علم الكتاب المقدس

أرض الميعاد



أرض الميعاد

أرض
الميعاد

(يشوع،
القضاة، صموئيل، الملوك)

إسرائيل
أمّة وكنيسة: العرش والهيكل

الموجز

إن
أسفار يشوع والقضاة وصموئيل الأول والثاني والملوك الأول والثاني، وهي أسفار
تاريخية، تدخل في التوراة العبرانية في عداد الأسفار النبوية (15) إذ أن الوقائع
التاريخية لا تهم كاتبي الأسفار المقدسة بقدر ما يهمهم معنى الوقائع ومكانها في
قصد الله الخلاصي. ونشهد في هذه الأسفار سلسلة من حوادث يستجيب فيها الله لشعبه ثم
يؤدبه ثم ينقذه. إن أرض الميعاد بعد فتحها تبقى ميداناً للقتال الدائر بين الله
وقوات هذا الدهر. من سينتصر في النهاية البعول أم الرب؟

 

1-
الدخول إلى أرض الميعاد (يشوع)

إن
يد الله وحدها أنقذت إسرائيل من سلطان مصر وكذلك يد الله وحدها تقوده عبر الأردن
إلى أرض الميعاد.غير أن الله يشترط على شعبه الانفصال التام عن الشعوب المحيطة بهم.
ويجدد الشعب في شكيم عهدهم بأن يعبدوا الرب وأن لا يعبدوا سواه (يشوع24).

 

2-
خيانات وتأديبات وخلاص (القضاة)

يسير
تاريخ القضاة على نسق واحد يكاد يدعو إلى اليأس: إذ تتوالى فيه الخيانات وتتبع
التمردات ندامات وقتية غير مجدية. فيظهر إسرائيل شعباً (قاسي الرقبة) يجرب صبر
الله. أما الله فيعود دائماً ويشفق عليه ويقيم له منقذاً.

 

3-
إنشاء الملكية. بيت داود (صموئيل الأول والثاني)

آ-
صموئيل آخر القضاة، يجمع بين وظائف القاضي والكاهن والنبي. وهو الذي يمسح ملكي
إسرائيل الأولين.

 

ب-
شاول بسبب عصياناته يحرم نفسه النعم الموعودة للملكية.

 

ج-
أما داود فهو، بالرغم من خطاياه، ملك (حسب قلب الله)، وذلك بفضل إيمانه وإخلاص
توبته وإدراكه لعظمة وضيفته الملكية وحدودها، فيحظى بيت داود بنعمة فريدة، بالرغم
من عدم أمانة خلفائه، إذ من نسله يولد مخلص العالم.

 

4-
العرش والهيكل (صموئيل الثاني 1: 7- 16 وملوك الأول 5- 8)

يعطى
لسليمان، ملك الحكمة والسلام، أن يبني هيكل أورشليم. فيصبح لحياة إسرائيل (الأمة
والكنيسة) قطبان الأول عرش داود والثاني الهيكل، وهما علامتان منظورتان لسيادة
الله ولحضوره بين شعبه. وسيكون زوالهما مأساة السبي الكبرى. ولن يعاد بناء الهيكل
إلا بعد العودة من السبي، فيضحي الرمز الحي لوحدة الأمة.

 

5-
أورشليم الأرضية وأورشليم السماوية

أرض
الميعاد بمثابة صورة أرضية لملكوت الله الآتي. وابتداء من عهد داود يتركز إيمان
المؤمنين حول أورشليم كونها مقر السلالة الداودية والهيكل. وأنبياء العهد القديم
يرون الأمم تتوافد إليها، أما أنبياء العهد الجديد فيعرفون أن أورشليم الأرضية
ليست إلا صورة لأورشليم السماوية، لأن هذه من صنع الله ولا تستطيع أن تأتي إلا من
فوق (2صمو 6: 5- 16 ومز87 واش 2: 2- 4 و60 و1: 62- 7 ورؤ1: 21- 4).

 

نصل
الآن إلى سلسلة الأسفار التاريخية التي تضعها التوراة العبرية تحت باب (الأنبياء).
وهذا العنوان ذو مغزى خاص لأن التاريخ الذي نحن بصدده ليس تاريخاً عادياً وإنما هو
تاريخ شعب الله، وكاتب الأسفار المقدسة يهتم فيه بصورة خاصة لمقصد الله الخلاصي
الذي يتجلى خلاله. لقد بدأ حديث بين الله وشعبه فالله يكلّم شعبه، وشعبه يجيب أو
لا يجيب. ويناديه الله أيضاً بواسطة الأحداث وهذه كلها، انتصارات كانت أم انكسارات،
فشلاً أم نجاحاً، ذات مغزى نبوي، فهي دينونة له أو إنقاذ، ومن خلالها يعلن الله رب
التاريخ عن ذاته ويتابع غايته التي لا تتبدل، كما أنها (علامات) تشير إلى الدينونة
والإنقاذ الآتيين.

 

1-
دخول أرض الميعاد (يشوع)

يستهل
الله كلامه ليشوع، ساعة يوكل إليه مسؤوليته الثقيلة في خلافة موسى وقيادة شعبه إلى
أرض الميعاد، بهذه الكلمات: (سأكون معك كما كنتُ مع موسى.. فتشدّد وتشجع). ونحن
نعلم أن جذر اسم يشوع هو نفسه جذر اسم يسوع ويعني المخلص، أو (الذي ينقذ)، (الذي
يُفسح مكاناً).

 

ثم
(يعظّم) الرب عبده في أعين جميع الشعب (يش 7: 3) كما عظّم موسى سابقاً لكي يثبّت
سلطانه. وما العبور على اليابسة في الأردن سوى تذكير لعبور البحر الأحمر (يش 3 و4)
ولكن تابوت العهد في هذه المرة هو الذي يوقف مياه النهر. ثم يقيم يشوع اثني عشر حجراً
بعدد أسباط إسرائيل الاثني عشر كنصب تذكاري للرب (يش 20: 4- 24 وخر4: 24). ومن
ثمَّ – بعد هذا الاجتياز – يقوم بتعييد فصح الرب (يش 9: 5- 12). ثم يظهر أمامه
ملاك الرب ويكشف له عن قداسة الرب وقدرته بالعبارات ذاتها التي كلّم بها موسى
سابقاً (يش 15: 5 وخر 5: 3). وبعدئذ يتم فتح كنعان لا بقدرة البشر ولكن بيد الله
وهذا ما يرمز إليه أيضاً سقوط أريحا (يش 6). لكن يشوع يصطدم مثل موسى بجحود الشعب
وعصيانه فيؤدي ذلك إلى تأديبات قاسية تعلّم إسرائيل أن الله لا يُزدرى به (يش 26: 6-
27 و7).

 

ونصطدم
هنا بأمر إلهي قاس هو أمر الابسال أو الحرم ويقضي بإزالة مدن بكاملها وإبادة
سكانها بكليتهم، لكن ما يقصده كاتب الأسفار في هذا الموضوع أن لا مساومة للمؤمنين
مع أعداء الله وأن الطاعة لله يجب أن تكون بدون شرط وأن المُبسَل أو المحروم هو
مكرس لله ولا حق لأي بشري أن يحتفظ بأقل جزء منه (يش 10: 7- 26). إن سياسة الله
العامة، إذا جازت العبارة، أصبحت تقضي من الآن فصاعداً بأن يُفصَل بين شعب الله
والشعوب المغلوبة فصلاً تاماً. وهذا الفصل هو الطريقة الوحيدة لحماية شعب الله من
الذوبان السريع في الشعوب الأخرى وللحفاظ على رسالته. وتجيء الأحداث فبرهن ذلك لأن
إسرائيل سيكون مجربّاً في كل وقت بالانحراف إلى الوثنية، وسيضطر رجال الله إلى
الدخول معه في صراع مستمر للمحافظة على كيانه. أما نتائج هذه الدعوة الفريدة
لإسرائيل فهي ثقيلة من الناحية البشرية لأنها تحكم عليه بأن يظل إلى الأبد الشعب
الذي لا يذوب ولا يذاب. ووضعه بالنسبة إلى الشعوب الكنعانية هو تماماً وضع الكنيسة
بالنسبة إلى العالم. فالكنيسة أيضاً مجربة بتجربة الانحراف عن طريق الله لإتباع
طريق العالم، والانحرافات الخفية التدريجية نحو الوثنية هي أكثر الانحرافات غدراً.
ولذا يلجأ الله أحياناً إلى البتر الدامي للحفاظ على البقية الأمينة التي تشهد
خلاصه.

 

إن
بعض صفحات كتاب القضاة والدلائل التي يقدّمها التاريخ العام تحمل المؤرخين إلى
الاعتقاد بأن استقرار الأسباط الإسرائيلية في كنعان قد تمّ عن طريق التسرب البطيء
واستغرق قروناً طويلة. ولذلك فإن سفر يشوع يرسم لنا عن الحوادث صورة موجزة
بالضرورة، لكن هذا لا يهمنا فالجزء هنا يمثّل الكل كما يقول فيشر.

 

وفي
شكيم، ذلك المكان الذي يوحي بإله الآباء الأمين لذاته والذي يعيد إسرائيل إلى أرض
الميعاد، يجدد إسرائيل عهده مع الله (يش24). عندئذ يذكّره يشوع بخطورة التزامه
قائلاً: (لا تستطيعون أن تعبدوا الرب لأنه إله قدوس وإله غيور..) وعندما أجاب
الشعب بالإيجاب عاد فرفع صوته قائلاً: (أنتم شهود على أنفسكم أنكم أنتم قد اخترتم
الرب لتعبدوه).

 

وهكذا
أيّد الشعب قرار آبائه ووضع نفسه نهائياً بين يدي الله الحي الرحيمتين والرهيبتين
معاً.

 

2-
خيانات وتأديبات وخلاص (القضاة)

لا
يورَث الإيمان بل على كل جيل بمفرده أن يختار شخصياً بين خدمة البعل وخدمة الله
العلي: (إن كل ذلك الجيل (والمقصود به الجيل الذي دخل أرض الميعاد) انضم إلى آبائه،
وقام من بعده جيل آخر لا يعرف الله ولا ما صنعه لإسرائيل) (قضاة 10: 2). فيبدو عمل
الله وكأنه كأعمالنا يحتاج إلى تكرار.

 

ويتابع
التاريخ سيره على نسق واحد رتيب حزين (وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب..
وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب واستغاثوا.. فأقام الرب لهم مخلصاً من بينهم) (قض 12: 3
و15 و11: 2- 22 و1: 4 و1: 6 الخ). فالإسرائيليون يعودون دائماً إلى خطيئتهم. إنهم
يتركون الرب كلما تحسنت أمورهم، ولكنهم (يصرخون) إليه ويستغيثون كلما ساءت الأمور
فيشفق الرب عليهم. هذا التاريخ ليس فقط تاريخ إسرائيل ولكنه تاريخ الكنيسة
وتاريخنا، ونحن نصادف منذ الآن سر أناة الله العظيم.

 

إن
عهد القضاة عهد ظلام وفوضى وقتال، ولكن الله يقيم (القضاة) شهوداً له على التوالي
وهؤلاء باسمه وقوته ينقذون إسرائيل. إن رسالتهم ليست وراثية ولكنها في كل مرة دعوة
خاصة من الله. لا شك أنهم وجوه محيِّرة وكثيراً ما يريقون الدماء، فهم لا يقلقهم
اختيار وسائل العمل لأنهم عاشوا في زمن شاطروه عاداته وأهواءه. ولم يكن ليميزهم عن
معاصريهم أي شيء إلا إيمانهم بالله الحي وخضوعهم لأوامره. وساعة يتخلى الله عنهم
يعودون إلى الاضمحلال وتنهار مقدرتهم كلها.

 

هكذا
كان شمشون البطل الذي يتبجح بقتله ألف رجل بفك حمار ولكنه لا يقدر أن يحفظ أسرار الرب،
فإذا به فريسة امرأته دليلة الغادرة التي كانت بالنسبة إليه (طابوراً خامساً)
فلسطينياً، والتي كانت أشد أمانة لمصالح شعبها مما كان هو أميناً لله (قضاة16: 13).

 

وهاكم
الحادث الذي دفع إلى إبادة قبيلة بنيامين (16) إبادة تكاد تكون كلية، والوسائل
التي اتّبعت لتلافي هذه الإبادة تشهد لعادات ذلك العصر كما تدل على مدى الصعوبة
التي كانت تواجهها أسباط إسرائيل في حفظها على وحدتها وحريتها في البلاد التي
أعطاها إياها الرب.

 

وهذا
جدعون يرفض الملك: (أنا لن أملك عليكم ولن يفعل ذلك ابني لأن الرب هو ملككم) (قض
23: 8). ولكن داعي مصلحة الأمّة لن يلبث أن يتغلب فيطلب الإسرائيليون إقامة ملك.
ويُختتم كتاب القضاة بهذا البيان المقتضب: (في ذلك الزمان لم يكن لبني إسرائيل ملك
وكان كل واحد يعمل ما يروق له).

 

3-
إنشاء الملكية. – بيت داود (صموئيل الأول والثاني)

آ-
وجهُ صموئيل، آخر القضاة في إسرائيل، وجهٌ عظيم جداً وفريد لأنه يجمع بين القاضي
والكاهن والنبي، وهو بالنسبة إلى عهد داود ما سيكون المعمدان بالنسبة إلى عهد
المسيح. صموئيل هو ذاك الذي مسح بالدهن بأمر من الله الملكين الأولين في إسرائيل،
وقد فرزه الله لخدمته منذ ولادته تماماً كما حدث للمعمدان، والترنيمة التي ترنمها
حنة النبية عن إنزال المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين إنما هي ترنيمة تبشر
بالمسيح تُردد صداها يوماً ترنيمة العذراء (1صم 1: 2- 11 ولو 46: 1- 55).

 

أول
ما حدث لصموئيل أنه اصطدم بالإسرائيليين الذين كانوا يطالبون بملك (مثل سائر
الأمم) (صم 20: 8) ولم يكن صموئيل مقتنعاً بهذا (صم 1: 8- 6). ولكن الله أمره أن
يستسلم لرغبتهم قائلاً له: (إنهم لا يرفضونك أنت ولكنهم إياي يرفضون لكي لا أملك
عليهم) (صم 7: 8). فالملكية إذاً أُعطيت أول الأمر وكأنها من قبيل تنازل الإله.
والواقع أن صموئيل حاول أن يرسم عنها للشعب صورة قاتمة ولكن الشعب أصرّ عليها. ذلك
الشعب قاده الله (بيد قديرة وساعد رفيع)، عبر البحر والصحراء والحروب، كان يطلب
ملكاً صغيراً يقوده إلى الحرب! وعبثاً كشف الله عن ذاته إنه الديان العادل الذي
يقرأ أسرار القلوب ويلفظ أحكامه بإنصاف، إلا أن إسرائيل فضّل عليه خدمات سيّد من
البشر.

 

فترك
الله لإسرائيل مسؤولية اتخاذ القرار، ومن ثَمَّ لبّى له طلبه، لا بل حوّل الملكية
إلى وسيلة جديدة للنعمة بعد أن كانت نقمة على إسرائيل (1صم18: 12- 25). لأن الله
سوف يعطي لإسرائيل ملكاً حسب قلبه هو، ومن نسل داود يولد مخلص العالم.

 

ب-
ويضعنا الكتاب المقدس من جديد أمام وجهين متضادين: شاول الذي يمثّل مأساة الوجه
المرذول، وداود الرجل الذي هو بحسب قلب الله والذي عليه تتركز كل المواعيد
الماسيانية. ولكن رذل شاول بعد انتخابه يطرح في الكتاب المقدس مشكلة مأساة كبيرة
تعادل مأساة يهوذا الاسخريوطي. فكلاهما يذكّرنا بأن في الإمكان السقوط من الشركة
الإلهية بعد الإسهام بها. فبعد أن استولى روح الله على شاول عند مسحه (1صم6: 10،
9) ورافق الظفر خطواته، اجتاحته كبرياء جنونية فقبض بيديه على زمام خلاص إسرائيل،
ولما تأخر صموئيل عن تقدمة الذبائح المعهودة قبل المعركة قبل المعركة تخطاه شاول
وقدّم الذبيحة بذاته، ناقضاً بذلك شريعة الله وخارجاً عن نطاق مسؤولياته كملك لكي
ينتحل صفة الكاهن (1صم8: 13- 15). فما كان من صموئيل إلا أن هدّده بنزع الملك عنه
قائلاً: (كان الرب قد ثبّت ملكك على إسرائيل إلى الأبد أما الآن..). إن في مقدور
الإنسان أن يبطل أهداف نعمة الله نحوه.

 

ويعدو
شاول نحو مصيره فيسلّم ابنه للموت بقسم أحمق لولا أن الشعب الساخط أنقذ حياة
يوناثان (1صم15). ثم يعصى شاول الله بعفوه عن أجاج ملك عماليق، وعماليق هو العدو
الأول لإسرائيل، كما يعفو عن قطعانه بحجة أنه سيقدمها ذبيحة. فكان أن انتصب صموئيل
من جديد أمام الملك الأثيم لإبلاغه الحكم التالي بحقه: (أتُرى الرب يُسرّ
بالمحرقات والذبائح كما يُسر بالطاعة لكلامه؟ إن الطاعة لخير من الذبيحة والإصغاء
لأفضل من شحم الكباش.. وبما أنك رذلت كلام الرب فقد رذلك الرب هو أيضاً وجردك من
الملك) (1صم22: 15، 23). فاتضع شاول أمام صموئيل وتضرع، ولكن النبي أعرض عنه لأن
الله كان قد تركه. ومنذئذ أصبحت نفس شاول في يد الشيطان. فطلب إلى صموئيل طلباً
أخيراً أن لا يمتهن كرامته أمام الشعب وقال: (سأسجد للرب إلهك)، فقبل صموئيل إذ
كان لا يزال يكرّم في شخصه وظيفة الملك، ثم قتل صموئيل أجاج في حضرة الرب وانصرف.
(ولم يقع نظر صموئيل ثانية على شاول حتى يوم موته..) (1صم35: 15). فكانت النتيجة
أن شاول جُنّ وانتهى إلى الانتحار (1صم4: 31- 6).

 

ج-
ويظهر داود في الساحة وجاذبيته جاذبية أبطال الأساطير، فهو الراعي الذي من بيت لحم،
الشاب، الجميل الوجه (1صم12: 16)، الذي منذ حداثته انتزع نعاجه من شدق الأسد، ثم
قتل بمقلاعه جليات الجبار، وأضفى بقيثارته فرحاً على ساعات الغم التي كان يقضيها
الملك شاول. وكان داود أيضاً رقيقاً عطوفاً على أصدقائه (يوناثان) ورهيباً في
الوقت ذاته أمام أعدائه. ولكن عظمته الحقيقية كملك كانت خارج كل هذا. كان داود
عظيماً في تحسسه لكرامة وظيفته الملكية وتقيده بالعمل ضمن حدودها. فمن أجل ذلك لم
يرفع يداً على شاول حتى النهاية لأن شاول كان (مسيح الرب)، بالرغم من أن الملك المجنون
أرخى العنان لضغينته عليه. ولم يكتف داود بهذا بل قتل الغلام الذي تبجح بقتله شاول
(1صم24 و26 و2صم 11: 1- 16). لقد كان عالماً بأن السلطان المعطى له هو من الله
وأنه ليس سوى عبد للرب ولذلك قال: (من أنا أيها الرب الإله وما هو بيتي حتى تبلغ
بي إلى حيث أنا) (2صم 18: 7).

 

ولقد
حقق داود وحدة الشعب الإسرائيلي بعد حروب طويلة. فبعد أن أُعلن في حبرون ملكاً على
يهوذا أُعلن أيضاً بعد سبع سنوات ملكاً على كل قبائل إسرائيل (2صم 5). وعندئذ احتل
داود أورشليم وجعلها عاصمة ملكه وقد فعل ذلك حسناً لكي يداري أحاسيس الأسباط جميعها:
(فاتخذ داود حصن صهيون وهو مدينة داود). فارتبط تاريخ أورشليم منذئذ ارتباطاً
وثيقاً بسلالة داود. وعلى عرشه ومدينته ستستقر وعود الله وكل ما كان إسرائيل يرجوه.

 

وكان
أول عمل قام به داود بعد إقامته في أورشليم أنه استعاد تابوت العهد الذي كان
الفلسطينيون قد سرقوه (1صم 6: 4) وبعثوا به منفياً إلى أبيناداب في قرية يعاريم
(1صم 7 و2صم 1: 6- 5). وكان التابوت قد استبان ضيفاً خطراً على أعداء الله وما
كانت يدٌ أثيمة لتمتد إليه دون قصاص وقد جرّب ذلك عزّة فنال نصيبه (2صم 6: 6- 11).

 

ورافق
دخول التابوت إلى أورشليم فرح عظيم لأنه الإشارة المنظورة لحضور الله في وسط شعبه
(2صم 2: 6 و12: 6- 23). أما داود بالذات فقد رقص أمامه بكل قوته حتى أنه أثار
احتقار امرأته ميكال ابنة شاول. ولا غرابة في ذلك فإننا في كل مراحل حياة داود
سنجد كراهية السلالة المرذولة تحاول سدّ الطريق عليه (خذ مثال شمعي ومفيبوشت الخ).

 

ولا
شك في أن المزمور24 يشير إلى دخول تابوت العهد إلى أورشليم:

(ارفعوا
أيها الرؤساء أبوابكم

وارتفعي
أيتها الأبواب الدهرية

ليدخل
ملك المجد..).

 

هذا
المزمور يأخذه التقليد المسيحي ويجعل منه مزمور صيام الميلاد والصعود لأنه عرف فيه
بشرى مجيء المخلص.

 

ومن
الطبيعي أن يفكر داود بعد ذلك ببناء بيت يليق بالله فيقول: (أنظر! إني مقيم في قصر
من خشب الأرز بينما تابوت العهد يقيم تحت خيمة) (2صم 2: 7). ولكن الله يجيب: (أأنت
الذي تبني لي بيتاً لسكناي؟) (2صم 7، 5) وهذا يعني أنه ليس داود الذي سيبني بيتاً
للرب بل الرب هو الذي سيبني لداود بيتاً بتثبيت ملكه إلى الأبد (2صم 11: 7).

 

أما
كتاب الأخبار فيعطي تفسيراً آخر لرفض الله وهو أن الذي يبني بيتاً لله لا يمكن أن
يكون رجل حرب قد أراقت يداه الدماء، ولذلك ستبقى المهمة لابنه: (فإنه سيكون رجل
سلام.. لأن اسمه سليمان (المسالم)) (1أخبار7: 22- 10).

 

ومهما
بلغت مكانة صفات الملكية لدى داود فهو يبقى بشراً خاطئاً وهذا ما يذكّرنا به حادث
زناه الذي كاد أن يطوّح بمستقبل كل سلالته (2صم11 و12). فمن أعظم صفحات الكتاب
المقدس تلك التي ينتزع فيها ناتان من داود الصيحة: (هذا الرجل يستحق الموت)، وكان
ناتان

 

قد
لجأ إلى عدالة الملك وقصَّ له مَثَلَ الرجل الذي سرق نعجة الفقير. أما جواب ناتان
للملك فكان بكل بساطة: (إنك أنت ذلك الرجل). فلم يدافع داود عن نفسه ولكنه اعترف: (إني
فعلت الشر أمام الرب) فكان هذا الاعتراف الصادق بخطيئته سبباً لغفرانها. ولكن بقي
عليه أن يكفّر عنها، فكان الثمن أن انقسم بيته على نفسه وظهرت فيه خصومات داخلية،
وتوفّى الله ابن الزنى. ولكن الله أظهر نعمته وصفحه بإرزاق داود وبتشبع ولداً
ثانياً. (وأحب الرب سليمان فأرسل له ناتان النبي فسماه يديديا أعني حبيب الرب لأن
الرب أحبه) (2صم25: 12). وهذا الولد من بين كل أولاد داود، الذي أعطي له ولبتشبع
كعلامة للرحمة الإلهية، سيكون وريث بيته، ومسيح الرب.

 

ثم
يداهم الشدة داود مجدداً بسبب أولاده (2صم 3 وما يتبع) فيأتي ابنه أبشالوم ويطرده
عن العرش لوقت. ويبدو الله وكأنه يترك عبده (لكي يهوي في الحفرة)، لكن إيمان الملك
وتواضعه يتجليان في هذه الساعات المظلمة ففيما كان هارباً كان رجل من بيت شاول
اسمه شمعي يعيّره، فحاول خادم داود أن يقتله فأمسك داود بخادمه وقال (ما لي ولكم
يا بني صروية؟ إنه إذا كان يعيّرني فلأن الرب قال له (إلعن داود) فهل لأحد بعد أن
يسأله لماذا تفعل ذلك (2صم10: 16). ثم عند عودة الملك ظافراً عاد الخادم وطلب
مجدّداً السماح له بعقاب معيّره فأجاب داود: (أفي هذا اليوم نقتل رجلاً في
إسرائيل؟ ألعلي لا أعرف أني اليوم أملك على إسرائيل؟) (2صم16: 19- 23) فجاء كلام
داود ملوكياً حقاً.

 

ويصور
التقليد لنا الملك داود وكأنه المرنم الأعظم في إسرائيل كما صوّر لنا موسى مشرعاً
له (17). وتنقل إلينا كتب الأخبار أن داود أسس التسبيح المقدس وجعله جزءاً من
العبادة جوهرياً، ثم وكل إلى آصاف وإخوته خدمة (تسبيح أعمال الرب) (1أخبار16).

 

إن
المزامير المنسوبة إلى داود تترنم بأعمال الرب ولكنها أيضاً صيحات استغاثة في
الشدة وتهليل في الخلاص. ومما يجدر ذكره أن الاعتراف بالخطايا الوارد في المزمور
الواحد والخمسين قد نُسبَ إلى شفاه أعظم ملك في إسرائيل. والواقع أن ذلك الملك كان
يجسّد شعبه تجسيداً حياً: فلقد أخذه العلي من المراعي من وراء نعاجه (2صم 8: 7)
واختاره بفعل نعمته اختياراً حراً، ورافقه في الحروب، وأدّبه وأذلّه، ورفعه وعزّاه.

 

إننا
نرى الآن أن الوعد الذي أُعطي لابراهيم قد أصبح له في داود بدء تحقيق. هذا الوعد
تجدّد وتوضّح. ولكنه، كما حصل لابراهيم، تجاوز نطاق حياة إنسان واحد، لا بل نطاق
تاريخ شعب بكامله. فالكلمات التي تنطقها المزامير بفم داود تذكّر وتبشر بعظيم أكبر
منه: أعني ذاك الذي سيكفّر عن جميع الشعب، الذي لن يدعه الله يرى فساداً، ملك
المجد، الرب الذي يقول له العلي: (اجلس عن يميني) والذي ستُعطى كل الأمم ميراثاً له.
إن كتاب المزامير كله يُظهر لنا الملك داود وجهاً يبشّر بالمسيح الآتي. (أنظر خاصة
المزامير 2، 16، 18، 22، 24، 69، 110..الخ) وقد أدركت كنيسة العصر الرسولي ذلك
(أعم 22: 2- 36 ولو44: 24).

 

4-
العرش والهيكل

إن
سليمان، بن داود، الملك الحكيم، يكوّن في التقليد العبري ذروة مجد إسرائيل (1ملو 3
و9: 4- 10). وقد أُعطي له أن يبني الهيكل (1ملو5- 8). ولكن أُبهة ملكه حملت شيئاً
من تسرّب الوثنية، وانتهى به الأمر إلى الاستسلام للوثنية استسلاماً كاملاً
(1ملو11). ومنذ عهد ابنه مزّق الانشقاق وحدة إسرائيل وصار الملوك المنشقون منذ ذلك
الحين (ملوكاً أشراراً) كما تصفهم أسفار الملوك والأخبار. ويبرهن لنا تكرار
العبارة (وفعل الشر في عيني الرب) إن كتّاب الأسفار المقدسة كانوا يهتمون لا
للتحقيقات البشرية ولكن لأحكام الله على الملوك. لا شك أن بعض هؤلاء الملوك كانوا
عظاماً من الناحية البشرية ولكن أسباط إسرائيل العشر التي انفصلت عن عرش داود منعت
عن نفسها نِعماً ووعوداً كانت تستقر على بيت داود. وهكذا فقد ولّد الانشقاق
السياسي انشقاقاً دينياً، وها يربعام يقيم عجلين من الذهب في دان وبيت أيل لكي
يحوّل أتباعه عن هيكل أورشليم (1ملو26: 12- 33).

 

ومنذ
ذلك الحين أصبحت مملكة يهوذا تمثّل إسرائيل الحقيقي. غير أن أمانتها لم تكن بدورها
إلا نسبية. وقد يصحّ في كثير من ملوكها ما صحَّ في أحدهم إذ: (استسلم لكل الخطايا
التي ارتكبها آباؤه من قبله ولم يكن قلبه بكليته أميناً لله العلي كما كان قلب
داود أبيه. ولكن الله محبة بداود حفظ له مشعلاً في أورشليم وأعطاه ابناً خليفة له
وأبقى على أورشليم) (1ملو3: 15 و4). وخلال ثلاثمائة سنة قال الكتاب فقط عن ثلاثة
ملوك – بدون تحفظ – إنهم صنعوا ما كان حسناً في عيني الله وساروا في خطوات داود
أبيهم (1ملو11: 15 و2ملو3: 18 و2: 22).

 

وما
كان زوال مملكة إسرائيل سنة722 ومملكة يهوذا بعد ذلك التاريخ بقرن ونصف سوى عقاب
على عدم أمانة الشعب المختار للرسالة التي وُكلتْ إليه، ولن تنجو إلا (بقية). ولكن
الله يظل أميناً لوعوده وسينقل (المشعل) عبر شدائد أيام السبي ومذلات عهد الإصلاح
إلى أن يولد الوريث الحقيقي أي المسيح (المولود من نسل داود بحسب الجسد والذي
حُدِّد ابناً لله بقوةٍ حسب روح القداسة) (رو 3: 1).

 

ويرتكز
إسرائيل في وجوده كأمة وكنيسة على دعامتين الأولى عرش داود والثانية الهيكل. فكما
كان تابوت العهد أيام البداوة العلامة الحسية لحضور العلي في وسط شعبه ومكان ظهور
مجده هكذا أصبح هيكل أورشليم منذ عهد يوشيّا (18) وحركته الإصلاحية سنة621 المحل
الوحيد لخدمة الله خدمة لائقة. فكانت الذبائح المقدمة خارج الهيكل معتبرة ذبائح
وثنية. ومنذ ذلك الوقت أيضاً أصبحت إزالة الهيكل تساوي في الواقع تماماً إزالة
العبادة الحقيقية. لكن الله لا يربط إعلانه ويقيّده ببناء هذا ما سيحاول إرمياء
عبثاً أن يفهمه لشعبه.

 

وبعد
محنة السبي القاسية كان أول ما خطر في فكر المؤمنين إعادة بناء الهيكل إذ أصبح
نقطة الارتكاز لتلاقي الشعب المختار والرمز الحي لإيمانه. ثم خُرِبَ الهيكل ثانية
فأعيد بناؤه أيام هيرودس ولكن بناءَه لم يكن قد تمَّ في عهد يسوع وقضي عليه أن لا
يتم أبداً.

 

إن
الله لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيدي لذلك اتخذ هيكلاً من لحم في شخص يسوع المسيح
وأعلن عن ذاته نهائياً للبشر. فأصبح الهيكل الأول غير ذي فائدة كما أصبحت كذلك
الذبائح المقامة فيه والتي لم تكن (سوى ظلِّ الأمور المستقبلة). وقد حفظ لنا العهد
الجديد صدى كلمات يسوع متنبئاً بخراب الهيكل ورابطاً هذا الحدث بموته وقيامته،
فكان ذلك مدعاة لشكوى اليهود عليه (يو 13: 2- 25 و20: 4- 24 ومت61: 26).

 

ومنذئذ
أضحت الكنيسة هيكل الله الحقيقي التي المسيح حجر زاويتها ومبدأ وحدتها (1بط 4: 2-
6 و9: 2 و10).

 

5-
أورشليم الأرضية وأورشليم السماوية

كانت
أرض الميعاد صورة لملكوت الله في انعكاسه على التاريخ. وكان الشعب المختار لا
يدخلها أو يبقى فيها إلا بفعل نعمة الله. وما كانت معركة الإيمان فيها لتتوقف
إطلاقاً لأن تلك الأرض ليست سوى علامة ووعد بالعالم الآتي. ثم تركز رجاء المؤمنين
وإيمانهم شيئاً فشيئاً على أورشليم، مدينة السلام، لأن الهيكل كان فيها كما كان
فيها عرش داود، ولأنه قي يوم من الأيام ستتوافد جميع الشعوب إليها، (إلى جبل الرب)
(إشعياء 2: 2- 3 وزخريا 1: 8- 3 و20: 8- 23). كان العهد القديم يؤمن بأن لإسرائيل
رسالة يجب أن يقوم بها بين الشعوب ولكن حركة الفتح لا تسير من مركز الدائرة نحو
محيطها بل هي أشبه بجاذبية مغناطيس قوي. ومدينة داود هي المشعل الذي يضيء الشعوب
ويجتذبها إلى نوره. وحب أورشليم يضرم في قلب كل إسرائيلي مؤمن:

(في
الجبال المقدسة أساساتها

الرب
يحب أبواب صهيون

أكثر
من جميع مساكن يعقوب

فيكِ
قيلتْ المفاخر

يا
مدينة الله..) (مز1: 87- 3).

وأعظم
شرف تحظى به الأمم الوثنية قبولهم في المدينة المقدسة:

(عندما
يستعرض العلي شعوبه يكتب:

هذا
هو أيضاً من أبناء صهيون) (مز6: 87).

 

وسنجد
هذا الهيام بأورشليم الأرضية وهذا الإيمان بمصيرها بارزين في كتابات الأنبياء،
وهما يدفعان المؤمنين العائدين من السبي فيرفعون أسوار أورشليم. وحتى اليوم وبعد
ألفي سنة من خراب المدينة لا يزال بعض اليهود يذرفون الدمع أمام حائط المبكى. فهل
هنالك من خرائب قبّلها الناس بمثل هذه الحرارة طيلة عشرين قرناً؟

 

ولكن
المدينة الأرضية ليست هنا أيضاً سوى انعكاس لمدينة أخرى غير مصنوعة بيد، المدينة
التي ليست من أسفل بل من فوق: (انهضي يا أورشليم فيشرق بهاؤك لأن النور ظهر لكِ
وأضاء عليك مجد الرب. يغطي الليلُ المسكونة والظلامُ الشعوب لكن فيك سيسكن الرب
ويشرق مجده. وستنجذب الأمم بنورك والملوك بلمعان أشعتك) (اش1: 60- 3 و62 و66).
بالحقيقة إن كلَّ أمجاد الأرض ليست سوى أمثلة فقيرة عاجزة عن وصف جمال المدينة
الآتية (رؤ21).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى