علم الكتاب المقدس

ملء الزمان أو التجسد



ملء الزمان أو التجسد

ملء
الزمان أو التجسد

(الأناجيل)

الموجز

(لقد
كان يسوع المسيح في الخفاء- حسب مفهوم هذه الكلمة الدنيوي – حتى أن المؤرخين،
الذين لا يؤرخون إلا الأمور المهمة في الدول، لم يأبهوا له قط).

مقالات ذات صلة

 

(البشرى)
التي تكرز بها الأناجيل هي أن يسوع الناصري الذي صلب في عهد بيلاطس البنطي هو
ماسيا المنتظر، مسيح الله، ابن الله الحي.

1- ملك يأتي إلى مملكته

آ-
كتاب ميلاد يسوع المسيح، ابن داود بحسب الجسد وابن الله بحسب الروح. (علامات)
الملكوت واستتاره (متى 1 و2، لوقا 1 و2، 23: 3- 38، يوحنا 1: 1- 18).

 

ب-
النذير الذي يمهد الطريق للملك: يوحنا المعمدان، أعظم الأنبياء وآخرهم (مرقص 1: 1-
28، متى 3، لو 3، يو 19: 1- 34).

 

ج-
ملك، ولكن على أية مملكة؟ المعمودية والتجربة (متى 13: 3- 11: 4، لو 21: 3- 22، 1:
4- 13).

 

2- (يوم) الملكوت

 

آ-
(لقد كمل الزمان): يسوع يعي افتتاحه للملكوت (مر 15: 1، لو 21: 4، متى 13: 4- 17).
فهو الوارث الشرعي القادم لاقتناء ملكه (لو 49: 2، يو 11: 1، مر6: 12، متى26: 17).

 

ب-
يسوع لا يعلن ذاته ماسيا، ولكن وعيه ذاته كماسيا يبرز للعيان جلياً في أقواله
وأفعاله. فهو يتكلم (كمن له سلطان) (مر 22: 1- 27، متى 28: 7- 29). ويأمر الناس بإتباعه
(مر 16: 1- 20، 14: 2 ولو 57: 9- 62). ويطوب من يتألم من أجله (متى 11: 5)، لأنه
حينذاك يخلص نفسه (مر 35: 8). ومن يعترف به أو ينكره فهو يعترف بالله ذاته أو
ينكره (متى32: 10- 39).

 

ج-
العظة على الجبل بمثابة ميثاق الملكوت الذي جاء يؤسسه (متى 5). فيسوع يتصرف بحرية
السيد المطلق إزاء الناس والشرائع ((أما أنا فأقول) متى 22: 5 وما بعدها). وذلك لا
احتقاراً للشريعة ولكن لأن ساعة التكميل قد أزفت وبدأ عهد جديد (مر 18: 2- 28، متى
17: 5- 20). أما دخول الملكوت فهبة هو (مر 5: 2، 15: 2- 17 ولو15).

 

د-
إن أعمال يسوع الخلاصية – شفاء المرضى وإخراج الشياطين وإقامة الموتى – هي
(علامات) وعربون للملكوت الآتي ولانتصار الله على كافة قوى الخطيئة والموت (مر 24:
1 و3: 2- 12 و11: 3، 12، 27 ومتى 29: 8 و27: 12- 28 ولو8: 10- 11، 18 ويو 9). وحيث
يمر يسوع يدوي (يوم) الملكوت وخلاص الله (لو 21: 4 و9: 19 و43: 23).

 

3- كتمانية الملكوت

 

لماذا
يمنع يسوع خاصته من الإخبار عنه؟ لم هذا (الكتمان الماسيوي؟) (مر 25: 1 و43- 44
و12: 3 و11: 4 و36: 7 و26: 8، 29: 8- 30، أنظر متى20: 16):

 

آ-
هناك سبب يتصل بالحيطة (يو 2: 7- 9).

 

ب-
إن (كتمانية الملكوت) (مر 10: 4- 12) ناتجة عن طبيعته ذاتها (يو 14: 6- 15 و36: 18).
فهو سر انسحاق الابن وإنكاره من قبل أولئك الذين أتى ليخلصهم.

 

ج-
هذا السر لا يكشف إلا للإيمان – فالسؤال الحاسم هو: (وأنتم من تقولون إني أنا؟)
اعتراف بطرس، أول إقرار بإيمان الكنيسة، وشكه (مر 27: 8- 33 ومتى13: 16- 28).

 

4- الملك المصلوب

 

آ-
عثرة الآلام: (كان ينبغي..) (مر 31: 8- 38 وما يقابلها في بقية الأناجيل، 1كور 17:
1- 25 ومر 6: 3 ولو 28: 4- 30 و47: 19- 48 ومر1: 12- 12).

 

ب-
السير إلى الصلب: يسوع يثبت نظره إلى أورشليم وإلى الموت القريب (مر 2: 9- 12 ولو
51: 9- 62 و49: 12- 57 و1: 13- 9 و31: 13- 35 و41: 19- 44). ويهيئ تلاميذه لفكرة
الفراق ثم العودة (مر13 ومتى24 و25 ويو12- 17).

 

ج-
ساعة الظلمات (مر14 و15 وما يقابلهما في بقية الأناجيل، لو53: 22 ومتى45: 27 ويو30:
13). يسوع يؤكد المعنى الفدائي لموته أكثر مما يوضحه (مر45: 10 ولو14: 22- 20).
ويبذل حياته بملء حريته (يو17: 10- 18).

 

5- الناهض من القبر

 

آ-
يقين القيامة أساس إيمان الكنيسة وأساس حياتها (مر1: 16- 8، متى28، لو50: 23- 42: 24،
يو20 و21، 1كو1: 15- 8).

 

ب-
الأربعون يوماً: يسوع يفتح أعين التلاميذ ليفهموا الكتب (لو25: 24- 27 و44- 45).
صعوده إلى (عن يمين الله) (لو50: 24، أعمال 11: 1).

 

مقدمة

عشرون
قرناً قضاها الله في تكوين الشعب الذي منه سيولد ابنه الوحيد. لكن ثلاث سنين كانت
كافية كي يقوم هذا الشعب على ذلك الابن ويميته.

 

لقد
انقضت عدة قرون منذ أن دوّت في إسرائيل بشارة الأنبياء ورضخت الإمارات الفلسطينية
الصغيرة بالتوالي للنير الفارسي ثم للنير اليوناني فالنير الروماني. وها هو الآن
يقوم نبي جديد اسمه يوحنا يعلن قرب ملكوت السموات ويدعو الشعب إلى التوبة. وفي
بشارته نلحظ قساوة عاموس، فإن يوم الرب المنتظر هو يوم غضب لا نعمة، وقد وضعت
الفأس على أصل شجرة إسرائيل.

 

ويأتي
إلى يوحنا رجل ليعتمد منه، رجل ليس ككل الرجال، بالرغم من أن ظاهره لا يميّزه عنهم
بشيء. ولكن يوحنا لا يخطئ في نظرته إليه، ولا الجماهير تخطئ. فإن هذا الآتي يتكلم
بسلطان لا مثيل له وأعماله تؤيد أقواله. هو لا يكتفي بإعلان الخلاص، بل يخلِّص.
ولا يكتفي بأن يدعو، بل يسبغ على مدعوّيه سلطانه بالذات. إنه يتصرف بين الناس
والأشياء بحرية الابن القادم لينظّم بيتَ أبيه، وبمحبة الطبيب الذي يعطف على
عالَمٍ مريض يعرف هو دواءَه. لكن حرية التصرف هذه تصدم (الكتبة والفريسيين) وتقلقهم،
وهم قادة إسرائيل. فبينما نجد هؤلاء مقيَّدين برُبُطِ أنظمتهم نرى يسوع يتصرف بها
تصرّف السيد. ثم يتبيّن جلياً أن هؤلاء (الكتبة والفريسيين) ليسوا سوى إجراء أمام
هذا الابن. وهم يشعرون شعوراً غامضاً بادئ الأمر، يزداد اتضاحاً فيما بعد، إن
هنالك تنافياً أساسياً بينهم وبينه، فإما أن يُخذَل أو يُخذَلوا. لذلك فلا مناص من
التخلص منه بأسرع ما يمكن. ولن يطول الوقت حتى يتكشف الخلاف الخفي. فيغادر يسوع
الجليل ليتنحى، ويهيئ تلاميذه لفكرة موته، ثم يسير في اتجاه أورشليم عند مجيء
ساعته.

 

ويسير
الأخصام في دعواهم، فتنضم ضغينة السلطات اليهودية إلى جبانة السلطة الرومانية
وتتفقان على الحكم على بريء. ولم يحاول يسوع الدفاع عن نفسه، فقد حفظ أمام متهميه
حريته المطلقة، لأنه لا يفتش عن أن (يخلص نفسه). وأخيراً يموت، وينتهي الحادث.

 

أما
التلاميذ فقد رفضوا إلى النهاية تصديق هذه الآخرة المؤلمة. بل توقعوا حدوث المعجزة،
تلك المعجزة التي أبعدها يسوع مسمياً إياها تجربة. لذلك فإن موت معلمهم في العار
يتركهم وحيدين حيارى.

 

بيد
أن الفشل ينقلب ظفراً ويبزغ فجر الفصح في ظلمات الجمعة العظيمة. لقد ظهر المسيح
الناهض من الأموات لتلاميذه المشككين وأعطاهم سلامه وأوكل إليهم مهمة تبشير العالم.

 

إن
يقين القيامة في أساس الكنيسة بالذات. والكنيسة لا تني تعلن للملأ بأن (كل شيء قد
تم) بيسوع وفيه. وكلمة (كل) هنا تشمل ذاك الذي من أجله سار ابراهيم وموسى في اتجاه
أرض الميعاد، والذي من أجله اتخذ الله شعباً وعقد معه ميثاقاً. ومن أجله أيضاً رفع
العرش والهيكل على جبل صهيون. كما تشمل ما اعتقد به الأنبياء وبه بشروا. وما اعتقد
به مرنمو المزامير وأنشدوه. وفي النهاية ما أعدّه الله منذ بدء العالم لكي يحققه
في الوقت المحدد.

 

هذا
التأكد من إتمام كل شيء يتجلى في كل صفحة من صفحات العهد الجديد. فقد (تم كل شيء).
فتح باب القبر، وغلب الجحيم، ودخل يسوع في ملكه، وسيأتي ليقيم هذا الملك في الأرض
كلها. فيه (انقضت الأشياء القديمة، وها إن كل شيء قد أصبح جديداً).

 

هذه
هي البشارة السارة (الإنجيل) التي يعلنها العهد الجديد والتي كانت الغاية الوحيدة
لكرازة الرسل. وتعليمها يمكن أن يختصر بكامله في قول الرسول بطرس يوم العنصرة: (إن
الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً) (أع 36: 2) وفي قوله اللاحق: (ليس
تحت السماء اسم آخر أعطي للبشر لكي يخلصوا به) (أعمال 12: 4).

 

وإذا
كانت الأناجيل قد كتبت فلكي تشهد لهذا الوقائع: (وإنما دُوّنت هذه لكي تؤمنوا أن
يسوع هو المسيح، ابن الله، وتكون لكم، إذا آمنتم، الحياة باسمه) (يو31: 20) (23).

 

ملك
يأتي إلى مملكته

أ-
يُسْتَهلّ العهد الجديد بلائحة نسب: (كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن ابراهيم)
(متى 1: 1). وفي هذا تشديد على استمرار الإعلان الإلهي. نحن الآن على عتبة تدبير
إلهي جديد ولكنه غير منفصل عن الماضي بل مكمل له.

 

إن
مجرد اسم يسوع المسيح هو دستور إيمان. لأن الإنجيلي يعترف فيه بأن يسوع هذا هو
مسيح الرب، وماسيا المنتظر، والوريث الأصيل لعرش داود وللوعود التي خص الله بها
ابراهيم.

 

ويرقى
إنجيل لوقا إلى أبعد من متى في سلسلة نسب يسوع فيقول عنه إنه (ابن آدم، ابن الله).
وهذا يعني أن يسوع ليس فقط وريث الشعب المختار، ولكنه الإنسان الجديد، آدم الثاني
الذي يعيد البشرية ثانية إلى النبوّة الإلهية وإلى مصيرها الأول (لو 23: 3- 38)
(24).

 

ولكن
لماذا لا يكتفي الإنجيليون بهذه المعطيات الجوهرية بل يوقعون أنفسهم في تعداد ممل؟
لقد سبقت لنا الملاحظة أن لوائح الأنساب الواردة في سفر التكوين تشير إلى أمانة
الله لشعبه، واستمرار إرادته بالخلاص. فالحضارات تولد وتموت ولكن حبل الإرادة
الإلهية الفادية يمتد عبر العصور، ويستحيل على الأحداث البشرية أن تقطعه. وولادة
يسوع هي آخر مرحلة تاريخ شعب الله، بل إنها الغاية من تاريخ البشرية بكامله. فمن
أجل هذا اليوم الوحيد كلُّ شيء صُوِّر وخُلِق (أفسس 3: 1- 10).

 

غير
إن لسلسلة الأنساب في الأناجيل هدفاً آخر هو التشديد على واقعية التجسد وحقيقته.
فإن اللحم الذي اتخذه يسوع هو نفسه جسد شعبه (الزاني المتمرد). ولا ريب بأن نية
الإنجيلي متَّى واضحة في تعداده لأربعة أسماء لنساء أُولاهن متهتكة (تامار، تك38)
وثانيتهن زانية (راحاب، يشوع 2) والثالثة غريبة (راعوث) والرابعة خائنة زوجها
(بتشبع 2صم12: 11). أليس القصد من ذلك أنه قد حصل تحالف نعمة ليس للاستحقاق الشخصي
أية قيمة فيه وإن العنصر المهم فيه وحده الإيمان بوعود الله، وتحقيق إرادته
الخلاصية؟ هكذا نرى أن قصد الله يستمر هو هو عبر تقلبات التاريخ، خالقاً في صميم
عالم الجسد بنوةً بالنعمة.

 

ثم
ينتهي هذا القصد إلى البشارة (لو 26: 1- 38 ومت 18: 1- 25). وإذا كان دستور
الإيمان الرسولي يذكر واقعة ولادة يسوع ولادة فوق الطبيعة (حُبل به من الروح القدس
وولد من العذراء مريم) فلأن هذه الواقعة تعبّر عن سر التجسد العظيم. إن مجيء يسوع
هو انفجار عالم الله في قلب عالم البشر. ولأن يسوع هو (بالحقيقة إله وإنسان معاً)
كان في مقدوره أن يحمل على عاتقه ثقل خطيئة البشر، ويرفعها عنهم. وما جَعَلَ مريم
خيمةَ الروح القدس وأُمَّ المخلّص هو خضوعها للنعمة الإلهية. وكان اتضاع أمة الرب
هذه نوعاً من ردة الفعل لكبرياء حواء. كما أن في ابنها يسوع سيتحقق الوعد الذي
وعده الله (لأمِّ كل حيّ) (تك 15: 3).

 

يقول
الملاك ليوسف (ستلد مريم ابناً فتسميه يسوع لأنه سيخلص شعبه من خطاياهم) (مت 21: 1).
هذا الاسم يسوع يظهر مرتين في العهد القديم. فقد حمله يشوع، خادم الله الذي قاد
إسرائيل إلى أرض الميعاد. كما أُطلق على يهوشع، الكاهن الأعظم الذي وكل الله إليه
أمر الإصلاح لدى عودة المسبيين إلى أرض الميعاد (زخر 3). وقد سبق لنا أن رأينا أن
هذا الاسم يعني (الذي يخلّص أو الذي يفسح مكاناً).

 

لكننا
هذه المرة لسنا على عتبة أرض الميعاد، لأن العهد الجديد الذي يتفتح أمامنا هو عهد
ملكوت الله. وها هو الملك ذاته يأتي إلى خاصته لكي يحقق تحريرهم. والأمير الغريب
الذي يأتي يسوع لكي ينتزع من بين يديه شعبَه لم يعد فرعون، ولا نبوخذ نصر. إنه
(أمير هذا العالم) الذي لم يكن الفراعنة وأمثال نبوخذ نصر سوى صور عابرة له على
مسرح التاريخ. إن النير الذي سيرفعه يسوع عن الرقاب هو نير الخطيئة، والسبيَ الذي
سيعيد الناسَ منه هو الهرب بعيداً من أمام وجه الله (تك 8: 3). إن يسوع هو
(عمانوئيل) – (الله معنا) (مت 23: 1).

 

وإذا
ما قرأنا الصفحات التي تتحدث عن طفولة يسوع وجدناها تخبرنا من جهة عن نوع الانتظار
والأمل الذي حققه مجيء المسيح، ومن جهة ثانية عن المقاومات التي أثارها مجيئه. لأن
تفجر الله في العالم ما كان ليكون له إلاّ هذان الأثران: حثُّ البعض على الإيمان،
وتقسية قلوب البعض الآخر. إن رئيس هذا العالم سيجند كل قواه ليدافع عن مملكته ضد
الوريث الشرعي الآتي لينتزعها منه.

 

أما
البقية الأمينة الوفية (التي تنتظر تعزية إسرائيل) فتنسجم في زخريا، واليصابات،
وسمعان، وحنة، وفي رعاة بيت لحم، وبصورة خاصة في مريم ويوسف.

 

وتعتبر
تعظيمة العذراء، كما تعبّر أنشودة زخريا وترنيمة سمعان، عن انتظار (المساكين) في
إسرائيل الذين اخترق رجاؤهم كلّ العصور وها هو الآن يترنم لمجد الرب. وسيردد يسوع
نفسه صدى هذا الانتظار في التطويبات، لأن التُّقى الحي الذي كان عند الأنبياء
والذي كان متجهاً بكليته نحو الملك الآتي مستمر لدى صغار الناس وعند المتواضعين.

 

وهنالك
انتظار آخر إلى جانب انتظار إسرائيل وأكثر منه تخفياً ولكنه حقيقي أعني به انتظار
العالم الوثني. لقد سبق للأنبياء أن أعلنوا عن اليوم الذي تأتي فيه الشعوب حاملة
الجزية لملك الملوك، إلى الجبل المقدس (اش 2: 2- 4 و6: 49 و1: 61- 6). وما كانت
هدايا المجوس سوى مقدمات لوصول العالم الوثني إلى عرش النعمة (مت 1: 2- 12 ورؤ24: 21).

 

أما
هيرودوس فكان يجسّم مقاومة سلاطين هذا العالم لسبل الله الخفية. وتذكّرنا مذبحة
الأطفال بالمذبحة الوارد ذكرها في بدء سفر الخروج (مت 2 وخر 1). ففي كلا الحالين
تسخر العزة الإلهية من قوى الأعداء، فلا فرعون، ولا هيرودوس يقدران أن يمنعا قصد
الله من أن يتحقق. فليهرقا من الدماء ما شاءا فلن يؤخرا الملكوت ساعة واحدة. والله
لا يقاوم جنود ملوك هذا العالم إلا بضعف طفل صغير فيه مسرّته ورضاه.

 

إن
الكتاب المقدس يلفتنا دائماً إلى وضاعة البدايات الإلهية على الأرض. فليس لابن
الله منزل بين البشر (لو 7: 2 و58: 9). فهو يولد فقيراً، ويعيش فقيراً ويبقى
دائماً غريباً في الأرض، متجولاً. لقد أتى ليمتلك ما هو له، لكنّ خاصته لم تقبَله
(يو 11: 1) (25). وهكذا كان منذ اللحظة الأولى (علامة عثرة) بين البشر، وسيبقى
كذلك طيلة حياته (لو 34: 2). ففوق المغارة ينتشر ظلُّ الصليب. وسيستمر هذا الظل في
الامتداد على كل قارعة طريق، إلى يوم ترمي أورشليم خارج أسوارها الابن الوحيد
الآتي لخلاصها، وكأنه مجرم عادي. لكنها في فعلها هذا أيضاً كانت تحقق مقاصد الله
دون أن تدري ودون أن تشاء.

 

ب-
(في السنة الخامسة عشرة لمُلك طيباريوس قيصر.. كانت كلمة الله على يوحنا بن زخريا
في الصحراء) (لو 1: 3- 2).

 

هكذا
يقوم على عتبة التدبير الجديد آخر الأنبياء وأعظمهم.

 

إن
الله لا يفتقد شعبه بدون إعلان مجيئه. وقد كان في كل محنة من محن تاريخ الشعب
الإسرائيلي يبرز المبشّر بتفقد الله. ولم يحدث أن حصل (يوم الرب)، ذلك اليوم
العظيم الرهيب، بصورة مفاجئة. فمنذ ثمانية قرون انتزع الله إنساناً آخر من هذه
الصحراء ذاتها – في اليهودية – لكي يُعلن انتهاء مُلك السامرة، وكان اسمه عاموس.
كما انه أيضاً منذ سبعة قرون أتى رجل آخر حتى عتبة الهيكل ليعلن خرابه. وكان اسمه
إرميا.

 

وها
إن إسرائيل يقف مجدداً على عتبة قرار يُقرَّر فيه مصير الشعب المختار ويسمع الصوت
القائل: (توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات) (مت 2: 3).

 

كان
يوحنا أكثر من نبي عادي. لأنه كان الرسول الذي يمهّد السبيل للملك (مر 3: 1 ومت 3:
3 ولو 4: 3- 5 واش3: 40- 5). إنه إيليا المنتظر الذي يسبق مجيئه مجيء المسيح (مت 4:
3 و2ملو 8: 1 وملا 5: 4- 6 ومت14: 11 و10: 17- 13). هو يبشر بمعمودية التوبة
وغفران الخطايا، ويحطم الطمأنينة المزيّفة التي كان يسدر فيها (أولاد ابراهيم).
فالفأس على أصل شجرة إسرائيل، والحصاد قد ابيضّ، والرب يأتي مذراه بيده لينقي
بيدره. إن معمودية يوحنا بالماء، أما معموديته هو فستكون بنار الروح الذي يطهّر
ويُحرق.

 

قد
يقول قائل إن هذه الرسالة شديدة القسوة. الجواب إن إسرائيل بعد ثلاث سنوات يَصلُبُ
مَلِكَه. وبعد أربعين سنة تُحاصَرُ أورشليم ويُهدَم الهيكل إلى الأبد.

 

إن
يوحنا، مثل عاموس ومثل إرميا، يبشّر بحوادث تفوقه مدىً. فإن كأس السخط أُعطيت له،
بينما كأس النعمة أُعطيت لآخر. وعظمة يوحنا في أنه عرف ذلك فلم يُرد أن يكون إلا
السابق لمن (هو أعظم منه)، ذاك الذي يعرف أنه غير مستحق لحل سيور حذائه (مر 7: 1
ويو 27: 1). فهو فقط على عتبة المُلك الآتي، وما عليه إلا أن يُعلن مجيئه. وهو
يفرح ذلك الفرح المؤَلّف بكليته من الرجاء والانتظار. أما يسوع فسيعلِن أنه لم يقم
في مواليد النساء أعظم من يوحنا (مت7: 11- 11 ويو 25: 3- 30).

 

ج-
وها إن ابن الله الوحيد يتقدم من يوحنا لكي يعتمد في مياه الأردن (مر 9: 1- 11
ومتى 13: 3- 17 ولو 21: 3- 22). فما معنى إعطاء معمودية التوبة هذه لكائن نقي؟ إن
يسوع يتضامن مع شعبه، والمعنى الحقيقي لعماده لن يتضح إلا بعدئذ، فقد أتى يسوع
(ليُتم كل برّ) (مت 15: 3). ولكن الله الآب يؤيد هذا التنازل الطوعي ويباركه من
السموات قائلاً: (أنت ابني الحبيب الذي به سررت) (مر 11: 1). فيسوع بحمله وزر
خطايا البشر يتكشّف عن أنه الابن الحقيقي للآب الذي في السموات. وإلى جانب معمودية
الماء التي كان يقوم بها يوحنا معمودية الروح التي هي عطية الآب.

 

وأول
عملية قام بها الروح القدس كانت (إخراج يسوع إلى الصحراء). والصحراء في التقليد
الكتابي هي المكان الذي يُلاقي الله فيه شعبه ويمتحن إيمانه. وقد قضى فيها إسرائيل
أربعين سنة (تثنية 2: 8- 5). وهكذا فإن يسوع يقضي فيها رمزياً أربعين يوماً
(يجرّبه الشيطان) لأنه يعيش من جديد وفي شخصه مصير شعبه.

 

هل
يجب أن نرى في الصلاة التي علمها يسوع لتلاميذه (ولا تدخلنا في تجربة) بقايا من
هذا الصراع مع الشيطان؟ الواقع أن من بارز العدو هو وحده يعرف قوّة المجرِّب
الرهيبة. وفي هذا المضمار (المخافة رأس الحكمة). كان على يسوع أولاً أن (يربط الرجل
القوي) في معركة منفردة ومن ثمّ (ينهب بيته) (مر 27: 3). وما كان في وسعه أن ينقض
عمل الشيطان في هذا العالم، ويحرر الناس من نيره، لو لم يكن قد جابهه وغلبه مرة
أولى في الصحراء قبل أن يجابهه في ملء قدرته وهو على الصليب. فهذا الصراع طيلة
أربعين يوماً يعطينا صورة مصغرة عن الصراع الطويل الذي ستتصف به رسالة يسوع
بكليتها. والجهاد الذي يجاهده الآن بالروح سيجاهده أيضاً في واقع الحياة اليومي.
ولكنْ بما أنه فضح الخصم في هذه المعركة الأولى الداخلية فقد أصبح في مقدوره من
الآن فصاعداً معرفته في سائر منعطفات الطريق (مت23: 16 ويو 15: 6).

 

ومقدّمة
القتال هذه تحوي كل التجارب وكل الانتصارات اللاحقة.

 

فإنه
خلافاً لكل سمعة واشتهار ينقص الشيطان روحُ الابتكار. فمهاجمته هذه ليست سوى تكرار
– بشيء من الحذق والدقة – لمهاجمته لآدم وحواء بواسطة الحية. كانت كلمته (إذا كنت
ابن الله فأمر..) تحمل سمّ الشك الذي يسم الحبّ البنوي، وهي إيحاء لابن الله بأن
يستقل عن أبيه ويُمسك مصيره بيديه. أو ليس هو الابن أعني السيد والوريث؟ وهل يجب
حقاً أن يعيش في ملكوته الخاص وكأنه لا يملك شيئاً؟ وأن يذوق الجوع والعطش والعري
ويقع تحت رحمة أتباعه؟

 

أو
ليس هذا التستر المقصود نوعاً من الظلم بالنسبة إلى هذه الجماهير التي أتى ليخلصها
والتي كانت ستقتنع لو أنه عرض أمامها قدرته الأصيلة؟

 

يجب
أن نتذكر هنا الانتظار الماسياني الذي اخترق كلّ العصور، ثم عهد داود الذي وَجّه
الكتاب المقدس نفسه أنظار إسرائيل إليه، والذي كانت عنده كل صفات الإصلاح الزمني،
وأخيراً رؤية المجد التي تخللت كتابات الأنبياء والمزامير وجمعت كل الشعوب تحت
راية أورشليم.

 

ولكن
هنالك صورة أخرى في الكتاب المقدس، هي صورة إشعياء عن العبد المهان الذي يأخذ على
كاهله عار شعبه (اش53). وهذه الصورة أقلُّ ارتباطاً بانتظار ماسيا من الصورة
الأولى، كما أنها أقل شعبية من صورة الإصلاح الملكي، أو صورة ابن الإنسان آتياً
على سحب السماء (دانيال 13: 7- 14).

 

فأية
صورة سيختار يسوع وهو الذي تغذّى بالكتاب المقدس؟ إنه سيُبعِد بكل تأكيد صورة
الملكية الزمنية التي لم تكن تعني له سوى رمز للعالم الآتي. وهذا بلا ريب معنى
التجربة الثالثة (مت 8: 4- 9). ويو36: 18). ولن يقصي صورة ابن الإنسان آتياً على
السحب بقدرة ومجد، لأنها نبوءة صحيحة بالنسبة إليه. لكنه يترك تحقيقها للآب الذي
له وحده أن يعرف الساعة ويحددها. وبالطبع كان نظره تقديم تلك الساعة (تجربة لله)
(مت 5: 4- 7 ومت27: 24 و36، و63: 26 و64: 26).

 

لذلك
ينظر يسوع إلى دعوته في الساعة الحاضرة كدعوةِ (العبد المهان) (مز42: 10- 45
وفيلبي 8: 2). وقد سبق له في المعمودية أنه اعترف بأن خطيئة شعبه هي خطيئته. كما
أنه وهو الآتي ليغذّي البشر، وينجيهم، ويخلصهم، لن يخلص نفسه لا من الجوع ولا من
العار ولا من الموت. وسيستغل ذلك أعداؤه ليُظهروا سخرية مصيره (مت39: 27- 44).

 

لا
ندري إذا كان يسوع يقدّر منذ الساعة الأولى لتجربته في الصحراء كلّ النتائج
المترتبة على اختياره. لأن الكتاب المقدس لا يتكلم إلا القليل عن جهاده في الروح.
إلا أن الاقتضاب في أجوبته للمجرِّب يكوِّن أمثولة في حد ذاته. لأن مجرد النقاش مع
الشيطان هو خطوة نحو الوقوع في أحابيله. لكنّ يسوع يرفض ذلك، وأمام عبارة (إذا
كنت) التي كان الشيطان يوحي بها كان يضع بكل بساطة كلمة (الله). ولم يكن عنده غذاء
آخر غير الكلمة الخارجة من فم الله (مت 4: 4 ويو 34: 4). كما أنه لن يستبق الساعة
المحدّدة بمبادرة منه (مت 7: 4 ويو 4: 2 و6: 7 و27: 12 و1: 17). وسَيَعْبُدُ اللهَ
وحده، ولن يكون لرئيس هذا العالم فيه شيء (مت 10: 4 و24: 6 ويو30: 14).

 

لقد
أُعلنت الحرب بالتالي بين من يقبض على سلاطين هذا العالم وبين من يأتي باسم الله
لكي يفضح هذا السلطان ويبيده. فلا عجب أن يكون الصليب النهاية الطبيعية لمثل هذه
الحرب الدامية، التي يجب أن نفهمها وكأنها معركة مستمرة دائمة تتخذ فيها قوى الشر
موقف الهجوم، وكل ما في الإنسان من عناصر لا تريد الله يقف ليسد الطريق أمام مجيء
الملكوت.

 

يقول
لنا الكتاب أن يسوع (قد جُرّب مثلنا في كل شيء) (عب 15: 4) (وتعلّم الطاعة مما
تألم به) (عب 8: 5). لقد صار أخاً لنا في الحقيقة من خلال تجاربه. وهو قادر على
إنقاذنا من التجارب لأنه قد تغلب عليها.

 

وفي
حقيقة إنسانية يسوع هذه وفي حقيقة جهاداته يكمن سر الكلمة الصائر جسداً.

 

(يوم)
الملكوت

يرتبط
بدء كرازة المسيح الفعلية بحادث سجن يوحنا (مر 14: 1). وبعبارة أخرى يبدأ المخلص
حيث ينتهي يوحنا.

 

ولكن
ما ميزة كرازة يسوع بالنسبة إلى كرازة المعمدان؟ في الظاهر يكاد لا يكون فرق بينهما
(مت 2: 3 و17: 4). ولكن في الحقيقة الفرق بينهما هو كل المسافة التي تفصل المستقبل
عن الحاضر، أو انتظار أمرٍ عن تحقيقه. كان المعمدان قد أعلن عن اقتراب الملكوت أما
المسيح فيعلن عن بدئه.

 

آ-
(لقد تم الزمان) (مرقس 15: 1) عبارة يعرف كل إسرائيلي أنها تعني تفجّر ملكوت الله
ومجيء المسيح. الإنجيلي متى يعبّر عن هذه الحقيقة عينها عندما يقول أن نبوءة
إشعياء 23: 8- 1: 9 قد تمت (مت 12: 4- 16). أما الإنجيلي لوقا فإنه في معرض كلامه
عن كرازة يسوع الأولى في الناصرة يضع على لسانه – بعد أن قرأ اشعيا 61 – العبارة: (اليوم
قد تمت هذه الكتابة التي تليت على مسامعكم) (لو 12: 4). وفي هذا القول ما فيه من
المدى الذي لا يُقدّر.

 

فما
هي هذه الكتابة؟ لا يمكن لأحد الضلال عن معناها المسياني: (روح الرب عليَّ لأنه
مسحني لأبشر المساكين وأرسلني لأجبُر المنكسري القلوب ولأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين
بالإطلاق وللعميان بالبصر..) (اش1: 61- 2). هذه الكلمات تُعلِنُ عن يوم الرب،
المثقل بالنعمة والقضاء، أمام الناصريين الجاحدين. وأقول الجاحدين لأن الإعجاب ليس
هو الإيمان. وقد فضح يسوع سريعاً الشك العميق المختفي وراء دهشتهم الأولى. لأن
قلوبهم المتعطشة لعجائب الملكوت لم تكن تنتظره بل تنتظر مظاهره الزمنية. من هنا
التساؤل كيف يكون يسوع ملك إسرائيل وهو الذي يعرف كل الناس أهله ويعرفون أنه ابن
النجار؟ من هنا الانتقال السريع من الانتظار الخائب إلى الاتهام بالمكر، ومن الغضب
إلى البغض ومن البغض إلى القتل.

 

(أما
هو فجاز في وسطهم ومضى). إن يوم الرب قد أشرق عبثاً داخل أسوار الناصرة.

 

والواقع
أن يوم الرب هذا هو الذي يسيطر على كل مواقف يسوع، ويُعطي كلماته سلطاناً فريداً،
ولأعماله معنى وحيداً. وفي كل تصرفاته يُرى الابن الوريث الآتي إلى العالم
للاهتمام بما لأبيه (لو 49: 2) وتدبير ميراثه (مر6: 12 ومت26: 17 ويو 11: 1 و16: 2
الخ..).

 

ب-
وحسب الأناجيل الثلاثة الأولى المتوافقة لا يقول يسوع عن ذاته بأنه المسيح إلاّ في
آخر مراحل بشارته وقد كان يُسكتُ من يدعوه بهذا الاسم. وسنرى بعد قليل مبررات هذا
(السر الماسياني). لكن كلماته، وأعماله، وكل موقفه من القادة الدينيين آنئذ، تبدي
سلطاناً لا يجاريه سلطان. وقد كانت ردة الفعل لدى الشعب عند سماعه مليئة بالمغزى
لأن يسوع (يتكلم لا كالكتبة ولكن كمن له سلطان) (مر 22: 1 ومت 28: 7- 29). ثم كان
هنالك توافق كلي بين الكلام والعمل. لأن يسوع لم يكن يكتفي بإعلان الخلاص بل كان
يخلص (ما هذا؟ إن هذا تعليم جديد، لأنه أيضاً يأمر الأرواح النجسة بسلطان فتطيعه)
(مر 27: 1). (لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل) (مت 33: 9).

 

كان
يسوع يتصرف بحرية الابن في بيت أبيه، وبسلطان الملك الذي يستلم مملكته. فهو يأمر
الناس أن يتبعوه فيترك هؤلاء كل شيء ويتبعونه (مر 16: 1- 20). وعندما كان يدعو كان
لا يَقْبَلُ أيّ تردد (لو 57: 9- 62). فالألم من أجله سعادة (متى 11: 5 وما
يقابله). وإنكاره هو إنكار الله ذاته (مت32: 10- 39). وكانت مطالبته هذه بسلطة
معادلة لسلطة الله نفسه سبباً لعداء أولئك الذين يجردهم تدخله من سلطانهم، أعني
بهم قوى الشرير العالمة بأن يوم الرب يضع حدّاً لملكها، وقوى العالم التي عاثت في
الأرض وكأن الأرض ملك لها، والقوى الدينية التي احتكرت الخلاص لذاتها وجعلت النفوس
ترزح تحت عبء ديانة أعمال، هذه القوى كلها ستتحالف بحكم غريزتها ضد الملكوت الآتي.

 

ج-
أما ميثاق الملكوت الذي أتى يسوع ليؤسسه، فهو عظته على الجليل (مت 5). فمقابل جميع
المتنعمين بالجسد والروح والمقيمين في برِّهم (مت 20: 5 ولو 9: 18- 14)، وفي
أهرائهم (لو16: 12- 21)، يضع يسوع (المساكين): المساكين بالرزق والمساكين بالروح،
لا بالقلب، هؤلاء المتواضعين في إسرائيل الذين ينتظرون يوم الرب (لو 25: 2 و38: 2
ومت25: 11). والتطويبات رجع لصدى تعظيمة مريم: (حطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع
المتواضعين) (لو 50: 1- 53). طوبى للذين ينتظرون مجيء الرب وطوبى للمساكين
والحزانى والرحماء. طوبى للجياع والعطاش إلى برِّ الله. إن ملكوت السماوات لهؤلاء،
والفجر الذي ينبلج هو تعزيتهم. وويل للذين حاولوا أن يجدوا على الأرض طمأنينة
وتعزية لأن كل المقتنيات ستبدو وكأنها لا شيء في يوم الرب العظيم (مت 1: 5- 12 ولو
20: 6- 26 و19: 16- 31).

 

إن
برّ الملكوت يتجاوز بما لا يُقاس برّ الكتبة والفريسيين لأنه يتطلب نقاوة القلب
(مت 21: 5- 48 و8: 5 ومر 14: 7- 23)، وهو امتثال لروح الله الآب (مت 44: 5- 45، 48
ولو 35: 6، 36).

 

يضع
يسوع تعاليمه في مرتبة أعلى من تعاليم (القدماء): (سمعتم أنه قيل.. أما أنا فأقول
لكم) (مت 21: 5، 27، 31، 38، 43). من يجسر دون تجديف أن يضع سلطانه فوق سلطان موسى
إذا لم يكن المسيح بالذات؟ وهل يعني هذا أن يسوع ينقض الشريعة القديمة؟ الجواب كلا
لأنه يعترف بها (ككلمة الله)، وقد تغذّى هو بهذه الكلمة (مت 4: 4) طيلة حياته، كما
أوصى بأن يُعمل بها (مت3: 23). وهو لم يأت لينقض الناموس والأنبياء بل ليتممها (مت
17: 5). ولقد توصل إلى حد الإعلان بأن حرفاً واحداً من الناموس لن يزول (حتى يتم
كل شيء) (مت 18: 5).

 

كيف
يمكن التوفيق بين هذه المتناقضات في الظاهر؟ يُعلن يسوعُ شريعة جديدة بالضبط لأن
ساعة الإتمام قد دقت. لقد بدأ العهد الجديد في شخصه، لأنه أتى (ليتمّ كل بر) (مت
15: 3)، ويحملَ وزرَ الشريعة، ويسمره على خشبة الصليب. أما النعمة التي تشرق من
الصليب فقد بدأت تنير هؤلاء التلاميذ الذين أدخلهم في فرح الملكوت. وبما أن ساعة
التحرير قد دقت فإن بعض الشرائع تسقط من تلقاء ذاتها.

 

لكن
حرية الأبناء التي دشنت فرح الملكوت صدمت الفريسيين أكثر من أي أمر آخر. فقد نقض
يسوع السبت، وسمح لتلاميذه أن يخرقوا الصوم. كما جلس على المائدة إلى جانب
العشارين والخطأة. وقد كان (أكولاً وشريب خمر) (مر 13: 2- 6: 3 ومت19: 11). لم يكن
في سلوكه ما يشبه المعمدان في زهده وتقشفه (مر 18: 2 ومت18: 11). أما يسوع فقد شرح
الأسباب في ذلك قائلاً: إن مجيئه هو كيوم عرس ومقدمة للعرس الأبدي. ولن تتأخر ساعة
الافتراق، ولكن واقع الساعة الحاضرة يتطلب أن نحياها في الفرح لا في الحزن (هل
يمكن لأصدقاء العريس أن يصوموا طالما هو بينهم؟ طالما العروس معهم لا يصومون إلا
أن وقتاً يأتي عندما يُرفع عنهم العروس فعندئذ يصومون) (مر 19: 2- 20). ولا يصلح
أن تُوضع رقع على ثوب برّ الفريسيين العتيق لأن ذلك يجعل الخرق أعظم (مر 21: 2).
ولا يدخل إنسان قاعة العرس إلا إذا كان لابساً ثياباً جديدة، تلك التي يخلعها ربُّ
البيت ذاته على مدعويه حسب العادة الشرقية (متى11: 22- 12). وكذلك يخسر الإنسان
الخمر والزِّق إذا ما صبّ خمرَ الملكوت الجديد في زق التشريع اليهودي القديم (مر
22: 2). وكان يسوع يعلم حق العلم أن خمر الروح القدس الجديد سيفجّر إطار الأنظمة
اليهودية عاجلاً أم آجلاً.

 

ولم
يعد في نظر المسيح من ميزة بين (النقي) و(النجس) لأن قلب الإنسان هو الذي يضل، ولا
تؤدي شرائع الفريسيين إلا إلى خلق (قبور مكلسة) (مر 7 ومت25: 23- 28). وما جاء
يسوع من أجل (الأصحّاء) بل للمرضى، أولئك الذين يعرفون بأنهم هالكون ويتوقعون منه
الخلاص (مر 15: 2- 17). ولذلك فإن الوثنيين والعشارين والزواني قد يسبقون (ممارسي)
الدين إلى وليمة الملكوت (لو 36: 7- 50 و22: 13- 30 و15: 14- 24 و14: 16- 15 و9: 18-
14). وإن السماء لتفرح بخاطئ يتوب أكثر مما تفرح بتسعة وتسعين بارّاً لا يحتاجون
للتوبة. ويدخل يسوع في فرح أبيه من أجل كل نعجة صالحة تعود إلى الحظيرة (لو1: 15-
7 وحز33 ويو10). وهو إذا كان قد أتى إلى العالم فلكي يُعيد البشرية الضالة إلى بيت
أبيه. فيذبح العجل المسمّن ويبتهج مع الخطأة (لو11: 15- 32). لكنّ ظل الفريسي يخيم
على الوليمة، كما خيّم ظلُّ الابن البكر في مَثَل الابن لشاطر، شرساً حقوداً مرّاً.
نعم إنه يعيش في البيت الأبوي ولكنه يجهل كل شيء عن روح الآب، وعن تلك النظرة
الطويلة التي وّجهها إلى الأفق، وذلك الانتظار اليومي الذي انتهى فقط بعودة الابن
الشاطر إلى الحياة بعد الضلال والموت.

 

كان
الفريسي قد فصّل لنفسه سلماً للخطايا ولأعمال التكفير ولم يكن يعرف أن ثمر الخطيئة
هو الموت وأنه ليس من خلاص منها إلا بالولادة الجديدة (يو 1: 3- 8). فباب الملكوت
ضيّق، هو موت فقيامة، وواحد يمكنه أن يفتحه هو الابن الوحيد المحبوب من الآب والذي
قبِل ميتةً كاملة لكي يعطينا حياته.

 

د-
كانت أعمال الخلاص التي قام بها يسوع بمثابة عُربون للحياة الآتية. نعم، إنها كانت
أعمال شفقة وانعطاف وكانت حتماً تعابير واقعية للرحمة الإلهية. ولكنها كانت في
الدرجة الأولى أعمالاً ماسيانية، لا يُفهم معناها في ملئه، إلا إذا اتُخذت بطابعها
الماسياني هذا.

 

وفي
الأناجيل مكان خاص جداً لإخراج الشياطين: لأن تفجّر ملكوت الله يعني نهاية مُلك
الشياطين. وكان هؤلاء يعرفون ذلك. ولذا فقد كان مجرد حضور يسوع يفقدهم وعيهم.
ولهذا السبب كان المجانين أول من اعترف بمسيحية يسوع: (ما لي ولك يا يسوع الناصري
هل أتيت لتهلكنا. أنا أعرف من أنت: قدوس الله) (مر 24: 1 و11: 3- 12). ويعزو إنجيل
متى إلى أفواه المجانين في كورة الجدريين هذه الكلمات المعبّرة: (ما لنا ولك يا
ابن الله هل أتيت إلى هنا لتعذبنا قبل الأوان؟) (مت 29: 8). والأوان هو ساعة
الدينونة العظمى. هذا ما يفهم من كلام يسوع. إنه يجيب الفريسيين الذين اتهموه
(بإخراج الشياطين برئيس الشياطين) قائلاً: (إن كنتُ أنا ببلعزبول أخرج الشياطين
فأبناؤكم بمن يخرجونهم؟ ولكن إذا كنت أخرجها بروح الله فمعنى ذلك أن ملكوت الله قد
أقبل نحوكم) (مت27: 12- 28). وعندما أرسل يسوع تلاميذه للبشارة أعطاهم سلطاناً أن
يخرجوا الشياطين (مر 7: 6) ويشفوا المرضى ويقولوا لمن يشفون: (إن ملكوت السموات قد
اقترب منكم) (لو10: 10).

 

ولا
يُعتبر المرضُ دائماً من فعل الشيطان، ولكنه ظاهرة من ظواهر خضوع البشرية لقوات
الخطيئة والموت. وهذه القوات هي التي وافى المسيح ليسحقها. وليس في الأناجيل من
حادثة شفاء أو قيامة من الأموات تعني غير هذا المعنى. لأن مثل هذه الحوادث إشارات
تبشر الملكوت. وتذكر الأناجيل بتواصل أن يسوع كان يشفي يوم السبت. فيُطرح السؤال
هل كان يفعل ذلك لمجرد إغضاب الفريسيين والكتبة؟ الجواب كلاّ لأنه بفعلته هذه كان
يعيد إلى السبت معناه الحقيقي. فالسبت يذكرنا براحة الله في اليوم السابع من أيام
الخليقة، ويصور لنا في التدبير الحاضر الراحة الأبدية، ذلك العالم الإلهي حيث لا
مرض ولا حزن ولا موت. وعبور يسوع على الأرض يدشن هذا الملكوت، ويُعطينا عربوناً
عنه. فكل شفاء مقدمة للملكوت وللسبت الأبدي، وعلامة لغلبة الله على الخطيئة وعلى
الموت (السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت وابن البشر ربُّ السبت) (مر 27: 2- 28).
وعملية إنقاذ الأجساد والأرواح هي تمجيد لله، وتثبيت لمالكه، وأي عمل يمكن أن يكون
أكثر (سبتية) من هذا؟ (يو 1: 9- 5 و13- 17 و35- 41). وليس خطيئة الفريسيين هنا
تمسكهم بحرف الشريعة بل قساوة قلوبهم (مر 5: 3) وعماهم المقصود. لأن الإشارات
الصريحة للمُلك تصطدم برفضهم العنيد (يو 39: 9- 41).

 

كانت
نبوءات إشعياء العظيمة بشأن ملكوت الله تبشر بالخلاص الآتي تحريراً من المرض
والموت: (حينئذ تتفتح عيون العمي وآذان الصم وحينئذ يطفر الأعرج كالأيّل ويترنم
لسان الأبكم..) (اشعيا5: 35- 6). ولا شك أن في جواب يسوع لمبعوثي يوحنا تلميحاً
مباشراً لهذه النبوءات حين قال: (اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران العمي
يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين
يبشَّرون وطوبى لمن لا يشك فيَّ). (مت5: 11- 6). ولا يمكن للأنبياء لكونهم واقعيين
إلا أن يفهموا هذه الإشارات بالمعنى المادي للكلمة. غير أن الخلاص المادي هو تصوير
للخلاص الروحي: (وفي ذلك اليوم يسمع الصم أقوال الكتاب وتُبصر عيون العمي بعد
الديجور والظلام) (اش18: 29). (ولن تعمى فيما بعد عيون الناظرين وآذان السامعين
تصْغي) (اش3: 32). (أنا الرب دعوتك لأجل البرّ.. وجعلتك عهداً للشعب، ونوراً للأمم،
لكي تفتح العيون العمياء، وتخرج الأسير من السجن، والجالسين في الظلمة من بيت الحبس)
(اش6: 42). إنه من المستحيل أن يخطئ الإنسان في فهم هذه النبوءات بأنها ذات معنيين.
كذلك كانت كلمات يسوع ذات معنيين أيضاً. وفي فكره كان شفاء الجسد ملازماً لشفاء
الروح. لأنه أتى لشفاء الإنسان بكليته جسداً وروحاً ونفساً ولإعادته إلى تمامه (مر
1: 2- 12 و25: 5- 34). والعمى والصمم الجسديان رمزان لمرضين أشد هولاً، هما عمى
ذلك الذي لا يرى الله صمم من لا يسمع كلماته. هذا المعنى الصُوَري لعجائب الأشفية
يؤكده إنجيل يوحنا بصورة خاصة (يو 5 و9)، ولكنه ضمنيّ في الأناجيل الأخرى (مر 31: 7-
37 و22: 8- 26 و17: 8- 18) (26).

 

وعجائب
الشفاء عامة ليست سوى ظواهر ثانوية من حيث الأهمية والنتائج بالنسبة إلى بشارة
الإنجيل التي هي الخبر السار للخلاص.

 

فلقد
أتى المسيح ليبشّر بهذا الخبر السار ذاته (مر 35: 1- 39). وبما أن له السلطان لأن
يغفر الخطايا فهو يقدر أن يرفع لعنة المرض الذي هو نتيجة الخطيئة، لا بالعكس (مر 3:
2- 12). وبما أنه أيضاً غلب الشيطان رئيس الأرواح الشريرة ففي إمكانه نقض أعماله: (لا
يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته إلا إذا ربط القوي أولاً وبعدئذ ينهب
بيته) (مر 27: 3).

 

وها
فجر الملكوت قد بزغ فقد قال يسوع لتلاميذه بعد عودتهم فرحين من دورتهم التبشيرية: (رأيت
الشيطان ساقطاً من السماء كالبرق) (لو18: 10).

 

أما
سر سلطان يسوع فيكمن في أنه يساوي مشيئته مساواة كلية بمشيئة أبيه. فهو على الأرض
أداة، ولكن هذه الأداة تكمل تماماً إرادة الله (مت27: 11- 30 ولو22: 10 ويو 17: 5-
30). وإذا كان إيمان قائد المئة قد أدهش يسوع فلأن هذا العسكري الروماني قد أقرَّ
بأن سلطاناً من هذا النوع لا يمكن أن يأتي إلا من العلاء، وأنه بالتالي لا يمكن
إلا أن يكون مطلقاً) (مت 5: 8- 13).

 

وكان
يسوع متأكداً من أنه ممسك بمفاتيح الملكوت يعطيها لمن يشاء (مت19: 16 و18: 18).
فيوم الملكوت إذاً يدوي بسلطان وغلبة حيث يوجد أناس يؤمنون به، ويتعرفون إليه
ويقبلونه (لو9: 19 و43: 23).

 

كتمانية
الملكوت

ما
دام يسوع واعياً رسالته الماسيانية وعياً كلياً، وما دامت أعماله إشارات إلى الملك
الآتي، فلماذا يا ترى كان يفرض الصمت على الذين أصيبوا بالأرواح الشريرة ونالوا
منه الشفاء، وعلى المرضى الذين كان يشفيهم، وحتى على رسله، عندما كان كل هؤلاء
ينادون ويعترفون بأنه المسيح؟ (مر 25: 1 و43: 1- 44 و12: 3 و36: 7 و26: 8 و29: 8-
30 ومت20: 16).

 

هنا
نصطدم بما يُسمى (الكتمان الماسياني). فعندما نقرأ الأناجيل بانتباه نرى المسيح في
بدء كرازته قد أصبح موضوع شعبية لا يسعى إليها ولا يرغب فيها لكنها النتيجة
الحتمية لما هو، للسلطان الذي ينبعث من شخصه ومن كل كلمة من كلماته وكل فعل من
أفعاله. ولكن الأناجيل عامة ومرقس خاصة تلفتنا إلى أن يسوع ليس فقط لم يسعَ على
هذه الشعبية بل حاول مراراً التخلص منها (مر 32: 1- 39 و30: 6- 33 و24: 7 و27: 8
ويو14: 6- 15 و26- 29). لأن كل نجاح سهل يعوق سير رسالته العميقة التي هي التبشير
والتعليم. فليس يسوع صانعاً للعجائب، بينما الجماهير تتعطش دائماً إلى عجائبه أكثر
منها إلى تعليمه (يو 26: 6- 29). فكان عليه أن يحمي نفسه باستمرار من الشهرة
الزائفة.

 

وتجدر
الملاحظة أن الحالة الوحيدة التي حثَّ فيها يسوع إنساناً على نشر خبر شفائه حدثت
في بلد وثني. فقد أجاب مجنون كورة الجُدرْيين الذي طلب أن يتبعه أن (اذهب إلى بيتك
وإلى خاصتك وتحدَّث بما فعل الرب لك، وعن رحمته إياك) (مر 19: 5) فيكون المخلص قد
جعل من هذا الرجل رسوله إلى بلاد الجُدريين.

 

ونحن
نعتقد أن قصْدَ يسوع من كتمان أوصافه الماسيانية قد أملته أولاً أمور متصلة
بالحيطة، ثم أسباب ناجمة عن طبيعة الملكوت الذي وافى ليؤسسه.

 

آ-
أسباب الحيطة: كان يسوع يعرف أن أيامه معدودة، فإن سجن يوحنا وقطع رأسه يريانه
مصير كل نبي. لذلك سيأتي يوم يسير فيه يسوع إلى الموت بعلمه وبإرادته، ولكنه
يتحاشى الخلاف المفضوح مع السلطات اليهودية والرومانية طالما (ساعته لم تأت بعد)
(يو 2: 7- 9). فلو أعلن المسيح عن ذاته لكان أثار في الحال مقاومة الفريسيين
والصدوقيين الذين منذ أن ظهر فتشوا عن هلاكه (مر 6: 3). ولكان أيقظ مخاوف السلطة
الرومانية التي كانت تواجه باستمرار محاولات للثورة والتي ما كانت لترى فيه سوى
ماسيا سياسي. فعندما اعترف يسوع أمام المجمع بأنه المسيح بالذات كانت ردة الفعل
السريعة حكماً عليه لا مفر منه (مر61: 14- 64 ويو12: 19- 16). وسيُرفع على الصليب
بصفته (ملك اليهود) (مر26: 15 ويو19: 19- 22). والحادث الذي يورده الإنجيل الرابع
وفيه يهرب يسوع من الجماهير التي أتت لتنصبه ملكاً (يو 15: 6) يُظهر لنا الالتباس
الخفي الذي كان يدفع تلك الجماهير لجعل يسوع قائداً سياسياً، بينما هذا الالتباس
بالذات كان يسوع يريد تحاشيه مهما بلغ الثمن. غير أن هذه الأسباب للحيطة ليست
وحدها كما قلنا لأن هنالك أسباباً أخرى أعمق منها بكثير.

 

ب-
رأينا يسوع منذ تجربته في الصحراء يُقصي كل فكرة سياسية من رسالته (مت 8: 4- 10)،
والحادث الذي ذكرناه آنفاً هو برهان حسي على ذلك. فمملكة يسوع ليست من هذا العالم
(يو36: 18- 37). نعم هو وريث عرش داود الشرعي، ولكنه وريث بمعنى خاص لا تستطيع أن
تفهمه السلطات الرومانية. وفي بعض كلماته إيحاء أو تلميح على انه شجب محاولات
للثورة قام بها المتحمسون (مت 38: 5- 45 و52: 26). وكان كأنبياء العهد القديم يرى
في محن إسرائيل حكماً من الله (لو5: 13)، وفي ذاك الذي يمارس الحكم أداة للعلي
(يو9: 19- 11).

 

(من
المهم الملاحظة أن يسوع يعترف بشرعية سلطة بيلاطس، ولكنه يحتقر الملك هيرودوس
المغتصِب الجاحد، الذي يدين بتوفيقه الوقتي لتعاونه مع رومية، فيسميه يسوع (ابن
آوى (27))، ذلك الحيوان الذي يتميز بدناءته، والذي يجري وراء الوحوش المفترسة
ويعيش من فضلاتها (لو32: 13). هذا الملك لا يوجّه له يسوع ولا كلمة واحدة (لو9: 23)،
وقد يكون هذا الصمت أقسى حكم لفظه يسوع على أحد).

 

ومع
أن يسوع يقبل الاحتلال الروماني كواقع (مت15: 22- 22). فهو يهتم بالضائقة السياسية
التي يعانيها شعبه. ولكن الأسر الذي يخلص يسوع الشعب منه، والحرية التي يجلبها له،
هما من مرتبة أخرى. فإن مملكة الله تتسامى على كل حقيقة عالمية لأن هذا العالم
عالم (ميت)، حرياته ليست سوى أشباح حريات وسلطاته الزمنية ليست سوى أشباح سلطات.
جاء يسوع ليقيم من الموت عالماً ميتاً، لأن بدون هذه القيامة لا يكون أي عمل
إصلاحي سوى إعادة رصف جثث لا روح فيها، سواء كانت هذه الجثث اجتماعية أم سياسية.

 

فالقضية
بالنسبة إلى إسرائيل هي لا أن يجد حرية من عالم الأشباح، بل أن يفتش عن ملكوت الله
وبره، وأن يقوم مجدداً ليحمل رسالته كشاهد. واللجة المثيرة الملحة جداً التي كانت
تصبغ نداءات يسوع لشعبه ترجع إلى أن مجيئه الإلهي يضع إسرائيل أمام ضرورة اتخاذ
قرار نهائي لا مع رومية أو ضدها، ولكن مع الله الحي إله آبائهم أم ضده. وفي نظر
يسوع – كما في نظر الأنبياء – مصير إسرائيل الزمني مرتبط ارتباطاً كلياً بمصيره
الروحي، وهذه هي رسالته النوعية بصفته (شعباً كاهناً). فمنحة إسرائيل الحقيقية
ليست في أنه محتل، سواء كان هذا الاحتلال رومانياً أم غيره، إن محنته في أنه لا
يعرف أن يميز الأزمنة، أعني ساعة الافتقاد والقضاء (لو54: 12- 57 و1: 13- 9). لقد
سبق للأنبياء أن أتوا فرُجموا وها إن الوارث قد حضر وأورشليم ترفض التعرف إليه،
وبفعلتها هذه توقع بيدها حكم الموت على نفسها: (ستأتي عليك أيام يحيط بك فيها
أعداؤك بمترسة ويحاصرونكِ ويضيّقون عليكِ من كل جهة ويهدمونك وبنيكِ فيك ولا
يتركون فيكِ حجراً على حجرٍ لأنك لم تعرفي زمان افتقادكِ) (لو43: 19- 44 و34: 13-
35 ومر1: 12- 12 و1: 13- 2). وسيكون مصير مدن إسرائيل التي صمت الآذان أمام نداء
يسوع أشدّ هولاً من مصير أكثر المدن وثنيةً في الأزمنة القديمة (مت20: 11- 24
ولو13: 10- 15)، وذلك لأنها حصلتْ على باكورة الملكوت ((المرتفعة إلى السماء)
عدد15) إلا أنها لم تهتدي.

 

إن
(سرَّ كتمان الملكوت) يعني قبول الملكوت بالإيمان لا بالنظر. فلقد أتى الله إلى
خاصته وخاصته لم تقبله. دوّت الكلمة، فلم تصغِ لها إلا قلة فقط (يو 5: 1، 10- 13).
وهذا هو المعنى العميق لمثل الزارع (مر 4 ومت13). فنسبة الحبّ الضائع كبيرة جداً
(مر 3: 4- 7). ولكن الحبوب التي سقطت في أرض جيدة أعطت من الثمار ثلاثين وستين
ومئة. وهكذا مبادئ الملكوت مطمورة وقليلة، ولا تتناسب إطلاقاً مع النتائج (مر 26: 4-
32). ولكنّ الثمار لا تظهر إلا في أوان الحصاد أي في اليوم الأخير (مت24: 13- 52).
(إن ملكوت الله لا يجيء بوجه منظور، ولن يقال هو هنا أو هو هناك! فها إن ملكوت
الله فيما بينكم) (هذه الترجمة أصح بوجه الإجمال من (في داخلكم) لو20: 17- 21).

 

الملكوت
حاضر لأن يسوع حاضر، ومجيء يسوع محتجباً هو وجه آخر لسرّه. فإن ممالك هذا العالم
تلفت النظر ببهائها، بينما بهاء ملكوت يسوع من مرتبة أخرى، فهو لا يفرض نفسه إلا
على الذين لهم (عينان للنظر وأذنان للسمع). ولا يمكن أن يُعرف إلا بالإيمان وحده.
ملوك هذا العالم يتسلطون على أتباعهم ويأخذون ما يروق لهم (أصم 10: 8- 20 ومر42: 10).
أما ملك السماء وسيد الأرض فيأتي إلى ذويه في صورة عبد (مر42: 10- 45 ولو25: 22-
27 وفيليبي 5: 2- 7) وليس له مكان يسند إليه رأسه (لو 58: 9). إن نيره هيّن وحمله
خفيف، ولكنه يحمل وزرَ المتعبين والمثقلين (مت28: 11- 30). ويحمل أسقام البشرية
ومعاصيها (اش4: 53- 5 ومت 17: 8). وكما قال باسكال لقد أتى يسوع ببهاءٍ هو البهاء
اللائق بمرتبته أعني به بهاء المحبة. غير أن البشرية في حالٍ تُريها سرَّ التنازل
هذا مصدراً للريبة والشك. وسيبلغ العثار أقصاه أمام ذبيحة الصليب.

 

ج-
(وأنتم من تقولون أني أنا هو)؟ كان طرحُ هذا السؤال في قيصرية فيلبس على الرسل
نقطة تحول نهائي في بشارة يسوع (مر 27: 8- 30 وما يقابله). فإنه حتى الآن يبشر
بإنجيل الملكوت وكانت الجماهير تتوافد لسماعه، لكنّ المقاومة تبلورت وتركزت صامتة
وبغيضة يحيكها الحسد والخوف ولن تلين بعد اليوم. فهيرودس في قلب قصره يقلقه هذا
النبي الجديد، ولن يلبث أن يأتي الوقت الذي يضطر فيه يسوع إلى مغادرة الجليل (لو 7:
9- 9 و31: 13). ومنذئذ ينصرف يسوع أكثر فأكثر إلى حلقة التلاميذ والاثني عشر
المقرّبين. فقد أشركهم في بشارته وأشفيته وأرسلهم يبشرون ويخرجون الشياطين باسمه
(مر 13: 3- 19 و7: 6- 13 و30- 33 ومت10 ولو 1: 9- 6 و1: 10- 20). ولكنه الآن يوجه
إليهم السؤال القاطع المباشر والشخصي في آن واحد، ذلك السؤال الذي سيوجّه يوماً من
الأيام إلى كل إنسان: (وأنتم من تقولون أني أنا هو).

 

الآن
وصلت فرقة التلاميذ الصغيرة إلى مفترق طرق، فهل تتبع المعلمَ حتى النهاية أم تفعل
كما تفعل الجماهير فتتركه عندما يتبين لها أن الطريق التي يتبعها هي طريق الصليب
الضيقة؟ لقد سجّل لنا الإنجيلي يوحنا صدى هذه الحيرة (وقد وضعها هو أيضاً بعد
حادثة تكثير الخبزات مباشرة): (ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا)؟ (يو 66: 6-
67).

 

كان
سمعان بطرس أولَ من أعلن اعترافه بسيده (مر 29: 8 ومت16: 16 ولو 20: 9 ويو 68: 6-
69). فقد فُتحتْ عيناه ورأى أن يسوع هو ماسيا المنتظر، قدوس الله. ويقول إنجيل متى
أن مثل هذا الاعتراف لا يمكن أن يصدر عن قلب الإنسان لأن روح الله وحده يعرف ما هو
الله، ولا يعرف الابنَ إلا الآب ولا يعرف الآب إلا الابن: (طوبى لك يا سمعان بن
يونا إن لحماً ودماً لم يعلن لك هذا، لكن أبي الذي في السموات) (مت17: 16 و27: 11
و1كو 11: 2 و3: 12). فبين الإعجاب البشري بشخص يسوع والإيمان به ابناً لله ورباً
للعالم بُعدٌ يضاهي بُعد السماء عن الأرض وبعد الإعلان الإلهي عن الشعور البشري.
وهذا البُعد لا يمكننا أن نجتازه إلا بنعمة الله التي تُعلن ابن الله فينا (غلا 15:
1- 16). وهذا ما جعل اعتراف بطرس أساس الكنيسة وحجر زاويتها، إذ خارج هذا الإعلان
وهذا الإيمان بيسوع ابناً لله ليس من كنيسة مسيحية. وفقط الكنيسة التي تحمل كامل
سلطان سيدها وتستنير بروحه القدوس لها سلطان لربط النفوس وحلها، وتمسك بمفاتيح
السماء (مت18: 16- 19 ويو22: 20- 23). ولن يفهم الرسل حق الفهم كلام معلمهم إلا
بعد القيامة، حين يأخذون الروح القدس في يوم العنصرة، ويستلمون ملء سلطانه لكي
يبشروا بخلاصه في العالم، ويغفروا الخطايا أو يربطوها باسمه. ولكنهم حتى هذه
الساعة لا يزالون كما سنرى في ظلمة غريبة.

 

فما
يكاد سمعان بطرس يعترف بمعلمه حتى يصطدم بعقبة الآلام: (حاشاك يا رب لا يكون لك
هذا!) (مت22: 16). فجاءه جواب يسوع بقساوة هائلة لأنه في صوت بطرس لم يعد يسمع صوت
الله بل صوت الشيطان: (اذهب عني يا شيطان إنك معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل
بما للناس) (مت23: 16).

 

(إنك
معثرة لي) والكلمة تعني ما يجعلك تقع، ما سبب السقوط (مت6: 11). فتكشف لنا ردة فعل
يسوع هذه حدة صراعه. فإن الجماهير والرسل كانت تنتظر ظهور مجده الماسياني البهي
وسيدوم أملهم حتى النهاية (مر7: 11- 11). وهذا الانتظار يوقظ فيه بلا ريب صدى
عميقاً لأنه كان بمقدوره أن يتجنب الموت ولكنه تخلى عن طلب التدخل الإلهي (مت 5: 4-
7) وقبل لذاته، قبولَه لإرادة الله، مصير عبد يهوه المعذّب كما صوّر إشعياء (اش53).

 

الملك المصلوب

آ-
(وابتدأ يعلمهم قائلاً إنه ينبغي أن يتألم ابن الإنسان كثيراً). هذه الكلمة
(ينبغي) هذه الضرورة الهائلة هي التي سيصطدم بها بطرس ومن بعده البشرية بكاملها.
والويل لمن ينظر إلى الصليب كحدث عادي في دستور الإيمان والقداس الإلهي ولا يعود
يشعر بهوله وعثرته.

 

هذه
ال (ينبغي) لا تعني مطلقاً حتمية القدر كما في العصور القديمة. إنها من مرتبة
ثانية، تنحدر من طبيعة الله، وطبيعة الإنسان، ومن كل ما لا يحتمله الإنسان من
القداسة الإلهية ومن كل ما لا يحتمله أيضاً الله من خطيئة البشر. وهكذا فإن الحرية
البشرية ستلعب لعبتها الهائلة: (ارفعه، ارفعه، اصلبه!)، أي ارفع القدوس من وسطنا
لأن كلماته وأعماله ونظراته لا تُحتمل ويستحيل علينا أن نبقى كما نحن طالما هو على
ما هو (ارفعه، ارفعه، اصلبه!) لأنه يكشف الستار عن أفكار قلوبنا السرية (لو 35: 2)
وعن كذب ديانة الظواهر، وعن سطحية توبتنا. ونحن أمامه نعرف أننا (قبورٌ مكلّسة)
(مت27: 23) فارفعه ارفعه.. اصلبه!

 

غير
أن الله سيلعب هو بدوره لعبته، ويقوم بدوره الخلاصي الرهيب. وسيقلب جنون البشرية
التي تمت خير أولادها إلى أداة خلاص. نعم إن الشيطان سيجمع ضد مسيح الرب كل سلاطين
هذا العالم (أع 26: 4- 27)، نعم إن قواد إسرائيل سيكونون في الصف الأول في هذا
الحشد من القوى الشريرة، هم وريثو وعود الله، نعم والنظام الروماني سيكون شريك
الجريمة الجبان، المحابي لهذه الشرذمة اليهودية، وأخيراً نعم سيحرّض الشيطان
التلاميذ المذعورين على الإنكار والسكوت، وسيكون أحدهم أداة الخيانة. ولكن كل هذه
الانتصارات الظاهرة تخفي الانهزام الأخير، انهزام رئيس هذا العالم، الذي هو نفسه
أداة لمقصد أعلى منه. ففي الابن الوحيد الذي سينهال عليه بضرباته سيتجسد إسرائيل
الأمين. والشيطان يسيطر على كل الناس ما عدا هذا الابن. وعبثاً سيجعله يذوق عذابات
الجسد المصلوب، وعبثاً أيضاً سيحيطه بأمواج الضغينة، وعبثاً كذلك سيجعل الناس
يتخلون عنه، وفي النهاية عبثاً سيدع الظلمات تنزل إليه كثيفة حتى أن الله ذاته
سيبدو وكأنه قد غاب. لأن يسوع سيبقى طائعاً حتى الموت موت الصليب (فيلبي 8: 2).
والغنيمة الوحيدة التي تهم رئيس الشياطين ستُفلت منه ولن يكون له سلطان على حبيب
الله: (ليس لرئيس هذا العالم فيَّ شيء) (يو30: 14). وإذا بغلبة شخص واحد تغدو غلبة
البشرية بكاملها.

 

كان
يسوع يعرف كل هذا وكان يعرف أن مُقابل آلامه ستأتي قيامته في اليوم الثالث وعودته
المجيدة (مر 31: 8 و38). ولكن الذين يتبعونه ويعترفون به في عاره، والذين يوافقون
على إهلاك نفوسهم، هؤلاء وحدهم سيعرفون مجد ملكه (مر 34: 8- 1: 9 وما يقابله).
ولكي تكتمل المحنة يجب أن يدخل المعلم والتلاميذ متفرقين في ليل الخذلان.

 

ب-
ويعطي التلاميذ رؤية التجلي كإشارة أولى تبشر بالقيامة. كما لو كان الستار قد
أُزيح هنيهة ليعود بعدها إلى الانسدال (مر 2: 9- 13). وفي ظهور موسى وإيليا وهما
يتحادثان مع المسيح تأكيد من جديد على وحدة العهدين القديم والجديد. ومن جهة أخرى
يؤكد الله الآب من جديد عطفه على ذلك الذي ارتضى درب الصليب ويظلله بمجده معترفاً
به ابناً وحيداً محبوباً ولو كان في صورة عبد (مر 7: 9 و11: 1). ومن ثمَّ يعود
يسوع وتلاميذه إلى الجهاد الأرضي، وعندما يلاحظ المعلم قلة إيمان التلاميذ يتفوه
بهذه الكلمات متألماً: (أيها الجيل غير المؤمن والملتوي إلى متى أحتملكم؟) (لو 41:
9 ومر 14: 9- 29).

 

ومنذ
ذلك الحين ينتصب حاجز غير منظور بين يسوع وتلاميذه. فيسوع (يثّبت وجهه إلى
أورشليم) (لو 51: 9) ويبدو في إنجيل مرقس ماشياً في مقدمتهم وحده، وهم يتبعونه من
بعيد، (خائفين)، مسترسلين لاهتماماتهم البشرية. يسوع يفكر بالموت وهم بالمجد.
يتساءلون من هو الأعظم بينهم، ويتنازعون المراكز في الملكوت المنتظر. في الوقت
الذي يسير فيه معلمهم نحو الاتضاع الأقصى لا يفكرون إلا في أن يرتفعوا هم (مر 30: 9-
37 و32: 10- 45). وهنا تصبح صفحات الكتاب مقتضبة بصورة تُظهر بجلاء مأساة هذا
الطلاق الأليم بين المعلم وتلاميذه، إذ إن الفرق بينه وبينهم ليس محصوراً في تحديد
زمان مجيء الملكوت فقط، بل يختلف وإياهم في مفهوم وطبيعة الملكوت بالذات. ففي نظر
يسوع من أراد أن يخلّص نفسه أهلكها: (ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يبذل نفسه عن
أحبائه) (يو13: 15). والولادة الجديدة تكون في أن يتجرد الإنسان تجرداً كلياً عن
ذاته ويرّكز حياته على الله والقريب. غير أن التلاميذ واصلوا تركيز حياتهم على ال
(أنا) ولم يفعلوا أمراً جديداً سوى نقل ذلك التركيز إلى الصعيد الروحي لذلك
فاهتمامهم بمكانتهم في الملكوت أعظم من اهتمامهم بالملكوت ذاته.

 

وفي
آخر أحاديث يسوع مع تلاميذه يتبين لنا بوضوح كلي أنه تحسّب لأعظم تجربتين تحلاّن
بكنيسته: الأولى نفسية التسلط الروحي (مر42: 10- 45 ولو24: 22- 30 ويو1: 13- 17)،
والثانية انقساماتها الداخلية (يو34: 13- 35 و1: 15- 17 و20: 17- 26). فإن العالم
سيعرف أن الرسل هم رسل المسيح من خلال وحدة أبناء الملكوت. وهذه الوحدة التي
يختمها المسيح بدمه هي موضوع صلاته الأخيرة من أجل كنيسته.

 

ودخول
يسوع إلى أورشليم في أحد الشعانين تعبير جماعي عن الإيمان به ماسياً لا يعترض
المسيح على حدوثه. بل تردّ على من طلبوا إليه أن يصمت تلاميذه بقوله: (إذا صمت
هؤلاء فالحجارة تصرخ) (لو40: 19). ولكن الطابع ذاته الذي يعطيه يسوع لدخوله هذا
يدلنا على كيفية فهمه لملكه (زخر 9: 9).

 

وكان
على أورشليم أن تسمع نداء ملكها للمرة الأخيرة، لأن مصيرها متعلق بمصيره ولأنها
إذا حكمت عليه فهي توّقع حكمها على نفسها بيدها (لو41: 19- 44). ويظهر لنا ذلك
جلياً في مَثَلي الكرامين والعرس وفيهما يُنتزع كرم الرب من أيدي إسرائيل ويعطي
لآخرين. يعرف يسوع أن ساعته قد أتت فيرفع بالتالي الكتمانية عن سر ماسيا وليس فقط
لا يتجنب مهاجميه بل يبدو على العكس وكأنه يقصد أن يثير غضبهم (متى21- 23). فجريمة
الفريسيين ليست فقط في أنهم أغلقوا أبواب الملكوت تجاه أنفسهم بل في أنهم منعوا
الآخرين أيضاً من الدخول (متى13: 23). وهنا يسوع يدين ليس فقط تلك الفرقة الفريسية
الخاصة وإنما يتعدى ذلك أيضاً إلى موقف أولئك الذين يستريحون في الإيمان استراحتهم
في أرض محتلة ومن ثم ينزلقون شيئاً فشيئاً إلى الكبرياء الروحي فالرياء. كان
الفريسيون يؤلفون فئة (الأتقياء) بالنسبة إلى اليهود الآخرين، ولكنهم انزلقوا
شيئاً فشيئاً فاعتبروا الفضيلة فضلاً، ومن ثم انقطعوا عن الحياة بالنعمة الإلهية
وصارت ديانتهم ديانة أعمال. من أجل ذلك جاهد يسوع حتى النهاية لكي ينزع عن وجوههم
هذا القناع. ولم يتورع عن استعمال القساوة كمجهود أخير لكي يحطم ذلك الهيكل الفارغ
الفظيع من البرّ الذاتي الذي كانوا يحيطون أنفسهم به، والذي جعلهم (قبوراً مكلّسة)
وجثثاً تتنقل. كل كنيسة مهددة باستمرار بهذا التحجر الفريسي وعليها أن تقرأ هذه
الصفحات بخوف وارتعاد. وكل كنيسة تعيش مهددة بأن يهجر الله يوماً مسكنه (متى38: 23
ولو44: 19).

 

ويبدي
تلاميذ يسوع إعجاباً ساذجاً بالهيكل الذي بدأ هيرودوس الكبير ببنائه دون أن يتممه.
فيتنبأ له المسيح بأنه لن يبقى فيه حجر على حجر (مت1: 24- 2 ومر1: 13- 2). ويشير
الإصحاحان (24) من متى و(13) من مرقس إلى حدثين أولهما حدث تاريخي أعني خراب
أورشليم (الذي حصل فعلاً في السنة السبعين) والثاني يتعلق بالآخرة أعني مجيء
المسيح في آخر الزمان وإعلان الدينونة الأخيرة. وقد يكون أن الجيل المسيحي الأول
أعتقد بأن هذين الحدثين يأتيان سوية ولكننا رأينا سابقاً أن الأحداث التاريخية في
نظر الأنبياء القدماء كانت دائماً إشارات مسبقة للأحداث الأخيرة. لذلك فيسوع يوضح
أنه ليس من إنسان يعرف اليوم أو الساعة التي تحدث فيها هذه الأشياء الأخيرة حتى
ولا الابن الوحيد، وأن هنالك واحداً فقط يعرفها هو الآب (مت36: 24 وما يقابله).
هذا واليقين بنصر الله الأخير يضفي نوراً على كل أحاديث يسوع الأخيرة عندما يغبّط
أولئك الذين سيصمدون في المحنة حتى المنتهى (مت12: 24- 13)، والخدم الذين يجدهم
معلمهم ساهرين (مت43: 24- 51 و14: 25- 30 ولو11: 19- 27)، وأخيراً الكنيسة التي
تنتظر مجيء العريس وقناديلها مضاءة (مت1: 25- 13).

 

ج-
ويكتفي يسوع بالتأكيد على معنى تضحيته أكثر مما يتطرق إلى إيضاحها، فيسجل طابعها
الطوعي وكيف أنه فيها يحل محل الآخرين. فابن الإنسان أتى (لا ليُخدم بل ليَخدم
ويقدّم حياته فدية عن كثيرين) (مر45: 10). لذلك فقد اعتبر تطييب جسده في بيت عنيا
بمثابة المسحة الملكية للمصلوب وسيُعرف عمل المرأة هذه في الأرض كلها (مر3: 14- 9
ويو1: 12- 8). وإذا أمعنّا النظر في كلمات يسوع في العشاء الأخير،وجدنا أنها توضح
يقينه أولاً بقيمة موته التكفيرية، ثانياً بمجيء الملكوت (هذا هو جسدي الذي يقدّم
من أجلكم اصنعوا هذا تذكاراً لي) (لو19: 22 و1كو24: 11). ولما أدار الكأس على
التلامذة قال: (خذوا اقتسموا هذا بينكم فإني أقول لكم إني لن أشرب من عصير الكرمة
حتى يأتي ملكوت الله) (لو17: 22- 18)، أو كما ورد في نصوص أخرى (إلى يوم أشربها
مجدداً في ملكوت الله) (مر25: 14).

 

وللعشاء
السري في الأناجيل وفي التقليد البولسي معنيان: الأول تذكاري (تذكاراً لي) والثاني
له علاقة بالآخرة (إلى أن يجيء 1كو26: 11). فهو اشتراك في الجسد المكسور من أجلنا،
والدم المراق من أجلنا. وهو أيضاً إعلان عن الوليمة العظمى التي سنشترك فيها في
الملكوت.

 

ولا
يفتأ يسوع يؤكد من وقت إلى آخر الطابع الحر الإرادي لبذل نفسه (يو18: 10). فهو
يصعد إلى أورشليم عندما تأتي الساعة بكل وعي وتصميم لكي يموت فيها الميتة التي
تنتظر الأنبياء (لو31: 13- 33). ويقول الإنجيليون الثلاثة الأول إن خطابات يسوع في
الهيكل وعن الهيكل سبّبت إصدار حكم الموت (مر12: 12 ومت15: 21، 45- 46 و3: 26- 5،
60- 61). أما الإنجيلي يوحنا فيربط قرار المجمع بالموت بقيامة لعازر والأثر الذي
تركته في الشعب (يو47: 11- 57). نعم إن يسوع يضع مسؤولية هائلة على أكتاف مسلمّيه
(مت38: 21 و29: 23- 39 و20: 26- 25)، إلا أنه كان واثقاً حتى النهاية من أن الله
كان في إمكانه أن ينجيه من أيديهم إذا شاء (مت39: 26، 53). هو يرى فيهم الأداة
التي تستخدمها إرادة أسمى من إرادتهم، لأنه من خلالهم كان يتم تصميم الخلاص الذي
من أجله أرسله الآب إلى الأرض (يو51: 11 و27: 12- 33 و27: 13 و29: 14- 31 و1: 18-
5 و9: 19- 11 ومر 31: 8 (كان ينبغي) و26: 14- 31،43- 52). وفي أثناء المحاكمة يلبي
يسوع غاية متهميه فيلفظ (التجديف) الذي يسبّب الحكم عليه. فإنه بعد أن سُئل: (هل
أنت المسيح ابن الله المبارَك؟) أجاب: (أنا هو.. وسترون ابن البشر جالساً عن يمين
القدرة الإلهية وآتياً على سُحُب السماء) (مر62: 14 ومت63: 26- 64). ويحتفظ يسوع
أثناء محاكمته كلها بحرية مطلقة تجاه القضاة تجعلهم ينقلبون إلى شبه متَّهمين، في
غضبهم العاجز وخيفتهم المكبوتة. فكلماته كصمته مطبوعة بطابع الوقار الملوكي مما
سبّب لبيلاطس نفسه اضطراباً كما يقول الكتاب (لو1: 23- 25 ومت19: 67- 26 ويو28: 18-
40). والذي طلب الموت للملك هو شعبه الذي أهاجه قواده فوصلت به الحال إلى قول
الجملة الرهيبة الواردة في متى: (دمه علينا وعلى أولادنا) (مت25: 27).

 

نعم
إن يسوع يقدّم حياته بملء إرادته ولكن هذا لا يقلّل من هول الأمر، ولا من فظاعته.
والأناجيل لا تخفي ذلك. فقد وصف لنا الإنجيلي يوحنا الصراع الذي عاناه يسوع فعبّر
عنه بقوله: (الآن نفسي قد اضطربت، ماذا أقول، يا أبتِ نجّني من هذه الساعة يا أبتِ
مجّد اسمك) (يو27: 12). (ها إنها تأتي ساعة، وقد أتت الآن، حيث تتفرقون كل واحد
منكم إلى خاصته وتتركونني وحدي) (يو32: 16).

 

ولكن
الإنجيليين الثلاثة الأوَل هم الذين نقلوا إلينا صراع يسوع في واقعيته ولم يتورعوا
عن إظهار ابن الله غارقاً في معركة روحية حتى الموت، وعرقه ينزف كالدم عندما قبل
بالتضحية الكلية: (يا أبتِِ إن شئتَ فأجزْ عني هذه الكأس ولكن لا تكن مشيئتي بل
مشيئتك) (لو39: 22- 46).

 

السؤال
يُطرح: لمَ هذا الرعب؟

لقد
عرفت الوثنية الإغريقية الموت الهنيء عند الرواقيين. والوثنية الحديثة تعرف أيضاً
ما تسميه (ميتات حلوة). أما الكتاب المقدس فلا يتعرف إلى مثل هذا النوع من الميتات
بل يعتبر الموت (ملك الأهوال) (1يو14: 18)، وأجرة الخطيئة وثمرة الدينونة (تك 19: 3،
22 و3: 6). إنه باب الجحيم أعني المكان الذي تخيّم فيه الظلمات، والذي لا يزوره
الله، لأن الله جوهراً حياة ونور. وهذه الظلمات، ظلمات الغياب، هي تلك التي أحاطت
بصليب يسوع. ومن صميم ظلمات الجحيم حيث انحدر يسوع طوعاً تنبعث الصرخة: (إلهي إلهي
لماذا تركتني) (مت46: 27). وباعثُ هذه الصرخة لم يكن إلا البريء الوحيد والطاهر
الوحيد، ابن الله. والظلمات التي انحدر إليها ليست سوى ظلمات العالم الذي جاء
ليخلصه. عند خروج يهوذا لتسليم معلمه (كان ليل) (يو30: 13). وكان كذلك (ليل) حين
كان يسوع يصارع ويموت: (ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة
التاسعة) (مت45: 27 ومر33: 10). فلقد نزل يسوع في ليل العالم وليل الخطيئة وليل
الموت وفي ظلمة القبر التي لا ترحم. (وصرخ أيضاً يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح)
(مت50: 27).

 

ويصوّر
لنا الإنجيلي متى أن الأرض ذاتها ترنحت تحت ثقل هذا الموت وتزعزعت في أساساتها.
أفليس هذا الموت دينونة للعالم الحاضر، وعلامة نهائية لهلاكه؟

 

ولكن
من هذا لقبر الذي دُفن فيه يسوع مساء الجمعة العظيمة سينبعث عالم جديد. إلا أنه
بالضبط لن يتمكن من الانبعاث إلا بمعجزة القيامة.

 

الناهض
من القبر

آ-
تنقل لنا الأناجيل بالإجماع البلبلة التي حدثت في صفوف التلاميذ غداة الصلب. لأن
آمالهم انهارت كلها. فقد مات يسوع ودُفن ودخل في عالم الماضي، حتى أن البعض في
معرض كلامهم عنه قالوا: (لقد كان نبياً مقتدراً بالفعل والقول) (لو19: 24) (وقد
كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل) (لو21: 24).

 

فكيف
حدث أن التلاميذ لم يأخذوا بعين الاعتبار أقوال يسوع المتكررة عن آلامه وقيامته
وعودته؟ هذا ما لم يحاول الإنجيل أن يفسره بل اكتفى بتأكيد عماهم. كانوا ينتظرون
أن تحدث عجيبة من الله ولكن خاب فألهم وما عادوا يتوقعون شيئاً بل رجع كل واحد
منهم إلى عمله وانتهى الأمر.

 

إذا
كانت هذه الفصول الأخيرة من الأناجيل تعني شيئاًً فهي تعني بالدرجة الأولى أنه
بدون قيامة المسيح يستحيل وجود كنيسة مسيحية. وإلا أصبح الموضوع أن بعض الرجال
احتفظوا في أعماق قلوبهم بذكرى هذا المعلم العجيب الذي اتخذوه – وقتاً ما – محطاً
لرجائهم، وأن الأمر بعد موتهم قد انتهى، وأن يسوع الناصري قد غرق في عالم النسيان..

 

والصليب
ذاته، بدون ظفر القيامة، ليس سوى حكم بالموت رهيب. وأي أمل يوضع في إنسانية تفعل
هكذا بخير أبنائها؟ (إذا كان المسيح لم يقم فنحن أشقى الناس أجمعين) (1كو19: 15).

 

وإذا
كان التلاميذ قد سدروا في الظلمات فلأن إنكارهم أثقل عليهم، كما أثقل عليهم جبنهم
وآمالهم الخائبة. وزاد الطين بلة سكوت الله الكثيف.

 

إن
كنيسة لا تعيش بالقيامة، ولا تبشر بها، تكون هي بدورها عائشة في الظلام، ويصدق
فيها قول بولس الرسول (إيمانكم باطل، إنكم لا تزالون في خطاياكم).

 

لكن
ها المسيح قد قام، وظهر للنساء اللواتي ذهبن سَحَراً عميقاً إلى القبر ليطيّبن
جسده، ثم ظهر لبطرس، وبعدئذ للأحد عشر وهم متكئون. كما ظهر للتلميذين الذاهبين إلى
عمواس، وللصيادين في بحيرة طبريا. وكذلك ظهر لأكثر من خمسمئة أخ مجتمعين (1كو6: 15).
وأخيراً لشاول بالذات.

 

وكل
هذه الظهورات محاطة بسر لا تحاول صفحات الكتاب أن تخفيه. نعم فالمسيح يظهر ولكن
ذويه لا يعرفونه (لو16: 24 ويو15: 20 و4: 21). لا شك أن القيامة كانت في الجسد.
فيحرص الإنجيليون بالإجماع على التحدث عن القبر الفارغ. كما أن يسوع يدعو تلاميذه
للمس جراحه، ويأكل معهم. ولكن هذا الجسد – جسد القيامة – لا يخضع بعد لنواميس
المادة. فنرى يسوع يدخل ويخرج والأبواب مغلقة (يو19: 20- 26).

 

وجدير
أن نتوقف عند الطريقة التي قدّم بها يسوع نفسه لذويه: فمريم انفتحت عيناها على
معرفته عندما لفظ اسمها (يو16: 20)، وعرفه تلميذا عمواس عند كسر الخبز (لو30: 24-
31)، أما الأحد عشر فعرفوه في سلامه عليهم (يو19: 20). بينما الذين يزيدونهم في
قلة الإيمان فهؤلاء أراهم يديه المثقوبتين، وجنبه المطعون (لو39: 24 ويو20: 20،27).
أما سمعان فعرفه بعد الصيد العجيب (يو6: 21- 7). وأخيراً شاول الطرسوسي سمعه يقول:
(أنا يسوع الذي أنت تضطهده) (أع 5: 9).

 

وهكذا
نلاحظ أن شخصية يسوع بعد القيامة لا تظهر من خلال ملامح عامة تفرض نفسها على جميع
الناس. وإنما من خلال علامة خاصة بكل واحد، ومرتبطة بذكرى لقائه هو بالمسيح من قبل.
ما يبقى سرّاً إلهياً هو ولادة هؤلاء الرجال والنساء في الإيمان، شأن كل ولادة
جديدة. فالرفيق الذي أحبوه واحترموه، والذي كان منهم، حتى أنه اقتبل توبيخهم في
بعض الأحيان (مر 32: 8)، فقد أصبح الآن الرب الذي يُسجَد له ويُعبد (يو28: 20
ومت17: 28 ولو52: 24). ومنذ الآن فصاعداً صارت المسافة التي تفصله عنهم تلك التي
تفصل الله عن الإنسان.

 

والقيامة
تُظهر الانتصار الذي أحرزه المسيح على الصليب. فكونه قام من بين الأموات يعني أن
الخطيئة والموت قد دُحرا. وهذا هو معنى انتصار الفصح العظيم، لأن الله لم يُزح حجر
قبر يسوع فقط، بل أزاح حجر قبر الإنسانية جمعاء. لأن هذه الأرض ليست سوى قبر واسع
إليه يعود الناس جيلاً بعد جيل، ويرجعون تراباً كما كانوا في الابتداء (تك 19: 3).
وتصريح الكتاب المقدس بأن ثمر الخطيئة هو الموت تصريح يجب قبوله بملء واقعيته (رو
12: 5). لأننا إذا لم نفهم شمول ملكوت الموت لن نفهم عظمة العمل الإلهي الذي أحدر
يسوع إلى مقر الأموات، ورفعه بعد ذلك، ومن ثَمَّ أقامنا معه (أفسس 8: 4- 10). فإن
المسيح وهو (رئيس الحياة) حطّم قيود الموت. إذ إنه لم يكن من الممكن أن يبقى تحت
سلطانه (أع 15: 3 و24: 2). وها هو منذئذ يلد للحياة الأبدية جميع المختصين به: (لقد
ابتلعت الغلبة الموت. فأين شوكتك يا موت، ويا أيتها الهاوية أين غلبتك؟) (1كور54: 15).
بهذه الصرخة تعّبر البشرية المنجاة عن شكرها لله.

 

فنحن
إذن في المسيح يسوع موتى قائمون من الموت لأنه غلب القوات التي كانت تقيدنا ورفع
عن البشرية عبء الدينونة. والسلام الذي يعطيه الناهض من القبر لتلاميذه، والذي لا
يعطيه العالم (لو36: 24 ويو20: 20 و27: 14)، هو السلام الذي يأتي من الصليب، من
غفران الخطايا، ومن المسامحة، وهو رجاء إسرائيل خلال العصور، وسلام المصالحة مع
الله (اش 18: 1 وارميا34: 31 ومز9: 51- 14 ورو 8: 5- 10). وسيقول بولس الرسول: (إنه
هو سلامنا) (أفسس 14: 2). ومنذ ذلك الوقت تصبح التحية بالسلام التحية الرسولية: (النعمة
والسلام لكم).

 

وقيامة
يسوع المسيح هي البشرى المجيدة بقيامتنا نحن وقيامة العالم. (إنه باكورة الراقدين)
(1كو20: 15). وبه يقوم هذا العالم المائت إلى حياة جديدة هي حياة الله.

 

وسنعود
بعد حين لنبحث مدى أثر هذا الانتصار في الكون ولكن لنسارع إلى القول منذ الآن أنه
من يوم الفصح العظيم تمت هزيمة (رئيس هذا العالم). (كل شيء قد تم). ولا شك أن
الصراع سيدوم وقتاً، غير أن المعركة الحاسمة قد تمت. والقيامة هي الختم الذي يضعه
الله شهادةً لعمل ابنه في الفداء. لهذا صرخ بولس في وجه أهل كورنثوس المشككين
بالقيامة والناكرين لها: (إن كان المسيح لم يقم فإيمانكم باطل ولا تزالون في
خطاياكم) (1كور17: 15- 18).

 

وأصبحت
دعوة الرسل بالتالي أن يكونوا شهداء للقيامة. وأن يُعلنوا باسم المسيح الناهض من
القبر غفران الخطايا (يو21: 20- 23 ولو44: 24- 49 ومت18: 28- 20 واع 32: 2، 37- 38
و1كو1: 15- 11) وهكذا فقد انقلب الصليب من حجر عثرة إلى قوة خلاص.

 

ب-
لقد وعد يسوع تلاميذه بأن روح الحق سيرشدهم إلى الحقيقة بكاملها (يو12: 16- 15
ويو22: 20- 23). وفي خلال الفترة العجيبة طيلة الأربعين يوماً التي تفصل الصعود عن
القيامة، والتي ما كان فيها المسيح من العالم كما سبق، فتح أذهان تلاميذه لكي
يفهموا معنى مجيئه، وأرجعهم إلى قراءة الكتاب المقدس قائلاً أن الكتاب يعلمهم ما
يختص به إذا هم قرأوه في هداية الروح القدس.

 

وقد
بدأ هذا التعليم على طريق عمواص لما كان يسوع سائراً مع تلميذيه دون أن يعرفاه
وقال لهما: (يا قليلي الفهم وبطيئي القلب في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء أما
كان ينبغي للمسيح أن يتألم هذه الآلام ثم يدخل إلى مجده؟ ثم أخذ يفسر لهما من موسى
ومن جميع الأنبياء ما يختص به في الأسفار كلها) (لو25: 24- 27). ثم يعود يسوع إلى
هذا الموضوع نفسه في حديثه مع الأحد عشر إذ يقول: (هذا هو كلامي الذي كلمتكم به إذ
كنتُ معكم إنه ينبغي أن يتم كل ما كتب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير)
وعندئذ (فتح أذهانهم) لكي يفهموا الكتب وقال لهم: (هكذا كُتب وهكذا كان ينبغي
للمسيح أن يتألم وأن يقوم في اليوم الثالث من بين الأموات وأن يُكرز باسمه بالتوبة
ومغفرة الخطايا في جميع الأمم، ابتداء من أورشليم، وأنتم شهود لذلك. وأنا أرسل
إليكم موعد أني فامكثوا أنتم في المدينة إلى أن تُلبسوا قوة من العلاء) (لو44: 24-
49).

 

هذان
المقطعان أهميتهما لا تُقاس، لأنهما يبيّنان وحدة الإلهام الكابي التي لا تنفصم.
وفي الواقع أن الكنيسة ستعتمد على أساس الرسل والأنبياء معاً (أفسس 20: 2). هذان
المقطعان هما في أساس التأويل المسيحي (الخريستولوجي) للعهد القديم: فموسى،
والأنبياء، والمزامير، أعني الكتاب المقدس بكامله يتكلم عن يسوع ويخبر بمجيئه. نعم
إن هنالك معنى خفياً للكتاب المقدس لا يمكن فهمه إلا بعين الإيمان، ولا يمكن
الإعلان عنه إلا بواسطة الروح القدس، وبدون هذا الإلهام يبقى الكتاب المقدس كتاباً
مغلقاً (يو 45: 5- 47 و56: 8- 58 و2كو 12: 3- 16).

 

يُنتدب
الرسل إذن من أجل غاية واضحة هي الإعلان بأن يسوع الناصري الذي صُلب في عهد بيلاطس
البنطي، وقام في اليوم الثالث، هو نفسه المسيح الذي أخبرت عنه الكتب المقدسة، وملك
إسرائيل. لكن انتدب التلاميذ يتجاوز إسرائيل إلى (الأمم) (مت14: 24 و19: 28 وأع 8:
1). لأن سيادة يسوع هي سيادة شاملة.

 

غير
أن الرسل ما كانوا ليقوموا بما انتدبوا من أجله اعتماداً على قواهم البشرية وحدها.
لذا وجب أن ينسكب عليهم الروح القدس ويجوزوا معمودية النار في يوم العنصرة. ولذلك
كانوا ينتظرونه في خلوة العليّة وهدوئها (أع 12: 1- 14).

 

لا
تشغل حادثة الصعود سوى بضعة أسطر في آخر إنجيل لوقا وفي الإصحاح الأول من أعمال
الرسل. وورودها في هذين المكانين ذو مغزى لأنها من ناحية تُشير إلى آخر مرحلة من
مراحل حياة يسوع الناصري على الأرض، ومن ناحية ثانية هي تدشين لملكوته، وهي نقطة
ابتداء (عهد الكنيسة).

 

لقد
بارك يسوع المختصين به وبارك فيهم الكنيسة الوشيكة الولادة. ثم تركهم و(ارتفع إلى
السماء). ويبدو أن هذا الانفصال كان يجب أن يملأ قلوب التلاميذ بالأسى (يو5: 16-
6). لكن حصل العكس فقد عادوا إلى أورشليم كما قال الكتاب (بفرح عظيم)، وكانوا في
الهيكل يسبّحون الله ويباركونه (لوقا52: 24). وكل ذلك لأن أعينهم قد انفتحت ورأوا
بأن ربهم حيّ يملك، وأنه (عن يمين الآب). فكان هذا اليقين المفرح أقوى بكثير من
الفراق والانتظار.

 

لقد
تعلموا أن ينظروا إليه هو لا إلى أنفسهم.

 

ويرسم
لنا كتاب الأعمال صورة عن التلاميذ وأَعينهم شاخصة إلى السماء. غير أن (رجلين
بثياب بيضاء) يرسلانهم ثانية إلى مهمات الأرض، لأن هناك مكان شهادتهم وحقل طاعتهم.
والرب هو يأتي إليهم، ويكون معهم بالروح القدس. يكون معهم بصورة غير منظورة،
ولكنها حقيقية، كل أيام الحياة (مت20: 28). وسيعود في آخر الأزمنة بقوة ومجد
عظيمين (أع 11: 1).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى