علم الكتاب المقدس

العهد القديم فى الكنيسة المسيحية



العهد القديم فى الكنيسة المسيحية

العهد
القديم فى الكنيسة المسيحية

يسيء الكثيرون فهم وجهة نظر الكنيسة المقدسة فيما يتعلق بإيمانها
القائل بأن العهد القديم هو كتاب مقدس موحى به من قبل روح الله القدوس إلى أناس
مختارين بهدف إعلان سر التدبير الإلهي المعدّ منذ الأزل لخلاص الجنس البشري. ويدعو
المعارضون إلى فصل العهد القديم عن العهد الجديد حتى تعود المسيحية إلى نقائها
الأول!

 

تعالت هذه الصوات المنادية بإلغاء العهد القديم خاصة في النصف الثاني
من القرن العشرين, في ظلّ الصراع مع الكيان الصهيوني القائم على أرضية دينية
متطرفة تقول بما جاء في التوراة من أن أرض فلسطين هي أرض الميعاد التي أعطاها الله
لشعبه المصطفى اسرائيل. رأى العديد من المفكرين في إقامة الكنيسة واحترامها للعهد
القديم نوعا من تأكيد هذه المقولات المتطرفة والمناقضة لرسالة المسيح الإتسانية,
كما رأى آخرون في ذلك تغلغلا يهوديا مقصودا في المسيحية. باختصار, تحول رفض
المشروع الصهيوني إلى رفض لكل ما قد يمت له بصلة, كالكتاب المقدس عند اليهود الذين
يرسمون أحلامهم على ما ورد فيه من وعود إلهية لهم.

لكن هل يلغى العهد القديم؟سؤال قديم جديد سيجيب عنه كل واحد بنفسه
إذا ما قرأ العهد الجديد قراءة موضوعية. قبل كلّ شيء, يجب توضيح الصلة بين العهدين
والوقوف عند بعض النقاط الحساسة: كمسألة الشعب المختار وأرض الميعاد, وصولا إلى
تكوين صورة واضحة للقراءة المسيحية للعهد القديم التي تختلف جذريا عن القراءة
اليهودية له.

في القرن العشرين (وبالتأكيد قبله), بدأت تتشكّل مجموعات تدّعي أنها
مسيحية في بعض دول الغرب, وفي السنوات القليلة الماضية, وصل إلينا بعضها سرّا
أوعلانية. هذه الجماعات الضالة تعتقد أنها وحدها تفهم الكتاب المقدس فهما
صحيحا,وترى أنّ الوعود الإلهية لإسرائيل بالعودة إلى أرض الميعاد هي وعود مقدسة
أخذت تتحقق في الآونة الأخيرة, وأنّ على المؤمنين أن يدعموا تنفيذ هذه الوعود
لأنها إرادة الله ومشيئته كما يدعون وفي الواقع, هذه الجماعات بعيدة عن روح
المسيحية وسنبرهن على ذلك لاحقا وهي جماعات صهيونية متهوّدة صار من الواجب دحض
دعواتها وإثبات أنّ المسيحية براء من هذه المعتقدات الغريبة.

إنّ إكرام الكنيسة للعهد القديم ليس جديدا بل يرجع إلى زمن الكنيسة
الرسولية الأولى ولا يزال كما هو إلى اليوم. لكنّ الفهم غير السليم له وقراءته
بعين يهودية عنصرية يدفع المؤمن المسيحي إلى الشكّ به ورفضه. علّمتنا الكنيسة أنّ
العهد القديم لا يقرأ إلا في نور وهدى العهد الجديد, وأنّ كلّ ما احتوى العهد
القديم كان يتجه بشكل ما غير ملحوظ نحو يسوع المسيح الذي هو غاية الكتب والأنبياء
والرسالات.

 

العهد القديم:

اعتبارا من القرن الثاني للميلاد, وضع آباء الكنيسة لوائح باسماء
الكتب القانونية للعهدين القديم والجديد, ولم يكن هناك خلاف حول العهد القديم الذي
كان مجموعا ومحفوظا باللغتين العبرية واليونانية (النصّ السبعيني) باعتباره عهدا
ملازما للعهد الجديد. لكن كان هناك جدل حول الكتب الصحيحة التي كتبت بعد السيد
المسيح بسبب ظهور بعض الكتب المنسوبة زورا للرسل. وقد برز بين هؤلاء الآباء
إيريناوس (القرن الثاني), ثمّ القديسان أثناسيوس وكيرلّس من بطاركة الإسكندرية
(القرن الرابع). هؤلاء أصدروا لوائح بأسماء الكتب القانونية الصحيحة ما باتت تشكّل
ما يعرف” بالعهد الجديد”. أما الكتب الأخرى غير الصحيحة, فعرفت بالأسفار
المنحولة ” أبوكريفا”. هكذا أثبتت المجامع المسكونية وجود عهدين تقرّ
بهما الكنيسة: عهد قديم وعهد جديد محورهما يسوع المسيح. وقبل أن يكتب الرسل
أوتلامذتهم الأناجيل والرسائل وتصبح معروفة عند كلّ الكنائس, كان العهد القديم هو
الكتاب الرسمي في الكنيسة الأم يقرأ في كلّ اجتماع (صلاة). وبقي الأمر كذلك بعد
تدوين العهد الجديد. وقد أقرّت بذلك المجامع المسكونية للكنيسة جمعاء, كما أقرت به
الكنائس المحلية, ولم يعرف تاريخ الكنيسة بعد تحديد أسفار الكتاب المقدس بعهديه
زمنا لم يكن فيه العهد القديم يقرأ جنبا إلى جنب مع العهد الجديد.

 

 يسوع يبدأ منه:

أعلن السيد المسيح مرارا لليهود أن ما ورد عن افتقاد الله لشعبه قد
تحقق فعلا, وأنه هو المخلّص المنتظر فعلا. أفلا يكفي أن ينطلق يسوع في بشارته من
العهد القديم حتى يكون هذا الكتاب موضع احترام وتقديس كنيسته التي يقودها الروح
القدس؟ إليكم عددا من المواضع التي أثبت فيه يسوع بما لا يقبل أيّ جدل أن العهد
القديم يتحدّث عنه:

1- دخل يسوع مدينته الناصرة, ودخل المجمع, وأخذ سفر أشعياء وقرأ على
مسامع اليهود ما ورد في (أش61: 1-3) منه, ثمّ طوى السفر وأعلن صراحة: ” إنّه
اليوم قد تمّ هذا المكتوب في مسامعكم ” (لو4: 21).

2- أشار يسوع إلى أنه سيرفع كما رفع موسى الحية في البرية قديما,
وكما كانت الحية النحاسية المرفوعة شفاء للملدوغين الذين ينظرون إليها, سيكون هو
الشفاء الحقيقي لكلّ من يتجه نحو صليبه المكرّم بإيمان (عدد21: 4-9, يو3: 14 و12: 32).
وفي هذا إعلان إلى صحة التفسير الرمزي للعديد من حوادث العهد القديم ونبوآته
وربطها مباشرة بالرب يسوع.

3- أعلن يسوع صراحة أن الكتب تتحدث عنه وأنه هو محورها, ويقصد بالكتب
العهد القديم(يو5: 45- 47), كما أوضح للتلميذين اللذين كانا منطلقين إلى قرية
عمّاوس (بعد قيامته) ما كتب عنه في كتب موسى والمزامير والأنبياء بالرموز, وفسّر
لهما كيف تحدّث العهد القديم عن حياته وآلامه وقيامته ” الأمور المختصّة به
في جميع الكتب” (لو24: 13-35), ” موسى والأنبياء عني تكلموا”

 

 ورسله كذلك:

 

لما حلّ الروح القدس على التلاميذ المجتمعين يوم العنصرة المقدسة,
استناروا كما تعبّر عن ذلك طروبارية العنصرة: ” مبارك أنت أيها المسيح إلهنا,
يا من أظهرت الصيادين غزيري الحكمة, إذ سكبت عليهم الروح القدس وبهم اصطدت
المسكونة.. “. والحكمة التي سكبت على الصيادين البسطاء هي حكمة ليست من هذا
العالم, بل من الله الذي أنار عقولهم ليفهموا الكتب وليعرفوا أن يسوع المسيح الذي
عاشوا معه وعاينوا مجده ما يزيد عن ثلاث سنوات هو ملك الملوك وربّ الأرباب الذي
تتمحور حوله الكتب المقدسة وهو غايتها, وحكمتهم هذه قهرت حكمة هذا العالم ولا تزال
تفعل. فقد قام الرسل منطلقين مما ورد في العهد القديم عن يسوع المسيح وأخذوا
يبيّنون بجلاء تحقق مواعيد الله لشعبه, لا كما كان الشعب يفهم هذه المواعيد, بل
كما أراد لها الله أن تكون. وهذه أمثلة عن البشارات الأولى في المسيحية كما وردت
على ألسنة الرسل القديسين وتلامذتهم:

1- قام القديس بطرس أمام الآلاف من الحجاج اليهود يوم العنصرة, وأعلن
عن تحقق مواعيد الله التي سبق أن أعطاها فقال: “.. أما الله فما سبق وأنبأ به
بأفواه جميع انبيائه أن يتألم المسيح قد تمّمه هكذا.. وجميع الأنبياء ايضا من
صموئيل فما بعده جميع الذين تكلموا سبقوا وأنبؤوا بهذه الأيام..”(أع2: 14-36
و3: 20-26).

2- أما استفانوس الشهيد الأوّل, فقد كان أشدّ قسوة على اليهود: فبعد
أن شرح لهم أسفار العهد القديم مفصّلة مبيّنا لهم كيف كانت تتجه في حركة واحدة
متكاملة نحو المسيح يسوع, وبّخ قسوة قلوبهم بشدة قائلا: “.. أيّ الأنبياء لم
يضطهده آباؤكم وقد قتلوا الذين سبقوا فأنبؤوا بمجيء الباري الذي أنتم الآن صرتم
مسلّميه وقاتليه الذين أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه “وفيه إشارة
إلى مصدر الناموس المقدس في قوله: ” بترتيب ملائكة ” (أع7: 1-53).

3- فيلبّس أكّد للخصيّ الحبشيّ أن ّ كلام أشعياء الغامضعن رجل الآلام
الذي يساق وديعا إلى الذبح كان يقصد به المسيح الذي مات ألف مرّة على الصليب ولم
ينبس ببنت شفة غير طلب المغفرة للقتلة. ولمّا انفتح ذهن الخصي على حقيقة النبوءة
آمن للوقت واعتمد فرحا (أع8: 26-35, قارن مع أش53).

4- في رسالته إلى العبرانيين يؤكّد القديس بولس الوحي الإلهي لأنبياء
العهد القديم, كما يؤكّد أنّ غاية هذا العهد وأبهى تجلّياته كانت يسوع المسيح
” الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة كلّمنا في هذه
الأيام الأخيرة في ابنه.. “(عب1: 1-2). هذه الرسالة غنية بتوضيح كلّ ما ورد
في العهد القديم وكيف كان ظلا لما صار وتحقّق في العهد الجديد, وفيها يضع القديس
بولس الخطوط العريضة لنوع آخر من القراءة وهو القراءة المسيحية للعهد القديم في
نور المسيح والعهد الجديد.

5- اكّد الرسل على قدسية ” العهد القديم”, فقد كتب بولس
لتلميذه تيموثاوس يقول: ” كل الكتاب هو موحى به من الله..” (2تيمو3: 16).
كما أكّد بطرس أنّ النبوءات التي ألهم بها الروح القدس لا تفسّر إلا بوساطة الروح
القدس”.. إنّ كل نبوءة الكتاب ليست من تفسير خاص لأنّه لم تأت نبوءة قطّ
بمشيئة إنسان بل تكلّم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2بط1: 20-21).
وبعد كل هذا أكرّر السؤال القديم الجديد: هل يلغى العهد القديم؟ للإجابة على ذلك
أسمح لنفسي بتلخيص وجهة نظر الأب منيف حمصي في كتابه الذي يحمل هذا العنوان 1 حيث
يقول:

* ” الكنيسة الحقيقية والوحيدة هي, في كل زمان ومكان, صورة
الكنيسة الأولى الرسولية الجامعة, والكتاب المقدس سفرها وحياتها, وهي الني تقرأه
وتفسّره, وهي تؤمن أنه مقدّس لأنه من إلهام الروح القدس. فالمسيحي الذي يدعو
لإلغاء كتاب الخلاص ليس مسيحيا. ليس هذا الكتاب دعوة سياسية ولا شعارا صهيونيا حتى
لو أراد الصهاينة أن يبدو للعالم كذلك, وإنما هو ركن هام في العقيدة المسيحية
يمزقها إلغاؤه. المشكلة ليست في الكتاب بل هي في المسيحيين الذين لا يطالعون
كتابهم. المطالعة تتم في شركة الكنيسة التي تقيس الكتاب على حياتها وخبرتها في
الروح القدس الذي هو نورها, وتقيس نفسها بالكتاب لتنمو من خلاله إلى ملء قامة
المسيح. الروح القدس هو الرابط التفسيري والجسر الحقيقي بين الكتاب والقاريء لأنّه
يأخذ مما للمسيح ويعطينا (يو16: 14). كان هذا الكتاب يقود الناس نحو المسيح بدليلا
قول فيلبس لنثنائيل “.. وجدنا الذي كتب عنه موسى فب الناموس والأ نبياء..
“(يو1: 45), وكذلك في تحلّق موسى وإيليا أهمّ أنبياء العهد القديم حول الرب
على جبل التجلي (مت17: 1-13), وفي كلام الإنجيل الذي قاله عن سمعان الشيخ أنه كان
واحدا من اولئك الذين ينتظرون حلول مواعيد الله ومجيء المسيح (لو2: 23-39).. إلخ.
ولما كان العهد القديم يتحرك نحو ذروته التي هي يسوع المسيح, فهناك حتما صلة قويّة
وعميقة بين العهدين, وبالتالي يستحيل ان نفهم العهد القديم بدون يسوع المسيح
والعكس صحيح”.

تبنّت الكنيسة العهدالقديم عندما لم يكن قد كتب العهد الجديد بعد.
وبولس الذي اعتنق العهد القديم بشغف قبل أن يختاره الرب رسولا له, لم يدفعه ذلك
الاختيار إلى رفض العهد القديم بل إلى قبوله وفهم مقاصد الله بأنه هو هو المسيح
المنتظر الذي تحدثت عنه نبوءات أسفار العهد القديم التي تحققت فيه في العهد
الجديد, ويرمّز لوقا الإنجيلي إ لى ذلك عندما انفتحت عيناه بقوله “.. للوقت
وقع من عينيه شيء كأنه قشور فأبصر للحال وقام واعتمد..” (اع9: 1. هكذا يمكن
لنا القول إنّ العهد القديم موجود على صفحات العهد الجديد حيث نتلمّس معالمه
وتطلّعاته وأهدافه, وبالتالي أيّ رفض للعهد القديم هو بمثابة رفض لإله العهد
الجديد الذي جرى التحضير له في العهد القديم, وكل الطقوس والشعائر المذكورة في
العهد القديم كان يسوع هو معناها وغايتها كما توضح الرسالة إلى العبرانيين
بالتفصيل. بعد هذا إسأل نفسك مجددا: هل يلغى العهد القديم؟

 

المسيح: ألغى ام اكمل؟

 

” ما جئت لأنقض بل لأتمّم”(مت5: 17). لطالما أشهر الداعون
للإلغاء هذه الآية ليدعموا رأيهم القائل بعدم ضرورة العهد القديم بعد المسيح.
لهؤلاء نقول إنّ أحدا لا يتمّم إلا ما قد سبق البدء به. وكلمة ” أتمّم”
تعني أنّ ما تمّ البدء به لا يزال ناقصاوبحاجة لإتمام. في المسيح اكتمل العهد
القديم, وقد كان ناقصا قبله. ليس الإتمام إلغاء بل إكمال بنفس الإتجاه ونحو ذات
الهدف, إنما بشكل إكثر تميزا. دليلنا إلى ذلك أن يسوع احترم الشريعة وخضع
لترتيباتها (فختن في اليوم الثامن وقدّم للهيكل وارتاد المجامع للصلاة وحجّ إلى
أورشليم في الأعياد) وارتقى بها إلى الكمال عبر القفز بها من قوانين مكتوبة ضيقة
الأفق إلى عملية بناء الإنسان الجديد. وبناء الإنسان لا يلغي عمل القانون بل
يكمّله ولهذا فقوله ” قيل لكم.. أما أنا فاقول لكم..” يندرج تحت هذا
المفهوم, فالمسيح لم يلغ الوصية بل بحث في أسباب الخطيئة ودوافعها واجتثها من
جذورها قاطعا السبيل إليها, كما أنه أغنى الوصية بمنحها أبعادا جديدة تفوق المفهوم
الحرفي السائد في الشريعة.

 

عمّن يتكلم هؤلاء؟

 

هذا نذر يسير مما ورد في العهد القديم قبل المسيح بفترات تراوحت بين
مائتي عام وحتى ثمانمائة عام, فمن هو الذي تتحدث عنه هذه الكتابات؟

 

1- ورد في المزمور 22 ” إلهي إلي لماذا تركتني بعيدا عن خلاصي..
كل الذين يرونني يسهزؤون بي يفغرون الشفاه وينغضون الراس قائلين: اتكل على الرب
فلينجه لينقذه لأنه سر به.. جماعة من الشرار اكتنفتني ثقبوا يديّ ورجليّ.. يقسمون
ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون” (قارن مع متى27: 27-46 ويو 19: 1-24). وفي
المزمور 69 ” انتظرت رقة فلم تكن ومعزّين فلم أجد ويجعلون في طعامي علقما وفي
عطشي يسقونني خلاّ.. “(قارن مع يوحنا 2: 17 و19: 28-29).

2- أما سفر أشعياء الذي تدعوه الكنيسة بالأنجيل الخامس, فقد تنبأ
بولادته من عذراء “.. ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل..”(7:
13), وبكلام اشعياء اجاب يسوع تلاميذ يوحنا المعمدان الذين سالوه هل هو المسيح
قائلا ” هوذا إلهكم.. هو ياتي ويخلصكم حينئذ تنفتح عيون العمي وآذان الصمّ
تتفتح حينئذ يقفز العرج كالايل.. ” (35: 1-7 مع لو4: 16-21). أما الآلام فإن
اشعياء قد رآها ووصفها بدقة غريبة, حيث قال: “.. بذلت ظهري للضاربين وخدي
للناتفين، وجهي لم استر عن العار والبصق” (50: 4-6), فهل لدعاة الإلغاء أن
يجيبوا عمّن يتحدث أشعياء بكلامه عن ” رجل اوجاع ومختبر الحزن.. مجروح لجل
معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا
كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا.. كنعجة صامتة امام جازيها فلم يفتح
فاه.. هو حمل خطيئة كثيرين وشفع في المذنبين “(53).

3- وماذا بعد؟ ألم يمزق قيافا ثيابه وهو يسمع يسوع يجيبه بنبوءة
النبي دانيال عن ابن الإنسان الذي سيأتي مع سحاب السماء؟ “.. كنت أرى في رؤى
الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن الإنسان اتى وجاء إلى القديم الأيام فقرّبوه
قدّامه فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشغوب والأمم والألسنة..
“(دا 7: 13-14 مع رؤ1: 12-18 ومر14: 62-64). فهم قيافا ما عنى به يسوع فاكتفى
بهذه الكلمة ليحكم عليه بالموت.

4- النبي زكريا سبق فانبأ بالدخول إلى أورشليم على جحش ابن اتان (9: 9-10),
وبخيانة يهوذا والثمن الذي باع به معلّمه (11: 12-13), وبمجيئه الآخر حيث سيراه
الذين طعنوه وينوحون بمرارة (عب2: 7- 1.

الأمثلة لا تنتهي ولا تتسع لها الصحاف, فمن أراد أن يفتح قلبه بصفاء
لكلام الروح لن يحتاج لأكثر مما تقدم. لذلك كما يقول الروح القدس” اليوم إن
سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم..”(عب3: 7). وهل هناك أوضح من هذا الصوت؟

فيا من تدعو إلى إلغاء العهد القديم وتتفانى في التشهير به والتهكم
عليه, إنك تقرأه بعين يهودية وأنت تعلم ذلك. إلغاؤه سيمزق وحدة الكنيسة التي تعتقد
أنك تحميها من التأثير اليهودي الصهيوني, وسيقدم خدمة للصهيونية (عدوة الكنيسة
والمسيح) لن تنساها لك مدى حياتها, لأنّ تمزيق الكنيسة هو هدف للصهيونية.

 

الكنيسة تقوم على ما يعرف بالتقليد الشريف المقدس, لا على الكتاب
المقدس وحده كما قد يعتقد الكثيرون:

 

الكتاب المقدس ما هو إلا جزء من التقليد الشريف, والتقليد هو النقل
والتسليم من جيل إلى جيل سواء أكان هذا التسليم شفهيّا أو مكتوبا. فالرسل نقلوا
وعلّموا كل ما شاهدوا وسمعوا وتعلّموا من السيد المسيح, وخلفاؤهم تابعوا النقل
بذات الطرق شفهيّا وكتابة,فكان يكتب ما هو ضرور للإيمان والخلاص كما نقرأ في (يو20:
30, يو2: 12, لو1: 1-4). لك ظل الكثير من التعليم ينقل شفهيّا. إنّ الكنيسة تؤمن
بحزم بأنّ ما تكلم به الرسل القديسون وعلّموه لا بقل أهمية عما كتبوه لأنّ الذي
ينطق بألسنتهم هو الروح القدس (يو16: 13, متى10: 19-20).

لقدحافظت الكنيسة الأورثوذكسية غلى هذا التقليد بأمانة إدراكا منها
لمدى أهميته, وثبّتته في مجامعها المسكونية السبعة التي انعقدت في القرون الثمانية
الأولى بعد الميلاد. لكن في الآونة الأخيرة، أخذت جماعات تخرج الى العلن وتعلن عن
مفاهيم غريبة لبعض آيات ونصوص العهدين القديم والجديد, وراحت كل جماعة تدعي أنها
تمتلك مفتاح التفسير الصحيح, لكن أيّا منها لا تتصل بالكنيسة الرسولية ولا تنتمي
إليها, بل على العكس فقد تشرّبت كلها بالروح اليهودية الصهيونية إلى حدّ بعيد.

 

مفهوم الاختيار وعبارة ” شعب الله”!

 

” لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك وإياك قد اختار الرب الهك لتكون
له شعبا أخصّ من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض..” وردت هذه العبارة في
(تث7: 6), فهل يعقل أن يكون الله قد اختار شعبا وفضّله غلى سائر الشعوب بهذه
البساطة, وهو العادل المحبّ المنزه عن الخطأ؟! قراءة ساذجة للعهد القديم جعل البعض
يرى أن هذه العبارة (وهناك كثير غيرها بنفس المعنى) إنما تدلّ على أن اليهود نسبوا
إلى الله في كتابهم ما لا يمكن أن يتفوّه به, فكانوا بذلك هم المعارضون للعهد
القديم. كما أن البعض الآخر الذي يتمسّك بحرفية النصوص دون مدلولاتها يجزم بأن
هؤلاء العبرانيين إنما هم شعب اختاره الله دون الآخرين وميزه عنهم ليكون شعبه
الخاص.

لدينا في الكنيسة تجربة هي أن الله يختار بعض الناس ليوصل من خلالهم
رسائله ومقاصده إلى البشر. فقديما اختار الله رجالا ونساء حملوا مقاصده وإرادته
مثل: نوح, موسى, إيليا, أشعياء، إرميا, يوحنا المعمدان.. كذلك اختار المسيح اثنا
عشر رجلا بسيطا وقضى معهم سنوات ثلاث يعلمهم إرادة الله ومشيئته, ثم أرسلهم
ليحملوا ما علّمهم إياه إلى العالم أجمع. لكن الأمر الهام هو أن هؤلاء المختارين
غالبا ما كانوا من فئة البسطاء من الناس اختيروا لينقلوا الإرادة الإلهية للآخرين,
فلم يتكبّروا على الناس بسبب اختيار الله لهم دون سواهم ولم يتغطرسوا أو ينعزلوا
بل بذلوا ذواتهم في سبيل تأدية الرسالة التي أؤتمنوا عليها.

من هذا المنطلق نعالج هنا مسألة ” الشعب المختار”: هؤلاء
الناس اختيروا لتحقيق مقاصد الله وإظهار إرادته للعالم.. هذا هو معنى الاختيار.
فالاختيار بهذا المعنى مسؤولية وخدمة, وهو أن يقوم هذا الشعب بإتمام الرسالة التي
أفرزه الله لكي يحملها للعالم. إنه عبء وليس امتيازا. بفضل محبة الله اختير لكي
ينقلوا مقاصده للإنسانية كلها, فكانوا بذلك هم السراج الموقد الموضوع على
المنارةلكي يضيء للجميع بنور الرب المحيي(مت5: 15), وبالاختيار وضع هؤلاء في موقع
خدمة ومسؤولية تجاه سائر الأمم, لافي موقع آخر. أما مقاصد الله التي كان عليهم أن
يحملوها للأمم فهي حياة الله وبركته ونعمته. هذا هو مدلول وعد الرب لابراهيم: “..بك
تتبارك جميع أمم الأرض” (تك12: 3).

إن عبارة ” شعب الله ” أو ” الشعب المقدس” تشير
إلى خليقة جديدة صادرة من الله تختلف عن سواها بالسيرة الفاضلة النقية, والتقديس
هو الفرز وفصل الشيء عن سائر الأشياء وتخصيصه. ومنه كان المطلوب من هذا الشعب الذي
اختير وأفرز للرسالة أن يسلك سلوكا نقيا ويتخلق بأخلاق متميزة ومختلفة. القداسة
صفة مميزة لشعب الله وبدونها يفقد صفته وهويته ووجوده أيضا. هذا هو الشعب الذي دعي
” مملكة كهنة وأمة مقدسة”، فالكاهن يرسم ليكون صلة حية بين الله والشعب,
وهكذا ” الشعب المختار” هو صلة حية بين الله وباقي الشعوب المختلفة
بفسادها وحروبها وأهوائها. بوساطة “الشعب المختار” يجتذب الرب سائر
الشعوب إليه تماما كما اجتذب المسيح الناس بتلاميذه البسطاء, ها الأمر يفترض ألا
يتشبّه هذا الشعب بالأمم الأخرى في فسادها وانحرافها.

 

أرض الميعاد

 

يصوّر العهد القديم الشعب العبراني الخارج من مصر يسعى لاهثا لكي يصل
إلى الأرض التي تفيض لبنا وعسلا, والتي يعتقد أن الله يقودهم ليسكنهم فيها وحدهم
ويسلّطهم على البشر والحجر فيها. فما أن يصلوا إلى أرض فلسطين ” أرض
كنعان” حتى يعيثوا فيها قتلا وتدميرا ونهبا, كأن الذي خلّصهم من العبودية
والذلّ طلب إليهم أن يمارسوها على الآخرين.

ومع مرور السنين تعلق اليهود بهذه البقعة الجغرافية وبالهيكل الذي
أقاموه في أورشليم أيام الملك سليمان” وبناه لهم الكنعانيون ” أكثر من
تعلقهم بالذي أتى بهم إلى هذه الأرض وبالساكن في ذلك الهيكل. لكن السؤال المطروح
هنا: هل أرض الميعادالتي وعد بها شعب اللههي بقعة جغرافية معينة من هذا العالم؟
وهل هي فلسطين مثلا؟!

إنّ الكنيسة ومن خلال نور المسيح ترى فيما سبق رموزا بقيت غامضة حتى
أماط اللثام عنها يسوع في تعاليمه. وأرض الميعاد الحقيقية هي الملكوت السماوي حيث
ما من أرض تفيض لبنا وعسلا سواه, هي جنة عدن التي طرد الإنسان منها يوم عصيانه,
ليس لها حدود ولا هي بقعة من هذه الأرض المادية, ففي هذا العالم أماكن أكثر جمالا
وغنى وخصبا من أرض كنعان, لكن الأرض التي وعد بها الله أتقياءه ليست من هذا العالم
لأنها مملكته هو و” مملكته ليست من هذا العالم ” (يو18: 36), هناك سيقيم
أخصّاؤه ” ويكونون له شعبا ويكون لهم إلها”. هذه الأرض اللا مادية سبق
أن رآها الرسول القديس يوحنا الإنجيلي ووصفها في سفر الرؤيا باسم ” أورشليم
الجديدة” بوصف رؤيوي جاء فيه” لم أر فيها هيكلا لأن الرب القادر على كل
شيء هو والحمل هيكلها. والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيه لأن
مجد الله قد أنارها والحمل سراجها. وتمشي شعوب المخلّصين بنورها وملوك الأرض
يجيئون بمجدهم وكرامتهم إليها.. ولن يدخلها شيء دنس ولا ما يصنع رجسا وكذبا إلا
المكتوبين في سفر حياة الحمل”(رؤ21: 22-27). هذه هي أرض الميعاد يدخلها
” الذين يصنعون وصايا الله ومشيئته ” ” ويبقى خارجها ” الكلاب
والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان وكل من يحب ويصنع كذبا” (رؤ22: 14- 15).

هنا أيضا يقف المشككون ليقولوا أنّ لا رابط بين الملكوت السماوي وأرض
الميعاد, فنجيبهم أنهم لم يقرؤوا الكتاب المقدس في ضوء تعاليم المسيح ورسله
القديسين, وإلا لكانوا فهموا تلك الرموز والإشارات التي كانت ملتبسة سابقا. أما
للمتطرفين الذين يرون أن فلسطين أرض وعد الله بها شعبه اسرائيل ويجندون أنفسهم
لتسهيل عودة اليهود إليا مكررين ما حدث يوم دخلوا أرض كنعان فأعملوا فيها النار
والسيف, فإننا نقول لهم إنهم لا يعرفون المسيح ولا هم أدركوا مشيئته ولا اختبروا
المحبة الإلهية التي تجسّدت لكي نراها ونتلمّسها نحن البؤساء. أليس ما يفعله
الصهاينة اليوم بأبناء شعبنا في فلسطين هو ذاته ما حدث يوم دخلوها بعد خروجهم من
مصر, وهم يعتقدون أن هذه هي أرضهم؟ وهم الآن يبحثون عن أنقاض هيكلهم وكأن إقامته
هي تحقيق للمشيئة الإلهية, وكأنّ بناء الهيكل هو ما ينقص حتى يأتي الرب ويسكن وسط
شعبه.

إنّ التفسير الحرفي لما ورد في العهد القديم أو الجديد يقود حتما إلى
فهم مغايرللمعنى المراد, لذلك لا بدّ من قراءة العهد القديم في نور العهد الجديد,
وقراءة العهد الجديدانطلاقا من نبوءات العهد القديم, فمفتاح فهم كلّ منهما موجود
في الآخر. أما انزلاق بعض الجماعات التي تتوالد في بعض دول العالم في مفاهيم خاطئة
تدفع بها إلى الترويج لأفكار غريبة تقول بضرورة العمل على تحقيق وعود الله وعودة
شعبه من شتاتهم إلى أرضهم الموعودة فلسطين, ومساعدتهم على إيجاد مكان هيكلهم
وبنائه, وادّعاء هذه الجماعات أنّ هذا هو ما ورد في الكتاب المقدس, فهذا غريب عن
الكنيسة ولا علاقة لها بمثل هؤلاء الأدعياء.

 

هل اليهود حقا شعب الله المختار؟

 

بعد أن اختارهم الله قديما لحمل مقاصده, عاش العبرانيون ذلك التناقض
الذي نجم عن معرفتهم بأنهم شعب مكرّس لله, ومحاولاتهم لمجاراة الأمم المحيطة بهم,
ولم يصموا طويلا إذ سرعان ما استسلموا(للعنف والظلم والفساد والخطيئة مبتعدين عن
الخط الإلهي), وزادوا على ذلك أن جعلوا من الله تغطية لهم وضمانة لتحقيق شهواتهم
ومآربهم. هكذا خانوا الرسالة, وبدل أن يكونوا ملح الأرض تحولوا إلى الخطيئة
والشرور. وقد جاء الإنحراف منذ أن خرجوا من أرض مصر: فسرعان ما تجاهلوا الرب الذي
خلصهم من العبودية في مصر وطلبوا إلى هرون أن يصنع لهم آلهة تسير أمامهم بعد أن
تأخر موسى على الجبل (خر32). وهم الذين دخلوا أرض كنعان بالسيف والنار على بحيرات
من الدم شأنهم شأن سائر الأمم الأخرى, كما أن مطالبتهم بملك يقوم عليهم كسائر
الأمم يعني أنهم يرفضون الرب إلههم ويعلنون مللهم من خدمته. قال الرب لصموئيل: ”
اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك, لأنهم لم يرفضوك أنت بل إيّاي رفضوا حتى لا
أملك عليهم” (1صم8: 7-9) والكتاب المقدس يشهد عليهم. وصار اسرائيل أسير دوامة
العنف والاستبداد. وكانوا يجرون الهلاك على أنفسهم, وكان ذلك موضوع إنذار الأنبياء
لهم إذ أخذوا يذكرونهم بدعوة الله لهم وبانحرافهم عنها وهم لا يزالون يتوهمون أنهم
شعب مقدس لله! ” أنا الرب الذي لم تسلكوا في فرائضه ولم تعملوا بأحكامه بل
عملتم حسب أحكام الأمم الذين حولكم.. ” (حز 11: 12). ” قل لهم لشعب
اسرائيل هكذا قال السيد الرب: تأكلون بالدم وترفعون أعينكم إلى أصنامكم وتسفكون
الدم. أفترثون الأرض؟ وقفتم على سيفكم فعلتم الرجس وكل منكم نجّس امرأة صاحبه
أفترثون الأرض؟ ” (حز33: 25-2). ولم يتأدب الشعب بعد السبي فعتد وبنى الهيكل
وحصّن نفسه بالأسواروعاد إلى التقوقع والانعزال وازدادت عنصريته حتى قام عزرا
ونحميا يدعونهم إلى التخلي عن زوجاتهم الغرباء وأولادهم منهنّ. ولم يزل أحفادهم
إلى اليوم أسرى عنصريتهم الحاقدة التي تمنعهم حتى من العيش إلى جوار الآخرين, فلا
يهنأ لهم بال إلا بإلغاء الآخر الذي يختلف عنهم.

لكن في وسط هذا السواد، كان هناك ” بقية” من الشعب لله
يتردد ذكرها في أسفار الكتاب, تنتظر أن يقيم الله ملكا لشعبه يختلف عن ملوكهم,
سيفه الحق ودعوته السلام ” قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفيء..
“، ” من أجله يسد ملوك أفواههم لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به وما لم
يسمعوه فهموه.. ” (أش 42: 3, 52: 15). في عهده ستتحقق العودة الحقيقية إلى
الله وينبعث سلام الرب من أورشليم إلى العالم كله (أش 2: 2-5). هو الذي سيبني
الهيكل الحقيقي ويقيم المملكة الأبدية كما وعد الله داوود أباه بفم ناثان النبي
” اذهب وقل لعبدي داود هكذا قال الرب.. متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك أقيم
بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبت مملكته. هو يبني بيتا لاسمي, وأنا أثبّت كرسي
مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبا وهو يكون لي ابنا.. ” (2صمو7: 1-17).

 

الكنيسة ملكوت الله على الأرض:

 

بعد أن شرحنا مفهوم الاختيار ومعنى الشعب المختار وأرض الميعاد,
علينا أن نرى كيف تحققت وعود الله. فوعود الله صادقة وأمينة رغم عدم أمانة الناس
له. لقد فقد اسرائيل النعمة عندما انجرف في تيار أهوائه بعيدا عن خدمة الله
ومقاصده, وقد أعلن لهم يسوع علانية أن الرسالة قد انتزعت منهم وأعطيت لآخرين أكثر
أمانة منهم ” إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تصنع أثماره.. ” (مت21:
43). ولما سمعه اليهود عرفوا أنه يتكلم عنهم.هذه الأمة الجديدة هي الخليقة الجديدة
التي خلق بها الله العالم بابنه يسوع المسيح. أقصد االكنيسة التي هي شعب الله
المختار الجديد المدعو إلى إكمال الدور والمهمة التي أخفق في تنفيذها اسرائيل,
وبها تتبارك جميع أمم الأرض. هي جسد المسيح الحقيقي ومسكن الله في وسط البشر.

نجح المسيح حيث أخفق اسرائيل, لأنه رفض منطق العالم ولم يقبل أن
يتوّج ملكا قوميا, فقاده رفضه لمنطق هذا العالم إلى خشبة الصليب. ولم يستعمل منطق
العنف لمواجهة ذلك, بل تصدّى بآلامه لرئيس هذا العالم ” الشيطان” وخضع
لمشيئة الله خضوعا تاما (لتكن مشيئتك). ” أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في
شبه الناس, وإذ وجد في الهيئة كإنسان, وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب, لذلك
رفعه الله أيضا وأعطاه اسما فوق كل اسم لكي تجثوباسم يسوع كل ركبة ممن في السماء
ومن على الأرض ومن تحت الثرى, ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو ربّ لمجد الله
الآب”(فيل2: 7-11). هكذا صار المسيح رأسا للخليقة الجديدة ” الكنيسة
” وهي جسيده الذي يحيا تلك الحياة الألهية.

الكنيسة منذ أن كانت إثني عشر شخصا وأخذت تكبرو تضم إليها جموع
المخلصين حملت الأمانة التي أرادها لها الرب يسوع, وحملت مقاصده إلى العالم أجمع
لا ترهب سيفا ولا بطشا ولا ألما, وهي لا تزال وستبقى حتى يوم مجيئه المرهوب تعلن
اسمه للعالم. تبقى الكنيسة الشاهد الأمين للمسيح, الأعظم فيها هو خادم للجميع. وقد
اختصر صاحب الغبطة البطريرك أغناطيوس الرابع الجزيل الاحترام كل ما يتعلق بهذا
الموضوع في عبارة واحدة في كلمته الترحيبية بقداسة البابا يوحنا بولس الثاني في
الكاتدرائية المريمية يوم 5/ 5/ 2001 بقوله ” قدر المسيحيين على غرار معلمهم
أن يغسلوا أرجل كل الناس دون النظر إلى دينهم أو إلى عرقهم, إننا مدعوون إلى أن
نمسح دموع كل الذين يبكون ” 3. ولا أجد أبلغ من هذا لأتحدث عن الرسالة التي
دعي لتأديتها المسيحيون أي الكنيسة إلى العالم, وهي نفسها الرسالة التي دعي إليها
إسرائيل ورفضها. إن رفضنا لهذه الدعوة وانحرافنا نحو ملذات هذا العالم سيدفع بنا
إلى السقوط والانهيار كما إسرائيل القديم، ولن يفيدنا القول إنّ المسيح معنا
وبيننا, لأنّ أولئك لم ينفعهم قولهم هوذا ابراهيم أبانا والله في وسطنا. الكنيسة
الحقيقية هي شعب الله المختار الجديد وهي اسرائيل الحقيقيّ وهي الصورة المنظورة
لملكوت الله غير المنظور الذي هو أرض الميعادحيث المسيح هيكلها ونورها وماسح كل
دمعة من عيون أبنائها. الكنيسة تعي في نور المسيح أن القصة التي تروي خروج
العبرانيين من مصر إلى أرض الميعاد ليست سوى صورة مسبقة للخروج الحقيقي من أرض
العبودية للخطيئة والشيطان ففي هذا العالم إلى الملكوت السماوي. العبور تمّ بيسوع
المسيح الذبيحة الإلهية يوم الفصح (وكلمة الفصح بالعبرية تعني العبور), وكان
اليهود يحتفلون بالفصح إحياء لذكرى خروجهم من أرض مصر وعبورهم البحر الأحمر بقيادة
موسى. أما الكنيسة فتعيّد فصحها الحقيقي الذي هو ذبيحة المسيح الذي عبر بها من أرض
العبودية إلى الملكوت. والكنيسة التي ما زالت تجاهد على الأرض تؤمن أنها جزء من
الكنيسة السماوية حيث القديسون والصديقون حول عرش الله, وسيكتمل انضمامها إلى ذلك
الملكوت يوم مجيئه الثاني الرهيب حيث سيملك على شعبه إلى الأبد.

لهذا نستطيع القول ختاما أنّ الكنيسة حقا براء من كل من يروّج لضرورة
عودة شعب الله إلى أرض فلسطين, أو من يروّج لإعادة بناء هيكل سليمان الذي تنبأ
المسيح بخرابه إلى الأبد ” هوذا بيتكم يتلاك لكم خرابا” (مت23: 3. فهذه
دعوات لا تمتّ إلى الكنيسة بصلة. الكنيسة تعيش آلام كل إنسان يتألم ويحزن تحت وطأة
البطش الصهيوني أو غيره, وهي مدعوة لمسح دموع كلّ الباكين في الأرض أيّا كانوا.
كما أن الكنيسة، من جهة أخرى, لاتتنصّل من العهد القديم ولا تتنكّر لما ورد فيه
ولا تشكّ بقدسيته, إلا أنها تفهمه كما سبق وأشرت على ضوء العهد الجديد ويسوع
المسيح فقط. والمشككون به والداعون إلى إلغائه واقتطاعه من الكتاب المقدس يقرؤونه
بعين واحدة يهودية ويفهمونه على طريقة اليهود, لا كما تفهمه الكنيسة, ثمّ يحاسبون
الكنيسة على أساس هذه المفاهيم المغلوطة. إن رؤية الكنيسة للعهد القديم رؤية خاصة
بها لا يمتلكها سواها ممن يقرؤونه, وتبقى الكنيسة الرسولية دائما وأبدا الأمة التي
تصنع الثمار التي يريدها ربّها وسيدها يسوع المسيح,

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى