علم الكنيسة

الروح القدس فى الكنيسة



الروح القدس فى الكنيسة

الروح
القدس فى الكنيسة

أ) يسوع يرسل الروح القدس على تلاميذه

هذا
الوعد الذي وعد به يسوع تلاميذه قد حقّقه بعد قيامته. فمنذ ظهوره الأوّل لهم يوم
قيامته منحهم الروح القدس، كما جاء في إنجيل يوحنا: “قال لهم ثانية: السلام
لكم. كما أنّ الآب أرسلني، كذلك أنا أرسلكم. ولمّا قال هذا، نفخ فيهم وقال لهم: خذوا
الروح القدس. فمن غفرتم خطاياهم غُفرت لهم، ومن أمسكتم خطاياهم أُمسكتَ” (يو
20: 21- 22) إنّ سلطان مغفرة الخطايا هو سلطان إلهي. وهذا السلطان قد مارسه يسوع
في حياته (راجع مثلاً شفاء مخلع كفرناحوم: متى 9: 1- 8)، لأنّ روح الربّ كان عليه.
فالآن، كما أرسله الآب وملأه من روحه، يرسل بدوره تلاميذه ويمنحهم الروح القدس،
قدرة الآب وسلطانه الإلهي على منح الحياة الإلهية للناس بمغفرة خطاياهم ومصالحتهم
مع الله.

 

تلك
هي المعمودية بالروح القدس والنار، التي تكلّم عنها يوحنا المعمدان في تبشيره
بالمسيح: “أنا أعمّدكم بالماء للتوبة، وأمّا الذي يأتي بعدي.. فهو يعمّدكم
بالروح القدس والنار” (متى 3: 11). والنار هنا رمز التطهير من الخطيئة. وتلك
هي المعمودية بالروح القدس التي وعد بها يسوع تلاميذه قبل صعوده إلى السماء: “لا
تبرحوا أورشليم، بل انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه منّي. فإنّ يوحنا قد عمّد
بالماء، أمّا أنتم فستعمّدون بالروح القدس بعد أيام قليلة” (أع 1: 4، 5).

 

ويروي
لوقا في الفصل الثاني من أعمال الرسل كيف تمّت تلك المعمودية بالروح القدس والنار:

“لمّا
حل يوم الخمسين كانوا كلّهم معًا في مكان واحد. فحدث بغتة صوت من السماء كصوت ريح
شديدة تعصف، وملأ كل البيت الذي كانوا جالسين فيه. وظهرت لهم ألسنة منقسمة، كأنّها
من نار، واستقرَّت على كلّ واحد منهم. فامتلأوا كلّهم من الروح القدس، وطفقوا
يتكلّمون بلغات أخرى، كما آتاهم الروح أن ينطقوا” (أع 2: 1- 4).

 

ويفسّر
بطرس للشعب أنّ هذا الحدث هو تحقيق نبوءات العهد القديم:

“هذا
هو ما قد قيل عن لسان يوئيل النبي: وسيكون في الأيام الأخيرة، يقول الله، أني أفيض
من روحي على كلّ بشر، فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبّانكم رؤى، ويحلم شيوخكم
أحلامًا. أجل، على عبيدي وعلى إمائي أفيض، في تلك الأيام، من روحي فيتنبّأون..
فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعًا شهود بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ
من الآب الروح القدس الموعود به، أفاض ما تنظرون وما تسمعون” (أع 2: 16- 18،
32، 33).

 

ثم
يطلب بطرس من مستمعيه أن يتوبوا ويعتمدوا لينالوا موهبة الروح القدس: “توبوا،
وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس.
لأنّ الموعد هو لكم ولبنيكم، ولجميع الذين على بُعد، بمقدار ما يدعو الرب إلهنا
منهم” (أع 2: 38، 39).

 

ماذا
يعني في الواقع حلول الروح القدس على التلاميذ؟ وماذا يقصد التلاميذ بقولهم للشعب:
توبوا واعتمدوا فتنالوا موهبة الروح القدس”؟ كيف تظهر تلك الموجة؟ إنّ
التلاميذ، قبل حلول الروح القدس عليهم، كانوا خائفين، مختبئين، كما يقول يوحنا،
“في منزل أبوابه موصدة خوفًا من اليهود” (يو 20: 19). ولمَّا حلّ عليهم
الروح القدس، طفقوا يبشّرون بالمسيح بجرأة، “ويتكلّمون بلغات أخرى”، أي
يبشّرون بالمسيح لجميع الشعوب وفي كلّ اللغات. ويقول يوئيل في نبوّته التي يذكرها
بطرس: “أفيض من روحي على كل بشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم”. والتنبّؤ هنا
يعنىِ التكلّم باسم الله والشهادة لله.

 

فالروح
القدس الذي حلّ على التلاميذ منحهم أن ينطقوا باسم الله ويشهدوا للمسيح. وهذا ما
يؤكدونه أيضاً للشعب: إنّ من يتوب ويعتمد باسم يسوع ينال موهبة الروح القدس في، أي
إنّ روح الله يملأه لينطق باسم الله ويشهد لله وللمسيح.فموهبة الروح القدس هي إذاً
الامتلاء من روح الله، بحيث لا يعود الإنسان يفكّر بأفكار بشرية وينطق بأقوال
بشرية، بل إنّ روح الله الذي يملأه هو الذي يفكّر فيه وينطق فيه. وروح الله هو
أيضاً الذي يعمل فيه، لذلك إلى جانب الشهادة للمسيح نجد الرسل يجرون آيات وعجائب
في الشعب: “حتى إنهم كانوا يخرجون بالمرضى إلى الشوارع، ويضعونهم على فرش
وأسرّة، ليقع ولو ظلُّ بطرس، عند اجتيازه، على بعض منهم. وكان الجمع يبادرون، حتى
من المدن المجاورة لأورشليم، حاملين المرضى والمعذّبين بالأرواح النجسة، وكانوا
جميعهم يشفون” (أع 5: 15، 16).

 

إنّ
هذه الآيات الخارقة هي مواهب خاصة يمنحها الروح القدس لمن يشاء، كما يقول بولس
الرسول:

“كلّ
واحد إنّما يعطى إظهار الروح للمنفعة العامة. فالواحد يعطى من قبل الروح كلام
حكمة؛ والآخر كلام علم، بحسب الروح عينه؛ والآخر الإيمان، بذلك الروح عينه؛ والآخر
موهبة الشفاء، بالروح الواحد عينه؛ وآخر إجراء العجائب؛ وآخر النبوّة، وآخر تمييز
الأرواح. وآخر أنواع الألسنة، وآخر ترجمة الألسنة. وهذه كلّها يفعلها الروح الواحد
بعينه، موزّعًا، كيف شاء، على كل واحد خصوصًا” (1 كو 12: 7- 11).

 

إنّ
عمل الروح القدس لا يقتصر على تلك المواهب الخاصة، بل يشمل الحياة المسيحية في جميع
مرافقها. ويمكننا رؤية عمل الروح في وصف سفر أعمال الرسل لحياة الكنيسة الأولى.
فالمواظبة على تعليم الرسل والشركة في الصلاة وكسر الخبز، أي القربان المقدس،
والشركة في توزيع الخيرات، هي كلّها من عمل الروح القدس الذي كان يملأ المسيحيبن
الأولين:

 

وكانوا
مواظبين على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات، ووقع الخوف على كل نفس،
لأنّ عجائب وآيات كثيرة قد جرت على أيدي الرسل. وكان جميع المؤمنين يعيشون معًا،
وكان كل شيء مشتركًا فما بينهم، وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم، ويوزّعون
أثمانها على الجميع بحسب حاجة كل واحد مدنهم. وكانوا كلّ يوم يلازمون الهيكل بنفس
واحدة، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بابتهاج وسلامة قلب، ويسبّحون
الله، نائلين حظوة عند جميع الشعب. وكان الرب كل يوم يزيد في الكنيسة عدد
المخلّصين” (أع 2: 42-47).

 

ب) الروح القدس يكوّن الكنيسة

وهكذا
يكوّن الروح القدس الكنيسة في كرازة الرسل فيها وانضمام المؤمنين إليها. لقد رافق
الروح القدس الكنيسة منذ نشأتها وفي جميع مراحل نموها لذلك دعي سفر أعمال الرسل،
الذي يروي نشأة الكنيسة ونموّها، “إنجيل الروح القدس”. الروح القدس هو
قدرة الله التي تدفع بالكنيسة الناشئة “إلى أقاصي الأرض” حسّب قول يسوع
لتلاميذه: “إنّكم ستنالون قوّة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهودًا
في أورشليم، وفي جميع اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض” (أع 1: 8).

 

لذلك
يقود الروح القدس الرسل في كرازتهم. فالروح هو الذي قال لفيلبس أن يقترب من مركبة
قيّم ملكة الحبشة (8: 29). والروح هو الذي قال لبطرس ألاّ يتردد في الذهاب إلى
كرنيليوس قائد المئة، ويفتح أبواب الكنيسة للأمم (10: 19- 20). والروح هو الذي
اختار بولس وبرنابا للرسالة (13: 2- 4). ونرى الرسل يصغون لإلهامات الروح القدس في
عملهم الرسولي. فبولس وسيلا “جازا في فريجية وبلاد غلاطية، إذ منعها الروح
القدس أن يبشّرا بالكلمة في آسية. ولما انتهيا إلى ميسية حاولا أن يشخصا إلى
بيثينية، ولكنّ روح يسوع لم يأذن لهما” (16: 6، 7).

ويصغي
الرسل لإلهامات الروح القدس في قراراتهم. لذلك في إعلانهم ما توصّلوا إليه في مجمع
أورشليم بشأن موضوع إخضاع الأمم لشريعة موسى، نسمعهم يقولون: “لقد رأى الروح
القدس ونحن” (15: 28)

 

يدعو
سفر أعمال الرسل الروح القدس أحيانًا “روح يسوع” (16: 7)، لأنّ الروح
القدس هو مواصلة حضور يسوع معهم. فالروح القدس هو الذي يعمل فيهم ما كان يسوع
يعمله عندما كان معهم قبل موته وقيامته: التبشير بكلمة الرب، والدعوة إلى التوبة،
وإجراء الأشفية. فالرسل يعلّمون باسم يسوع (4: 18)، ويدعون إلى التوبة والإيمان،
كما كان يفعل يسوع (2: 38؛ 6: 7)، ويجرون الأشفية والآيات والعجائب باسم يسوع (3: 6،
4: 10، 30).

 

الروح
القدس يعمل في الرسل ويعمل أيضاً في المؤمنين، فيجمع الشعب على اختلاف فئاته في
جسد واحد هو جسد المسيح، حسب قو بولس الرسول: “إنّا جميعًا قد اعتمدنا بروح
واحد لجسد واحد، يهودًا كنّا أم يونانيين، عبيدًا أم أحرارًا، وسقينا جميعًا من
روح واحد” (1 كو 12: 13).

 

الكنيسة،
حسب بولس الرسول، متحدّة اتحادًا وثيقًا باب فالمؤمنون يتبرّرون ويتقدّسون في
المسيح وفي الروح (1 كو 1: 2، 30؛ 2 كو 5: 21)، ويتبرّرون ويتقدّسون أيضاً في
الروح القدس (رو 14: 17). وكذلك في المسيح وفي الروح القدس يحصلون على السلام
والفرح (في 3: 1؛ 4: 7؛ رو 14: 17). ومحبة الله قد أفيضت في قلوبهم في المسيح (رو
8: 39)، وفي الروح القدس (كو 1: 8). ويؤكّد بولس: “المسيح فيكم” (رو 8: 10)،
“وروح الله ساكن فيكم” (رو 8: 9). والمسيحي هو ابن الله بالمسيح وبالروح
(غلا 4: 4- 7).

 

الروح
القدس يجعلنا أبناء الله: “لقد أخذتم روح التبنّي، الذي به ندعو أبّا! أيها
الآب! فهذا الروح عينه يشهد مع روحنا بأنّا أولاد الله” (رو 8: 15، 16).
“والدليل على أنكم أبناء، كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه، ليصرخ فيها: أبّا!
أيها الآب! فأنت إذًا لست بعد عبدًا، بل أنت ابنٌ، وإذا كنت ابنًا، فأنت أيضاً
وارث بنعمة الله” (غلا 4: 6- 7). “إنّ جميع الذين يقتادهم روح الله هم
أبناء الله” (رو 8: 14).

 

المسيحيون
هم أبناء الله وهياكل الروح القدس وأعضاء في جسد المسيح. يقوم عمل الروح القدس في
المؤمنين على أنّه يدخل أعماق الإنسان ليجعل منه عضوًا في جسد المسيح. لذلك يتكلّم
بولس عن سكنى الروح القدس في المؤمنين: “أوَما تعلمون أنّكم هيكل الله، وأنّ
روح الله ساكن فيكم؟” (1 كو 3: 16)، “أوَلا تعلمون أنّ أجسادكما هي هيكل
الروح القدس الذي فيكم، الذي نلتموه من الله؟” (1 كو 6: 19). أمّا بالنسبة
إلى المسيح، فالمؤمنون أعضاء المسيح: “أما تعلمون أنّ أجسادكم هي أعضاء
المسيح؟” (1 كو 6: 15). الكنيسة ليست جسد الروح القدس، بل جسد المسيح. فالروح
القديس هو روح الله الذي يسكن في المؤمنين ليوحّدهم بالمسيح، ويدخلهم في علاقة
المسيح بالآب.

 

الروح
القدس هو قدرة الله الخلاّقة. علاقة المحبة التي عندما تنسكب في قلوب المؤمنين،
تجعل منهم أشخاصاً مرتبطين بعضهم ببعض ومرتبطين بالله. الروح القدس هو علاقة الله
بالبشر، والقدرة التي تربط البشر بالله. كأنّ الله، بروحه القدوس، يخرج من ذاته
ويتّحد بالناس ليوحّدهم به. بالروح القدس يصير الإنسان والله واحدًا: “بهذا
نعرف أنّا ثابتون فيه وهو فينا: بأنّه قد أعطانا من روحه” (1 يو 4: 13).

 

وتلك
هي الكنيسة: حياة الله التي أتت بالمسيح وبالروح القدس تنسِكب في قلوب البشر،
فتجعلهم أبناء الله وهياكل للروح القدس، أي توحّدهم بالله وتوحّدهم بعضهم ببعض،
وتصيّرهم جسدًا واحداً للمسيح.

 

يقول
القديس إيريناوس: “كما أنّ الله قد نفخ روحه في الجسد الذي كوّنه، منح الحياة
لكل أعضاء الجسد، هكذا أعطى الروح للكنيسة. وهذا الروح الذي تسلّمته الكنيسة وأعطي
لها ونُفخ فيها، هو المبدأ الحي للإتحاد الصميم بالمسيح: هو ثبات إيماننا، والسلّم
الذي به نرتقي إلى الآب. وهو أخيرًا، وعلى الأخصّ، عربون وبذار لعدم الفساد حتى
اللانهاية، حيث نُعتَق إلى الأبد من أصل الموت وجموده. فحيث الكنيسة هناك أيضاً
روح الله، وحيث الله هناك الكنيسة وكلّ نعمة والروح هو حق: لذلك فانّ من لا يشترك
في الروح لا يستقي من جوف أمّه غذاء الحياة، لا ينال شيئًا من الينبوع الصافي الذي
يتدفّق من جسد المسيح” (ضد الهراطقة 3: 24، 1).

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى