علم التاريخ

مجمع القسطنطينية الأول – "المجمع المسكوني الثاني"



مجمع القسطنطينية الأول – “المجمع المسكوني الثاني”

مجمع
القسطنطينية الأول
“المجمع
المسكوني الثاني”

الدعوة
إلى عقد المجمع: (381) {المجمع المسكوني الثاني هو نتيجة طبيعية لمجمع نيقية، وذلك
لأن الآريوسيين الذين قالواب “أن الأبن جاء من العدم” كان من البديهي أن
يعتقدوا بمخلوقيّة الروح القدس أيضا.أبرز محاربي الأقنوم الثالث كان مقدونيوس
بطريرك القسطنطينية. يقول ثيوذوريتوس في “التاريخ الكنسي” بأن مقدونيوس
“رفعه الآريوسيين الى كرسي القسطنطينية (العام 342) ظانين انه واحد منهم،
لأنه كان يجدّف على الروح القدس، غير أنهم عزلوه لأنه لم يحتمل إنكار ألوهية
الابن”}. وكان غراتيانوس وثيودوسيوس قد رغبا في عقد مجمع مسكوني منذ السنة
378 ولكن ظروف الحرب وقلة الثقة بين أساقفة الشرق والغرب حالت دون ذلك. فلما جاءت
سنة 381 دعا ثيودوسيوس إلى مجمع مسكوني في القسطنطينية. فأمَّ العاصمة الشرقية مئة
وثمانية وأربعون أسقفاً وأباً من أعظم رجال الكنيسة.

 

ممثلي
الكنائس: وكان بين الحاضرين ملاتيوس الأنطاكي وغريغوريوس النزينزي وتيموثاوس
الإسكندري وكيرلس الأورشليمي. وشمل الوفد الأنطاكي خمسة وستين أسقفاً من أساقفة
فلسطين وسورية والعربية والرها ومابين النهرين والفرات وقيلقية وأسورية. وتغيب عنه
كنيسة روم والسبب عائداَ إلى أن هذا المجمع بدأ محلي وما لبث أن تحول إلى مسكونياً
بعد أن اعترفت بمقرراته كنيسة روم وتم في المجمعين الثالث والرابع التأكيد على
مسكونيته.

 

التآم
المجمع: اجتمع الآباء الأجلاء في أيار 381 وكان في المجمع ستة وثلاثون أسقفاً من
أنصاف الآريوسين بزعامة الوسيوس أسقف كيزيكة. فامتنعوا عن الاشتراك في أعمال
المجمع لأنهم لم يرضوا عن القول بدستور نيقية.

 

رئاسة
المجمع: ترأسه على التوالي ثلاثة أساقفة والسبب عائد إلى أن الأسقف ملاتيوس كان قد
رقد بالرب في أثناء انعقاد المجمع ومن ثم استلم الرئاسة الأسقف غريغوريوس
النازينزي وكان لوقتها لم يصل بعد وفد الإسكندرية وعندما وصلوا إلى القسطنطينية لم
يعترفوا برئاسة النازينزي لعدم اعترافهم بسيامته أسقفاً على كرسي القسطنطينية
بالإضافة إلى وفد كبادوكية مما دعاه إلى الاستقالة من كلا المنصبين(الأسقفية
القسطنطينية ورئاسة المجمع) منعاً للانشقاق (لأن هذا القديس العظيم لم يسعَ يوماً
للمناصب و الأمجاد الأرضية) فترك القسطنطينية عائداً إلى إلى بلدته. فترأس المجمع
من بعده الأسقف نكتاريوس.

 

أعمال
المجمع: تكلم غريغوريوس النزينزي يوم عيد العنصرة عن الروح القدس فحث أتباع
مقدونيوس إلى الألفة والإتحاد ولكن دون جدوى. فلم يبقى للاشتراك في المجمع إلا كل
أرثوذكسي مستقيم الإيمان.

 

لمحة
عن الهرطقة التي طالت الروح القدس

 

أولاً:
المكدونية

سُميّت
الهرطقة المكدونية باسم مكدونيوس وهو أحد أساقفة القسطنطينية. الذي انتخب في سنة
342 ويقول في هذا الصدد ثاودوريتوس <<التاريخ الكنسي>> أن الآريوسيين
رفعوا مكدونيوس إلى كرسي القسطنطينية ظانين أنه منهم لأنه كان يُجدِف مثلهم على
الروح القدس بقوله أنه مخلوق ولكنهم طردوه عاجلاً لأنه لم يحتمل إنكار لاهوت الابن
وقد عُزِلَ نهائياً من قبل الآريوسيين عام 360. ويبدوا أنه لم يكن له دور كبير في
الهرطقة التي تحمل اسمه. فليس هناك أي أثر لتسمية محاربي الروح القدس باسمه قبل
عام 380 بل كانوا يعرفون باسم
pneumatomaques أي محاربي لاهوت الروح القدس. ولا نعرف مدى علاقته ومسؤوليته
بالهرطقة ويقول البعض إنه على أثر عزل مكدونيوس من كرسي القسطنطينية رفض قسم من
مسيحيي القسطنطينية بخلفه افذكيوس، فأطلق عليهم اسم المكدونيين ثم امتد هذا الاسم
لأصحاب الهرطقة إذ كانوا بأغلبهم موجودين في تلك المنطقة

 

ثانياً:
التروبيك

فئة
أخرى حاربت لاهوت الروح القدس. ظهرت في مصر ويبدو أن حركتهم مصرية محلية. كانوا
أولاً محاربي عقيدة نيقية المتعلقة بلاهوت الابن ثم انفصلوا عنهم في سنة 358
ولكنهم بقوا ينكرون لاهوت الروح القدس. لم يكونوا كثيرين ولا ناجحين وقد عمل
القديس اثناثيوس الكبير على القضاء عليهم (عقيدتهم). حيث عقد مجمعاً محلياً عام
362 وحكم عليهم محرماً الذين يقولون بأن الروح القدس مخلوق ومفصول عن جوهر المسيح
وقد سماهم “التروبيك” في رسائله إلى سيرابيون أسقف قويس نسبة إلى كلمة
يونانية تعني اللعب على الألفاظ وتفسير الآيات بغير موضعها. ولولا رسائل القديس
المذكورة لما وصلنا حتى اسمهم

 

ملخص
تعليم الهرطقة

إن
هذه الهرطقة بصورة عامة إنكار لاهوت الروح القدس. لكن ليست هناك عقيدة موحدة واضحة
وذلك لكثرة التفرعات الهرطوقية وتطورها عبر الزمن. غير أنها تستند إلى بعض الحجج
المشتركة بين الكل. ويمكن القول أن عقيدة التروبيك أوضح من عقيدة المكدونيين التي
مرّت في مراحل متناقضة.

 

أولاً:
التروبيك

يقول
التروبيك أن الروح القدس ليس إلهاً كالآب والابن وليس من جوهر وطبيعة الآب والابن
وليس شبيهاً بالابن، لكنه من الكائنات الني أُوجدت من العدم، إنه خليقة. وهو ملاك
بين الملائكة، وإن كان أرفع بدون شك وأكثر جمالاً من بقية الملائكة، لكنه لا يختلف
عنهم إلا في الدرجة، وهو مثل أحد “الأرواح الخادمة” المذكورة في الكتاب
المقدس.

 

أولاً:
المكدونية

أما
المكدونيون فيعتقدون بأن الروح القدس “مشابه” للآب والابن ولكن ليس في
جوهرهما وطبيعتهما. إنهم يرفضون إدخال الروح القدس في ألوهية الثالوث الأقداس
يؤكدون أن الروح أدنى من الآب والابن في الكرامة وأنه خادم ويطبَّق عليه كل ما
يقال عن الملائكة القديسين.

إن
تعليم المكدونيين متردد وغامض ومتناقض: فالروح لا يُدعى رباً ولا يُمجد مع الآب
وليس هو قوة الله لأنه لا يخلق ولا يعطي الحياة وهو خادم مثل الملائكة، ومع ذلك
فلا يعتبر ملاك، ولا خليقة من أي نوع وليس هو “غير شبيه” بالآب والابن
وقد قال افستاثيوس أحدهم: “لا أسمي الروح القدس باسم الله ولا أجرؤ على
تسميته خليقة”. يستند المكدونيين في هرطقتهم على عبارة المعمودية التي جاء
فيها ترتيب الروح القدس ثالث، بعد الآب والابن. وعلى أن الابن هو الحبيب الوحيد
للآب وعلى سكوت الكتاب المقدس عن ألوهية الروح القدس

 

النصوص
المشتركة في الهرطقتين (المكدونيين والتروبيك)

في
هذه الفقرة سنعرض الآيات المشتركة بين كلا الهرطقتين دون التطرق إلى كل ما اختلفوا
فيه عن بعضهم والآيات هي:

 

عاموس4:
13 فانه هوذا الذي صنع الجبال وخلق <الروح> وأخبر الإنسان ما هو فكره الذي
جعل الفجر ظلام ويمشي على مشارف الأرض يهوه اله الجنود اسمه.

 

2تيموثاوس5:
21 أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين أن تحفظ هذا بدون غرض
ولا تعمل شيئا بمحاباة.

 

زكريا1:
7…..9 كانت كلمة الرب إلى زكريا….. فقلت يا سيدي ما هؤلاء فقال لي الملاك الذي
كلمني أنا اريك ما هؤلاء . و4: 5-6.

 

و
الآن سنتطرق إلى شرح هذه الآيات التي سردناها كما شرحها وفسرها لنا الآباء

 

قد
تولى هذا الأمر الآباء القديسون الذين حاربوا هرطقة مكدونيوس والتروبيك وتوسعوا في
ذلك وخاصةًُ القديس اثناثيوس الكبير في رسائله الأربعة إلى سيرابيون والقديس
باسيليوس الكبير في مؤلفه عن الروح القدس وقد استند فيه كثيراً إلى اثناثيوس
وسنورد فيما يلي بعض هذا التفنيد

 

عاموس4:
13 فانه هوذا الذي صنع الجبال وخلق <الروح> وأخبر الإنسان ما هو فكره الذي
جعل الفجر ظلام ويمشي على مشارف الأرض يهوه اله الجنود اسمه.

إن
الكلمة في الأصل اليوناني تعني “روح” و”ريح” بحسب معنى
الجملة. فيجيب القديس اثناثيوس أن الروح القدس لا يسمى في الكتاب “روح”
فقط بل روح الله وروح الآب وروح المسيح وروحي ومن قبلي (أي معطى من قبلي) ومن
الابن والروح القدس، والمعزي، روح الحق … وفي الآيات التي ورد فيها
“الروح” على حدة فإنه يعني به بكل وضوح وبدون أي مجال للالتباس، الروح
القدس مثلاً “غلاطية3: 2 أريد أن أتعلّم منكم هذا فقط أبأعمال الناموس أخذتم
الروح أم بخبر الإيمان ” و”1تسالونيكي5: 19 لا تطفئوا الروح “. و
“لوقا4: 1 أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح
في البرية ” و”متى4: 1 ثم اصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس
“.

أما
الآيات التي ذُكر فيها الروح القدس بشكل صريح فيعدد القديس اثناثيوس منها 53 آية:

 {تكوين1:
2 وكان روح الله يرف على المياه}، {قضاة3: 10 فكان عليه روح الرب وقضى لإسرائيل
(عثينيئيل)}، {مزمور50: 13وروحك القدوس لا تنزعه مني}، {يؤئيل2: 28 ويكون بعد ذلك
إني اسكب روحي على كل بشر}، {لوقا3: 22 ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل
حمامة}، {متى10: 20 لان لستم انتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم}،
{يوحنا15: 26 ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند
الآب ينبثق}، الخ….

هذا
وقد وردت أيضاً في الكتاب المقدس كلمة روح بمعنى آخر واضح كل الوضوح: (1كورنثوس2:
11 لان من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه). و(2كورنثوس3: 6
الحرف يقتل ولكن الروح يحيي). و(1تسالونيكي5: 23 ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة
بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح).

ويتكلم
الكتاب أيضاً عن “الروح” بمعنى ريح ورياح (تكوين8: 1 وأجاز الله ريحا
على الأرض فهدأت المياه)، (يونان1: 4 فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر فحدث نوء
عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر). و(مزمور107: 25 أمر فأهاج ريحا عاصفة
فرفعت أمواجه)الخ…

ويستنتج
القديس اثناثيوس الكبير من كل ذلك أن كلمة “روح” وريح اليونانية يجب أن
تفهم في عاموس4: 13 كما هي أي “ريح” و”خلق الريح”… هذا وأن
هذه الآية لا تبرهن شيئاً كثيراً بالنسبة للمكدونيين إذ أنهم لا يعتبرون الروح
القدس “مخلوقاً”

 

2تيموثاوس5:
21 أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين أن تحفظ هذا بدون غرض
ولا تعمل شيئا بمحاباة

يستنتج
التروبيك من هذه الآية أن الروح القدس يحسب بين الملائكة، أما المكدونيين
فيوردونها بغية الإضعاف من قيمة آية(متى 28: 19 فاذهبو و تلمذوا جميع الأمم
وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس) بحجة أن الملائكة أيضاً مثل الروح القدس
يأتي ذكرهم مع الله -لكن المكدونيين لا يعلقون كبير الأهمية على هذه الحجة- .
ويجيب القديس اثناثيوس عليهم: أين سُمّي الروح القدس في الكتاب المقدس ملاكاً؟ مع
أن له تسميات عديدة متنوعة. وهو لم يسمّ ملاك ولا رئيس ملائكة ولا شاروبيم ولا
ساروفيم…الخ

ثم
لما عرض الله على موسى إخراج إسرائيل من أرض مصر قائلاً: “خروج23: 2 أنا أرسل
أمامك ملاكاً”، رفض موسى إذ كان يعرف أن الملائكة خلائق أما الروح القدس
فمتحد مع الله وأجاب: “خروج 23: 15إن لم يسر روحك فلا تصعدنا من ههنا”.
وكان يخشى أن يتعلق الشعب بالملاك ويخدم خليقة دون الخالق. فاستجاب الله لطلب موسى
قائلاً: “خروج23: 17هذا الأمر أيضاً الذي تكلمت عنه أفعله لأنك وجدت نعمة في
عيني”. وكان أن حقق الله وعده وسيّر روحه أي سار نفسه مع شعبه كما يتضح من
الكتاب: “اشعيا63: 11-12 ثم ذكر الأيام القديمة موسى و شعبه أين الذي أصعدهم
من البحر مع راعي غنمه أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه الذي سير ليمين موسى ذراع
مجده الذي شق المياه قدامهم… وروح الرب أراحهم. هكذا قدت شعبك لتصنع لنفسك اسم
مجد”. وأيضاً: “لاويين11: 45 إني أنا الرب الذي أصعدكم من ارض
مصر”. “تثنية الاشتراع1: 30و33 الرب إلهكم السائر أمامكم في نار ليلاً
ليريكم الطريق التي تسيرون فيها وفي سحاب نهاراً”.

ويتابع
القديس اثناثيوس: أما لماذا ذكر بولس الرسول الملائكة بعد المسيح ولم يذكر الروح
القدس، فهذه حجة واهية إذ لا نستطيع أن نفرض على الرسول صيغة معيّنة ولماذا لم
يذكر رؤساء الملائكة والشاروبيم مثلاً؟ أيعني ذلك شيئاً؟ ويطيل القديس الشرح هنا.
هذا وقد ورد أحياناً في الكتاب ذكر الرب وروحه دون ذكر المسيح معهما:
“اشعيا48: 16 والان السيد الرب أرسلني وروحه ” و”حجي 2: 4 فالآن
تشدد يا زربابل يقول الرب …..و اعملوا فاني معكم يقول رب الجنود ….و روحي قائم
في وسطكم لا تخافوا”. فهل يعني ذلك أن المسيح غير موجود وأنه لا يُعّد مع
الآب والروح؟ ثم جاء في لوقا 18: 2 “كان في مدينة قاض لا يخاف الله ولا يهاب
إنساناً “. وجاء في خروج 14: 31 ” فخاف الشعب الرب وامنوا بالرب وبعبده
موسى “. فهل نعدّ موسى مع الرب و نحسبه بعد الآب لا الابن بعد الآب؟ وأضاف
القديس باسيليوس على جواب القديس اثناثيوس أن بولس يدعو الملائكة كشهود لأعمال
تيموثاوس أمام الرب وأن دعوة عبد للشهادة أمام قاضٍ لا سيما اذا كان قاضياً رحيماً
مثل الله لا تجعل من العبد حراً وان الكتاب لا يسمّي الروح القدس مثل الملائكة بل
يذكره كرب للحياة بينما يذكر الملائكة كرفقة عبيد وشهود آمينين للحق.

 

زكريا1:
7…..9 كانت كلمة الرب إلى زكريا….. فقلت يا سيدي ما هؤلاء فقال لي الملاك الذي
كلمني انا اريك ما هؤلاء . و4: 5-6

يستند
المكدونيون إلى هذه الآية ليؤكدوا على أن الملاك يسلّم رسالة إلهية قاصدين بذلك
تعطيل الحجة التي بموجبها نستنتج ألوهية الروح القدس من كونه ملهماً للأنبياء
وموحياً بالتنبؤات.

أما
التروبيك فيقصدون أن يبرهنوا أن الملائكة كالروح القدس يمكن القول عنهم أنهم
يسكنون في المؤمنين (كلمني وتكلم فيّ…)

فكتب
القديس اثناثيوس حول هذه الآية باختصار قائلاً: أن مجرد قراءة الآية بانتباه تدل
على أن الملاك الذي يتكلم مع زكريا ليس الروح القدس (“فأجاب الملاك الذي
كلمني وقال لي ألا تعلم ما هذه << كان زكريا رأى منارة كلها ذهب>>
فقلت لا يا سيدي فأجاب وكلمني قائلاً هذه كلمة الرب إلى زربابل قائلاً لا بالقدرة
ولا بالقوة بل بروحي قال رب الجنود…”). فمن الواضح أن الملاك المتكلم لم
يكن الروح القدس ولا شبيهاً بالروح القدس إنما هو مجرد رسول يوصل كلمة الرب إلى
زكريا كخادم للرب في حين أن الروح القدس هو روح رب الجنود ولا ينفصل عن لاهوته
والذي يخدمه الملاك.

يبدو
أن كلا القديسين اثناثيوس وباسيليوس لم يجدا ضرورة للرد على هذه الحجة بأكثر من
ذلك. وتظهر فيها محاولة الهراطقة تفسير الآيات بأكثر مما تتضمن، كما تعني أساساً
كلمة “تروبيك” اليونانية التي نعتهم بها القديس اثناثيوس

 

فبحث
المجمع أمر العقيدة وثبّت الدستور النيقاوي غير أنهم -آباء المجمع- اضافوا بعض
التعديلات الطفيفة على دستور الإيمان مثل عبارة: “لا فناء لملكه” وذلك
دحضاً لبدعة أبوليناريوس أسقف اللاذقيّة الذي قال إن مُلْك المسيح يدوم ألف سنة
وأضاف إليه الفصول من التاسع حتى الثاني عشر. ويلاحظ أن أعمال هذا المجمع ضاعت ولم
يبقى منها شيء سوى ما أعيد ذكره للتثبيت في أعمال المجمع الخلقيدوني.

 

بدعة
أبوليناريوس: أبوليناريوس كان أسقف اللاذقية اشتهر في النصف الثاني من القرن
الرابع وكان ذا مكانة مرموقة بين لاهوتيي عصره -وكان صديقا لأثناسيوس الكبير- وذلك
لدفاعه عن المسيحية وولائه لدستور إيمان نيقية. هذا ابتدع نظرية خريستولوجية عرفت
باسمه “أبولينارية”، إذ أراد أن يشدّد على الوهية المسيح الكاملة وعلى
وحدة اللاهوت والناسوت، قال فيها أن المسيح كان لدية جسد ونفس غير عاقلة وأنكر
وجود النفس العاقلة فيه لأنه علم أن الكلمة الإلهية أخذت مكانها. انطلق من مبدأ
أنه لا يمكن لشيئين تامين (كاملين) أن يصبحا واحدا. لهذا في معالجته لموضوع شخص
المسيح طالما أن مجمع نيقية منع أي تقليل وتصغير و تغيير في “الكلمة” أي
في الطبيعة الإلهية وذلك للوقاية ضد تعاليم آريوس فإن أبوليناريوس استخدم الخيار
الآخر وقلل وشوه الطبيعة البشرية للمسيح وأنقص منها النفس العاقلة لأنه اعتبرها
مسؤولة عن الخطيئة فكانت برأيه هذه هي الطريقة الوحيدة لحفظ المسيح بدون خطيئة
وبالتالي إمكانية تحقيق الخلاص.

أبوليناريوس
اعتمد في نظريته على تقسيم أفلاطون الشهير للطبيعة البشرية: جسد،نفس،روح.

 

أدانت
عدة مجامع مكانية في روما (377م)، والإسكندرية (378م)، وأنطاكية (379م) تعاليم
أبوليناريوس. ثم أدين في المجمع المسكوني الثاني الذي انعقد في القسطنطينية (381
م).

كان
رأى آباء مجمع القسطنطينية أن السيد المسيح له نفس إنسانية عاقلة لأنه جاء لخلاص
البشر وليس لخلاص الحيوانات. وأنه كان ينبغي أن تكون للمسيح إنسانية كاملة لكي يتم
افتداء الطبيعة الإنسانية. وأن الروح البشرية مثلها مثل الجسد في حاجة إلى الفداء
وهى مسئولة عن سقوط الإنسان. فبدون الروح البشرية العاقلة كيف يكون الإنسان
مسؤولاً مسؤولية أدبية عن خطيئته؟ فالروح البشرية أخطأت مع الجسد وتحتاج إلى
الخلاص، ولهذا يجب أن يتخذها كلمة الله مع الجسد لأن ما لم يتخذ لا يمكن أن يخلص،
كما قال القديس غريغوريوس النازيانزى عبارته المشهورة ضد أبوليناريوس فى رسالة إلى
الكاهن كليدونيوس “ما لم يؤخذ لم يشفى؛ ولكن ما تم توحيده بلاهوته فهذا
يخلص”.

إن
أهم ما شغل الآباء ضد الأبولينارية هو “أن النفس الإنسانية العاقلة، بقدرتها
على الاختيار، كانت هى مقر الخطيئة؛ ولو لم يوحّد الكلمة هذه النفس بنفسه، فإن
خلاص الجنس البشرى لم يكن ممكناً”.

الكنيسة
منذ البداية حاربت تعاليم أبوليناريوس فأثناسيوس كتب كتابين ضده، غريغوريوس
النزينزي كتب عدة رسائل ضده أيضا وغريغوريوس النيصصي في كتابه “ضد
الهرطقات”. والتعليم الذي ساد كان عبارة القديس غريغوريوس النزينزي: “ما
لم يؤخذ لم يشفى”.

جدير
بالذكر هنا أن الكثير من كتابات أبوليناريوس وضعها تلاميذه تحت أسماء لاهوتيين
مشهورين لإكسابها الشرعية المطلوبة مثل غريغوريوس العجائبي (شرح الإيمان)
واثناسيوس الكبير (عن التجسد) والبابا يوليوس (في وحدة المسيح).

الجدال
الأبوليناري بالرغم من عدم تضخمه إلا أنه لعب دورا هاما في تاريخ العقيدة المسيحية
فقد حول الجدال من المحور الثالوثي إلى المحور الخريستولوجي. هكذا بعد الانتهاء من
مناقشة الثالوث والروح القدس أصبح الباب الوحيد المفتوح لدخول الهرطقات هو الابن.
من هنا ستنهمك المجامع اللاحقة بموضوع الابن، الأقنوم الثاني من الثالوث أي بما
يعرف ب “الخريستولوجية”. أي إتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح. إذ
أن الجدل الابوليناري فتح الطريق للهراطقة لكي يحولوا محاربتهم للكنيسة في سر
التجسد بعد أن فصل مجمعي نيقية والقسطنطينية الجدل حول لاهوت الثالوث المقدس
المتساوي في الجوهر.

 

قوانين
المجمع: وسنَّ المجمع أربعة قوانين بحث الأول والرابع منها أمر الهرطقات وأسقفية
مكسيموس القسطنطيني. وحرَّم الثاني تدخل الأساقفة في شؤون الكنائس خارج أبرشياتهم.
فجعل لأسقف الإسكندرية أن يسوس أمور مصر فقط ولأساقفة الشرق أن يسوسوا الشرق فقط
مع المحافظة على التقدم الذي في قوانين نيقية لكنيسة الأنطاكيين. وجعل هذا القانون
الثاني لأساقفة آسية أن يسوسوا أمور آسية فقط وللذين في البونط أمور البونط فقط
وللذين في تراقية أمور تراقية فقط. وأما كنائس الله التي بين الأمم البربرية فيجب
أن تُساس حسب عادة الآباء. وجاء في القانون الثالث “أما أسقف القسطنطينية
فليكن له التقدم في الكرامة بعد أسقف رومة لأن القسطنطينية رومة الجديدة”.
غير ان الغربيين- الذين وافقوا في السنة 382 في مجمع التأم في رومية برئاسة البابا
داماسيوس الأول على أعمال المجمع المسكوني واعترفوا به مجمعا ً قانونياً نظير مجمع
نيقية- لم يسرّهم القانون الثالث الذي يقضي بجعل أسقف القسطنطينية مساوياً لأسقف
رومية وله، كما أن القانون ذاته أقلق كنيسة الاسكندرية أيضا وكان بمثابة تحدّ لها.
آثرت رومية، بعد تساؤلات كثيرة ومتنوعة، على تجاهل القانون الثالث واعتبرته
مهيناً، ولم يعترف البابا رسمياً بحق القسطنطينية بتولّي المركز الثاني قبل مجمع
لاتران (السنة 1215)، وكانت القسطنطينية وقتئذ ٍ في يد الصليبيين وتحت سلطة بطريرك
لاتيني.

 

ويلاحظ
هنا أن كتاب المجامع اليوناني يُضيف إلى هذه القوانين الأربعة ثلاثة قوانين أخرى.
ولكنَّ الخامس والسادس من هذه القوانين المضافة هما من أعمال مجمع 382 لا 381.
وأما السابع فإنه في الأرجح نبذة من رسالة وجهتها كنيسة القسطنطينية في منتصف
القرن الخامس إلى مرتيريوس أسقف أنطاكية.

 

اختتام
المجمع: ختم الآباء أعمال المجمع في التاسع من تموز سنة 381 وحرروا بذلك رسالة إلى
ثيودوسيوس الأمبراطور وشكروا له عن دفاعه عن الإيمان القويم وسعيه لتوطيد السلم
بين الكنائس. فأصدر الأمبراطور في الثلاثين من تموز براءة جديدة أوجب بها إعادة
بناء الكنائس إلى الكاثوليكيين الأرثوذكسيين واعتبر أرثوذكسيين أولئك الذين شاركوا
نكتاريوس القسطنطينية وتيموثاوس الإسكندرية وبيلاجيوس اللاذقية وديودوروس طرسوس
وغيرهم. وكانت أسقفية أنطاكية لا تزال شاغرة بعد رُقاد الجليل في القديسين ملاتيوس
الأنطاكي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى