علم الله

الفصل الثاني



الفصل الثاني

الفصل الثاني

النعمة
في كتابات آباء الكنيسة

هناك
تيّاران في لاهوت النعمة عند الآباء: فالآباء الشرقيّون يرون النعمة في تأليه
الإنسان. بينما يرى الآباء الغربيّون النعمة في التحرّر من الخطيئة. فالتيّار
الأوّل يستند إلى كتابات يوحنا الإنجيلي، ويشدّد على تجسّد الكلمة الذي بواسطته
يصبح الإنسان ابن الله، بينما يرتكز التيّار الثاني على رسائل بولس الرسول، ويرى
في النعمة مساعدة يعطيها الله للإنسان ليحيا حياة قداسة على مثال المسيح. فالتيار
الأول يركّز على كيان الإنسان، بينما يركّز التيّار الثاني على عمله. فالنعمة عند
آباء الكنيسة الشرقيّة تهدف إلى رفع كيان الإنسان ليصير على صورة الله. أمّا عند
آباء الكنيسة الغربيّة فتهدف إلى تحرير الإنسان من الخطيئة.

أولاً- آباء
الكنيسة الشرقيّة

مقالات ذات صلة

لقد
عبر الآباء عن أفكارهم في موضوع النعمة بمناسبة ما كتبوه في الأسرار وما قام من
جدل لاهوتي حول سريّ التجسّد والثالوث الأقدس.

أ)
النعمة والأسرار

النعمة
هي حضور الثالوث الأقدس في نفوس الذين يتقبّلون سرّ المعموديّة، فيولدون من جديد،
ويتّحدون بالله، وما حياتهم إلاّ تطبيق لما حصلوا عليه بالمعموديّة.

1-
ايريناوس: يشدّد على الولادة الجديدة أكثر ممّا على مغفرة الخطايا. فبالمعموديّة
ينال المؤمن الروح القدس الذي يسكن فيه ويتّحد به.

وهذا
الروح يجعل من المؤمن ابن الله، شبيهاً بالابن، إنساناً روحياً، بانتظار ملء النعم
في رؤية الله في المجد الأبديّ.

“فالاتّحاد
بالروح القدس لا يمكن فصله عن الاتّحاد بالابن والآب. فالنعمة إذاً هي قبل كل شيء
موهبة غير مخلوقة: إنها حضور الثالوث في المؤمن لتقديسه ومساعدته على أن يكون
إنساناً روحيّاً.

2-
أوريجانوس: يرى في المعموديّة أساس الحياة الروحيّة كلها في مختلف مراحلها.
فالمعمودية تشرك الإنسان في حياة الكلمة؛ والروح، بالإيمان والمعرفة والمحبة،
يقوده إلى الآب. فيصير إنساناً جديداً، قد تحرر من الاستعباد للخطيئة، وأخاً
للمسيح وابناً للآب.وهكذا يشترك في الطبيعة الالهيّة بالمحبة والروح اللذين أفيضا
في قلبه.

بالروح
يشترك المسيحيّ في الكلمة الذي يصبح فيه مبدأ حياه إلهية. وهكذا يتجدّد سكنى
الكلمة في أحشاء مريم وميلاده في أعضاء جسده السري. وتلك السكنى تصيّر الإنسان على
صورة الكلمة. “إني أعلم ما في النفس التي يسكنها الله، وها هي النفس المقفرة.
إن لم يكن الله فيها، إن لم يكن فيها المسيح الذي قال: أنا وأبي سنأتي إليه وعنده
نجعل مقامنا، إن لم يكن فيها الروح القدس، فالنفس مقفرة. ولكن إن سكن فيها الله
والمسيح والروح القدس، فهي ممتلئة من الله.

3-
كيرلس الأورشليمي: إن المعموديّة تمنحنا الروح القدس ومواهبه المختلفة: “إن
المعموديّةَ التي ستتقبلونها هي أمر عظيم: إنها انعتاق الأسرى، مغفرة الخطايا، موت
الخطيئة، ولادة جديدة للنفس، ثوب من نور، ختم مقدس لا يمحى، طريق إلى السماء، نعيم
الفردوس، عربون الملكوت، موهبة التبّني”. ثم يذكر سكنى الروح القدس في النفس،
التي تصبح “مسكنا إلهيّا”.

ب)
التجسد مبدأ التأليه والتبنّي

1-
التأليه والصورة والمثال: يرى آباء الكنيسة الشرقية في تألّه الإنسان النعمة
الكبرى التي يمنحها الله “للإنسان. فبينما كان الفلاسفة اليونان ينشرون
نظريّة أفلاطون في التشبّه بالله، والأديان اليونانية تسعى إلى الوصول إلى خلود
الآلهة بواسطة طقوس سحريّة أو طرق تقشّف بشريّة، راح اللاهوتيّون المسيحيّون يعلنون
أن الاشتراك في الطبيعة الإلهية والتشبه بخلود الله والتأله لا يستطيع الإنسان أن
يصل إليها بجهوده الخاصّة، بل هي نعمة من الله. فالله نفسه نزل إلى البشر وتجسّد
ليرفع الإنسان إليه ويشركه في حياته الإلهية. وقد صار أمراً تقليديًّا في اللاهوت
الشرقيّ تقسيم تاريخ الخلاص إلى ثلاث مراحل:


خلق الله للإنسان على صورته ومثاله


سقوط الإنسان بالخطيئة الأصليّة


إعادة الصورة القديمة بالتجسّد والفداء

ويقوم
التألّه، أو اشتراك الإنسان في الطبيعة الإلهية الذي ورد ذكره في رسالة بطرس
الثانية (1: 4)، على الخلود وعدم الفساد والحياة الأبديّة بعد الموت. فالإنسان
مائت من طبيعته، أمّا الله فمن طبيعته لا يموت. ومن ثمّ فالاشتراك في طبيعة الله
يعني أولاً عدم الموت.

وعندما
يفسّر آباء الكنيسة قول الكتاب المقدّس إنّ الله خلق الإنسان “على صورته
ومثاله” يميّز بعضهم بين الصورة () والمثال (). فالصورة هي في طبيعة الإنسان،
إمّا في جسده، ونفسه حسب إيريناوس، إمّا في نفسه فقط حسب أكّليمنضوس الإسكندريّ
وأوريجانوس. وهذه الصورة لا تُفقد بالخطيئة. أمّا المثال فقد فقده الإنسان
بالخطيئة، وأعاده إلينا الكلمة المتجسّد. فمن يقبل خلاص المسيح وفداءه يشترك في
الطبيعة الإلهية، أي في عدم الفساد وفي الحياة الأبديّة.

أمّا
أثناسيوس وغريغوريوس النبيصيّ فيريان في “الصورة” ختماً إلهيًّا يضعه
الله في روح الإنسان وعقله. وهذا الختم يصبح قاتماً بالخطيئة، ويعيده الفداء إلى
بهائه الأوّل. أمّا “المثال” فهو الاقتداء والتشبّه بالله. فالإنسان
يصير تدريجياً على مثال الله يتألّه باشتراكه في حياة المسيح الإله، وذلك بواسطة
الإيمان وسري المعموديّة والافخاريستيا.

2-
التبنّي: يرى أثناسيوس وكيرلّس أنّ التألّه لا يمكن أن يحصل عليه الإنسان إلاّ
بالتبنّي. فالطبيعة الإنسانيّة معرّضة للفساد وبعيدة كلّ البعد عن الله. الله وحده
يستطيع أن يؤلّه الإنسان. وقد صنع ذلك بواسطة الابن الذي تجسّد ليجعل من جميع
الناس أبناء الله. فالابن وحده صورة الله المماثلة للآب. فهو وحده إذاً يستطيع أن
يجعل الإنسان على مثال الله. “الابن إله، لأنّه يؤلّهنا”. “لقد صار
الله إنساناً لكي يصير الإنسان إلهاً.”

ج)
الروح المحيي: يشدّد آباء الكنيسة اليونانية على ما يميّز الروح القدس عن الخلائق.
فالروح يقدّس الإنسان ويؤلّهه، فهو إذاً قدوس وإله، يقول أثناسيوس. وكذلك يقول
القدّيس غريغوريوس النزينزيّ: “إذا كان الروح القدس لا يحقّ له السجود
والعبادة (كإله)، فكيف يصيّرني إلهاً بالمعموديّة؟” ويتكلّم باسيليوس عن حضور
الروح القدس في النفس حضوراً مقدّساً ومؤّلهاً. “وهذا الروح هو قدوس من
طبيعته كما أنّ الآب هو قدوس والابن قدوس من طبيعتهما”.

يشبّه
كيرلّس الإسكندريّ موهبة الروح بالختم الذي نقشت عليه زهرة. فالختم هو الروح القدس
نفسه، والزهرة المنقوشة على الختم هي النعمة الخلوقة. فلا وجود للنعمة في نفس
المؤمن إلاّ إذا حضر الروح القدس نفسه ليسكن في تلك النفس. وهكذا يشترك المسيحيّ
ليس فقط بمساعدات الروح القدس، بل يشترك في الطبيعة الإلهية ذاتها.

ثانياً: آباء
الكنيسة اللاتينية

يرى
آباء الكنيسة اللاتينيّة في النعمة حافزاً داخلياً به يقود الله الإنسان ويساعده
على عمل الخير وعلى السير بثبات نحو الحياة الأبدية. وقد أكّدوا دور الروح القدس
الذي يعمل في داخل الإنسان ليسير به على طريق القداسة. في هذا المعنىّ يقول
ترتوليانوس إن النعمة هي “قوة إلهية”.

فبينما
يشدّد الآباء الشرقيّون على تحوّل كيان الإنسان الذي يتألّه ويصبح بالنعمة ابن
الله، يركّز اللاتينيّون على دور النعمة في عمل الإنسان: فتشفيه من ميوله وشهواته
المنحرفة وتساعده على تتميم وصايا الله.

أ)
القديس أوغسطينوس

لقد
كان للقديس أوغسطينوس تأثير حاسم على لاهوت النعمة في الغرب حتى يومنا هذا. لذلك
لا بدّ من التعمّق في أفكاره في هذا الموضوع.

تتميّز
نظرته إلى النعمة بالتشديد على مجانيّة هبة الله:

1-
فالإنسان، بسبب سقطة الخطيئة الأصلية، هو عبد للشهوة والخطيئة، ولا يملك في ذاته
الِحرّية والقدرة ليحب الخير ويتمّمه. فالحرّية تقوم على محبة الخير وعلى توجيه كل
عمل يقوم به الإنسان نحو الحياة مع الله.

2-
إلاّ أن نعمة المسيح تبرّر الإنسان الساقط، وتعيد إليه الحريّة وتضع في قلبه محبة
الخير وتساعده على تتميم وصايا الله. فالتبرير هو عمل الله الذي يهدي الخاطئ إلى
طريق البر، فيحرّره تدريجياً من الشهوة ويملأه من المحبة.

3-
إن الإيمان الذي به يقبل الإنسان رسالة المسيح هو أيضاً نعمة من الله.

4-
بالمعموديّة يولد الإنسان من جديد ويصبح عضواً في جسد المسيح وابناً لله وهيكلاً
للروح القدس. في هذا يتفق أوغسطينوس مع آباء الكنيسة اليونانيّة.

5-
التبرير يتضمّن موهبة الروح القدس غير الخلوقة وموهبة المحبة الخلوقة. فالنعمة في
كتابات أوغسطينوس هي تارة الروح القدس نفسه وتارة نتيجة حضوره أي موهبة المحبة
التي تساعد الإنسان على تتميم إرادة الله.

6-
إن النعمة لا تعطي فقط الإنسان إمكانيّة عمل الخير والقدرة على عملِ الخير، بل إن
كل عمل صالح وخلاصيّ يقوم به الإنسان هو من فعل النعمة. فالنعمة إذاً في هذه
النظرة هي المساعدات المستمرّة التي يمنحها الله للإنسان ليتمّم بملء رضاه أعمال
البرّ والصلاح.

7-
إن الإنسان الذي يقبل نعمة الله ويعمل أعمال البرّ يستحقّ الحياة الأبديّة، إلاّ
أن الخلاص الأبديّ لا ينتج عن استحقاقات الإنسان بل هو موهبة من الله لا يستطيع
الإنسان الحصول عليها إلاّ بالصلاة.

8-
التحديد السابق من قبل الله لخلاص بعض الناس: إستناداً إلى رو 8: 29 “إن
الذين سبق فعرفهم، سبق أيضاً أن يكونوا مشابهين لصورة ابنه”، يرى أوغسطينوس
أنّ الله يعرف منذ الأزل ويحدّد الأشخاص الذين سيخلصون. فهؤلاء ينالون من الله
موهبة الثبات في النعمة. أمّا الذين يهلكون فيهلكون بحرّيتهم، إلاّ أنهم لم ينالوا
نعمة الثبات. فالله يختار بعض الناس ويمنحهم نعمة خاصّة، مع أنه يدعو الجميع إلى
الخلاص.

لا
يمكننا اليوم قبول نظرية أوغسطينوس هذه. فالله لا يميّز بين أبنائه بالنسبة إلى
الخلاص. بل يمنحهم جميعاً النعمة الكافية لكي يصلوا إلى الحياة الأبديّة. والنعمة
التي تعطى للجميع، تبقى نعمة، وإن أعطيت للجميع. أمّا أوغسطينوس فيعتبر أن النعمة
لا تكون نعمة إذا أعطيت لجميع الناس.

كذلك
لا يعطي أوغسطينوس لحريّة الإنسان الأهميّة التي يجب إعطاؤها. وكأنه لا يرى قدرة
الإنسان على رفض النعمة.

ب)
بيلاجيوس ومجمع قرطاجة

1-
بيلاجيوس راهب إيرلندي الأصل عاش في رومة حوالي سنة 400، ثم انتقل إلى شماليّ
إفريقيا ثم إلى أورشليم.

يمكننا
إيجاز تعليمه في النعمة في العبارة التالية: ان الإنسان يستطيع تتميم وصايا الله
بقواه الذاتيّة، ولا حاجة له إلى مساعدة إلهيّة لا لإرادة الخير ولا لتتميمه.

يميّز
بيلاجيوس في الإنسان ثلاثة أمور: القدرة والإرادة والكيان. فالقدرة على عمل الخير،
أي الحريّة، هي “النعمة” التي وهبها الله للإنسان. أما إرادة عمل الخير
وتنفيذ هذا العمل في كيان الإنسان فيعودان إلى الإنسان فقط. إلاّ أن الله يساعد
الإرادة بمساعدات خارجيّة: تعاليم الكتاب المقدّس، موعد الخيرات الآتية في الحياة
الأبديّة، التحذير من فخاخ الشيطان. ولكن بيلاجيوس يرفض أيّ وجود لمساعدات داخليّة
يمنحها الله للإنسان، وذلك لسببين: 1) لأن الإنسان ليس بحاجة إليها، فحريّته تكفي
لذلك، 2) لأنّ الله لا يمكن أن يكون عنده “محاباة وجوه” لتفضيل إنسان
على آخر.

2-
مجمع قرطاجة (411) حرم تعاليم بيلاجيوس في البنود التالية:

البند
3. لا تقتصر نعمة التبرير على مغفرة الخطايا التي ارتكبها الإنسان، بل هي أيضاً
مساعدة لكي لا يخطأ الإنسان.

البند
4. ان نعمة المسيح التي تساعدنا على الابتعاد عن الخطيئة لا تمنحنا فقط معرفة
الخير والشر، بل نهبنا أيضا محبة الخير والقدرة على تتميمه.

البند
5. إن النعمة لا تمنح فقط سهولة أكثر، بل بدونها لا نستطيع أن نتمم وصايا الله.

البنود
6، 7، 8. لا يستطيع أي من القديسين أن يجتنب الخطيئة. وعندما يقولون “اغفر
لنا خطايانا” يقولون ذلك عن حقّ وليس عن تواضع.

ج)
البيلاجية المعتدلة:

نشأت
في بعض أديرة للرهبان في مرسيلية. وكانت ردة فعل -ضرورية ولكن متطرّفة- ضد تعاليم
أوغسطينوس في التحديد السابق والنعمة الكافية التي لا بدّ منها للخلاص. فأكّدوا أن
الله يريد خلاص جميع الناس، إلاّ أنّه يمنحهم نعمه على قدر طلبهم. إن الله يعرف من
هم الذين سيخلصون، إلاّ أنه لا يميّز بين شخص وآخر، بل يحبّهم جميعا دون تفرقة.
إنما ينتظر من قبل الإنسان إبداء الرغبة في الحصول على نعمة الإيمان وطلب تلك
النعمة. فبداية الإيمان ليست من عمل النعمة بل من عمل الإنسان.

كذلك
يعتبرون أن الخلاص الأبديّ ليس نعمة خاصة من الله، بل هو ناتج عن استحقاقات
الإنسان.

د)
مجمع اورانج (529) شدَّد على أمرين: الله هو مصدر كل إيمان وخلاص، ولا يستطيع
الإنسان أن يقوم بأي عمل خلاصي دون النعمة.


فالنعمة تسبق كل جهد بشريّ، وهي مصدر كل صلاة ورغبة صالحة وكل عمل خلاصيّ ولا
يستطيع إنسان أن يصل إلى الإيمان من دونها.


ثم إن النعمة ضروريّة للثبات في الإيمان وتتميم الوصايا والنموّ في الحياة
المسيحيّة.


أما بالنسبة لتحديد الله السابق للمخلّصين، فقد أعلن الجميع أنه لا تحديد سابق من
قبل الله للهالكين. فجميع من اعتمدوا يمنحهم الله النعمة الكافية للخلاص، إن هم
ارادوا وتجاوبوا مع تلك النعمة.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى