علم الكتاب المقدس

موقف الكنيسة المسيحية فى القدس من المسيحية الصهيونية



موقف الكنيسة المسيحية فى القدس من المسيحية الصهيونية

موقف
الكنيسة المسيحية فى القدس من المسيحية الصهيونية

و
فى هذا الجزأ سأضع بين ايديكم محاضرة للأب مارون اللحام القيت فى مركز اللقاء،
مؤتمر اللاهوت والكنيسة المحلية في الأرض المقدس، الدورة العاشرة، بيت لحم 27-29
حزيران 2003

ندوة
بعنوان: موقف الكنيسة الفلسطينية من المسيحية الصهيونية

1.المسيحية
الصهيونية: عرض سريع لنشأتها ولأهم عقائدها.

2.موقف
الكنائس المسيحية العام من المسيحية الصهيونية.

3.
موقف الكنيسة الفلسطينية من المسيحية الصهيونية.

 

1.
المسيحية الصهيونية: عرض سريع لنشأتها ولأهمّ عقائدها.

أول
ما يتبادر الى الذهن هو أن المسيحية الصهيونية وليدة الأحداث الأخيرة، لا سيما منذ
قيام دولة أسرائيل عام 1948. لا شك أن عام 1948 أحدث تغييرا نوعيًا في مواقف
المسيحية الصهيونية وفي نشاطتها، لا سيما في فلسطين، لكن جذورها تعود الى أبعد من
ذلك بكثير.

 

المبدأ
الدينيّ العام الذي عليه تقوم المسيحية الصهيونية هو ما يلي: سيعود المسيح مرة
ثانية، ولهذه العودة شروط لا بدّ من توافرها. فالمسيح لن يعود الاّ الى مجتمع
يهودي، ولن يظهر الاّ في صهيون (القدس). لذلك لا بدّ من تجميع اليهود في فلسطين
حتى يظهر المسيح بينهم، وهكذا نعجّل في نهاية العالم”.

 

هذا
المبدأ (عودة المسيح ثانية – مع ما يرافقه – المسيح الدجال، حكم الألف سنة، معركة
هرمجدّون النهائية..) كان من الأمور التي شغلت بال المفكّرين المسيحيين منذ القرون
الأولى (العقيدة التدبيرية)، وله أيضًا بعض التلميحات في العقيدة الأسلامية (عودة
المسيح للدينونة..). وإن عدنا الى جذور المسيحية، نرى أن يسوع المسيح وبولس الرسول
كانا يقاومان النزعات الرامية الى التهويد والتعصّب المتطرّف. كما ساد في القرن
الثاني الميلادي جدٌل في الكنيسة (الهرطقة المونتانية، عام 170-190) يسير في نفس
الخط الانتقائي تحسّبًا لمجئ المسيح القريب. وكان ترتيليانوس من المؤمنين بهذا
الخطّ من التفكير، أقلَّه في نهاية حياته. لكن معظم أساقفة الكنيسة في القرون
الأول رفضوا هذا التفكير واعتبروه هرطقة، وأدانوه (200م).

 

عاد
نمط التفكير هذا الى الظهور في القرون الوسطى عند بعض المفكّرين اليهود، ونما بعد
طرد اليهود من أسبانيا (1492)، وكان بعض هؤلاء المفكّرين قريبين من واضعي التفكير
الكتابي زمن الإصلاح، بحيث ساهموا في التشديد على أهمية دراسة العهد القديم من
الكتاب المقدّس.

 

ثم
أتت حركة الإصلاح، وتبنّت مبدأ الكتاب المقدس كمرجع أساسي (ووحيد) في الايمان
والعمل المسيحي
Sola Scriptura. وفي غمرة هذا الترويج للتفسيرات الكتابية واللامركزية في الكنيسة،
دخلت ضلالات وكأنها تعاليم مسيحية مقبولة. كانت بريطانيا من أكثر الدّاعين الى
التفسير الحرفي للكتاب المقدس، واعتبرت نفسها في فترة ما “اسرائيل
الجديدة”. وفي سنة 1615 ناشد أحد أعضاء البرلمان البريطاني الحكومة دعم فكرة
عودة اليهود الى فلسطين. نحن هنا قبل وعد بلفور بثلاثة قرون. وخلال هذه القرون
الثلاثة، تطوّرت الفكرة عند القُسس في بريطانيا، الى أن صدر الوعد المشهور عام
1917، ويقال أن اللورد بلفور كان مسيحيا صهونيًا.

 

نفس
الخط ساد في امريكا، لا سيما في القرن الثامن عشر وما تبعه. وكان التركيز على
أمرين: المجئ الثاني للمسيح والاهتداء الشخصي. ونحن نعلم ان هاجس مجئ المسيح
الثاني سكن الكثيرين من مسيحيي امريكا في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وطالما
سمعنا عن مؤمنين باعوا ممتلكاتهم وجلسوا ينتظرون مجئ المسيح اعتمادا على حسابات
مأخوذة من أرقام وردت في العهد القديم أو في سفر الرؤيا.

 

لم
تشكّل المسيحية الصهيونية حركة او نظاما لاهوتيا واضح المعالم حتى النصف الثاني من
القرن العشرين. بيد أن قيام دولة اسرائيل عام 1948 كان بالنسبة لمعظم الانجيليين
الأصوليين بمثابة تأكيد على صحة نظرية “ما قبل الألفية” وعلى قرب عودة
يسوع الثانية. وكانت حرب 67 وما تبعها من استيلاء اسرائيل على القدس دليلا آخر على
اقتراب الأزمنة الأخيرة. فقد كتب أحدهم: “لأول مرة منذ أكثر من ألفي عام تصبح
اورشليم بأكملها تحت سيطرة اليهود، مما يسبّب لدارس للكتاب المقدس نشوة وايمانا
متجددا بدقّة وصحة هذا الكتاب”.

 

ثم
تتابعت الأحداث، فترأس الليكود حكومةَ اسرائيل (1977) بناء على برنامج سياسي
صهيوني استُغلّت فيه أفكار توراتية. وانتُخب جيمي كارتر (1976) واعتمد في انتخابه
على الأصوات الانجيلية والأصولية. وفي الثمانينيات انتُخب رونالد ريجان رئيسًا
للولايات المتحدة الأمريكية، وكان بعض وزرائه يؤمنون بفكرة ما قبل الألفية

 

ثم
كان افتتاح السفارة المسيحية الدولية في القدس في 30/9/1980، والتي قدّمت نفسها
على أنها مؤسّسة مسيحية صهيونية ولها رؤية عالمية فيما يتعلّق بتطور هذه العقيدة
(ما قبل الألفية). وتعتمد السفارة المسيحية الدولية على طريقة مسيحية أصولية لفهم
الكتاب المقدس، وترى في اسرائيل تحقيقًا لنبوّة كتابية وعودة شعب الله المختار الى
أرض الميعاد. اما اهتماماتها، فقد حدّدتها السفارة نفسها في النقاط التالية:

•الاهتمام
بالشعب اليهودي وخاصة بدولة اسرائيل.

•حق
اسرائيل في العيش بأمن وسلام.

•الاهتمام
بالقدس من جميع نواحيها لتصبح درّة في عين الدنيا وبشرى بعهد جديد للبشرية جمعاء.

•ربط
كنيسة المسيح المنتشرة في انحاء العالم بإسرائيل ربطا حقيقيّا.

•الاهتمام
بمجئ الرب والإعداد له.

من
الواضح ان تعاونا استراتيجيا تأسس بين السفارة والقيادة السياسية الإسرائيلية لا
مجال هنا لذكر معالمه. وفي سنة 1985 نظّمت السفارة المؤتمر المسيحي الصهيوني
الأوّل في مدينة بازل في سويسرا، في نفس القاعة التي عقد فيها ثيودور هرتسل
المؤتمر الصهيوني الأوّل عام 1897. أمّا المؤتمر العالمي الثاني، فقد عُقد في
القدس عام 1988 في الذكرى الأربعين لتأسيس دولة اسرائيل.

 

بعد
هذا السرد التاريخي السريع، فيما يلي سردٌ آخر سريع لأهم ملامح
“العقيدة” التي تنادي بها المسيحية الصهيونية. وهنا يجب القول ان عقيدة
المسيحية الصهيونيّة هي أساسًا عقيدة دينية، وما الوجه السياسي، ولو أنه قويّ
وبارز، لهذه الحركة، الاّ تبعات للعقيدة الدينية المذكورة.

 

العقيدة
الدينية

-تؤمن
المسيحية الصهيونية بحتمية رجوع المسيح الثاني، وبحكمه الأرض مدة ألف سنة. وهنالك
فترة اسمها ما قبل الألفية، تقوم على تهيئة الجو لمجئ المسيح. وتهيئة الجو تعني
اعادة جميع اليهود الى فلسطين، لأن المسيح سيعود في القدس وسيظهر للشعب اليهودي.

-تؤكّد
على القراءة الحرفية للكتاب المقدس، وعلى أن ما يقوله الكتاب المقدس يجب أن يطبقه
المؤمن حرفيًّا بالتمام والكمال، مع الايمان أن ما جاء في الكتاب المقدس هو ما
يحدث بجميع تفاصيله في التاريخ، أو ما سيحدث في المستقبل.

-تطلب
من المسيحيين الذين يحبون الكتاب المقدس أن ينظروا الى العهد القديم على أنه
التاريخ الوحيد الصحيح لمنطقة الشرق الأوسط.

 

أساس
العقيدة المسيحية الصيهونية مبنيٌّ أذًا على عودة المسيح. وما التركيز على مركزية
الشعب اليهودي والاهتمام بعودته الى فلسطين، الاّ وسيلة ضرورية للوصول الى هدف
عودة المسيح وحكمه الألفيّ. وبعد ذلك لا يبقى لليهود الاّ خيارين: الايمان بالمسيح
او الموت. إنه لاهوتٌ مرعب!

 

لهذه
العقيدة المتشدّدة والحرفية تبعاتٌ سياسية تخص الأرض والعشب والعلاقة بين الشعب
والأرض. وهذه التبعات هي التي تظهر على السطح الآن وتشكّل الوجه الخارجي للمسيحية
الصهيونية. من هذه التبعات:

 

-تؤمن
المسيحية الصهيونية أن الله دعاها “لدعم ومساندة اسرائيل دون قيد أو
شرط”. “ان كل مَن يؤمن ايمانا حقيقيا بالكتاب المقدس يستطيع أن يرى
الارتباط الذي لا يمكن فصمُ عراه بين المسيحية ودولة اسرائيل الحديثة. كما ان
إعادة تكوين دولة إسرائيل عام 1948 انما هي بالنسبة لكل مسيحي مؤمن بالكتاب المقدس
تحقيق لنبوءة وردت في كل من العهدين القديم والجديد”.

-تناشد
الشعوب والدول بإنشاء سفاراتها في القدس، للتأكيد على الرابطة القديمة بين الشعب
اليهودي الخالد وبين مدينته التي منحه الله اياها، واعتبار منطقتي يهوذا والسامرة
جزءا من أرض اسرائيل.

-تؤمن
أن الله أحبّ شعبه وأنه أناط به مسئولية وحق امتلاك أرض الميعاد وإعمارها، بل وحكم
سكانها بموجب كلمته الإلهية.

 

وفي
ختام الكلام عن التبعات السياسية لهذا العقيدة، وتغلغلها في السياسة الأمريكية في
المنطقة، يكفي أن نذكر بعض التعابير المشتركة بين المسيحية الصهيونية وخطابات
الرئيس الأمريكي الحالي: من هذه التعابير: محور الشر (في العقيدة المسيحية
الصهيونية محور الشر هو كل من هم ضد اسرائيل)، والعدالة المطلقة (في العقيدة
المسيحية الصهيونية العدالة المطلقة ستتحقق فقط بعودة المسيح الثانية). يقول محمّد
السمّاك أن مسئولا من المسيحية الصهيونية كان يحضر اجتماعات مجلس الأمن القومي
الأمريكي حتى يضمن أن القرارات التي تصدر تكون متوافقة مع معتقدات المسيحية
الصهونية.

 

2.موقف
الكنائس المسيحية العام من المسيحية الصهيونية.

 

لا
تستطيع الكنائس المسيحية أن لا تأخذ موقفًا واضحًا من المسيحية الصهيونية. فالأمر
يختص بعقائد مسيحية تتفق عليها جميع الكنائس المسيحية الرسمية، بعض النظر عن
التبعات السياسية التي تكلمنا عنها. فجميع الكنائس المسيحية (أي العائلات الثلاثة
الكبيرة – الكاثوليكية والأورثذكسية والبروتستانية –) لها مواقف واحدة من مبدأ
عودة المسيح الثانية في نهاية الأزمنة، ومن التفسير الحرفي للكتاب المقدس ومن
العلاقة الجوهرية التي تجمع بين العهد القديم والجديد، وإن وُجدت بعض التفاصيل
المُختلف عليها في النقطة الأخيرة.

 

من
هنا أتت مواقف جميع الكنائس متّفقة فينا بينها على رفض العقيدة المسيحية الصهيونية،
وعدم الاعتراف بهذه الجماعة ككنيسة او حتى كتجمّع كنسي. وفيما يلي بعض المواقف
الرسمية:

 

-يقول
مجلس كنائس الشرق الأوسط (عام 1985): “إننا ندين استغلال التوراة واستثمار
المشاعر الدينيّة في محاولة لإضفاء صبغة قدسية على إنشاء اسرائيل ولدمغ سياستها
بدمغة شرعية. إن هؤلاء (المسيحيون الصهاينة) لا يعترفون لكنائس الشرق الأوسط
بتاريخها وبشهادتها وبرسالتها الخاصة، ويحاولون زرع رؤية لاهوتية غريبة عن
ثقافتنا”.

-“نحن
لا نوافق على ما تقوم به هذه الجماعة. نحن نقول ان هنالك دعم مسيحي لهذه الصهيونية،
المبنية على هذا الأساس اللاهوتي، ونحن طبعا ضد هذه المعتقدات.. خاصة وأنها تقسم
التاريخ الى سبع حقبات تاريخية، وتفترض أن هنالك فصلٌ بين اسرائيل الذي تعتبره
الشعب اليهودي وبين الكنيسة التي هي شعب الله في السماء، وتسعى الى تفسير الكتاب
المقدس تفسيرا حرفيا. هذه الجماعة تؤمن أن الأرض هي ملك الشعب اليهودي للأبد، وأن
النبوآت المتعلّقة برجوع اليهود في الشتات الآن قد تحقّقت ثانيا. لذلك تريد أن
تأتي الى معركة هرمجدون.. من هذا المنطلق نحن نسعى.. الى مواجهة هذه
المجموعات” (د. رياض جرجوعي، الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط).

-ان
مجلس الكنائس الوطني الأمريكي ومجلس الكنائس المسيحي في أمريكا في نيويورك، مع
مجلس الكنائس العالمي في جينيف ندّدت بتصريحات (فولويل) و(بات روبرتسون)، وهما من
أشهر ممثلي المسيحية الصهيونية. ثم ان الكنائس الكنائس الكاثوليكية والكنائس
الأورثذكسية والكنائس الانجيلية الموجودة في الولايات المتحدة لا تتعامل مع
المسيحية الصهوينية وتقاطعها.

-“الكنيسة
المشيخية في أمريكا (والتي هي من الكنائس الانجيلية التي انسلخت المسيحية الصهونية
عن أحد فروعها) ترفض تفكير المسيحية الصهونية رفضًا كاملا في قيادتها وفي شعبها..
وقد خاطبنا هذه الكنائس التي تستمع الى جيري فولويل والى أمثاله، وقلنا لهم اننا
لا نستقبل قياداتهم او زوّارهم ان أتوا الى بلادنا.. ليس هذا الفكر منّا، بل هو
دخيل علينا”.

 

3.موقف
الكنيسة الفلسطينية من المسيحية الصهيونية

 

هنا
بيت القصيد. فالكنيسة الفلسطينية لها كلمتها ككنيسة (لأن الأمر يختص بالعقيدة
أوّلا) وكفلسطينية (لأنّ معظم التّبعات السياسية تهمّ أرض فلسطين ولها انعكاسات
دينية ووطنية وسياسية على الصراع العربي الإسرائيلي).

الموقف
الأكبر والشامل هو البيان الذي أصدره رؤساء الكنائس المسيحية في القدس: “ان
الهيئة التي تدعو نفسها “السفارة المسيحية الدولية” لا تمثّل كنائسنا في
هذه البلاد، كما أنها لا تستطيع أن تمثّل غالبية المؤمنين في العالم. إننا لا
نعترف بهذه السفارة ولا بنشاطاتها ولا بمؤتمراتها. وبما أن تعاليم السيد المسيح
وهدى الانجيل ونوره انطلقت من هذه الديار نفسها حيث نمثّل نحن ديانتنا المقدسة
وحيث نجتهد في تكريم المقدّسات والمحافظة عليها، فإننا لسنا بحاجة الى أناس
يأتوننا من الخارج ليتحدّثوا او يتصرّفوا باسمنا، خصوصًا وأنهم غير واعين لواقعنا.
كما نرفض رفضا باتّا أي تفسير سياسي للكتب المقدّسة.

 

كما
عبّر الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط عن موقف مماثل في رسالة وجّهها الى
الكنائس بتاريخ 7/3/1988. جاء في الرسالة: “في الشرق الأوسط حيث يلعب الدين
دورا هامّا ومتناميًا في تحديد العلاقات المستقبلية بين الشعوب والدول، لا يوجد أي
مجال لأيديولوجيات مسيحية صهيونية متحيّزة وتشكّل تشويها خطيرًا للإيمان المسيحي.
بل يتوجّب على المسيحيين في جميع أنحاء العالم رفض كافة أفكار التفوّق لشعب معيّن
على غيره من الشعوب ضمن خليقة الله..

 

وفي
مقابلة قناة الجزيرة “بلا حدود” في كانون أول 2002، قال الأب عطا الله
حنا فيما يُمكن اعتباره موقفا مسيحيا محليّا عامّا: “نحن في كنيستنا
الأورثذكسية وبشكل عام في الكنيسة المشرقية، لا نعترف بشئ اسمه الكنيسة المسيحية
الصهيونية، ذلك لأن هنالك تناقضا كبيرا بين ما تعلّمنا إيّاه المسيحية من قيم
روحية وإنسانية، وما تقوله الصهيونية من احتلال وممارسات على الأرض.. نحن نعتقد أن
هذه الجماعات هي أدوات مسخّرة في خدمة المشروع الصهيوني.. لاختراق المسيحية
ولإبراز المسيحية وكأنها حليف للصهيونية.. ونحن نؤكّد بأن ما تدّعيه هذه الجماعات
من تبريرات ومن دعم للصهيونية لا علاقة لها بالمسيحية ولا علاقة لها بالإنجيل ولا
علاقة لها أصلاً بالكتاب المقدس.. لم تنجح المسيحية الصهيونية في اختراق الكنيسة
في فلسطين لأن هنالك موقف واضح من الكنائس الأورثذكسية ومن الكنائس الكاثوليكية
ومن الكنائس الانجيلية العربية”.

 

هذا
على مستوى المواقف والتصريحات. بيد ان الموقف الأهم هو الموقف الفكري الذي يعالج
الشرّ من أصله. أي الموقف الذي يفنّد الزعم بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس والحق
السياسي على الأرض باسم الدين. وهنا يجب تثبيت المبدأ النظري أوّلا قبل الوصول الى
التطبيق.

 

يقول
المبدأ النظري في تحديد أية عقيدة او موقف لاهوتي بالمعنى الصحيح أن التفكير
اللاهوتي يجب ان يدور، من ألِفِهِ الى يائه، في فلك حرّ بحرية الروح القدس. هذا
يعني أن أي موقف لاهوتي مرفوض مبدئيا، ان كان هذا المبدأ متأثّرًا في تكوينه
برواسب نفسيّة او تاريخية او سياسية او أيديولوجية او شخصية، ماضية كانت أم حاضرة
أم مستقبَله. وبما أن حركة المسيحية الصهيونية ولدت في الغرب، فالخلل القاتل هو أن
هذا التفكير سجين عقل باطني متأثر بأحداث معينة في الماضي البعيد والقريب. ومن
مكوّنات هذا العقل الباطني الغربي هو أن إسرائيل دولة خاصة لشعب خاص في تاريخ خاص
وعلى أرض خاصة. واللاهوت المؤسس على هذه المسلّمات يصل حتما الى القول ان دولة
اسرائيل تنبأت بها كلمة الله في الكتاب المقدس، وأن هذه الدولة هي تعبير عن إرادة
الله، وما على غير اليهود المتواجدين في الأرض سوى القبول بالأمر الواقع او النزوح.
منا هنا نقول أنه عندما يبرِّر أيّ لاهوت، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مشروعًا
سياسيًا او أيديولوجية سياسيّة، يمكن أن ننتظر الكوارث.

 

ونأتي
الى التطبيق، وهو واضحٌ وضوح الشمس. أسْتلهمُ هذه الفقرة من مداخلتي من رسالة
البطريرك ميشيل صباح “قراءة الكتاب المقدس اليوم في أرض الكتاب المقدّس”
(تشرين ثاني 1993). فيما يلي أهم نقاط الرسالة التي تتناول عقيدة المسيحية
الصهيونية حول تفسير الكتاب المقدس والحق في امتلاك الأرض والعلاقة بين العقيدة
الدينية والحق السياسي.

 

تفسير
كلمة الله

•من
أراد أن يكون أمينا لإيمانه ولكلمة الله، يجب أن يحرّر نفسه من جميع الضغوط
الواعية واللاواعية الناجمة عن الانتماءات الحضارية وعن المواقف السياسية الراهنة.

•كلمة
الله يجب ان تكون النور والدليل ولا يجوز أن تكون أداة صراع مع أو على أي من
الطرفين.

•لا
يجوز أن تكون كلمة الله أداة صراع الاّ في سبيل الحقيقة.

•لا
يجوز اخضاع الكتاب المقدس للإستغلال السياسي وإهمال جوهر رسالته الدينية.

•لا
يمكن تبرير أي صراع بالكتاب المقدّس (رقم 46).

 

الأرض

•الأرض
مُلك الله (الأحبار 25، 23)، واسرائيل هو نزيل الله في الأرض. وعلى الشعب أن يكون
أمينا على والاّ فإن الأرض “تلفظُ ساكنيها” (أحبار 18، 25). وبالإضافة
الى ذلك، فتملّك الأرض ليس أمرًا مُطلقا، والدليل على ذلك هو أننا نجد في التوراة
نظاما خاصًا يحدّد الملكية على الأرض. فكل خمسين سنة يعاد توزيع الأرض ويُحرَّر
العبيد، وذلك للإقرار أن الله هو سيّد الجميع والمالك الحقيقي للأرض (أحبار 25، 1
و13).

•مع
كل عهد ومع كل مرحلة جديدة من تاريخ الشعب اليهودي كان المعنى الروحي والشمولي
للعهد والمواعيد، بما فيها الأرض، يتّضح أكثر فأكثر. فالأبرار يرثون الأرض (مزمور
37، 29). ونفس الأمر كرّره المسيح في التطويبات “طوبى للودعاء فإنهم يرثون
الأرض” (متى 5، 4). وهكذا فإن سيطرة الودعاء على الأرض تكتمل بصورة اورشليم
السماوية (رؤيا 3، 12 و21، 2). وبذلك تصبح اورشليم الأرضية الصورة والرمز لأرض
الميعاد التي هي وطننا السماوي عند الله. وهكذا لا تَعُد اورشليم بعد أرضًا او
تُراثا أرضيا فحسب، بل هي أيضا، وبصورة خاصة، تراث تراث روحي للإنسانية الساعية
الى الخلاص.

•مختصر
القول: تطوَّرَ مفهوم الأرض في مختلف مراحل الوحي، ابتداءً بالمعنى المادي
والجغرافي والسياسي وانتهاءً بالمعنى الروحي والرمزي، ولم تعُد عبادة الله مقيّدة
بأرض. ليس هناك أرض محدّدة للعبادة وليست الأرض القيمة الأولى والمطلقة. انما
الأول هو الله تعالى وعبادته (يوحنا 4).

 

الحق
السياسي والعقيدة الدينية

•لا
شك ان للدين اليهودي علاقة تربطه بأرض فلسطين. كما لا شك ان نفس الأمر يقال عن
الدين المسيحي وعن الإسلام. فإذا ما ادّعت احدى الديانات الثلاث حقّا لها سياسيًّا
على الأرض باسم الدين نفسه، حقّ للديانتين الأخريين ان تدّعيا الإدعاء نفسه وللسبب
نفسه.

•حقّ
الديانات الثلاثة على أرض فلسطين مشروع لجميع، ويقوم على العيش في هذه الأرض او
التوجه اليها لأداء واجب العبادة فيها. وأما الحق السياسي فيها لأي دين من الأديان
الثلاثة أو لأي مؤمن من مؤمنيها، فهو متوقف على العمل السياسي، وهذا العمل يحكمه
القانون الدولي لا الكتب السماويّة.

•ان
كانت السلطة السياسية تريد أن تجعل من الله ومن كتابه مرجعًا لها فيما يختص بهبة
الأرض، فهذا يعني أنه يجب ان تهتدي في الصراع الجاري بالمبادئ الأخلاقية التيب
يتضمنها الكتاب المقدس، وهي المبادء المستوحاة من عدل الله وصلاحه تجاه الجميع،
وهو الذي لا يرضى أن يعبّر عن حبّه لشعب ما بظُلم شعب آخر. (نفسه)

•مختصر
القول: “نحن نحترم هذه العلاقة التي يرتبط الشعب اليهودي المؤمن بموجبها
بالديانة التي أوحى الله بها اليه، الاّ أننا لا نؤمن أن هذه العلاقة الدينية
تتضمّن في حدّ ذاتها حقّا سياسيًّا” (نفسه).

 

خاتمة

•موقف
الكنيسة الفلسطينية الرافض للمسيحية الصهيوينة ليس مبنيًّا على العاطفة او على
مواقف سياسية من الصراع الدائر في المنطقة. بل هو، قبل أي اعتبار آخر، موقف
إيمانيّ ولاهوتي محض. إيماني لأن عقيدة المسيحية الصهيونية تحرّف عقائد ايمانية لا
يحق التلاعب بها (نهاية العالم، مجئ المسيح، صلاح الله ومحبته للجميع..) ولاهوتي
(شمولية تاريخ الخلاص، دور يسوع المسيح في تاريخ الخلاص، هو الذي “فجّر
الشريعة من الداخل وجعلها أكثر استيعابا”، العلاقة بين العقيدة والأرض، تطوّر
فكرة الشعب المختار..).

         


ان كان لا يجوز التلاعب بعقول البشر في الأمور الأرضية، احتراما لقدسية الحقيقة
ولكرامة البشر، فبالأحرى لا يمكن التلاعب بمشاعر البشر الايمانية، احترامًا لقدسية
الايمان ولأهميته في حياة المؤمن، واحتراما لله نفسه الذي هدم الحاجز بين البشر
بتجسد ابنه (أفسس 2، 14)، بحيث لم يعُد هناك ” يهودي او يونانيّ، عبدٌ أن حرّ،
ذكر أو أنثى، لأنّكم جميعكم واحدٌ في المسيح يسوع” (غلاطية 3، 27).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى