علم الكتاب المقدس

آخر الأزمنة



آخر الأزمنة

آخر
الأزمنة

(سفر
الرؤيا)

الموجز

1-
انتظار الكنيسة لعودة الرب


اعتقاد الجيل المسيحي الأول بقرب عودة الرب (1تس 13: 4- 3: 5 و2تس 1: 2- 12 و1: 3-
15 و1كور51: 15- 57، أنظر مر28: 13- 30).

 


أهمية انتظار مجيء الرب في إيمان الكنيسة (في 10: 1- 11 و14: 2- 18 و20: 3- 21 وكو
4: 3 و1كو15 و2كو 16: 4- 10: 5، الخ..). كيف تفسر الكنيسة تأخر هذا المجيء (2بطر 3:
3- 15). سيزداد القتال شدة على مر العصور (متى4: 24- 13 ولو8: 18).

 

2-
المعارك الأخيرة: (المسيح الظافر) – سفر الرؤيا


رؤى سفر الرؤيا (علامات) من علامات الأمور الآتية، هذا السفر رسالة تنبيه وتعزية
للكنائس المضطهدة.

 


مجد الخروف: المسيح، رب الكنيسة، يملك على جميع سلاطين الدهر الحاضر والآتي،
الكنيسة لا تمتحن بدون إذنه. زمان الدينونة الكبرى يقترب، القوات العدوة تخرب
الأرض، ثم تباد نهائياً.

 


عندئذ تكون غلبة الله والخروف الأخيرة العظمى (رؤ20- 22 وأنظر 1كور24: 15- 28).

 

1-
انتظار الكنيسة لعودة الرب

كان
الجيل المسيحي الأول يعتقد بأن مجيء يسوع الثاني وشيك، معتمداً في ذلك بعض أقوال
يسوع نفسه. والواقع أننا نرى بولس الرسول يهدّئ من نفاد صبر المؤمنين ويحثهم على
متابعة أعمالهم اليومية، بعد أن شاطرهم اقتناعهم وقتاً طويلاً (1تس 13: 4- 5 و3
و2تس 1: 2- 12 و1: 3- 15 و1كور51: 15- 57، أنظر مرقس28: 13- 30).

 

ومع
هذا فلما تمكن في ذهن الرسول قربُ وفاته لم يطرأ أي تغيير على يقينه الأساسي بل
بقي انتظار ملكوت المسيح رجاءه الأعظم في الحياة. ففي سبيل هذا الملك نراه يجاهد
وفي سبيل (يوم المسيح) العظيم يحث الكنائس على الأمانة (فيلبي 10: 1- 11 و20- 21
و14: 2- 18 و20: 3- 21 وكو 3: 4 و1كور15 و2كور 16: 4- 10: 5). وفي الرسائل
الرسولية الأخرى انعكاس لمثل هذا الانتظار الحار. وكانت حرارة هذا الانتظار في
أساس تحمّل الرسل لمحن هذه الحياة والتغلب عليها (1بط 3: 1- 21 و11: 2 و1: 4- 19
و8: 5- 11 و1بط 8: 3 و1يو 2: 3 وعب37: 10- 39 و22: 12- 29). وكلما زاد العراك
احتداماً وازدادت قوى المسيح الدجال ظهوراً كلما أرست الكنيسة إيمانها ورجاءها في
غلبة السيد، تلك الغلبة التي تعرف أنها قد حصلت على الصليب وأنها ستظهر للعيان بعد
حين. وكان تأكيد الغلبة الأخيرة العنصر الذي أضفى على رسالة الرسل موضوعيتها
ورجوليتها وصفاءها إذ أن الموضوع موضوع خلاص يتجاوز الخلاص الشخصي إلى ما لا نهاية،
أعني الموضوع ظفر القضية التي تحارب الكنيسة من أجلها وتتألم. وماذا يمكن أن يفعل
عنف عدو نعرف أنه خاسر ويعرف هو بالتالي أنه خاسر لا محالة؟ قد يربح معارك في
الظاهر ولكن غلبته هذه لا تغيّر شيئاًُ في نتيجة المعركة وفي نتيجة الحرب. والمهم
إذاً أن لا يقع الإنسان في حبائله ويستسلم لتألق نجاحه العابر. المهم أن (يثبت)
ويبقى أميناً حتى النهاية مهما كلف الأمر.

 

ولكن
لماذا يتريث الرب في إظهار مجده وإنقاذ كنيسته؟ ولماذا يا ترى يبتعد مجيئه الثاني
يوماً فيوماً بعد أن أخبر عنه الأنبياء ويسوع نفسه من بعدهم ورسله في آخر الأمر؟
أليس هنالك شيء من السراب أو من الحلم العظيم بعصر ذهبي كان يشغل الإنسانية في كل
أطوارها؟ لقد تحسّب الكتاب المقدس للسخرية التي قد يبديها العالم أمام هذا الأجل
الدائم التأجيل: (اعلموا أنه سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون يسلكون حسب شهوات
أنفسهم ويقولون أين هو موعد مجيئه لأنه من حين رقد الآباء بقي كل شيء كما كان منذ
بدء الخليقة) (2بط 3: 3- 4).

 

نحن
نعرف هذا الهجوم. كما نعرف أن أمام الشر الجارف الذي يبدو كلي القدرة يتكاثر
المشككون الذين لا يؤمنون بحقيقة تدخل الله في العالم. وقد يعضّ الشك بنابه قلوب
بعض المؤمنون أنفسهم فيصرخون: (أين إلهكم) (مز11: 42)، أو لماذا بلغ تأخر الرب هذا
المبلغ؟

 

الجواب
عن هذا السؤال نجده في رسالة بطرس الثانية التي فيها يجابه الكتاب نفاذ الصبر
البشري بالصبر الإلهي وطول الأناة الإلهية. فإن الجاحدين ينسون (عن قصد) أن حكم
الله هو واقع مرسوم في التاريخ، لأن الذي خلق العالم بكلمته ودمّره مرة الأولى
(28) لا يُبقي العالم الحاضر إلا بقدرة كلمته تلك – وفي فعلته هذه يدلّل عن صبره
علينا.

 

أما
المؤمنون فينسون أن الزمن يعني لله شيئاً ولنا شيئاً آخر: (إن ألف سنة في عينيك يا
رب مثل أمس الذي عبر)، وينسون أن الامتحان قصير إذا قيس بالمجد الذي يتبعه، وأنه
إذا طال فلكي يأتي الجميع إلى التوبة وإلى الخلاص (2بط 3: 3- 10). إلا أنه يعود
للمؤمنون تعجيل يوم مجيء الرب بغيرة إيمانهم وحسن شهادتهم (2بط 11: 3- 13).

 

كان
المسيح قد نوه بأن المعارك الأخيرة ستكون أكثر هولاً من غيرها، وأن المحنة ستكون
من الشدة بحيث أن الكثيرين يعثرون، وليس في تعليمه أي شيء مشترك مع التفاؤل الهيّن
الذي يؤكد أن التقدم يستمر بالضرورة ويؤمن بتحوّل هذا العالم تحولاً تدريجياً. وفي
تاريخ الكنيسة الأرضي قد لا يبقى في ساعة الجهادات العظمى الأخيرة سوى (بقية)،
تماماً كما حصل في إسرائيل: (وعندما يأتي ابن البشر ثانية فهل يجد إيماناً على
الأرض) (لو8: 18). هذا السؤال يطرحه يسوع بالذات. أما إنجيل متى فيقول في سياق
وصفه لهذه الجهادات: (وحينئذ يعثر كثيرون ويسلم بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم بعضاً
ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين وتبرد محبة الكثيرين بسبب كثرة الإثم ولكن
من يصبر حتى النهاية فذاك يخلص) (مت10: 24- 13).

 

لقد
خبرت الكنيسة الرسولية في النصف الثاني من القرن الأول اضطهادات رهيبة وفهمت معنى
تنبيهات معلمها. لكنّ عالمنا الغربي قد نسيها نوعاً ما في أوقات رخائه، إلا أن
الكنيسة اليوم عادت إلى تذكرها من جديد. كما عادت رسالة ملكوت الله العظمى إلى
معناها الأول بالنسبة إليها.

 

2-
المعارك الأخيرة: (المسيح الظافر) – سفر الرؤيا

كُتب
في زمن الاضطهاد أغرب أسفار الكتاب المقدس وأقواها، أعني سفر الرؤيا.

هذا
الكتاب يحيّر القارئ الحديث لأن رمزيته المستوحاة من أدب الرؤيا اليهودي لا يدركها
مباشرة الذين لم يتمرسوا في هذا النوع من الأدب. وقد أعطى هذا الكتاب مجالاً
للتكهنات لكل الفِرَق التي تسارع إلى عمل ما أمر الرب أن لا يُعمل، أعني حساب
أوقات مجيئه الثاني وزمانه. ولكنه كتاب عظيم إلى حدّ الغرابة إذا ما أدركنا غايته
الحقيقية التي هي التنبيه والتعزية في الوقت نفسه.

 

وقد
كان من الممكن تجنب تفسير حرفي خطر لهذا السفر لو انتبه الشراح للكلمات الأولى فيه:
(إعلان يسوع المسيح الذي أعطاه إياه الله ليري عبيده ما لا بد أن يكون عن قريب
وبيّنه بعلامات مرسلاً بيد ملاكه لعبده يوحنا الذي شهد بكلمة الله وبشهادة يسوع
المسيح بكل ما رآه) (29).

 

فيتضح
جلياً أن رؤى الكاتب في بطمس هي علامات وإشارات لما سيأتي. والعلامة تحوي جزءاً من
الحقيقة المشار إليها ولكنها لا تعبر عنها تعبيراً كلياً ولا تهتك الحجب لتكشف
سرها كشفاً كاملاً.

 

وبالنسبة
إلينا تبقى أمور متعددة، منها العالم الآتي أو ما نسميه (العالم الآخر) مع كل أمور
الآخرة، يكتنفها السر لأن الله هكذا شاء. ويكتفي صاحب الرؤيا بأن يرفع لنا الستار
لكي يعطينا تعزية قوية وتحذيراً رهيباً ثم يعود إلى إسداله. هذا لأن مسيرتنا على
الأرض يجب أن تبقى مسيرة بالإيمان لا بالرؤية.

 

أما
كاتب الكتاب فشخص منفي يتألم من أجل إيمانه، ورسالته موجهة إلى كنائس تتألم بدورها
من أجل إيمانها ويداهمها خطر برودة المحبة التي كانت لها في بادئ الأمر (رؤ 4: 2).

 

الحادث
يحدث في يوم الرب أي يوم الأحد. ويوحنا واقف على شاطئ البحر محروم من الصلاة وبعيد
عن إخوته. وها هو يُنقل إلى عتبة السماء فيرى أمامه خدمة إلهية سماوية غاية في
العِظم. يرى عرش ربّ الأرباب الذي تصبح أمجاد ملوك الأرض أمامه لا شيء سوى أبهة
عابرة. ثم يشاهد يوحنا تنصيب الحمل الحافل (رؤ 4 و5).

 

ثم
تتوالى رؤى الدينونة ورؤى النعمة في تناوب مقصود. فينكشف ليوحنا أن الحرب والمجاعة
والطاعون ستجتاح الأرض، وأن سلاطين الموت أُعطيت قدرة إلى حين، أقول إلى حين فقط.
ثم يسمع شكاوى نفوس الشهداء، وأن وعداً أَعطي لهم بأن النجاة قريبة وعلى الأبواب.
ومن ثم يختم ملاك الرب بختمه أبرار إسرائيل المئة والأربعة والأربعين ألفاً (30).
وتسبّح مجد الحمل ربوات من كل لسان وجنس (رؤ 6 و7).

 

ثم
تدور أمامه رؤى أخرى للدينونة تقطعها ترنيمة جديدة للمسيح الظافر (رؤ 8- 11).

 

وفي
الإصحاح الثاني عشر نأتي إلى الوصف بتعابير رمزية لغلبة المسيح على الشيطان أو
التنين، وللمحن التي ستجتازها الكنيسة، أي المرأة، إلى حين. ويخضع العالم أيضاً
إلى حين لسلطان الوحش الذي يحكم الشعوب ويقبض بيد من حديد على سوق الشراء بحيث لا
يمكن لأحد أن يشتري أو يبيع إلا إذا كان مختوماً على يده بخاتم الوحش (رؤ13). ولكن
حينما يبدو الوحش في ذروة سلطانه يظهر الحمل على جبل صهيون يحيط به الذين فداهم
(رؤ1: 14- 4) فتعلن البشارة مجدّداً لكل سكان الأرض (رؤ6: 14- 7) قبل الحصاد
الأخير (رؤ14: 14- 20). ثم تدوّى في السماء تسبحة موسى وتسبحة الحمل (رؤ1: 15- 4)
فيصب سبعة ملائكة جامات الغضب السبعة على الأرض وتباد نهائياً بابل التي ترمز إلى
الدولة التي تؤلّه ذاتها وإلى مُلك المسيح الدجال (رؤ15- 18). من ثم نشاهد عرس
الحمل (رؤ6: 19- 10). أما التنين فتُشدُّ قيوده لألف سنة. ويُشرك المسيح الكنيسة
الأمينة في هذا (الملك الألفي) الذي عند تمامه تُحلُ قيود الشيطان ويُغلب في معركة
أخيرة حاسمة. هذا هو يوم الدينونة الأخير. والموت والجحيم يُبتلعان إلى حيث لا
رجعة.

 

ولقد
دقت ساعة ملكوت الله: (ثم رأيتُ سماءً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى
زالتا والبحر لم يعد موجوداً) (رؤ1: 21). وتظهر مدينة الله في بهائها المجيد
والربُّ هيكلها والحمل مشعلها وفيها يجري نهر الحياة زاخراً كما أنّ أوراق شجرة
الحياة تُفيد (لشفاء الأمم) (رؤ2: 22، أنظر تك 22: 3).

 

ويختتم
هذا السفر بصيحة الكنيسة صيحة انتظار ورجاء: (تعال أيها الرب يسوع) (رؤ20: 22).

 

إن
أول ما يُستخرج من هذا الكتاب هو التأكيد من أن الغلبة الأخيرة والكلية ستكون لله.

 

ويذكّر
الكاتب الكنيسة، في صميم ساعات اضطهادها الدامية التي تهدد كيانها، إن الرب هو
الكائن والذي كان والآتي (رؤ 1: 4) وأنه مهما بلغت القوة بسلاطين هذا العالم فإنهم
لا يزالون تحت الحكم الإلهي.

 

ويفترض
ظفر الله الكلي خضوع القوى المعادية أو إبادتها نهائياً، لأن قوى الموت احتفظت
بشيء من السلطان حتى بعد غلبة الصليب. لكن صاحب الرؤيا يشدّد على أن هذا السلطان
ليس مستقلاً إلا أنه قائم بسماح من الله، بل إن الضربات التي تتوالى على الأرض
تحدث بأمر الله. فالخروف يرأس عملية فتح الأختام السبعة، والضربات تنزل في ترتيب
إرادة مشيئة الله. لذلك فالملائكة هم المنفّذون، وهم الذين يدمغون المختارين لكي
لا يصيبهم الأذى، كما أنهم يهتمون بأن يبشر بإنجيل النعمة الأبدي في كل الأرض قبل
الدينونة الأخيرة. هذا يوضح لنا أن أزمنة المحن في نظر الكاتب نداءات أخيرة يطلقها
الله إلى العالم المتمرد. وكل إنسان سيكون في مقدوره أن يقرر عن معرفة أن يكون إما
مع الله أو ضده ويقبل الخلاص أو يرفضه (رؤ6: 14- 7). عندئذ يأتي ملك المسيح لا
بطريقة سرية خفية بل بطريقة تتجلى فيها سيادته لكل عين (فيرى الجميع الربَّ حتى
الذين طعنوه) (رؤ 7: 1). وكما سبق له أن وعد يدعو الذين شاركوه آلامه إلى مشاركته
الملك والدينونة (دانيال1: 12- 3 ولو28: 22- 30 و30 و2تي 11: 2- 12 ورؤ 7 ورؤ1: 14-
5 و1: 20- 6).

 

هذا
بلا ريب هو المعنى الجوهري لملك (الألف سنة) الذي أفسح المجال لأكثر التأويلات
تنوعاً. فهو يشير إلى نهاية انتظار ماسياني طويل وإلى أن السيد يُشرك في مجده
الكنيسة التي خدمته وأحبته.

 

غير
أن كلَّ هذا ليس سوى مرحلة فقط لأن في قصد الله الأزلي ينتهي عمل الخلاص بقيامة
العالم. ولذلك يضعنا الإصحاح الأخير من الرؤيا أمام سموات جديدة وأرض جديدة كان
الأنبياء قد بشروا بها (اش17: 65). لا ريب أن وصف مدينة الله مشحون بالرمزية لأن
عالم الله لا يمكن وصفه بأية لغة بشرية، لكن يجب لفت الأنظار إلى أن هذا الملكوت
ليس مجرّداً ولا خارجاً عن التجسيم لأنه ليس فردوساً هزيلاً مليئاً بالأرواح
المجرّدة، إنه عالم يسقيه نهر الحياة العظيم الذي ينبع من عرش الله والحمل.

 

إلا
أن سفر الرؤيا يوازي حتى النهاية بين الظلمات والأنوار. فالموت سيُبتلع (رؤ14: 20،
أنظر اش8: 25 و1كور26: 15، 54- 56)، لكن الشيطان سيجرّ إلى الخراب كلَّ المختصين
به (رؤ11: 20- 15 و8: 21 و12: 22).

 

أمام
رهبة الدينونة التي تلعلع وكأنها تحذير مخيف خلال سفر الرؤيا كله (وكما رأينا خلال
كل الكتاب المقدس) يرتفع إلى شفاهنا سؤال لا مفر منه: هل هنالك حقاً أناس هالكون
إلى الأبد؟ الحقيقة أن الكتاب المقدس لا يسمح بإعطاء جواب واضح ودقيق لأنه هو لا
يُعطي مثل ذلك الجواب.

 

يكتفي
الكتاب بالتأكيد بأن هنالك عدالة إلهية وأن الوقوع في يدي الله الحي أمر هائل، وأن
الله لا يُسخَر منه، وأن محكمته حقيقية واقعية، وأن علينا أن نقف أمامه يوماً
وجهاً لوجه.

 

ولكنه
يؤكد أيضاً أن إرادة الله هي في أن يخلص الكل وينتهوا إلى معرفة الحق (1تي 3: 2-
4). ومن أجل قصده الأبدي هذا دعانا الله من العدم إلى الوجود وقدّم لنا ابنه لكي
يجتذب إليه بقدرة النعمة كلَّ الناس بدون استثناء (يو32: 12). ففيه نحن جميعاً
مختارون مسبقاً للحياة ولنعمة الخلاص.

 

هذا
التوتر بين التيارين اللذين ذكرنا يكوّن الدعوة المسيحية الحقة لأنها رعدة رهيبة
وفرحة في الوقت ذاته أمام عظمة موهبة الله. لكنّ الخروج عن مدار النعمة حيث وضعنا
المسيح يبقى إمكانية رهيبة طالما تجوالنا في العالم لم ينته بعد (فيلبي 12: 3- 16
و1كور 24: 9- 27). ولا شك أن هذا الخروج خطيئة ضد الروح القدس (مر 28: 3- 30)، غير
أن هذه الخطيئة لا تكوّن إطلاقاً خطيئة جهل بل رفضاً مقصوداً للنعمة المقتبلة (عب
4: 6- 8). وبالضبط بما أن الربَّ تمسك هو بنا، لا نحن به، فبقدر ما نحيا بنعمته
فقط نستطيع الاتكال عليه بثقة كلية فرحة متيقنين أنه سيكمل ما بدأ به. فمحبته
الأزلية هي سلامنا وهي طمأنينتنا (رو 31: 8- 39، أنظر فيلبي 3: 1- 6 و1تس 23: 5-
24 الخ).

 

هذا
يجرُّ المؤمن إلى أن يتخذ أمام الذين يجهلون الله موقف تحسس بالمسؤولية. فمن واجبه
أن يُعلن لهم عن مقصد الله الخلاصي وهذه هي رسالة الكنيسة المجاهدة بكاملها. ومن
احتفظ لذاته برسالة النعمة برهن أنه فقير المحبة وأنه لا يزال في الموت، والإنجيل
واضح في هذه النقطة (1يو 16: 3- 17 و7: 4- 21).

 

ويتميّز
أيضاً موقف المؤمن بأنه يقين شديد وهادئ بأن الله يفوقه بكثير محبة للنفوس التي
يهتم بها. وكل من اختبر نعمة الله العجائبية توقع منها كل شيء عالماً أن إلهه هو
الإله الذي يقيم من الأموات. ويعلم أيضاً أن الآخرين قد يصيرون أولين في مأدبة
الملكوت فينتظر بالصلاة والإيمان يوم يُليِّن مجدُ الحمل أقسى القلوب ويقودها إلى
عرش الله خاضعة مغلوبة. وهو أخيراً يعيش مؤمناً بأن الكلمة الفصل في هذا العالم
ستكون كلمة المحبة الظافرة.

 

فإذا
ما تدرّع المؤمن بهذا اليقين صار قادراً على احتمال هجمات العدو دون انثناء.
فالتنين مصاب في رأسه، ومهما خرّب في الأرض فانتفاضاته هي الأخيرة وهي صولات ذَنَب
الوحش الأخيرة، تلك الصولات التي يساوي عنفها عِلمَها بأنها فاشلة.

 

وهذا
كله إذا عرفناه لا يعني أنّ علينا التوقف عن أخذ جهادنا في هذا العالم بعين
الرصانة والجد. لكنه يعني أن نبتعد بأنظارنا إلى ما بعد هذا الجهاد فنضعه في إطاره
الحقيقي.

 

ذلك
لأن أزمات التاريخ الكبرى علامات تشير إلى المعركة الأخيرة وتنبئ بقرب وقوعها وهي
تتوالى على نسق واحد من حروب إلى مجاعات إلى اضطهادات. لأن الكنيسة يقتضي أن
تُغربَل كالحنطة دائماً من جديد وتتنقى في نار الامتحان وتتشدّد. وينبغي أن تذكرها
الأحداث بدون انقطاع بما قد تميل إلى نسيانه أيام الرخاء، أعني بأنها ليست من هذا
العالم وأنّ هذا العالم سيحاول على الدوام لفظها من صدره لأنها بوجودها ذاته تعلن
عن نهاية العالم وتبشر بالخليقة الجديدة. (السماء والأرض يجوزان لكنّ كلامي لا
يجوز).

 

إن
حياة الكنيسة العميقة تقاس بمقدار حدّة انتظارها لربها ويقينها الفرِح الذي به
تؤمن بملكوته وتنادي به كما تقاس بإخلاصها وأمانتها للصلاة الدائمة من أجل مجيئه
(مت 10: 6 ورؤ10: 22).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى