علم الكتاب المقدس

7- معضلة الألوهية: الاحتمال المثَّلث – رب أو كاذب أو مجنون



7- معضلة الألوهية: الاحتمال المثَّلث – رب أو كاذب أو مجنون

7- معضلة الألوهية: الاحتمال المثَّلث – رب أو
كاذب أو مجنون

من هو يسوع الناصري؟

احتمالات ثلاثة هل كان كاذباً؟

هل كان مجنوناً؟

مقالات ذات صلة

هو الرب!

 

1(أ)
من هو يسوع الناصري؟

على
مدى التاريخ، كانت هناك إجابات بشرية متنوعة للسؤال: «من هو يسوع الناصري؟»، ومهما
كان الجواب فلا يستطيع أحد الهروب من حقيقة أن يسوع عاش حقاً وأن حياته أحدثت
تغييراً جذرياً في التاريخ البشري على مدى الدهر. ويوضح ذلك المؤرخ العالمي الشهير
جاروسلاف بيلكان: «بغض الطرف عما يعتقده أو يعتنقه أي شخص بشأن يسوع الناصري، فقد
كان الشخصية الأكثر حضوراً في تاريخ الثقافة الغربية على مدى ما يقرب من عشرين
قرناً. ولو كان ممكناً، باستخدام أحد المغناطيسات الفائقة أن ننتزع من ذلك التاريخ
كل أثر يحمل اسمه فقط، فماذا يتبقى منه؟ فميلاده صار رأساً للتقويم البشري، وباسمه
يبارك الملايين ويصلي الملايين باسمه» (
Pelikan, JTTC, 1).

 

ما
مدى تأثير يسوع؟ في كتاب «ماذا لو لم يولد يسوع؟»، يحاول د. چيمس كنيدي وچيري
نيوكومب الإجابة على هذا السؤال: ولد ذلك التأثير بشكل جزئي. ويبدأ بالكنيسة -جسد
المسيح- وهي التراث الأساسي الذي تركه يسوع للعالم. ثم ينتقلا إلى دراسة المتغيرات
التاريخية التي تبين تأثير الكنيسة. وهذه لمحات مما ذكروا:

 


المستشفيات التي بدأ ظهورها بشكل رئيسي في العصور الوسطى.

 


الجامعات التي بدأ ظهورها أيضاً في العصور الوسطى. فضلاً عن أن السواد الأعظم من
جامعات العالم الكبرى بدأها مسيحيون واستخدمت لأغراض مسيحية.


انتشار التعليم بين طبقة عامة الشعب.


التمثيل الحكومي كما نرى في التجربة الأمريكية على نحو خاص.


فصل السلطات السياسية.


إلغاء العبودية في العصور القديمة والحديثة.


العلم الحديث.


اكتشاف العالم الجديد على يد كولمبس.


أعمال الخير والرحمة، أخلاقيات السامري الصالح.


مبادىء أكثر سمواً للعدالة.


الارتقاء بالإنسان العادي.


احترام الحياة البشرية.


تحضُّر الكثير من الثقافات البربرية والبدائية.


تمثيل وكتابة الكثير من لغات العالم.


التطور الكبير في الفن والموسيقى والإيحاء لأعظم الأعمال الفنية.


تغيُّر حياة عدد لا يحصى من البشر وصاروا ثروة للمجتمع بسبب الإنجيل بعد أن كانوا
عبئاً عليه.


الخلاص الأبدي لعدد لا يحصى من النفوس! (
Kennedy, WIJ, 3, 4).

 

إن
أي دارس لتاريخ الكنيسة يعرف أن الكنيسة كان لها نصيب من الزعماء والطوائف التي
أساءت إلى التعاليم السامية التي أسسها يسوع وجلبت العار على اسمه. داخل العالم
المسيحي كانت هذه الطائفة أو تلك تروِّج لسياسات وممارسات على النقيض تماماً من
محبة المسيح. ومن الأمثلة المؤسفة لذلك الاضطهادات التي كانت تلقاها إحدى الطوائف
من قِبَل طائفة أخرى. وكثيراً ما كانت تتخلف الكنيسة في الوقت الذي كان البعض في
الميدان العلماني يحرز التغير المطلوب. ومن أمثلة ذلك الحقوق المدنية للأمريكيين
الأفارقة، غير أن الإيمان المسيحي كان أحد الدوافع الرئيسية لعمالقة وأبطال التحرر
من الفصل العنصري مثل إبراهام لنكولن ومارتن لوثر كنج.

 

وبالمقارنة
فإن أتباع يسوع قد خطوا خطوات واسعة وقدَّموا التضحيات للارتقاء بحياة الآخرين.
لقد ظلَّ يسوع الناصري يغيِّر حياة البشر لما يقرب من ألفي عام، وهكذا كان يعيد
كتابة حركة التاريخ البشري ومخرجاته.

 

إبان
القرن التاسع عشر قام تشارلز براد لاف الملحد المعروف بتحدي رجل مسيحي لإثبات صحة
التعاليم المسيحية. وكان هذا الرجل المسيحي، وهو ه.ج. برايس هجز، واعظاً نشطاً
يؤدي رسالته بين الفقراء في أحياء لندن الفقيرة. وعند ذلك أخبر هجز براد لاف أنه
يمكن أن يقبل التحدي بشرط واحد.

 

قال
هجز: «أقترح أن يحضر كل منا بعض الأدلة المادية على صحة معتقداته في صورة أشخاص من
الرجال والنساء الذين تخلَّصوا من حياة الخطية والعار بتأثير هذه التعاليم. وسوف
أحضر مائة من هؤلاء، وعليك أن تفعل المثل».

 

وبعد
ذلك قال هجز إنه يمكن لبراد لاف أن يأتي بخمسين شخصاً إن لم يستطع أن يحضر مائة،
ثم قال عشرين شخصاً، وأخيراً وصل العدد إلى شخص واحد. كل ما كان على براد لاف أن
يفعله هو أن يجد شخصاً واحداً صارت حياته أفضل بالإلحاد وعندئذ فإن هجز- الذي
سيحضر مائة ممن صارت حياتهم أفضل بالمسيح- سيقبل التحاور معه. فانسحب براد لاف! (
Kennedy, WIJ, 189).

 

لو
تأملنا الحقائق الأساسية في حياة يسوع، لوجدنا أن الأثر الذي أحدثه أثراً معجزياً.
ويصف أحد كتَّاب القرن التاسع عشر ذلك على هذا النحو:

 

وُلد
يسوع في قرية غير معروفة، ابناً لامرأة مزارعة. وترعرع في قرية أخرى حيث عمل في
حانوت للنجارة حتى أصبح في الثلاثين من عمره. وبعد ذلك وعلى مدى ثلاث سنوات كان
يجول مبشراً. لم يكتب كتاباً، ولم يتول منصباً ولم يكن له عائلة أو بيت. لم يتعلم
في مدرسة ولم يزر إحدى المدن الكبرى ولم يسافر أبعد من مائتي ميل عن مسقط رأسه.
ولم يفعل أي من الأشياء التي تصاحب العظمة. ولم يكن لديه من المقومات والمؤهلات
سوى نفسه.

 

كان
في الثالثة والثلاثين من عمره عندما تحَّول تيار الرأي العام ضده. فهرب عنه
أصدقاؤه، وأنكره أحدهم. فوقع في يد أعدائه واجتاز في هوان المحاكمة. وسمِّر على
صليب بين لصين.

 

وعند
موته، تقامر جلادوه على ثيابه، وعلى كل ما كان يملك على الأرض. وبعد موته وضع في
قبر تبرع به أحد الأصدقاء شفقة. ومرت من القرون تسعة عشر، وهو اليوم الشخصية
المحورية للجنس البشري.

 

إن
كل الجيوش التي تقدمت، وكل الأساطيل التي أبحرت، وكل البرلمانات التي انعقدت، وكل
الملوك الذين حكموا، مجتمعين معاً، لم يؤثروا في حياة الإنسان على الأرض كما أثرت
حياة هذا الشخص منفردة (
Kennedy,
WIJ, 7, 8
).

 

فماذا
كان يعتقد يسوع في نفسه؟ وكيف كان يراه الآخرون؟ من كان هذا الشخص الفريد؟ من هو
يسوع الناصري؟

 

لقد
كان أمراً هاماً وجوهرياً بالنسبة ليسوع ماذا يعتقد فيه الآخرون. فلم يكن هذا
الأمر يحتمل الحيادية أو التهاون في تقدير الأدلة. توصل إلى هذه الحقيقية س. س.
لويس أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة كمبردچ واللا أدري السابق في كتابه «المسيحية
الخالصة». وبعد استعراض بعض الأدلة فيما يختص بهوية يسوع كتب لويس يقول:

 

إنني
أحاول هنا أن أحول دون القول الأحمق للبعض عنه: «أنا مستعد أن أقبل يسوع كمعلم
أخلاقي عظيم، ولكنني لا أقبل ادِّعاءه بالألوهية». فهذا ما لا يجب أن نقوله. إن
الشخص الذي هو ليس أكثر من مجرد إنسان والذي يتفوه بمثل هذه الأشياء التي قالها
يسوع لا يمكن أن يكون معلماً أدبياً عظيماً. إن هذا الشخص إما أن يكون مجنوناً-
تماماً مثل شخص يقول إنه بيضة مقلية- أو أنه الشيطان نفسه. وعليك أن تحسم الاختيار:
إما أن هذا الرجل كان ولا يزال هو ابن الله أو أنه رجل مجنون أو ما هو أسوأ من ذلك.
ويمكنك أن تعتبره أحمقاً، ويمكنك أن تبصق عليه وتقتله كشيطان أو أن تسجد عند قدميه
وتدعوه رباً وإلهاً. ولكن دعنا من هذا الهراء الذي يظهر بمظهر التعطُّف عن كونه
معلماً بشرياً عظيماً. فقد أوصد هو هذا الباب أمامنا، ولم يقصده أبداً. (
Lewis, MCص 52, 40, 41)

 

يشير
ف. چ. هورت إلى أنه مهما كنا نعتقد في يسوع، فلا يمكننا الفصل بين هويته وأقواله: كانت
كلماته جزءاً لا يتجزأ منه فنطقت بما فيه، ولم تكن ذات معنى كعبارات مجردة للحقيقة
نطق بها كنبي أو وسيط للوحي الإلهي. لو انتزعت شخصيته باعتبارها الموضوع الأساسي
(وليس النهائي) من كل عبارة قالها فسنجد أنها جميعاً تتداعي (
Hort, WTL, 207).

 

ويعبر
كينيث سكوت لا توريت، المؤرخ المسيحية العظيم الراحل بجامعة يال، عن فكرة هورت
نفسها بقوله: «ليست تعاليم يسوع هي التي تجعل منه شخصية متميزة، رغم أنها كافية
لتحقق هذا الأمر، ولكن الذي يحقق ذلك المزج بين تعاليمه وشخصيته ذاتها. فلا يمكن
فصل الاثنين عن بعضهما» (
Latourette,
AHC, 44
).

 

ويضيف
أيضاً إلى هذه العبارة قوله: «يجب أن يكون واضحاً لأي قاريء واع بنصوص الإنجيل أن
يسوع لم يفصل بين شخصه وبين رسالته. فقد كان معلماً عظيماً، بل كان أكثر من ذلك.
كانت تعاليمه عن ملكوت الله وعن السلوك البشري وعن الله في غاية الأهمية، ولكننا
لا يمكن أن نفصلها عن شخصه، من وجهة نظره، دون أن نفسدها» (
Latourette, AHC, 48).

 

2(أ)
احتمالات ثلاثة

يعتقد
البعض أن يسوع هو الله لأنهم يؤمنون أن الكتاب المقدس موحى به من الله، وبما أنه
يعلِّم بأن يسوع هو الله، إذاً فلابد أنه الله- ومع أنني أنا أيضاً أؤمن أن الكتاب
المقدس كله هو كلمة الله الموحى به، إلا أنني لا أعتقد أن المرء يحتاج إلى اعتناق
هذا الرأي حتى يصل إلى أن يسوع هو الله. والسبب هو ما يلي:

 

لقد
رأينا بالفعل أن أسفار العهد الجديد صحيحة وموثوقة من الناحية التاريخية حتى أن
شخصية يسوع لا يمكن رفضها كمحض أسطورة. إذ أن نصوص الإنجيل تسجل بدقة الأشياء التي
فعلها والأماكن التي زارها والكلمات التي تفَّوه بها. كما صرَّح يسوع بأنه الله
(انظر الجزء الثاني – الفصل السادس).

 

ومن
هنا يتعين على كل إنسان أن يجيب على هذا السؤال: هل ادّعاؤه بالألوهية صحيح أم
خاطيء؟ إن هذا السؤال يستحق التفكير الجدي.

 

في
القرن الأول عندما كان للناس آراء مختلفة في شخصية يسوع، سأل يسوع تلاميذه: «وأنتم
من تقولون إني أنا؟» فأجاب بطرس قائلاً: «أنت المسيح ابن الله الحي» (متى 16: 15
و16). وليس الجميع يقبلون جواب بطرس، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتجاهل سؤال يسوع.

 

إن
تصريح يسوع بأنه الله إما أنه صحيح أو خاطىء. فلو كان قوله صحيح، فهو إذاً الرب
وعلينا أن نقبله رباً أو نرفضه. فنحن «بلا عذر».

 

ولو
كان قوله بأنه الله خاطىء، فليس هناك إلا احتمالان: إما أنه كان يعلم أنه خاطىء أو
أنه لم يعلم ذلك. وسوف نناقش كل احتمال منفرداً ثم نناقش البراهين.

 

1(ب)
هل كان كاذباً؟

لو
أن يسوع كان يعلم عندما أطلق تصريحاته أنه ليس الله، إذاً فهو كان كاذباً. ولكن لو
أنه كان كاذباً، لكان منافقاً أيضاً، لأنه كان يعلم الآخرين الأمانة مهما كانت
التكاليف، بينما يحيا هو ويعلم بكذبة كبيرة في ذات الوقت.

 

علاوة
على ذلك، فإنه كان شيطاناً، لأنه كان حريصاً على تعليم الآخرين أن يؤمنوا به من
أجل مصيرهم الأبدي. ولو أنه لم يكن قادراً على تأييد ادِّعاءاته وعلم أنها كذب،
فلابد أنه كان شريراً بما يفوق الوصف.

 

وأخيراً
فلابد أنه كان أحمقاً أيضاً، لأن ادّعاءه الألوهية هو الذي أفضى به إلى الصلب.

 


مرقس 14: 61- 64

 

«أما
هو فكان ساكتاً ولم يجب بشيء. فسأله رئيس الكهنة أيضاً وقال له أأنت المسيح ابن
المبارك؟. فقال يسوع أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً
في سحاب السماء. فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ قد سمعتم
التجاديف ما رأيكم. فالجميع حكموا عليه أنه مستوجب الموت».

 


يوحنا 19: 7

 

«أجابه
اليهود لنا ناموس وحسب ناموسنا يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله».

 

لو
كان يسوع رجلاً كاذباً مخادعاً، ومن ثم كان أحمقاً وشريراً، فكيف نفسر حقيقة أنه
ترك لنا أسمى التعاليم الأخلاقية وأروع مثال أخلاقي على الإطلاق؟ فهل يمكن لمضلل
ومخادع عظيم أن يعلِّم بمثل هذه التعاليم الأخلاقية الغيرية ويحيا مثل هذه الحياة
الأخلاقية المثالية كما فعل يسوع؟ إنها فكرة غير معقولة.

 

لقد
اعترف چون سيتوارت مل، الفيلسوف وصاحب مذهب الشك والعدو اللدود للمسيحية، بأن يسوع
كان معلماً أخلاقياً من الدرجة الأولى، ويجدر بنا الاهتمام به ومحاكاته. يقول مل:

 

في
حياة وأقوال يسوع يظهر طابع الأصالة الشخصية الممتزجة بعمق الرؤية لدى شخص يقف في
الصف الأول من صفوف العباقرة المتسامين الذين يزهو بهم جنسنا. وتمتزج هذه العبقرية
الفذة بسمات ربما كانت لأعظم مصلح أخلاقي وشهيد لهذه المهمة عاش على أرضنا، ولا
يمكن القول بأن الدين قد أخطأ الاختيار باختياره لهذا الرجل كمثال ودليل للبشرية،
كما أنه ليس من السهل، حتى على غير المؤمن، أن يعثر على تجسيد حي لحكم الفضيلة من
المجرد إلى الملموس أفضل من محاولة السير في الحياة وفقاً لم يمكن أن يرتضيه
المسيح في حياتنا (
Grounds, RFOH,
34
).

 

على
مدى التاريخ أسر يسوع المسيح قلوب وعقول الملايين الذين بذلوا ما في وسعهم لتكون
حياتهم على مثال حياته. وحتى وليم ليكي، أحد أعظم المؤرخين البريطانيين وأشهرهم
والعدو اللدود للمسيحية، قد أشار إلى ذلك في كتابه: «تاريخ الأخلاقيات الأوروبية
من أوغسطس إلى شارلمان» فيقول:

 

يذكر
للمسيحية أنها قدمت للعالم الشخصية المثالية التي ملأت على مدى ثمانية عشر قرناً
حافلة بالتغيرات قلوب البشر بالمحبة النابضة، وبرهنت على قدرتها على التأثير على
جميع العصور والأمم والأمزجة والظروف، ولم تكن فقط أسمى نموذج للفضيلة، ولكن أقوى
حافز على ممارستها.. إن هذا السجل البسيط لهذه السنوات الثلاثُ القصيرة من الحياة
النشطة (ليسوع) قد عملت على إصلاح وتهذيب البشرية أكثر من جميع خطب الفلاسفة
ونصائح المعلمين الأخلاقيين. (
Lecky,
HEMFAC, 8; Grounds, RFOH, 34
).

 

عندما
فحص المؤرخ الكنسي فيليب شاف براهين ألوهية يسوع، وخاصة في ضوء ما علَّم به يسوع
وطبيعة الحياة التي عاشها، اندهش شاف لعدم معقولية التفسيرات المقترحة للهروب من
الدلالات المنطقية لهذه البراهين. يقول شاف:

 

إن
هذه الشهادة، إن لم تكن صحيحة، فلابد أنها تجديف أو جنون. ولا يمكن لهذا الفرض أن
يصمد ولو للحظة أمام نبل يسوع وسموه الأخلاقي الذي يظهر في كل كلمة قالها وكل عمل
عمله، هذا السمو الذي عرف به الجميع في كل الدنيا. كما أن خداع الذات هو أمر خطير
كهذا، وبفكر واضح وسليم من كل الأوجه كهذا، هو أيضاً أمر غير مقبول. فكيف يمكن له
أن يكون متحمساً أو مجنوناً وهو الذي لم يفقد اتزان عقله ولو مرة، وهو الذي تغلَّب
وهو رابط الجأش على جميع المشكلات والاضطهادات كما تسطع الشمس من فوق السحب، وهو
الذي كان يجيب بحكمة فائقة على أسئلة مجرِّبيه، وهو الذي تنبأ بهدوء وثبات عن موته
على الصليب، وقيامته في اليوم الثالث، وسكب الروح القدس وتأسيس كنيسته، وخراب
أورشليم.. وهي النبؤات التي تحققت حرفياً؟ إن شخصية مثل تلك أصيلة للغاية وكاملة
للغاية ومتكاملة للغاية وإنسانية للغاية وسامية فوق كل العظمة البشرية، لا يمكن أن
تكون خداعاً أو خيالاً. ففي هذه الحالة، كما يقال، يكون المؤلف أعظم من بطل قصته.
ويحتاج الأمر إلى من هو أعظم من يسوع لكي يخترع شخصية يسوع (
Schaff, HCC, 109).

 

وفي
كتابه «شخص المسيح» يتناول شاف مرة أخرى نظرية أن يسوع كان مخادعاً. ويسوق الأدلة
لتفنيد هذا الادِّعاء:

 

تنافي
فرضية الخداع الحس الأخلاقي وكذلك الإدراك البشري العام تماماً حتى أن مجرد القول
بها ينقضها.. ولا يجرؤ أي عالم يتسم باللياقة واحترام الذات على التصريح بها. ففي
ضوء المنطق والفطرة والخبرة كيف يمكن لمحتال مخادع وأناني ومنحرف أن يخترع ويعمل
من البداية إلى النهاية في تناغم تام على تمثيل أطهر وأنبل شخصية عرفها التاريخ
تتسم بالحق والصدق إلى أقصى الحدود؟ فكيف كان يمكن له أن يتصور وينفذ بنجاح مخططاً
للخير والسمو الأخلاقي والرفعة، ويضحي بحياته من أجل هذا المخطط في مواجهة أعتى
أشكال الظلم من شعبه وعصره؟ (
Schaff,
TPOC, 94, 95
).

 

الإجابة
بالطبع أنه لم يكن محتالاً! إن شخصاً عاش كما عاش يسوع، وعلَّم كما علم يسوع، ومات
كما مات يسوع لا يمكن أن يكون كاذباً. فما هي إذاً الاحتمالات الأخرى؟

 

2(ب)
هل كان مجنوناً؟

لو
أنه من غير المعقول أن يسوع كان كاذباً، فهل كان يعتقد خطأً أنه الله؟ إذ أنه يمكن
للشخص أن يكون مخلصاً ومخطئاً في ذات الوقت.

 

ولكننا
يجب أن نتذكر أنه بالنسبة لشخص يعتقد أنه الله وخاصة في إطار ثقافي يؤمن بشدة
بعقيدة التوحيد، ثم يعلِّم الآخرين أن مصيرهم الأبدي يعتمد على إيمانهم به، فلم
يكن ذلك شطحة بسيطة من شطحات الخيال، ولكنها أفكار شخص مجنون بكل ما في الكلمة من
معنى. فهل كان يسوع المسيح كذلك؟

 

ويعرض
الفيلسوف المسيحي بيتر كريفته لهذا الاحتمال، ثم يوضح لماذا يتحتم علينا رفضه:

 

إن
معيار الاعتلال العقلي لأي شخص هو مدى اتساع الفجوة بين ما يعتقد أنه يكون وما هو
عليه بالفعل. فإن كنت أنا أعتقد أنني أعظم فيلسوف في أمريكا، فإنني فقط أحمق متعجرف،
وإن كنت أعتقد أنني نابليون، وان كنت أعتقد أنني فراشة، فإنني أكون قد جاوزت حد
العقل، وإن كنت أعتقد أنني الله فإنني بذلك أكون قد جاوزت المدى في الجنون أكثر من
كل ما سبق، لأن الفجوة بين أي شيء محدود والله غير المحدود أكبر اتساعاً من الفجوة
بين أي شيئين محدودين، وحتى بين الإنسان والفراشة.

 

فلماذا
لم يكن يسوع كاذبا أو مجنوناً؟.. لا يمكن لأي شخص قرأ الإنجيل بأمانة وجدية أن
يفكر في هذا الاحتمال. إن حكمة وفطنة وجاذبية يسوع تتبدى من الإنجيل بقوة فائقة
لأي شخص إلا للقاريء المتعنت المتجنِّي.. قارن يسوع مع الكذبة.. أو المخبولين
مثلما كان نيتشه عند موته. هناك ثلاث صفات خاصة يتمتع بها يسوع بوفرة لا يمكن أن
تتوافر للكذبة والمجانين:

 

(1)
حكمته العملية وقدرته على قراءة قلوب البشر. (2) محبته العميقة الجذابة وعطاؤه
الرؤوم وقدرته على اجتذاب البشر إليه وجعْلهم يشعرون بالراحة والغفران وسلطانه
«ليس كالكتبة». (3) قدرته على إثارة الدهشة في نفوس الآخرين وقدرته الخلاقة
وأعماله التي لا يمكن التنبؤ بها. إن الكذَبة والمجانين يمكن التنبؤ بأفعالهم
وسلوكياتهم! ليس أحد يعرف كلا من الإنجيل والطبع البشري، يمكن أن يأخذ على محمل
الجد احتمال أن يسوع كان كاذباً أو مجنوناً، أو إنساناً شريراً. (
Kreeft, FOTF, 60, 61).

 

وقد
سجل لنا نابليون بونابرت أيضاً ما يلي:

 

إنني
أعرف البشر وأقول لكم إن يسوع المسيح ليس إنساناً. إن الرؤية السطحية ترى تشابهاً
بين المسيح ومؤسسي الإمبراطوريات وآلهة الديانات الأخرى، إلا أن هذا التشابه غير
موجود. إذ بين المسيحية وأي ديانة أخرى مسافة لا نهائية.. كل شيء في المسيح يدهشني.
فروحه ترهبني وإرادته تذهلني. ولا مجال للمقارنة بينه وبين أي شخص آخر في العالم.
فهو حقاً كائن مستقل بذاته. فأفكاره ومشاعره والحق الذي أعلنه وأسلوبه في الإقناع
لا يمكن تفسيرها بالمعايير البشرية أو الطبيعية.. كلما اقتربت منه، كلما تبينت
أكثر أن كل شيء فيه أعلى مني، وكل شيء فيه يظل عظيماً عظمة فائقة. فدياناته إعلان
فكر غير بشري يقيناً.. ولا يمكن للمرء أن يجد إلا فيه وحده المثال الذي يحتذى في
الحياة.. وعبثاً أفتش في التاريخ لأجد نظيراً ليسوع المسيح أو أي شيء يمكن أن يرقى
إلى مستوى الإنجيل. فلا التاريخ ولا البشرية ولا العصور ولا الطبيعة تقدم لي شيئاً
يمكنني أن أقارنه به أو أفسِّره. فكل شيء فيه فائق للطبيعة. (
Grounds, ROH, 37)

 

أما
وليم شاننج فرغم كونه رافضاً لعقيدة التثليث ومؤمناً بالفلسفة الإنسانية. فقد رفض
نظرية الجنون كتفسير غير مقبول لشخصية يسوع:

 

إن
آخر ما يمكن أن نصف به يسوع هو الحماس الزائد وخداع الذات. فأين نجد آثار ذلك في
تاريخه؟ هل نعرف ذلك من السلطان الهاديء لتعاليمه؟ أو في الروح الخيرية العملية
الرصينة لتعاليمه، أو في بساطته اللغوية غير المتكلفة التي أعلن بها عن قدراته
الفائقة وحقائق الدين السامية، أو في حسه المميز ودرايته بالطبيعة البشرية التي
تظهر دائماً في تقديره ومعاملته مع طبقات البشر المختلفة؟ هل نكتشف هذا الحماس في
حقيقة أنه بينما كان يتحدث عن سلطانه في العالم الآتي ويوجِّه فكر أتباعه إلى
السماء، لم ينطلق ولو مرة واحدة بخياله أو يثير خيال التلاميذ بصور متألقة أو
أوصاف دقيقة للأشياء التي لا ترى؟ الحقيقة هي أن شخصية يسوع المتميزة لم تكن كذلك
إلا من خلال هدوئه ورباطة جأشه. فهذه السمة تتخلل جميع ملامح تفوقه، فكم كان
هادئاً في تقواه! اذكر لي، إذ كنت تستطيع، ولو حالة واحدة عبَّر فيها المسيح بعنف
عن مشاعره الدينية. وهل تعكس الصلاة الربانية حماسة عاطفية؟.. وخيريته أيضاً، رغم
عمقها وتوقدها، كانت هادئة رصينة ولم يفقد كمالك نفسه أبداً في تعاطفه مع الآخرين،
ولم يكن أبداً مندفعاً في أعمال الخير الحماسية المتسرعة، ولكنه كان يفعل الخير
بهدوء وثبات كما في أعمال العناية الإلهية (
Schaff, TPOC, 98, 99).

 

ويقول
فيليب شاف المؤرخ المعروف: «هل يمكن لهذا العقل- الصافي كالسماء، المنعش كنسمات
الجبل، الحاد كالسيف الماضي، القوي الصحيح المستعد دوماً والمسيطر دوماً- أن يكون
عرضة للتطرف أو الخداع وهو يعلن شخصيته ورسالته؟ إن مثل هذا الظن ليتنافى تماماً
مع العقل!» (
Schaff, TPOC, 97, 98).

 

والحقيقة
هي أن يسوع لم يكن إنساناً سوياً فحسب، ولكن التعاليم التي أعطاها تدلنا على السبيل
الصحيح لسلام العقل والقلب. وتروق لي الكيفية التي يعبر بها ج. ت. فيشر طبيب
الأمراض النفسية عن ذلك:

 

لو
أنك جمعت كل ما كتبه أفضل علماء النفس والأطباء النفسيين في مجال الصحة العقلية
-لو أنك جمعتها وقمت بتنقيتها وأزلت ما بها من شوائب القول- لو أنك جمعت قمحها
وتركت زوانها، ولو أن هذه المعرفة العلمية الخالصة الصافية عبر عنها أرفع شعراء
العصر منزلة، فسوف تحصل على بعض الأجزاء المشوهة وغير المكتملة للموعظة على الجبل.
ولن تقوى على الصمود إذا ما قورنت بها. لما يقرب من ألفي عام كان يقبع بين يدي
العالم المسيحي الجواب الشافي لأشواق البشرية التي لا تهدأ ولا تستكين. فهنا
السبيل للحياة البشرية الناجحة التي ملؤها التفاؤل والصحة العقلية والرضا. (
Fisher, AFBM, 273).

 

ليس
لمجنون أن يكون مصدراً لمثل هذه البصيرة النفسية الفعالة والواعية. إن س. س. لويس
على حق عندما يقول إن التفسير المسيحي لشخص المسيح هو وحده الصحيح: «إن الصعوبة
التاريخية في تقديم تفسير لحياة وتعاليم وتأثير يسوع هي صعوبة كبيرة للغاية، كما
أنها تتسم بالضعف أمام التفسير المسيحي. إذ أن التفاوت بين عمق وصحة وحكمة تعاليمه
الأخلاقية وبين جنون العظمة المفرط الذي يحاول أن يثبت تعاليمه اللاهوتية، فإذا ما
لم يكن هو الله بالفعل لم يكن تفسيره مرضياً أبداً. ومن ثم تتوالى الفرضيات غير
المسيحية الواحدة تلو الأخرى حيث تزخر بعلامات الاستفهام والدهشة الحائرة (
Lewis, MAPS, 113).

 

3(ب)
هو الرب!

إن
لم يكن يسوع الناصري كاذباً أو مجنوناً، فلابد أنه الرب.


«فأجاب سمعان بطرس وقال أنت هوالمسيح ابن الله الحي» (متى 16: 16).


وفي بيت عنيا اعترفت مرثا أخت لعازر قائلة: «نعم يا سيد. أنا قد آمنت أنك أنت
المسيح ابن الله الآتي إلى العالم» (يوحنا 11: 27).


قال توما بعد أن رأى يسوع المقام من بين الأموات واقفاً أمامه: «ربي وإلهي» (يوحنا
20: 28).


قال مرقس في افتتاحية إنجيله: «بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله» (مرقس 1: 1).


قال كاتب العبرانيين: «وهو (يسوع) بهاء مجده (مجد الله) ورسم جوهره وحامل كل
الأشياء بكلمة قدرته» (عبرانيين 1: 3).

 

ظهر
على مسرح التاريخ من ادَّعوا أنهم آلهة ومخلصون ولكنهم مضوا واختفوا، أما يسوع فلا
يزال باقياً ظاهراً فوق جميعهم. ظل أرنولد ج. توينبي المؤرخ المعاصر يكتب صفحات
وصفحات في مآثر من أطلق عليهم التاريخ اسم «مخلِّصي المجتمع»- وهم من حاولوا
الحيلولة دون وقوع الكوارث الاجتماعية أو التفسخ الثقافي عن طريق الرجوع إلى
الماضي أو توجيه البشر إلى المستقبل أو شن الحروب أو التفاوض من أجل السلام أو
ادّعاء الحكمة أو الألوهية، وبعد أن تناول هؤلاء الأشخاص في حوالي ثمانين صفحة في
المجلد السادس من رائعته «دراسة التاريخ»، يصل توينبي أخيراً إلى يسوع المسيح ويجد
أنه لا وجه للمقارنة:

 

عندما
بدأنا أولاً بحثنا وجدنا أنفسنا نتحرك وسط حشد عظيم من المتنافسين، ولكن لما أخذنا
نشق طريقنا بدأ المتسابقون يتراجعون مجموعة تلو الأخرى على طول السباق. وأول من
خرج منهم كان حاملو السلاح ثم دعاة الأصالة ثم التقدميون ثم الفلاسفة حتى لم يتبق
أحد من البشر في السباق.. وفي الجولة الأخيرة تضاءل حشد المخلصين المزعومين
المتبايني الألوان ليقتصر على مجموعة واحدة هي مجموعة الآلهة. والمنافسة الآن في
القدرة على الاحتمال وطول النفس بين هذه المجموعة الأخيرة من العدائين، رغم قدرتهم
التي تفوق قدرة البشر. وفي اختبار الموت النهائي لم يجرؤ على الاستمرار سوى مجموعة
صغيرة من الآلهة المخلصين المزعومين لعبور النهر الجليدي. وها نحن نقف هنا ونثبِّت
أنظارنا على الضفة الأخرى، شخص واحد يصعد من فيض الحياة ويملأ الأفق على مرمى
البصر. هوذا المخلص، «ومسرة الرب بيده تنجح من تعب نفسه يرى ويشبع» (
Toynbee, SOH, 278).

 

يحتاج
جوابك على سؤال «من هو المسيح؟» إلى ذهن قوي متيقظ. إنك لا تقدر أن تقول ببساطة
إنه معلِّم عظيم وكفى، فهذا غير ممكن. إما أن يكون مضللاً أو مجنوناً أو إلهاً.
ويجب أن تختار. وكما قال الرسول يوحنا: « أما هذه فكتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح
ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه» (يوحنا 20: 31).

 

إن
البرهان لا يدحض، على أن يسوع هو الله. على أن البعض يرفضون البرهان الواضح بسبب
علل أخلاقية. ولكن علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا لنقرر إن كان يسوع كاذباً أو
مجنوناً أو رباً وإلهاً.

 

(1)
كيف كان يتم التعامل مع الكذبة في القرن الأول؟ اقرأ النصوص التي تتحدث عن بعلزبول
في الإنجيل. فهذه كانت طريقتهم في التعامل مع الكذبة والمجانين.

 

(2)
ما هي البراهين المؤيدة لذلك؟ انظر المرجعين التاليين:

 

Keener, The IVP Bible Background Commentary: New
Testament, (Intervarsity, 1993).

Ferguson, Everett, Backgrounds of Christianity.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى