علم التاريخ

الكنيسة في الربع الأول من القرن الخامس



الكنيسة في الربع الأول من القرن الخامس

الكنيسة
في الربع الأول من القرن الخامس

الهيرارخية:
تدل النصوص الباقية أن هيرارخية كنيسة أنطاكية شملت في الربع الأول من القرن
الرابع -ما قبل المجمع المسكوني الأول- الأبرشيات الآتية: أبرشية فلسطين ومركزها
قيصرية وأبرشية فينيقية ومركزها صور وأبرشية العربية ومركزها بصرى وأبرشية سورية
مركزها أنطاكية وأبرشية ما بين النهرين ومركزها الرها وأبرشية قيليقية ومركزها
طرسوس وابرشية اسورية ومركزها سلفكية.

 

وهناك
ما يدل على أن هذه الأبرشيات أصبحت خمسة عشر في الربع الأول من القرن الخامس.
فأبرشية فلسطين أصبحت ثلاثاً: فلسطين الأولى ومركزها قيصرية وفلسطين الثانية
ومركزها بيسان وفلسطين الثالثة ومركزها البتراء وقد أنشئت هذه في السنة 357-358
فشملت كل ما وقع جنوبي أرنون والبحر الميت. ويجوز القول أيضاً أن أبرشية قيليقية
قسمت إلى اثنين ما بين المجمع المسكوني الثاني 381 والمجمع المسكوني الثالث 431،
فظهرت أبرشية قيليقية أولى مركزها طرسوس وأبرشية قيليقية ثانية مركزها عين زربه.
وجرى مثل هذا وفي الوقت نفسه في فينيقية فظهرت أبرشيتان: فينيقية الساحلية ومركزها
صور وفينيقية اللبنانية ومركزها دمشق. وقضت ظروف الحدود الفارسية في السنة 359
بتقسم أبرشية سورية إلى أبرشيتين. سورية ومركزها أنطاكية والفرات ومركزها دوللك.
ثم ظهرت أبرشية الرها في سنة 371 فسورية الأولى ومركزها أمطاكية وسورية الثانية
ومركزها أبامية. ولم يرتبط عدد المطارنة بعدد الأبرشيات الإدارية المدنية. فإن
أسقف بيروت أصبح متروبوليتاً منذ عهد ثيودوسيوس الثاني (408-450). وتمتع أسقف حلب
بهذا اللقب في مجمع سنة 536. والأمر نفسه عن حمص ودرار الرصافة.

 

أسقف
أنطاكية: وكفى أسقف أنطاكية فخراً آنئذ أن يكون أسقف أنطاكية. ومن هنا في الأرجح
هذا السكوت في المراجع الأولية عن ألقابه وعن صلاحياته قبل أيام يوستنيانوس
الكبير. وما نعلمه هو أن موافقة الأبرشيات الخاضعة له كانت ضرورية لارتقائه إلى
منصب الرئاسة، وأنه لم يكن له حق التدخل في ترقية اكليروس هذه الأبرشيات من درجة
إلى درجة.

 

متروبوليت
الأبرشية: أما متروبوليت الأبرشية فإنه حفظ في يده حق ترقية رجال الاكليروس في
داخل أبرشيته. وكان لا بد من موافقته وحضوره لسيامة الأساقفة الخاضعين له. وكان
عليه أن يدعو إلى مجمع محلي جميع أساقفته مرتين في السنة، مرة في الأسبوع الثالث
بعد الفصح ومرة ثانية في منتصف تشرين الأول.

 

ويستدل
مما خلفه سويروس الأنطاكي أن انتخاب الأساقفة في الأبرشية كان يتم غالباً باشتراك
الشعب والسلطة الروحية. إذ يتخذون قراراً بثلاثة من أفضل المرشحين. ثم يرفعون هذا
القرار إلى متروبوليت الأبرشية وإلى رئيس الكهنة أسقف أنطاكية نفسه لينتقي الأفضل.
وجاء بعد الأسقف الخوراسقف والبرديوت والكاهن والبرَمون.

 

الكنيسة
والدولة: انبع يوفيانوس بعد يوليانوس سياسة الحياد بين المسيحية والوثنية. وتبعه
في ذلك فالنتنيانوس، فاستحق شرك اميانوس ماركلينوس المؤرخ الوثني. وسكت والنس عن
الوثنية ولم يضيق عليها. وجاء ثيودوسيوس فخرج عن هذا الحياد الرسمي إلى تدخل فعلي
في شقاق المسيحيين واختلافاتهم الداخلية. ثم أعلن في ربيع 381 ما ينتظر المسيحي
الجاحد من عقوبات. وفي الخامس والعشرين من أيار سنة 385 جدد تحريم الذبائح
للعرافة. ثم أرسل المدبر كينيغيوس في جولة إدراية تفتيشية إلى سورية ومصر ليقفل ما
أمكنه من الهياكل الوثنية. ودامت رحلته ثلاث سنوات. ثم دخل ثيودوسيوس في مشادة مع
امبروسيوس القديس (390) فعطف على مشاهير الوثنيين وقرّبهم غليه. وهكذا فإن
ثيودوسيوس لم يحزم ولم يكن متوثقاً في سياسته الدينية موقفه من المسيحية قبل سنة
391. فبدأ تحريماته الشهيرة الأولى في رومة في 24 شباط والثانية في الإسكندرية 16
حزيران والثالثة بعد سنة وأكثر في القسطنطينية- وقد حرمت هذه التدين بالوثنية في
جميع أنحاء الأمبراطورية.

 

وبعد
سنة 392 كان للكنيسة وحده جميع الامتيازات التي كان قسطنطين الكبير قد منحها رجال
الاكليروس ليساويهم بكهنة الوثنيين. وأهمها إعفاءات مالية وصلاحيات قضائية وحق
حماية اللاجئ وحق الاستقلال القضائي.

 

الآباء
العلماء: أنجبت كنيسة أنطاكية في الخمسين سنة التي تلت وفاة ملاتيوس عدداً من
العلماء الأعلام الذين دافعوا عن العقيدة القويمة في عصر كثرت فيه البدع واشتد ضغط
الهرطقة وحافظوا على نصوص الأسفار المقدسة في زمن كثر فيه اختلاف المعاني الرمزية.
والإشارة هنا إلى ديودوروس الطرسوسي وتلمذيه يوحنا الذهبي الفم وثيودوروس
الموبسوستي.

 

رهط
من كبار الأساقفة: وإذا ما ذكرنا بالإضافة إلى ديودوروس أسقف طرسوس وديودوروس أسقف
موبسوستة كلا من أفلوغيوس أسقف الرها ومركلوس الشهيد أسقفة أبامية وكيرلس يوحنا
أسقفي أورشلين وأبيفانيوس أسقف سلامينة قبرض نجد فلابيانوس رئيس الكهنة محاطاً بعد
غير قليل من الشخصيات القوية والمحترمة.

 

بين
اللاذقية وبيروت: لا نعلم ماذا حلّ بابوليناريوس أسقف اللاذقية الذي غالى في دفاعه
عن لاهوت المسيح ضد آريوس وأتباعه. أما تلميذه فيتاليوس الأنطاكي توفي في سنة 382.
ووافق تلميذه الآخر تيموثاوس أسقف بيروت على مقررات المجمع المسكوني الثاني فعاد
إلى كرسيه مكرماً وصنف بعض الرسائل ووضع تاريخاً كنسياً.

 

المصلّون
والراهب الكسندروس: والمصلون هم الذي ظهروا في الأبرشيات الأنطاكية في الربع
الأخير من القرن الرابع. لزموا الصلاة ولا سيما الذكسولوجية ورددوها دائماً لأنهم
زعموا أن لكل إنسان شيطاناً لا يخرج إلا بالصلاة. وامتهنوا النسك والصيام والسهر
والشغل ولازموا النوم وعاشوا بالصدقات. وادعوا أنهم بالصلاة والتجرد عن الأموال
يتحدون بالله اتحاداً شديداً. ومن هنا اعتبارهم أنفسهم ملائكة وأنبياء ورؤساء
ومسحاء.

 

وأشهر
هؤلاء المصلون هو الراهب الكسندروس. بدأ حياته الرهبانية في سورية الشمالية وفي
الجزيرة. فكان تارة يجول مبشراً بالإنجيل وطوراً يجمع الرهبان ليقيم معهم في مسكن
دائم. وأَمَّ أنطاكية في أوائل القرن الخامس فدارت حوله الشبهات فطرد منها. وذهب
إلى القسطنطينية حيث أصبح مشكلة المشاكل في عهد اتيكوس أسقفها.

 

ذوات
الأقراص: واهتمت نساء أبرشية بصرى بالسيدة العذراء. فأقمن لها احتفالاً خصوصياً
وصنعن لها عرشاً وأعددن أقراصاً واجتمعن حول العرش لأكل الأقراص وممارسة بعض
الأعمال كأنهن كهنة.

 

بورفيريوس:
(404-414) توفي فلافيانوس وخلا الكرسي الأنطاكي، فجاء بورفيريوس. بتواطئ الأساقفة
اكاكيوس وسويريانتوس وانطوخيوس. وأنه تذرع بالإرادة السنية الأمبراطورية فأنزل
بأخصامه العذاب ونفي معظمهم كما سبق وذكرنا في قصة الذهبي الفم.

 

الكسندروس:
(414-424) تولى خلافة الرسولين بعد بورفيريوس الكسندروس الراهب الوقور. الذي تمكن
أن يزيل الشقاق بين الأرثوذكسيين الشرعيين أتباع ملاتيوس وبين الأرثوذكسيين
الافستاثيين -أتباع افستاثيوس برئاسة بفلينوس- وأن يجعلهما رعية واحدة لراعٍ واحد.
إذ كان قد قبل الكهنة الافستاثيين بين كهنته بنفس الرتب التي تمتعوا بها. وقام
بشخصه إلى كنيسة الأفستاثيين وجاء بهم إلى كنيسة مرتلا مصلياً. وبقيت بقية متعنتة
منهم حتى عودة رفاة افستاثيوس في عهد كالنذيون (479-483).

 

وكان
ثيوفيلوس الفرعون الإسكندري قد ناشد أساقفة الشرق والغرب موجباً رفع اسم خصمه من
الذبتيخة -لائحة تضم أسماء الذين يراد ذكرهم من شهداء وأبرار وقديسين ومن أساقفة
وبطاركة عند تقديم الذبيحة الطاهرة-. وكان قد أصرّ على هذا العناد عدة سنين حتى
أصبح ذكر الذهبي الفم في الذبتيخة من أهم مشاكل كنيسة الشرق ما بين 404 و414.
وتوفي ثيوفيلوس في سنة 412 وخلف الرسولين في أنطاكية الكسندروس التقي وأحب أن يزيل
النفور الذي كان قد دبّ إلى قلوب “الحناويين” من أبناء رعيته. فدوَّن
أسم يوحنا الذهبي الفم في الذبتيخة الأنطاكية وقبل في الشركة البيذس أسقف اللاذقية
وببوس وغيرهما ممن وقع تحت الاضطهاد من أصدقاء الذهبي الفم.

 

وقضى
العرف الكنسي بتسطير رسالة سلامية إلى كبار الأساقفة خارج أنطاكية فكتب الكسندروس
إلى انوشنتيوس أسقف رومة، ينبئه بما جرى ويلتمس الشركة وبعث بكتابه مع وفد بصحبة
الكاهن كاسيانوس تلميذ الذهبي الفم. فتهللت نفس القديس الروماني وأنفذ إلى
الكسندروس رسالة مجمعية مذيلة بتوقيع أربعة وعشرين أسقفاً إيطالياً قابلاً شركة
كنيسة أنطاكية. وكتب انوشنتيوس ايضاً كتاباً خصوصياً إلى الكسندروس أعرب فيه عن
حبه وتقديره.

 

وفي
هذه الأثناء عرف أكاكيوس أسقف حلب خطأه فوضع اسم الذهبي الفم في الذبتيخة الحلبية.
ولم يمض وقت يسير بعد هذا حتى اتحدت الكنيسة الأنطاكية على تكريم الذهبي الفم
مفتخرة بكونه ابنها ورسولها. وأصرّت كنيسة القسطنطينية على إنكاره وغمص جميله.
فسار الكسندروس أسقف أنطاكية إليها واستنفذ الجهد في اجتذاب اتيكوس فأخفق، فاستفز
حمية الشعب بتعداد فضائل الذهبي الفم فتضرعوا إلى اتيكوس أن يقبل تكريم سلفه فأبى.
وعاد الكسندروس إلى أنطاكية حابط السعي.

 

وكتب
اكاكيوس إلى اتيكوس وإلى كيرلس الإسكندري. فاشتد اللغط في الأوساط الشعبية في
العاصمة حتى خُشي من شبوب ثورة. فاستشار اتيكوس الأمبراطور الشاب ثم بادر إلى
تسطير اسم الذهبي الفم في الذبتيخة. ولم يسرّ كيرلس من هذا الخبر فكتب إلى زميله
القسطنطيني والحلبي يلومهما. ولكنه لم يثبت في ذلك طويلاً. ولعله وافق زملاءه
أجمعين في إكرام الذهبي الفم قبل سنة 419.

 

ثيودوتوس:
(424-428) وهو الثامن والثلاثون بعد الرسولين اسمه يوناني ومعناه “عطا
الله”. ويختلف المؤرخون في تعيين مدة رئاسته. فقد تكون (424-428) وقد تكون
أيضاً (417-429). وقد تكون أيضاً (418-428)، كما جاء في تاريخ قسطنديوس البطريرك
القسطنيطيني. وأفضل ما يعزى إليه أنه حاول رد الأبوليناريين عن ضلالهم فعاد إلى
الأرثوذكسية حوالي نصفهم. ويعزى إليه أيضاً أنه اتخذ موقفاً حازماً من بيلاجيوس
وأتباعه فعقد مجمعاً أنطاكياً وخطّأ هؤلاء وحرّم عليهم الوصول إلى الأماكن
المقدسة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى