علم الكتاب المقدس

وحدة أسفاره



وحدة أسفاره

وحدة
أسفاره

ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به فى
جميع الكتب (لوقا24: 27)

أشرنا
في الفصل السابق أنه رغم تعدد كتبة الكتاب وتنوع كتاباتهم وتباين أحوالهم وظروفهم
فإننا لا نجد في النهاية تضارباً أو تشويشاً فيما كتبوا، بل نجد في هذه الكتابات
هدفاً إلهياً يسري فيها، وفكراً متجانساً يوحد معانيها، وموضوعاً واحداً ينعش
قارئيها، وخيطاً فضياً يربط صفحاتها معاً من الأول إلى الآخر. هذا يؤكد أن الكُتاب
البشريين كتبوا واحداً تلو الآخر وماتوا. لكن الكاتب الحقيقي استمر من الأول للآخر،
وهو الروح القدس.

وسنتتبع
هذا الفكر في هذا الفصل في خمس نقاط هامة وجميلة:

مقالات ذات صلة

1- التكامل التاريخي

يعطينا
الكتاب المقدس ككل تاريخ البشرية مسلسلاً من البداية إلى النهاية دون أية فجوات
تاريخية. فسفر ينتهي ليبدأ سفر آخر من حيث انتهى سابقه تماماً. كأن الكاتب الأول
سلم الراية لمن تلاه، مع أنهما قد لا يكونان التقيا على الأرض إطلاقاً.

يبدأ
سفر التكوين من البدء، أول الزمان، ويُختم سفر الرؤيا بعتبات الأبدية. وبين هذين
السفرين تتتابع الأسفار الإلهية واحداً تلو الآخر في استطراد تاريخي عجيب.

يحدثنا
سفر التكوين عن الأيام الباكرة في حياة البشرية ويغطي بالتتابع حقبة زمنية* قدرها
2300 سنة تقريباً منتهياً بموت يوسف، ليبدأ بعده سفر الخروج بملك جديد على مصر لم
يكن يعرف يوسف (خر1: 8). وإذ يختم سفر الخروج بتأسيس خيمة الاجتماع في البرية
وامتلائها من مجد الرب، فإن سفر اللاويين يُفتتح بحديث الرب إلى موسى من خيمة
الاجتماع.

وهكذا
تواصل باقي أسفار موسى الخمسة القصة، حتى تنتهي بموت موسى رجل الله نحو سنة 1450 ق.م،
وبعدها يفتتح سفر يشوع بالقول « وكان بعد موت موسى عبد الرب ». ثم يُختم
هذا السفر بموت يشوع عن 110 سنة، ليبدأ السفر التالي، سفر القضاة، بالقول « وكان
بعد موت يشوع أن..». وإذ يختم سفر القضاة بحوادث شريرة ومحزنة حدثت أثناء حكم
القضاة، يأتي بعده سفر راعوث فيحدثنا عن لمحة من لمحات النعمة حدثت « في أيام
حكم القضاة » (را 1: 1).

يأتي
بعد ذلك سفرا صموئيل ليكملا لنا ذكر آخر قاضيين (عالي وصموئيل)، وبعدهما يرد ذكر
أول ملكين لإسرائيل؛ شاول الذي حسب اختيار الناس، وداود الذي بحسب قلب الرب. ثم
أسفار الملوك والأخبار التي تحدثنا عن تاريخ المملكة حتى سبيها*. وبنفس العبارة
التي بها يُختم سفر الأخبار، عبارة الدعوة للعودة من السبي؛ يبدأ سفر عزرا! وبعده
سفر نحميا يكمل قصة البقية التي رجعت إلى الأرض.

إذاً
فالعهد القديم يحدثنا عن:

التاريخ
الباكر: تكوين1 إلى 11: 9

تاريخ
البطاركة: تكوين 11: 10 إلى تكوين 50

تاريخ
الأمة الإسرائيلية: خروج1 إلى أستير 10

وتاريخ
الأمة، الذي يمثل الفكر الأكبر في أسفار العهد القديم، ينقسم كالآتي:

الرحلة
(من مصر إلى كنعان): خروج1 إلى تثنية 34

أرض
الموعد: يشوع إلى راعوث

المملكة:
1صموئيل إلى 2 أخبار

السبي:
عزرا إلى أستير

ثم
إن ما توقفت عنده الأسفار التاريخية أكملته النبوات. وهكذا فإن سفر ملاخي (آخر
الأسفار النبوية) يشير إلى مولد يوحنا المعمدان؛ آخر أنبياء العهد القديم، ويشير
أيضاً إلى مجيء الرب لهذه البقية، كالعلاج الأخير للحالة التي وصلت إليها البقية
الراجعة من السبي.

وهذا
ما تم فعلاً إذ جاء ربنا يسوع بعد نحو 400 سنة. وتُقدِم لنا الأناجيل الأربعة قصة
المسيح، من أول بشارة الملاك بميلاد يوحنا المعمدان، ممهد الطريق أمام المسيح، حتى
صعود المسيح. ويكمِّل سفر الأعمال القصة حتى انتشار المسيحية إلى أقصى الأرض. وما
وقف عنده السرد التاريخي أكملته النبوة، أي سفر الرؤيا وكذا بعض أجزاء في الرسائل
حيث نصل إلى الأبدية!

هذا
التتابع التاريخي الدقيق في أسفار الكتاب المقدس لم يعمله شخص معين، ولا كان من
صنع إنسان ما، بل نما شيئاً فشيئاً عبر الأجيال حتى برز إلى الوجود بهذا الكمال
المعجزي. وشكراً لله فإنه عندما أعطى الأمر تباعاً بكتابة أسفار هذا الكتاب إنما
كان متجهاً بفكره إلينا « نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور » (1كو10:
11)، لأننا – دون باقي القديسين في مختلف التدابير- تمتعنا بهذا
“الكتاب” في صورته الكاملة.

2- تقدُم الإعلان مع وحدة الهدف

إن
هدف الله الذي نستنتجه من أولى أصحاحات الكتاب المقدس هو إيجاد علاقة له مع
الإنسان. ولهذا فقد نفخ الله فى الإنسان نسمة حياة، ميّزه بها عن باقي المخلوقات
حتى يكون مؤهَلاً للشركة معه. لكن الانسان – بالأسف – استخدم الإرادة
الحرة التي أعطاها الله له فى عصيان الله، فسقط الإنسان، وانقطعت شركته مع الله،
وطُرِد من الجنة. فهل تحول الله عن هدفه؟ أبداً؛ فبعد السقوط مباشرة ظهرت نعمة
الله متمثلة في الأقمصة من الجلد التى ألبسها الله لآدم وحواء. وما فقده الإنسان –
بالسقوط – من جنة أرضية، عوضته النعمة ما هو أعظم؛ فلا يُختم الكتاب المقدس إلا
بالسماء الجديدة والأرض الجديدة حيث « مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم »
(رؤ21: 3). ولكي يصل الله لهذا الهدف النهائي كان تجسُد المسيح، والصليب (عب2: 9، 10)،
وحول هذا الهدف دارت مشورات اللاهوت في الأزل (مز40: 5-8)، إذ قَبِلَ المسيح، رجل
مشورات الله، أن يتولى بنفسه إتمام هذا الهدف (عب10: 4-10،1بط1: 18-20).

وهكذا
فإن ما نجد بذرته ونقرأ تباشيره في سفر التكوين، نجد تحقيقه في سفر الرؤيا. وبين
الفكرة وتحقيقها، رحلة طويلة من فشل الإنسان وعداء الشيطان. لكن مع كل سفر جديد
يزداد الفكر وضوحاً والغرض قرباً. فبعد طرد آدم من الجنة سار الله مع أخنوخ (تك5: 24)،
وتكلم إلى نوح (تك6: 13) وظهر لإبراهيم ثم زاره وأكل عنده (تك12، 13، 18)،
كما ظهر أيضاً ليعقوب (تك28، 32). لكن عندما نصل إلى سفر الخروج، نجد سكن الله في
وسط شعبه؛ أولاً كرغبة أظهرها موسى* ثم صادق الله عليها فى خروج 25.

بعد
ذلك في سفر الملوك تتبدل الخيمة ببيت لسكنى الله، الأمر الذي يحدثنا عن الاستقرار.
وعندما نصل إلى العهد الجديد نجد كيف أن « الكلمة صار جسداً، وحلّ (أى نصب
خيمته) بيننا » (يو1: 14). وبعد موته وقيامته وصعوده أرسل الروح القدس ليؤسس
هيكلاً ليس مصنوعاً بالأيادي، بل بيتاً روحياً هو “الكنيسة” التي سيسكن
الله فيها إلى أبد الآبدين (أف2: 21، 22).

إذاً
فيمكن القول إن ما جاء بعد موسى لم يخرج في مضمونه عما أتى به موسى، ولو أنه ازداد
وضوحاً؛ وهو أن الإنسان الخاطئ يحتاج إلى مخلص. ولقد أخذ النور يزداد عن هذا
المخلِّص؛ فهو أولاً « نسل المرأة » (تك3: 15)، ثم من عائلة سام المبارك
(تك9)، ثم من نسل إبراهيم الذي في نسله ستتبارك جميع أمم الأرض (تك12،22)، ثم عن
طريق اسحق ويعقوب، إلى أن تحدد السبط بسبط يهوذا (تك49: 10)، ثم بيت داود (2صم7،
مز89)، ثم عذراء من بيت داود (إش7: 14). كما أعطى معلومات عن المدينة التي يولد
فيها « بيت لحم »، وكذا وقت ميلاده (مى5: 2، دا9: 24-27).

3- وحدة الموضوع

الموضوع
الرئيسي في الكتاب المقدس من أول كلمة فيه إلى آخر كلمة؛ هو المسيح. هذا ما أوضحه
الرب يسوع نفسه في يوم القيامة عندما سار مع تلميذي عمواس « ثم ابتدأ من موسى
ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب » (لو24: 27).
الأمر الذي يُظهِر أن كل أسفار الكتاب المقدس، مهما اختلفت في مبناها فإن موضوعها
واحد وهو الحديث عن مسيح الله؛ الرب يسوع.

فعن
أسفار موسى الخمسة سبق أن قال المسيح له المجد « موسى.. كتب عنى » (يو5:
46). فهذه الأسفار مليئة بالإشارات الرمزية عن المسيح ابتداءً من الوعد الذي سمعه
آدم وحواء في الجنة بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحية، وباقي الرموز الجميلة عنه
وعن عمله العجيب على الصليب (كهابيل وذبيحته تك4، ونوح وفلكه تك 6-8، ثم اسحق
وطاعته وزواجه تك22، 24، ويوسف في آلامه وأمجاده تك 37-50 وغيرها). وكذلك
خروف الفصح في سفر الخروج الذي كان واسطة حماية الشعب من غضب الله (خر12)، ثم
انشقاق البحر الأحمر الذي أصبح وسيلة خلاص الشعب من العبودية، وهلاك فرعون وجنوده
(خر14)، وكذا الصخرة التي بضربها تفجرت المياه لتنقذ الشعب من الموت المحقق (خر17)..
ثم الذبائح المختلفة فى سفر اللاويين.. وهكذا.

أما
في الأسفار التاريخية فنجد في شخصية يشوع ثم القضاة ثم الملوك المؤمنين، وكذلك
الأنبياء أو الرؤساء.. الخ؛ صوراً رمزية مباركة للمسيح، وفيما عملوا؛ صوراً مصغرة
للخلاص الذي عمله المسيح على الصليب. والقياس مع الفارق، لأن« الذي يأتي من
فوق هو فوق الجميع » (يو3: 31).

لقد
صَدَق أحد الشراح عندما قال إن تاريخ إسرائيل هو في نفس الوقت نبوة؛ فكل نصر
وتحرير يعطي تصويراً لعمل المسيح، وكل قديس وبطل في الإيمان يشير بشعاع واحد إلى
شخصه المجيد، وكل مأساة وكارثة حلت على البشرية تشترك في تلك الصرخة القوية التي
تدعوه للتدخل. فهو بحق روح التاريخ، تماماً كما هو روح الشعر والنبوة.

ثم
إذ نصل إلى الأسفار النبوية نجدها ممتلئة بالنبوات عن المسيح. فنجد فيها نحو 333
نبوة عن أزليته وتجسده وولادته من عذراء وحياة الاتضاع المقترنة بالطاعة لله أبيه،
وكذلك عن الصليب بأدق تفاصيله، وعن الدفن والقيامة، كما وعن مجد المسيح وملكه
النهائي. فحقاً كما قال الملاك ليوحنا الحبيب في جزيرة بطمس « اسجد لله، فإن
شهادة يسوع هي روح النبوة » (رؤ19: 10).

فكأننا
نجد الوعد بالمخلص مع رموز عديدة له في أسفار موسى الخمسة، ممهد لمجيئه في الأسفار
التاريخية، يصبو إليه القديسون في الأسفار الشعرية، متوقع ظهوره فيما بيننا في
الأسفار النبوية.

لكننا
إذ نصل إلى أسفار العهد الجديد نجد الحديث صريحاً ومباشراً عن المسيح. في الأناجيل
نجد حياة يسوع فوق الأرض وموته الفدائي. وفي سفر الأعمال نجد المسيح المرفّع في
السماء، الذي لازال يعمل ويخلِّص. وفي الرسائل نجد الحق الكامل المبارك عنشخص
المسيح وعمله، وعن السر العظيم؛ المسيح الرأس والكنيسة جسده. وسفر الرؤيا يحدثنا
عن المسيح في سيادته الحتمية المستقبلة على كل الخليقة.

حسناً
قيل “إننا في العهد القديم نرى في أسفار موسى صوراً ورموزاً للمسيح، وفي كتب
الأنبياء نبوات عن المسيح، وفي المزامير نستمع إلى مشاعر المسيح على الأرض. ثم في
العهد الجديد إذ نلتقي في الأناجيل بشخصه فعلاً، فإن لنا الحقائق الخاصة بالمسيح.
ثم في الرسائل نجد ثمار المسيح التي ينبغي أن تظهر في تابعيه”.

وقال
آخر “ما هي النوته للموسيقى، أو البيضة للمحارة، أو النواة للذرة، أو الماسة
للخاتم، أو القلب للجسد، أو الحياة للشجرة، أو الشمس للقمر؛ هكذا المسيح لأسفار
الكتاب المقدس”.

كأننا
– بلغة القديس أغسطينوس – نرى في العهد القديم المسيح؛ موضوع العهد الجديد، مظللاً.
وفي العهد الجديد نرى المسيح، موضوع العهد القديم، معلناً. فالعهد القديم كله يشير
متقدماً إلى الشخص الذي سيأتي، والعهد الجديد يشير راجعاً إلى الشخص الذي أتى.
العهد القديم هو مثل المساء مهوب بقمره وكواكبه. أما الصباح؛ العهد الجديد، فمجيد
بشمسه. وكما أن المساء والصباح يوم واحد (تك1: 5)، هكذا العهد القديم والعهد
الجديد كتاب واحد.

4- تناسق المحتويات

في
تكوين 1: 1 نقرأ عن خلق الله للسموات والأرض في البدء.

ثم
ابتداء من عدد 2 يركز الوحي أنظارنا على كوكب الأرض.

ثم
في اليوم الثالث (تك 1: 9) يحصر النظر على اليابسة.

وفي
اليوم السادس (تك 1: 26) على الجنس البشري الذي يعيش فوق اليابسة.

وبعد
ذلك اعتباراً من تكوين 12 فصاعداً يضيق النظرة علي أمة واحدة فقط هي موضوع أسفار
العهد القديم.

وإذ
نصل إلى العهد الجديد نجده يركز الضوء كله على شخص واحد جاء من هذا الشعب بحسب
الجسد، هو ربنا يسوع المسيح.. لكن بعد ذلك، ومن الرب يسوع كنقطة بداءة جديدة، يتسع
الإعلان الإلهي من جديد بواسطة رسل المسيح ابتداءً من أورشليم إلى اليهودية، ثم
السامرة، ثم تنتقل بشارة الإنجيل إلى العالم أجمع. وفي المستقبل ستمتلئ الأرض كلها
من معرفة الرب (حب 2: 14). وأخيراً تجيء السماء الجديدة والأرض الجديدة (رؤ21: 1).

ففي
البدء خلق الله السموات والأرض (تك1: 1)، وفي النهاية، في سفر الرؤيا « رأيت
سماء جديدة وأرض جديدة » (رؤ21: 1).

في
تكوين 1 نقرأ عن تسلط آدم ومعه حواء على كل الأرض، وفي رؤيا 21 نقرأ عن تسلط
المسيح ومعه الكنيسة على كل الكون.

في
تكوين 2 نقرأ عن نهر يسقي الجنة، وعن شجرة الحياة، وفي رؤيا 22 نقرأ عن نهر خارج
من عرش الله والخروف، كما نقرأ عن شجرة الحياة.

في
تكوين 2 نقرأ عن أول عرس في الكتاب، آدم وحواء. وفي رؤيا 19، 21 نقرأ عن آخر
عرس، وهو أعظم بكثير إذ هو عرس المسيح والكنيسة.

في
تكوين 3 نرى كيف دخلت الحية وأفسدت المشهد الجميل إذ ذاك « ملعونة الأرض
بسببك »، وفي رؤيا 20، 21 نقرأ عن نهاية الشيطان الحية القديمة،
« ولا تكون لعنة ما في ما بعد ».

في
تكوين 3 نقرأ عن طرد آدم وامرأته من الجنة كي لا يأكلا من شجرة الحياة، وفي رؤيا
22 نرى المسيح مع المؤمنين يمتعهم بشجرة الحياة.

في
البداية نقرأ عن دينونة العالم بطوفان الماء (تك 6) وفي النهاية نقرأ عن دينونة
العالم بحريق النار (رؤ20: 11 قارن 2بط3: 6-12).

في
البداية بابل تتحدى الله وتريد أن تصعد إلى السماء، وفي النهاية الله يقضي على
بابل وترمى في البحر لكي لا توجد في ما بعد (رؤ18: 21) من ثم تظهر المدينة التي
لها الأساسات التي صانعها وباريها الله (رؤ21).

..
وبين سفر التكوين حيث نجد أصل كل شيء، وسفر الرؤيا حيث نجد مصير كل شيء، يرد
الحديث الحلو عن المسيح، حمل الله الذي يرفع خطية العالم، بل المحور الإلهي الذي
عليه تدور مشاورات الله وعنده يلتقي الأزل بالأبد.

5- الارتباط المعنوي

حسناً
شبّه داربي كلمة الله بالجسد الكامل. فلو نقص من الجسد أصغر عضو فإن الجسد، رغم
كونه لم يفقد الحياة، لكنه لم يعد جسداً كاملاً. هكذا أيضاً لو حُذِف من كلمة الله
أي جزء ولو صغير، فإنها ستظل كلمة الله الحية، لكن لا يكون لها الكمال الإلهي الذي
بحسب فكر الله. وفى نفس هذا الاتجاه قال ف. ف. بروس “أى عضو في الجسد لا
يمارس وظائفه الطبيعية إلا بارتباطه بالجسد، وأي سفر في الكتاب يستمد معناه من
وجوده في الكتاب”.

والآن
فكِر في سفر الرؤيا مثلاً، الذي هو آخر ما كتب بالوحي، وكتبه يوحنا بن زبدي صياد
السمك. بدون هذا السفر ما كانت كلمة الله قد كملت، بل ولظلت أجزاء من الكلمة – لا
سيما من نبوة دانيال ومن الأناجيل بدون شرح.

والآن
دعنا نقارن بين بعض أسفار الكتاب المقدس؛ فمثلاً إذا قارنّا بين أسفار الملوك
وأسفار الأخبار (وهي تتحدث عن نفس الحقبة)، نجد أن الأولى تقدم لنا الصورة الرسمية
لكل من مملكة إسرائيل ويهوذا، وكذا معاملات الله القضائية، بينما الثانية تعطينا
الصورة الأدبية للوضع، وتركز أكثر علي معاملات النعمة بالنسبة لمملكة يهوذا.

ثم
إذا أخذنا نبوات إرميا وحزقيال ودانيآل، وهم الأنبياء الذين ظهروا متلاحقين
تاريخياً وبنفس هذا الترتيب؛ فإننا نجد أن إرميا الذي من الكهنة مشغول بالحالة
الأدبية
للشعب التي تميزت في وقته بالشر والوثنية، لذلك تمتد عين النبوة عنده
إلى العهد الجديد، يوم يكون الشعب قلباً وقالباً للرب. أما حزقيال الكاهن أيضاً
فمشغول بالمجد الإلهي، وفي وقته كان المجد قد فارقهم بسبب نجاستهم، لذا
تمتد نظرته بالنبوة إلي عودة المجد للهيكل في النهاية. أما دانيآل الذي من النسل
الملكي فمشغول بالسيادة والحكم، اللتين ضاعتا أيضاً من الشعب بسبب شرهم،
وتسلم الأمم السلطان والحكم. لكن في النهاية سيعود الملك لربنا يسوع المسيح. فهذه
النبوات الثلاثة تكمل بعضها موضوعياً.

ثم
انظر للأناجيل الأربعة في العهد الجديد

إنجيل
متى يكلمنا عن المسيح الملك، ومرقس عن المسيح العبد، ولوقا عن المسيح ابن الإنسان،
ويوحنا عن ابن الله.

فى
متى المسيح أتى ليكمل (5: 17)، وفى مرقس أتى ليخدم (10: 45)، وفى لوقا أتى ليخلص
(19: 10)، وفى يوحنا أتى ليعلن (1: 18).

متى
يُختم بقيامة المسيح، ومرقس يُختم بارتفاع المسيح، ولوقا يُختم بوعد مجيء الروح
القدس، ويوحنا بوعد مجيء المسيح الثاني.

نفس
هذا الارتباط المعنوي نجده أيضاً في الرسائل: فإذا نظرنا إلى الرسائل ككل نرى أن
بولس كتب عن الإيمان، وبطرس كتب عن الرجاء، ويوحنا عن المحبة، بويعقوب عن الأعمال،
بينما يهوذا كتب عن الارتداد عن الحق الذي يفسد الإيمان والرجاء والمحبة والأعمال
الحسنة.

ثم
هاك بعض المقابلات فى الرسائل: فرسالة رومية تتحدث عن التبرير أمام الله بالإيمان،
ورسالة يعقوب تتحدث عن التبرير أمام الناس بالأعمال.

رسالة
كورنثوس الأولى تتحدث عن موقف الجماعة بالنسبة للمخطئ « اعزلوا الخبيث من
بينكم » (5: 13) والرسالة الثانية تتحدث عن موقف الجماعة بالنسبة للتائب «تسامحونه..
تعزّونه.. تمكنوا له المحبة» (2: 7، 8).

في
رسالة أفسس نجد سر « المسيح والكنيسة » مع تركيز الضوء علي امتيازات
الجسد أي الكنيسة، بينما في رسالة كولوسي نفس السر مع تركيز الضوء علي أمجاد الرأس،
المسيح.

رسالتا
تسالونيكي: بينما تعالج الأولي مجيء الرب لأجل قديسيه، فإن الثانية تعالج مجيء
الرب مع قديسيه للعالم. الأولى غرضها تصحيح مفهوم الجماعة بالنسبة للمؤمنين الذين
رقدوا، بينما مشغولية الثانية تصحيح المفهوم فيما يختص بالمؤمنين الأحياء.

رسالتا
تيموثاوس؛ تتجه الأولى بالحديث عن موقف المؤمن الأمين في بيت الله أو بالأحرى
الجانب الجماعي للشهادة، والمسئولية أيام القوة الروحية، بينما تتجه الثانية إلي
موقف المؤمن الأمين داخل البيت الكبير (المسيحية)، أو بعبارة أخرى السلوك الفردي
في أيام التشويش والخراب.

رسائل
يوحنا تتحدث عن الشركة: الرسالة الأولى تقدم لنا أساس الشركة وبركاتها، والرسالتان
الثانية والثالثة تتحدثان عن اتساع الشركة وحدودها؛ من الذي يُعزَل من الشركة
وكيفية التعامل معه، ومن الذي يُقبَل وماذا نفعل له. في الرسالة الثانية نجد يوحنا
الشيخ يوجه حديثه لسيدة لكي لا تقبل من لا يأتي بالتعليم الصحيح عن المسيح. أما
الرسالة الثالثة فإنه يوجهها لرجل لكي يشجعه علي قبول ومساعدة الذين يخدمون الرب
بنشر التعليم الصحيح.

 

ثم
تأمل أخيراً في العلاقة الوثيقة بين أسفار العهدين القديم والجديد:

سفر
التكوين:

سفر
البداءات

الفردوس
المفقود

والإنسان
المطرود

سفر
الرؤيا:

سفر
النهايات

السماء
المفتوحة

والإنسان
المُرحَب به

سفر
اللاويين:

جوهر
اليهودية

الذبائح
المتنوعة

الظلال
والرموز

رسالة
العبرانيين:

جوهر
المسيحية

الذبيحة
الواحدة

الحقيقة
والمرموز إليه

سفر
يشوع:

بركات
الأرض

فى
كنعان

رسالة
أفسس:

البركات
الروحية

فى
السماويات

 

نرجع
إلي ما قلناه في أول هذا الفصل، فقد يرى الإنسان الطبيعي في تعدد أسفار الكتاب
وتعدد من كتبوه نقصاً، أما الروحي فإنه يرى في نفس هذا الأمر كمالاً ودليلاً
مباركاً يضاف الي أدلة الوحي!!

« لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة »
(2كو2: 16).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى