علم الكنيسة

شهادة البقية



شهادة البقية

شهادة
البقية

 من
خلال الكتاب نجد أنه مهما عظم الخراب والفشل والظلمة الأدبية للشهادة العامة خلال
الأزمنة، فإن الله دائماً له بعض المؤمنين ذوي القلوب الصادقة والذين انفصلوا عن
جموع المعترفين التي فسدت، والذين بلا تقوى وبلا حياة ويدعون أنهم مرتبطون بالله.
إن هؤلاء يتصفون بتقوى أصيلة لله ولكل أموره. ونلاحظ أن الله لا يترك نفسه أبداً
بدون شهود يضيئون كأنوار له في الظلمة. إنه يقال عن مثل هؤلاء أنهم
“بقية”، وهم الذين تركوا كشهادة لله عندما تتحول الأغلبية عنه وعن كلمته
وقد أفسدوا أنفسهم بالشرور المحيطة بهم.

 

 ونجد
تعبير “بقية” عدة مرات في الكتاب. وعزرا في صلاة اعترافه لله قال: “كانت
رأفة من لدن الرب إلهنا ليبقي لنا نجاة”[*] (عزرا 9: 8). وفي حزقيال 6: 7 و 8
قال الله “وتسقط القتلى في وسطكم.. وأبقى بقية، إذ يكون لكم ناجون من
السيف”. والرسول بولس في حديثه عن شعب اسرائيل قال: “فكذلك في الزمان
الحاضر أيضاً قد حصلت بقية حسب اختيار النعمة” (رو 11: 5) هذه أمثلة قليلة
للمرات التي وردت فيها كلمة “بقية”.

مقالات ذات صلة

 

 وكما
كان في العهد القديم توجد دائماً بقية من المؤمنين الحقيقيين والأمناء، كذلك نجد
في العهد الجديد، ففي وسط الخراب والارتداد في اسرائيل وفي الكنيسة، فإن الله له
بقية دائمة من المؤمنين ذوي القلوب الصادقة والأمينة، له شركة معها، ويظهر ذاته
لها بطريقة خاصة. كذلك في زمان الخراب والارتداد للكنيسة المعترفة، فإن الذين
يريدون أن يكونوا حقيقة للرب ولكلمته هم بقية قليلة في وسط جمهور غفير من
المعترفين بالمسيحية.

 

خصائص
عامة

 لذلك
يكون من المفيد والمشجع للذين يريدون أن يكونوا أمناء للرب في هذه الأيام الأخيرة
للكنيسة أن يدرسوا خصائص البقية من المؤمنين المخلصين في كل العصور ويلاحظوا كيف
أنهم مؤازرون ويجدون التشجيع من الله في يوم الشر. ويمكننا أن نشير فقط في هذه
الصفحات إلى ملامح قليلة للبعض من البقية في القديم، ولكننا نلح على القارئ أن
يدرس هذا الموضوع لنفسه بالتفصيل (نبذة كتبها تشارلس ماكنتوش وهي مفيدة للغاية
بعنوان “البقية: في الماضي وفي الحاضر”[†]).

 

 وفي
البداية نقرر أن حقيقة وجود بقية تبرهن على فشل الشهادة الخارجية أو جموع
المعترفين، سواء كانوا يهوداً أم مسيحيين، ليكونوا شهادة حقيقية لله. فلو كان
الجميع أمنا، لبطل الأساس للتمييز بين القليلين وجموع المعترفين. والبقية في كل
زمان ترى دائماً أنها تتضمن الذين يشعرون ويعترفون بالفشل الشائع وخراب الشهادة
العامة، ولكنهم يعتمدون على الله ويلتصقون بكلمته وهم سائرون بالانفصال عن الشر.

 

 ويلاحظ
أيضاً أنه كلما عظم الخراب في الشهادة الخارجية كلما ستعلن غنى نعمة الله في
البقية، وكلما ازدادت كآبة اليوم وظلمته كلما لمعت الأمانة الفردية لله. ومع أن
الإنسان ثبت فشله الدائم فيما استودعه له الله، لكن الله أمين دائماً ورحيم وصادق
في مواعيده ويحتفظ دائماً لنفسه بشهادة. وهذا ما هو معلن في دراسة البقية في
الكتاب.

 

 إن
ما تقدم مشجع بقوة لكل ابن لله بقلب صادق، يشعر ويعترف بخراب الكنيسة المعترفة
وبانكسار السفينة بلا أمل في إصلاحها. ومن المشجع حقاً أن نتيقن أنه كيفما كانت
الكنيسة فاشلة، فمن امتياز المؤمن الفرد أنه يسر سروراً كاملاً بالشركة الثمينة مع
الله، وبالسلوك في طريق الطاعة والبركة كما كان الأيام الأولى في تاريخ الكنيسة.

 

زمان
حزقيا

 في
أخبار الأيام الثاني 30 نجد رواية النهضة والانتعاش في أيام حزقيا في الوقت الذي
كانت فيه الوحدة الخارجية للأمة مكسورة، والأمور في اسرائيل كانت أسوأ حال. ومع أن
دعوة حزقيا وإعلانه لكل اسرائيل ويهوذا أن يأتوا إلى بيت الرب في أورشليم لحفظ
الفصح قد قوبل من الأغلبية بالهزء والسخرية لرسل الملك، غير أن بعضاً من الشعب من
أسباط مختلفة تواضعوا وأتوا إلى أورشليم. وهناك عملوا الفصح في الشهر الثاني وعيد
الفطير بفرح عظيم “وكان فرح عظيم في أورشليم لأنه من أيام سليمان بن داود ملك
اسرائيل لم يكن كهذا في أورشليم” (ع 26).

 

 إن
نعمة الله اتجهت لهؤلاء من شعبه الذين اعترفوا بخطاياهم، والذين كان الله قد
أهملهم، لكنهم اتخذوا مكانهم الحقيقي بالتواضع أمام الله. وكان هناك ضعف كثير في
طاعة كلمة الله، لكن الرب كان رحيماً بهم وباركهم بركة وافرة وأعطاهم انتعاشاً
عظيماً. إنهم لم يقيموا أنفسهم وكأنهم أناس قد تزكوا من الله أو أنهم ادعوا بأنهم
شيء، بل ببساطة اتخذوا مكان التواضع والاعتراف أمام الله وسعوا إلى طاعة كلمته.
وكانت النتيجة أنهم اختبروا فرحاً عظيماً ومسرة، لم يكن من قبل منذ أيام سليمان.
ويا له من مثال عظيم ومشجع للمؤمنين الحقيقيين في يومنا هذا.

 

دانيال
ورفقاؤه

 وفي
سفر دانيال نجد رواية دانيال ورفقاؤه، والتي نرى فيها مثالاً آخر لبقية تقية من
المؤمنين الأمناء في زمن الخراب والشر. ومع أن أورشليم التي كان فيها الهيكل هناك
وحيث وضع الله اسمه، أصبحت خراباً وقد حمل اسرائيل مسبيين إلى بابل، لكن هذه الفئة
القليلة من الأتقياء كانوا في ولاء حقيقي لكلمة الله في وسط أدناس وأرجاس بابل
الوثنية. لقد ساروا بالانفصال عن كل هذه الأمور وتحملوا النيران الملتهبة وجب
الأسود عن المساومة بحق الله.

 

 لقد
وضعوا في قلوبهم ألا ينجسوا أنفسهم. وفي صلواتهم الحارة أمام الله نالوا إعلانات
من سرائره. وشعر دانيال بالخراب العظيم للشهادة وبخطايا اسرائيل واعترف بها أمام
الله. إنه وحد نفسه مع هؤلاء فقال: “أخطأنا وأثمنا” (دا 9: 5). كانت
مراحم الله التي استند عليها مع النعمة التي كان يلتمسها وأيضاً إيمانه بمواعيده
أعطته القوة والإعلانات النبوية العجيبة. ويا لها حقاً من دروس عجيبة لنا في زمان
خراب الكنيسة.

 

أزمنة
ما بعد السبي

 في
أسفار عزرا ونحميا وحجي نجد تاريخ البقية التي وجدت الفرصة متاحة لها أن تترك في
بابل وترجع إلى أورشليم لإعادة بناء الهيكل والسور حول المدينة. لقد كانوا جماعة
صغيرة وضعيفة من بين أمة اسرائيل التي كان لها قلب لعبادة يهوه. وعند رجوعهم إلى
أورشليم لم يدعوا بأنهم كل الشعب بل كانوا يفكرون في كل اسرائيل. وهذا ما نراه في
بنائهم “مذبح إله اسرائيل ليصعدوا عليه محرقات كما هو مكتوب في شريعة
موسى” (عزرا 3: 2). وأيضاً “أقاموا المذبح في مكانه” و “حفظوا
عيد المظال كما هو مكتوب” (عزرا 3: 3 و 4).

 

 كان
ما يهمهم أولاً هو عبادة في ناموس موسى”. إنهم لم يقيموا شيئاً جديداً، بل
رجعوا إلى ما كان الله قد أقامه من قبل. أقاموا المذبح في مكانه – كما كان قبلاً.
وحفظوا الفصح مع “جميع الذين انفصلوا إليهم من رجاسة أمم الأرض، ليطلبوا الرب
إله اسرائيل” (عزرا 6: 19 – 21). ولهذا كانوا جماعة منفصلة عن الشر ومكرسة
لله، وكان عليهم أن يقبلوا هؤلاء الذين انفصلوا أيضاً عن الشر”. وعندما وجد
بينهم الفشل والخطية مؤخراً، كان يلزمهم الاعتراف والخوف من الله ونزع الشر (عزرا
9: 10). ويا له من تشجيع ثمين ومثال لنا في زمن الخراب.

 

 وفي
سفر ملاخي نرى هذه البقية عينها في سنوات تالية. فمع أنهم كانوا في المركز الإلهي
أمام الله، فإن حالتهم كانت مؤسفة للغاية وسيئة. ومع ذلك فإننا نجد بينهم هؤلاء
الأمناء للرب الذين نالوا مصادقته. ونستطيع أن نقول أنهم كانوا بقية داخل بقية.
وعن هؤلاء نقرأ “حينئذ كلم متقو الرب، كل واحد قريبه، والرب أصغى وسمع، وكتب
أمامه سفر تذكرة، للذين اتقوا الرب، وللمفكرين في اسمه” (ملا 3: 16). كم هو
منعش أن نقرأ عن هذه الجماعة في وسط المشهد المرعب للشر، الذين يكرمون الرب ويحبونه
ويجدون فيه مركزهم ومسرتهم. وعن هؤلاء كان لهم سفر تذكرة مكتوب، إنه شيء لم نسمع
عنه في الأيام المجيدة لموسى وليشوع ولداود أو لسليمان. نستطيع أن نتعلم الكثير من
هذه البقية التقية في زمن ملاخي.

 

في
العهد الجديد

 في
رسالة يهوذا حيث يشير إلى الشرور المرعبة لدائرة المسيحية المعترفة المرتدة، فإننا
نجد بقية مسيحية يتكلم عنها ويخاطبها. فالرسالة مكتوبة إلى هذه البقية (إلى
المدعوين، المقدسين في الله الآب، والمحفوظين ليسوع المسيح”. وفي وسط الشر
والفساد المحيط بهم، فإنهم يحرضون أن يبنوا أنفسهم على إيمانهم الأقدس، مصلين في
الروح القدس، وأن يحفظوا أنفسهم في محبة الله، منتظرين رحمة ربنا يسوع المسيح (ع
20 و 21). هذه التحريضات التي تناولناها في دراساتنا السابقة.

 

 ونقتبس
هنا هذه الكلمات الممتازة للكاتب تشارلس ماكنتوش والمرتبطة بهذه البقية والتي يجب
أن تكون موجودة في يومنا الحاضر للبقية المسيحية: [نجد هنا صورة حلوة عن البقية من
المسيحيين الحقيقيين وعن مشغوليتهم واهتمامهم مع بعضهم البعض.. لا نجد إدعاء أو
تعالي، ولا محاولة منهم أن يقيموا لأنفسكم شيئاً أو يصبحون شيئاً، وهم لا يحاولون
أن يتجاهلوا الحقيقة المؤسفة والخطيرة بالخراب المطلق للكنيسة المعترفة والتي لا
أمل فيها. إنها بقية مسيحية في وسط خرائب المسيحية، ولكنها صادقة ومخلصة لشخص
المسيح، وكذلك لكلمته، وتربطهم معاً وشائج المحبة – المحبة المسيحية الحقيقية –
ليست محبة متحزبة أو لجماعة أو لعصبة أو لزمرة، بل محبة في الروح، محبة لجميع من
يحبون ربنا يسوع المسيح بإخلاص، محبة تعبر عن ذاتها في تقوى حقيقية للمسيح
ولمسراته الغالية، وخدمة المحبة المقدمة لكل الذين يرتبطون به وتسعى أن تظهره
بوضوح في كل طرقها. إنها لا تستريح فقط في مجرد المركز بغض النظر عن الحالة – فهي
مصيدة مرعبة للشيطان – ولكنها وحدة صحيحة وصحية للإثنين معاً في حياة توصف بمبدأ
صحيح وممارسة النعمة، ملكوت الله مؤسس في القلب وتظهر نفسها في كل مسلك عملي.

 

 [هذا
هو المركز، هذه هي الحالة، وهذه هي البقية المسيحية الحقيقية في ممارستها العملية.
ونحن نستريح في التأكيد على أنه طالما هذه الأشياء متحققة وممارسة فهناك التمتع
بغنى المسيح، وكلما كانت الشركة كاملة مع الله كلما لمعت الشهادة للحق المجيد
لمسيحية العهد الجديد كما كانت معروفة دائماً في الأيام المشرقة لتاريخ الكنيسة.
وبالاختصار فهناك ما سيمجد اسم الله، ويشبع قلب المسيح، ويتكلم بقوة حية في قلوب
وضمائر الناس. ليت الله في صلاحه المتناهي يعطينا أن نرى هذه الحقائق اللامعة في
هذا اليوم المظلم والشرير.

 

 [وكما
كان في اسرائيل قديماً، كذلك في الكنيسة المعترفة، فإن البقية لا بد أن توجد لتشمل
هؤلاء الذين هم للمسيح بحق، ويتمسكون بكلمته في مواجهة كل شيء والمكرسين لصوالحه
الثمينة، والذين يحبون ظهوره أيضاً. وبالاختصار فلا بد أن تكون حقيقة حية وليست
مجرد عضوية كنسية أو شركة اسمية هنا أو هناك، مع هؤلاء أو مع أولئك.وفضلاً عن ذلك
فهي ليست الادعاء بوجودها، ولكنه وجود حقيقي لهذه البقية – ليس الاسم بل القوة
الروحية، ولذلك قال الرسول”إني أعرف ليس كلام.. بل قوتهم” ].

 

 وفي
الختام نريد أن نلفت النظر إلى البقية المشار إليها والتي تنال التشجيع في الرسائل
إلى السبع الكنائس في آسيا في رؤيا 2 و 3. ففي ثياتيرا نجد بقية تخاطب لأول مرة في
هذه الرسائل، وهناك أيضاً نقرأ لأول مرة عن مجيء الرب. وهنا أيضاً الأذن التي تسمع
لم يعد منظوراً إليها في الكنيسة بل للغالبين (انظر رؤيا 2: 24 – 29). وهذا يرينا
أن كل رجاء في رجوع الكنيسة المعترفة إلى حالتها السابقة من الشهادة المتحدة قد
انتهت تماماً. ولكن البقية التي برأت نفسها من تعليم إيزابل وأعماق الشيطان لها
التشجيع أن تتمسك بما أخذته حتى يأتي ولها الوعد أن يكون لها مع المسيح مكاناً في
الملك والحكم.

 

 وفي
ساردس نجد قليلين لم ينجسوا ثيابهم، ولهم الوعد أنهم سيمشون مع المسيح في ثياب بيض،
وأنه سيعترف بأسمائهم أمام أبيه وملائكته (رؤ 3: 4 و 5). وفي فيلادلفيا لنا صورة
جميلة لجماعة من المسيحيين الضعفاء وهم في ولاء وصدق للمسيح ويحفظون كلمته، ولا
ينكرون اسمه (رؤ 3: 7 – 13). وفي لاودكيه حيث لا قلب لهم ولا مبالاة للمسيح، ولهم
رغبة في إشباع ذواتهم، تأتي المناشدة للفرد من المسيح الذي هو خارج باب الكنيسة
ولكنه يقرع “إن سمع أحد صوتي، وفتح الباب، أدخل إليه، وأتعشى معه، وهو
معي” (رؤ 3: 20).

 

 وفي
كل رسالة من هذه الرسائل فإن النداء إلى الغالبين إذ يعطي لهم المواعيد الثمينة
إذا غلبوا وسمعوا لصوت الروح. ولذلك نتعلم أنه عندما كل شيء حولنا يخرب ويفشل
ويرتد فإن الرب يتطلع إلى الغالبين الذين يسمعون صوته ويطيعونه. هذه هي البقية
الحقيقية للكنيسة في كل فترة في التاريخ. ليت الرب يجعلنا قادرين أن نكون غالبين
حقيقيين وأن نكون شهادة لبقية أمينة في هذه الأيام الأخيرة لخراب الكنيسة وظلمتها.

 

 وهنا
نختم تأملاتنا في هذا الموضوع العظيم والمجيد “كنيسة الله الحي”. لقد
تناولنا طبيعتها وترتيبها بحسب منظورها الشامل والمحلي، وتناولنا خصائصها الإلهية
وترتيبها بحسب تأسيسها الأصلي من الله، وحالتها الحاضرة من الخراب. كما رأينا
الخدمة والمواهب من رأسها الممجد، وتناولنا علاقاتها الإلهية الموجودة في الذين
يمثلون الكنيسة محلياً، وكذلك لاحظنا الطريق المبين في زمان الخراب.

 

 ليت
القارئ يكون مثل أهل بيريه في القديم الذين قبلوا الكلمة بكل نشاط، والذين يفحصون
الكتب كل يوم ليروا هل هذه الأمور كذلك (أعمال 17: 1).

—————-

[*]
تقرأ في ترجمة (
K. J) كالآتي: “grace
hath been shewed from the Lord our God, to leave us a remnant to escape”
(Ezra 9: 8
).

وفي
التفسيرية “وتعطفت علينا فأنجيت لنا بقية”.

[†]
هذا الكتيب مطبوع بالعربية والناشر بيت عنيا (المعرب).

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى