يأكل الفطير لا
يستفيد من المسيح”.

وأنهى
بطرس بطرس رده على ميخائيل قائلاً: “فإن كنت تكتفي بالتسبث في موضوعي دستور
الإيمان وزواج الكهنة فقط فحسناً تفعل. وأما ما بقي فيمكنك غض النظر عنه. وعلينا
أن لا نكون سريعين في تصديق الوشايات. وأنت ستكتب حسب الواجب إلى البابا الجديد
بعد انتخابه وربما يجيبك بأن المطاعن كاذبة. ومن يستطيع أن يصدق أنهم لا يكرمون
الذخائر وهم يفتخرون بأن عندهم جسدي بطرس وبولس. وكيف لا يحترمون الأيقونات ما دام
البابا وقع على قرارات المجمع المسكوني السابع ولعن محاربي الأيقونات”.

“وبناء
عليه أترامى على أقدامك وأتضرع إليك أن تتساهل أكثر مما فعلت لكي لا تكون وأنت
راغب في إقامة الساقط قد جعلت سقوطه أكثر ثقلاً. وأنا أظن أن هؤلاء إذا أصلحوا
زيادتهم في دستور الإيمان فلا يبقى لنا شيء نطلبه بل يمكننا أن نغض النظر عن مسألة
الفطير. فأتضرع إليك ألا نطلب كطل شيء لكن لا نخسر كل شيء”.

 

أهمية
الحرم والسيميومة: ولم يشتمل الحرم الكنيسة الأرثوذكسية بأسرها وإنما أطلق ضد
بطريرك واحد من بطاركتها وعدد معين من رجال اكليروسها. وأعلن بعد وفاة لاون التاسع
وقبل وصول خلفه فيكتوريوس الثاني إلى السدة الرومانية. ولا يجوز القول أن لاون
وافق مسبقاً على القرارات الخطيرة التي تتضمنها هذا الحرم ولم يصدق أحد من
الباباوات التابعين محتوياته. ولم تشمل السيميومة الكنيسة اللاتينية ولم تذكر
أحداً من رؤسائها وإنما نظمت في حق هومبرتو ورفيقيه “لتسجل خجلاً أبدياً
للذين تجرأوا فجدفوا على الله”.

ولا
أساس فيما يظهر لما جاء في تاريخ العقيدة لجاورجيوس الميتوخيتي من أن ميخائيل
الأول أذاع، بعد أن تسلم جواب بطرس الثالث، منشوراً بطريركياً عاماً أعلن فهي
اضمحلال تفوق روما ووصوله إلى المقام الأول بين البطاركة. ولا يخفى أن جاورجيوس
هذا من أعيان القرن الرابع عشر وأنه بالتالي بعيد جداً عن الحادث الذي يروي. وقل
الأمر نفسه عما جاء في مصنفات ميخائيل بلاستارس وجاورجيوس فرانجيس اللذين ادعيا
بأن ميخائيل الأول ترأس مجمعاً عاماً في السنة 1057 وأن هذا المجمع “حرم
اللاتين وبطريركهم”. فالتفتيش الذي جرى بأمر الفسيلفس اليكسيوس في السنة 1089
في سجلات البطريركية المسكونية وأوراقها لم يظهر للوجود أي قرارا اتخذته كنيسة
القسطنطينية لإقصاء عن كنيسة روما.

والحرم
والسيميومة في نظرنا عرض من أعراض علة مزمنة كانت ولا تزال تنتاب الكنيسة الجامعة
بفرعيها اليوناني واللاتيني حتى يومنا هذا. فكنيسة روما ما فتئت منذ القرون الأولى
تطالب بالسلطة العليا على جميع الكنائس في الغرب والشرق. وكنائس الشرق ما فتئت منذ
القرون الأولى أيضاً ترد هذا الطلب مؤكدة تساوي الرسل والأساقفة والبطاركة مبينة
أن السلطات العليا في الكنيسة الجامعة هي في يد المجمع المسكوني وأن المجامع
المسكونية أجمعت على هذا الأمر وأن شرائع الأمبراطورية الرومانية ولا سيما
يوستنيانوس أثبتت هذا التساوي بشكل لا يحتمل الشك.

وليس
من العلم أو الإنصاف بشيء أن نقول مع أخواتنا الغربيين أن ميخائيل الأول أراد
الانشقاق ومهد له السبيل ودبر التدابير للوصول إليه ودفع لاون البلغاري وغيره إلى
العمل والظهور واختبأ هو وراء هؤلاء ليوجد منفذاً عند اللزوم ويستطيع الخروج منه
عند تأزم الحال. نقول ليس من العلم أو الانصاف أن نقول هذا القول وننسى مطلب روما
التاريخي وإقدامها على تزوير منحة قسطنطين واستعمال هذا المزور في السنة 1054
واندفاع لورين وكلوني في سبيل تدعيم سلطة أسقف روما وانتشار الرهبان اللاتين في
أبرشيات إيطاليا الجنوبية الأرثوذكسية الخمس للدعاية لكنيسة روما وطقوسها.
فالمبادرة في سير الحوادث التي أدت إلى أزمة السنة 1054 جاءت من الغرب لا من
الشرق. موقف ميخائيل الأول على مآخذه كان موقفاً دفاعياً لا هجومياً.

وليس
من المسيح في شيء أن نفتش مع الآب مرتينوس جوجي الصعودي والأب ايف كونغار
الدومينيكاني وغيرهما من الآباء الغربيين العلماء عن الأسباب الحقيقية التي أدت
إلى الانفصال في الكنيسة الجامعة فنجدها عرقية وثقافية وحكومية وسياسية وننسى أن
جميع هذه الأسباب توفرت في القرون الأولى ولم ينتج عنها مثل هذا الانشقاق. ونحن
نرى أن الذين مهدوا لهذا الانشقاق في الشرق والغرب معاً لم يفسحوا المجال لعمل
الروح القدس فخلت قولبهم من المحبة المسيحية التي تتأتى وترفق ولا تحسد ولا تتباهى
ولا تنتفخ ولا تأتي قباحة ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا تظن السوء ولا تفرح
بالظلم بل تفرح بالحق وتتغاضى عن كل شيء وتصدق كل شيء وتصبر على كل شيء وإنهم لم
يصلّوا بحرارة وإنكسار قلب وانسحاق نفس “من أجل ثبات كنائس الله المقدسة
واتحاد الكل”!

 

أنر
بصيرتي وافتح فمي لأهذَّ بأقوالك، وأفهم وصاياك

وأعمل
بمشيئتك، وأرنم لك باعتراف القلب، وأشيد لاسمك القدوس،

أيها
الآب والابن والروح القدس،

الآن
وكل أوان وإلى دهر الداهرين. آمين.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى