علم الله

الفصل الرابع



الفصل الرابع

الفصل الرابع

الثالوث
الأقدس في واقع حياتنا المسيحية

في
نهاية هذا البحث، الذي عرضنا فيه للثالوث الأقدس في الكتاب المقدّس وآباء الكنيسة
واللاهوت المعاصر، تفسيراً لقانون الإيمان، الذي يعلن الإيمان المسيحيّ بالآب
الضابط الكل، وابن الله الوحيد، والروح القدس الربّ المحي، يجدر بنا أن نتساءل: ماذا
يعني هذا الإيمان بالنسبة إلى واقع حياتنا المسيحية؟

نبدأ
أوّلاً بتفسير الجملة الأخيرة التي وردت في قانون الإيمان عن “الروح القدس،
الناطق بالأنبياء”، فنبيّن أنّ الروح القدس لا يزال اليوم أيضاً ينطق
بالأنبياء من المؤمنين بالمسيح.

مقالات ذات صلة

ثم
نشرح كيف أنّه، بحلول الروح القدس، اكتمل ظهور الثالوث الأقدس، وانكشف لنا سرّ
الله في علاقته بالإنسان وفي حياته الذاتية.

أولاً-
“الروح القدس الناطق بالأنبياء”

لماذا
يعود قانون الإيمان إلى ذكر الأنبياء بعد ذكر المسيح؟ ألم يقل لنا الروح القدس كلّ
شيء في المسيح؟ وماذا يعني اليوم الإيمان بالروح القدس في واقع حياتنا؟ بعد الجولة
التي قمنا بها في الطرق المختلفة التي عبّر بها آباء الكنيسة واللاهوت المسيحي عن
إيمانهم بالروح القدس عبر القرون، قد يبدو الحديث عن الروح وليد نظريات لاهوتية
عفا عنها الزمن وهي بعيدة عن واقع الحياة المسيحية المعاصرة.

ما
نقصد إثباته هنا هو أنّه لا يمكن المسيحي أن يفهم معنى عمل الله في العالم أو أي
شيء عن كيان الله في ذاته وفي علاقته بالإنسان ما لم يتعمّق في لاهوت الروح القدس،
لأنّه بالروح القدس يتَّحد الله بالإنسان ويصل الإنسان إلى الله. فالروح القدس هو
الإله الذي كلَّمَ الإنسان بواسطة الأنبياء، وكلَّمَ الإنسان بالمسيح، ولا يزال
اليوم يتكلَّم بالوجود المسيحي على مدى الزمن. وهكذا بالروح القدس يكتمل وحي الله
الثالوث ووحي عمله في العالم.

1- الروح
القدس والأنبياء

يقول
بطرس الرسول في رسالته الثانية “لم تأتِ نبوّة قطّ عن إرادة بشر، إنما بإلهام
الروح القدس تكلَّمَ رجال الله القدّيسون (2 بط 1: 21). ويردّد يسوع جواباً على
التجربة الأولى قول تثنية الاشتراع: “الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، بل بكلّ
كلمة تخرج من فم الله” (متى 4: 4). فإنّ كلمة الله التي تحي الإنسان هي كلام
الروح، والأنبياء هم الأناس الذين أصغوا إليها واستقوا من منهلها وكرزوا بها.

فالإله
الذي بشّروا به ليس بصنع مخيّلتهم، بل هو الإله الحيّ الحقيقي الذي منه يستقون
الحياة والحقيقة. هو الذي ألهمهم وملأهم من روحه وأرسلهم لإعلان اسمه وإرادته بين
الأم. لذلك يبدأون نبؤاتهم بإعلان ارتباط كلامهم بالله: “هكذا يقول
الرب”. فهم موفدو الرب ينطقون باسمه ويتكلّمون لا لكشف غوامض المستقبل بل
لإعلان إرادة الله في الماضي والحاضر والمستقبل وتأكيد محبته الأزلية للبشر.

يعلن
بولسّ الرسول أنّ “ما لم تره عين وما لم تسمع به أُذُن ولا خطر على قلب بشر
هو ما أعدّه الله لمحبِّيه”. ثمّ يضيف: “وهذا قد أعلنه لنا الله بروحه،
لأنّ الروح يفحص كلّ شيء حتى أعماق الله. فمَن مِن الناس يعرف ما في الإنسان إلاّ
روح الإنسان الذي فيه؟ فهكذا أيضاً ليس أحد يعرف ما في الله إلاّ روح الله”. ويردف:
“ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لكي نعرف ما أنم به الله
علينا من النِعَم، ونتكلّم عنها لا بأقوال تعلِّمها الحكمة البشرية، بل بما
يعلِّمه الروح، معبّرين بالروحيّات عن الروحيّات” (1 كو 2: 9- 13).

وعلى
نقيض الذين يعلنون اليوم موت الله أو عدم وجوده أو مضرّة التفكير به وعدم جدوى
التحدّث عنه، ويقنعون بالكبرياء الإنسانية، يقول النبي مع أشعيا: “السيّد
الرب ينبّه أُذنيّ صباحاً فصباحاً لأسمع كالعلماء” (أش 50: 4)، وما يسمعه
“يَنْبَأ” في مخدعه الداخلي “ينادي به على السطوح” (متى 10: 27)،
فهو يتكلّم كلام الله ويحيا حياة الله، والكلام والحياة عنده لا ينفصلان، فالله هو
حبّه الأوحد سواء تكلّم أم عاش.

2- الروح
القدس ويسوع

“إنّ
الله بعد أن كلَّمَ الآباء قديماً بالأنبياء مراراً عديدة وبشتّى الطرق كلَّمنا في
هذه الأيام الأخيرة بالابن الذي جعله وارثاً لكلّ شيء، وبه أيضاً أنشأ العالم،
الذي هو ضياء مجده وصورة جوهره، وضابط كلّ شيء بكلمة قدرته” (عب 1: 1- 3).

إنّ
يسوع، كلمة الله النهائيّة للبشر، كان ممتلئاً من الروح القدس في عمق كيانه. فقد
حُبل به بواسطة الروح القدس، وبقوّة الروح القدس صنع العجائب وطرد الأرواح الشرّيرة
وغفر الخطايا، وأعلن معنى ما يقوم به: “إن كنت أنا بروح الله اخرج الشياطين،
فذلك أنّ ملكوت الله قد انتهى إليكم” (متى 12: 29).

والروح
القدس هو الذي أقام ِيسوع من بين الأموات بعد موته: “إنّ ابن الله الذي وُلد
بحسب الجسد من ذريّة داود قد أُقيم بحسب روح القداسة في قدرة ابن الله بقيامته من
بين الأموات” (رو 1: 4). لقد خضع ابن الله للموت على غرار كلِّ الناس الذين
صار واحداً منهم، لكنّه بموته أمات الموت وقام بقدرة الروح الذي كان متحداً به
اتحاداً جوهرياً. فالروح الذي أقام يسوع هو نفسه الذي كان يسوع ممتلئاً منه في
حياته. إنّه روح الله، روح الحياة وروى القيامة.

3-
الروح القدس ينطق بالوجود المسيحي على مدى الزمن

“إنّ
يسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من
الآب الروح القدس الموعود به، أفاض ما تنظرون وتسمعون” (أع 2: 31، 33). هكذا
فسّر بطرس الرسول لليهود حلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة.

وعندما
نسأل اليوم ماذا يعني الإيمان بالروح القدس في واقع حياتنا؟ نجيب درن تردد أنّ
الله الذي كلَّم الإنسان قديماً بالأنبياء، وملأ يسوع في حياته، وأقامه من الأموات
بعد مماته، وملأ التلاميذ يوم العنصرة وفي كرازتهم حتى الاستشهاد، لا يزال
يكلِّمنا ويملأنا من حياته الإلهية. فالله ليس فكرة منعزلة في عالم آخر، بل إنّه
في عالمنا منذ أن صنعه. وفي ضمير كلّ إنسان منذ أن خلقه. لقد كلّم البشر في داخلهم
كما كلَّمهم بواسطة أنبيائه، ثم كلَّمهم في شخص ابنه يسوع، وأخيراً أرسل إليهم
روحه القدّوس مكث فيهم يحييهم.

“لا
أحد يستطيع أن يقول: “يسوع رب” إلاّ بالروح القدوس” (1 كو 12: 3).
فكلّ فعل إيمان هو عمل الله في الإنسان، وكلّ عمل خير هو عمل الله في الإنسان. إنّ
إيماننا بالروح القدس يعني اليوم في واقع حياتنا أنّ الله غير بعيد عنّا، يعمل في
الإنسان وبعمل في الكون ليقود ذاك إلى الخير وهذا إلى الكمال.

نحن
مدعوّون بحسب بولس الرسول إلى أن نكون روحانيين ممتلئين من الروح القدس فنحيا في
حياتنا بحسب الروح، ليس فقط في المواهب الخارقة من صنع المعجزات والأشفية
والتكلُّم بالألسنة والنبوّة وتمييز الأرواح والحكمة والعلم (راجع 1 كو 12: 7- 11)،
بل أيضاً في الحياة اليومية الاعتيادية حيث يجب أن تظهر تمار الروح: “المحبة
والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاة والأمانة والوداعة والعفاف” (غلا
5: 22، 23). ففي داخل كلّ إنسان يحيا بالروح يبدأ عالم جديد، عالم الحياة الحقّة،
عالم الله وعالم ابنه يسوع المسيح وعالم روحه القدّوس الذي يصرخ فينا “أبّا
أيّهاٍ الآب” (غلا 4: 6).

إنّ
إيماننا بالروح القدس هو الإيمان بأنّ الله حاضر في العالم وحاضر في كنيسته يعمل
في إيمانها أسرارها، وتبقى محبته أمينة رغم عدم أمانة أبنائه له. لقد رافق الله
الكنيسة عبر القرون وتكلّم في مجامعها ولا يزال يحملها على إدراك ما ينقص في
مؤسّساتها وتوضيح تعاليمها.

وإنّ
إيماننا بالروح القدس هو الإيمان بأنّ الله حاضر في قدّيسيه، في كلّ الذين يحيون
حياة الله ويعكسون صورته. هؤلاء هم الأنبياء المعاصرون الذين ينطق الروح بكلامهم
وحياتهم، وحياتهم هي ذاتها نبوّة حيّة تنبئ بحياة الله، ووجودهم هو ذاته كرازة
تعلن وجود الله، من يراهم يدرك أنّه في المسيح يسوع ظهرت خليقة جديدة لا يمكن إلاّ
أن تكون عمل الله نفسه.

وإنّ
إيماننا بالروح القدس هو أخيراً رجاء بمستقبل البشرية. لا شكّ أنّ البشرّية تتخبّط
اليوم في تناقضات لا تعرف كيف تحلّها: بين الفرديّة والجماعيّة، وقيمة الشخص
البشري وضرورة الروابط الاجتماعيّة. لكنّنا نؤمن أنّ روح الله حاضر فيها بواسطة
كلّ إنسان يحيا حياة الروح ويسعى إلى نشر المحبة والسلام في العالم، وهو الذي
سيقود البشر إلى حلّ تناقضاتهم فيصيرون على صورة الله. إنّ الإيمان بالروح القدس
يشمل التاريخ برمَّته وعمل الله فيه في ماضيه وحاضره ومستقبله.

ثانيًا-
بالروح القدس يكتمل وحي الثالوث الأقدس

إنّ
حقيقة الثالوث الأقدس قد عاشتها الكنيسة الأولى في صلواتها وأسرارها قبل أن تعلنها
عقيدة إيمانيّة، فكانت تعمّد “باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 18).
ففي هذه العبارة التي يضعها إنجيل متّى على لسان يسوع نفسه وتعود إلى القرن الأوّل،
نجد بوضوح ذكر الأقانيم الإلهية الثلاثة. كذلك يذكر سفر أعمال الرسل: “لمّا
سمع الرسل الذين في أورشليم أنّ السامرة قد قبلت كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس
ويوحنا. فانحدرا وصلَّيا لأجلهم لكي ينالوا الروح القدس، إذ لم يكن بعد قد حلَّ
على أحد منهم، بل كانوا قد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع. عندئذٍ وضعا أيديهمَا
عليهم فنالوا الروح القدس” (أع 8: 14- 17). ففي هذا الحدث تمييز واضح بين
الرب يسوع والروح القدس، وتأكيدٌ أنّ المسيحي لا يكتمل إيمانه بمجرّد الإيمان
بالربّ يسوع، أي “إنّ يسوع المسيح هو ابن الله” كما ورد في معموديّة
قيّم ملكة الحبشة على يد فيلبّس (أع 8: 37)، بل بالإيمان بالروح القدس والامتلاء
منه. فالإيمان بالآب والابن يكمّله الإيمان بالروح القدس.

وماذا
يعني ذلك في واخذ حياتنا المسيحية؟

1-
الروح القدس هو حضور الله نفسه في الكون

يمكن
الإنسان أن يؤمن بوجود الله وبأنّ الله قد خلق العالم، ولكنّ هذا الإيمان قد يبقى
بعيداً عن الحياة. فالفلاسفة العقلانيّون الألوهيّون في القرن الثامن عشر (من
أمثال فولتير) كانوا يؤمنون بإله كهذا، إلاّ أنّهم كانوا يعتقدون أنّ هذا الإله
بعد خلقه العالم لم يعد مرتبطاً به بأي علاقة.

إلى
جانب هذه الفئة الأولى من المؤمنين بالله يمكننا أن نجد فئة ثانية من أمثال ميخائيل
نعيمة، تؤمن بأنّ الله قد أرسل ابنه يسوع المسيح معلِّماً للإنسانية على غرار سائر
المعلّمين والأنبياء، وتعتقد أنّ يسوع مات كسائر الأنبياء ولم يبقَ أنه بعد موته
إلاّ تعاليمه يقرأها الناس فيتّعظون بها ويحاولون تطبيقها في حياتهم.

إنّ
المسيحية هي أعمق من ذلك، ترى في يسوع المسيح ليس معلّماً ومثالاً وحسب بل أيضاً
مخلِّصاً، وتؤمن أنّ يسوع المسيح بعد موته قام من أن الأموات ودخل في مجد الآب
وأرسل إلينا روحه القدّوس ليمكث فينا ويعمل فينا. ففي المسيحيّة لا يُترك الإنسان
لقواه الذاتية، إنّما يستقرّ الله فيه ليعمل وإيّاه على تحقيق كماله الشخصي وكمال
الإنسانيّة.

هذا
هو معنى إيماننا بالروح القدس الذي به يكتمل وحي الثالوث الأقدس وتظهر صورة الله
الحقيقيّة. إنّ تاريخ الفكر البشري بأسره هو بحث مستمرّ عن الله. وفي المسيحيّة
الله نفسه هو الذي يأتي إلينا “في ملء الأزمنة” في شخص يسوع المسيح
ويمكث فينا بروحه القدّوس. لذلك يدعو بولس الرسول الروح القدس “روح
الله” و”روح المسيح” و”روح الرب”، لأنّه به يستقرّ عمل
المسيح الحيّ مدى الدهر. بهذا الروح وحده نستطيع بلوغ الإيمان، وبه وحده
“نصير للمسيح” (رو 8: 9) وأبناء الله (غلا 4: 6)، وبه وحده نعرف ما أنعم
به الله علينا فينكشف لنا سرّه وطبيعته، لأنّ روح الله وحده يعرف ما في الله (1 كو
2: 10- 12).

من
هنا تتّضح لنا أهمية ما قامت به الكنيسة الأولى في المجامع المسكونية لتأكيد
ألوهية الروح القدس. فالإيمان بتلك الألوهية لا يعني عودة إلى تعدّد الآلهة بل
تأكيداً لقرب الله من الإنسان. فكما أنّ الإيمان بألوهية يسوع المسيح ابن الله لا
يعني ازدواجية في الله بل قرب الله من الإنسان إلى حدّ أنّه صار واحداً منّا في
شخص ابنه يسوع المسيح، هكذا الإيمان بألوهية الروح القدس يعني أنّ الله ليس سيداً
عن الإنسان بل يمكث فيه ويحييه ويعمل به. فتأكيد ألوهية الابن هو تأكيد أنّ الله
نفسه صار إنساناً، وتأكيد ألوهية الروح القدس هو تأكيد أنّ الله نفسه هو الذي لا
يزال يمكث في الإنسان والتاريخ على مدى الزمن.

2-
مصدر عقيدة الثالوث الأقدس في المسيحية: الله كما ظهر لنا

استناداً
إلى ما قلناه عن الابن والروح القدس يظهر لنا بوضوح أنّ مصدر عقيدة الثالوث الأقدس
في المسيحية لن نجده في أيّ من الديانات القديمة بل في ظهور الله نفسه في تاريخ
الخلاص. إنّ عقيدة الثالوث لم تُعلن في الإيمان المسيحي انطلاقاً من تخيّلات
أسطورية ولا من نظريات فلسفية ماورائية، بل اعتَلَنت بظهور الله في تاريخ الخلاص
آباً وابناً وروحاً قدساً. ففي تاريخ الخلاص ظهر يسوع ابن الله متميّزاً عن الآب،
فكان في صلاته يخاطب الله داعياً إيّاه أباه، وكان في أعماله يغفر الخطايا ويصنع
المعجزات بقدرة الله، فاعترف به الرسل وآمنوا انه “ابن الله”
و”الكلمة الذي كان في البدء عند الله” (يو 1: 1، 2).

ليست
عقيدة التجسّد حكاية نزول إله من السماء إلى الأرض ليقضي فيه بضع سنوات ثم يعود
إلى حيث كان. تلك الأسطورة بجد أمثالها في ديانات الهند. إنّما عقيدة التجسّد
تأكيد إيماني أنّ الإنسان يسوع المسيح الذي وُلد وعاش ومات في حقبة معيّنة من
التاريخ ليس مجرّد إنسان نقل إلينا كلام الله كما ينقله نبيّ ويبقى في كيانه
مستقلاً عن الله. إنّ “ههنا أعظم من نبيّ” (راجع متى 12: 41، 42). إنّ
يسوع هو، في عمق كيانه وفي جوهره وفي حياده وموته وقيامته، “كلمة الله”،
أي به وفيه ظهر الله نفسُه وأوحى بذاته كما هو. إنّ الأنبياء كلّهم نقلوا إلى
البشر كلام الله، أمّا يسوع فهو في ذالّه “كلمة الله”. وبما أنّ
“كلمة الله” التي من “ذات الله” لا يمكن أن تكون مخلوقة،
اعترفت المسيحية بألوهية يسوع المسيح. إلاّ أنّها أصرّت على تأكيد تميّزه عن الله
الآب الذي أرسله وبه تكلّم وبه أوحى بذاته إلى العالم.

وكذلك
القول عن الروح القدس الذي ظهر متميّزاً عن الآب والابن. فالآب أرسله. وهو
“ينبثق من الآب”، ويسوع يرسله إلى التلاميذ “من لدن الآب” (يو
15: 26).

فانطلاقاً
ممّا نقرأ في الكتاب المقدّس عن ظهور الله نفسه في تاريخ الخلاص آباً وابناً
وروحاً قدساً، عبّر اللاهوت المسيحي في القرن الرابع عن إيمانه بالله بقوله: إله
واحد، أبَ طبيعة واحدة في ثلاثة أقانيم. لقد استقى اللاهوت لفظتَي طبيعة وأقنوم من
الفلسفة اليونانية وحدّد معناهما بالنسبة إلى الثالوث الأقدس. وقد أراد بتلك
العبارة التوفيق بين ما يبدو لعقل البشر متناقضاً: التوحيد والتثليث. إنّ اللاهوت
المسيحيّ لم يختلق صورة الله انطلاقاً من تصوّرات العقل البشري، بل عبّر عما
اختبره الإنسان في ظهور الله نفسه، الآب والابن والروح القدس.

والآن
لنتوسعّ قليلاً في ما ينتج من تلك العقيدة بالنسبة إلى معرفتنا لسرّ الله وسرّ
الإنسان.

3-
عقيدة الثالوث الأقدس تعريف بالله وبالإنسان

نتحدّث
مراراً عن سرّ الله ونؤكّد أنّ عقيدة الثالوث الأقدس في الديانة المسيحية لا
تفهمنا الكثير من هذا السرّ. ولكنّنا ننسى أنّ في الإنسان أيضاً سرًّا يستحيل
علينا إدراكه. وعقيدة الثالوث الأقدس، وإن لم تحلّ سرّ الله ولا سرّ الإنسان، إلاّ
أنّها تدخلنا في السرّين معاً فتلقي عليهمَا بعض الأضواء وتتيح لنا أن نتّخذ منهما
موقفاً. ليست عقيدة الثالوث الأقدس عقيدة نظرية بل عقيدة ديناميكية، أي إنّها لا
تهدف إلى كشف غوامض الماورائيّات وحلّ ألغاز الكون، بل إلى الدخول في عمق هذا
العالم وهذه الحياة لاكتشاف مما فيهمَا من معنى. إذّاك يتجلّى لنا الله نفسه غاية
العالم القصوى والمعنى العميق لحياة الإنسان.

هكذا
تلقي عقيدة الثالوث الأقدس الضوء على الله والإنسان معاً، بحيث يمكننا القول إنّ
أي تعريف بالإنسان لا يتضمّن علاقة الإنسان بالثالوث الأقدس، الآب والابن والروح
القدس، هو تصغير وتشويه للإنسان. لذلك لا نستطيع نحن المسيحيين أن نكتفي فنعرّف
الإنسان بقولنا إنّه “كائن عاقل” أو “كائن اجتماعي”، ففي هذين
التعريفين نقص أساسي هو ارتباط الإنسان بالله. إنّ الإنسان مرتبط بالله في عمق
كيانه. لذلك رأى آباء الكنيسة الشرقيّة أن تجسّد ابن الله لم يكن حادثاً عارضاً في
تاريخ الخلاص تمّ بسبب خطيئة الإنسان وللتكفير عنها، إنا هو أمر أساس في تصميم
الله منذ الأزل وفي عمق إرادته، أي في صميم كيان الله وكيان الإنسان.

يقول
سفر التكوين في العهد القديم إنّ الإنسان خُلق على صورة الله. ويمكننا أن نضيف
اليوم، بعد أن اكتمل الوحي في العهد الجديد، أنّ الإنسان خُلِق على صورة الله
الثالوث، الآب والابن والروح القدس. فالإنسان مرتبط بالآب الذي خلقه وبالابن الذي
خلَّصه وبالروح القدس الذي يؤلّهه. والصورة التي خُلق عليها الإنسان بنوع خاص هي
صورة ابن الله الذي تدعوه الرسالة إلى العبرانيين “ضياء مجد الله وصورة جوهره
وضابط كل شيء بقدرته” (عب 1: 3). فالإنسان إذاً حاضر منذ الأزل في ابن الله
وكلمته وصورته، حاضر منذ الأزل في الله.

إنّ
ارتباط الإنسان بالله في أصل كيانه يجعلنا نجرؤ على القول من ناحية أخرى إنّه لا
يمكننا التعريف بالله منفصلاً عن الإنسان، ولا سيّمَا بعد أن اختبرنا كلمة الله
يتجسّد ويصير إنساناً، وروحَ الله يحلّ على الإنسان مكث فيه.

نعود
فنؤكّد أنّنا بقولنا هذا لا ننظر إلى الله نظرة الفلسفة الماورائية الميتافيزيقية،
بل نظرة الكتاب المقدّس الوجوديّة الظهورية التي تبرز لا كيان الله كما يمكننا أن
نتصوّره في ما وراء هذا الكون، بل كيان الله كما ظهر في تاريخ الخلاص.

إنّ
إله الماورائيّات هو إله بعيد عن الإنسان، إنه القدرة والعظمة والسيادة، الإله
الذي يتسلّط على الإنسان ويسخّره لإرادته وأهوائه. على هذا الإله ثار، وبحقّ،
الفلاسفة الملحدون من أمثال فويرباخ وماركس ونيتشه. أمّا إله يسوع فلا يمكن أن
يطاله أيّ نقد من إنسان، والملحدون لا يمكنهم التعرّض له لأنّهم لم يختبروه. هذا
الإله الحيّ الحقيقي هو الإله القريب من الإنسان الذي اختبره رجال الله ورجال
الروح، الأنبياء والرسل والقدّيسون، في الكتاب المقدّس وعلى مدى تاريخ المسيحية.
هؤلاء اختبروا في الله عمق حياتهم ومعنى وجودهم وكمال ذاتهم.

إنّ
التزام الله بالإنسان في هذين الحدثين الأساسين من تاريخ الخلاص، حدث تجسّد كلمة
الله وحدث حلول روح الله على الإنسان، ينتج منه بالنسبة إلى كيان الله وكيان
الإنسان نتائج جوهرية تتخطّى كلّ ما جاءت به الديانات التوحيدية كاليهودية
والإسلام والفلسفات الماورائية التي أقرّت بوجود إله واحد خالق ومنظّم للكون. إنّ
القول بالإله الواحد الأحد يجعل الله منعزلاً عن الإنسان والإنسان منعزلاً عن الله.
أمّا القول بالإله الواحد الثالوث فيجعل الله في صلب تحديد الإنسان كما يجعل
الإنسان في صلب تحديد الله. لذلك ليس الله في نظر المسيحية فقط الخالق الذي يرتبط
بالإنسان ارتباط السيّد بعبيده، كما يقول الإسلام، وليس هو فقط الخالق الأب الذي
يعتني بشعبه عناية الأب بأبنائه، كما تقول اليهودية، ففي هاتين الديانتين يبقى
الله منفصلاً عن الإنسان، وإن اتّصل به بواسطة أنبيائه ورُسله وأوحى إليه بأنّه
الرحمن الرحيم.

المسيحية
وحدها، بقولها إنّ الابن الذي هو أقنوم في الإله الواحد تجسّد وصار إنساناً ومات
على الصليب حبًّا بالإنسان، وإنّ الروح القدس الذي هو أقنوم في الإله الواحد حلَّ
على الإنسان مكث فيه ويعمل معه، أدركت أنّ عظمة الله لا تكن في بُعد كيانه عن
العالم والإنسان بل في اتّحاده بالعالم والإنسان في أقنومَي الابن والروح القدس.

4-
سموّ الله وتعاليمه في عقيدة الثالوث الأقدس

ولكن
أليس من خطر في أن يفقد الله، في النظرة المسيحية إلى الإله المتجسّد، صفة جوهرية
من صفاته هي سموّه وتعاليه عن العالم والإنسان؟ أليس من خطر في أن نرى الله يندمج
بالعالم بحيث لا يعود هناك فرق بين الاثنين؟

إنّ
هذين الخطرين يزولان في التفسير الصحيح لعقيدة الثالوث الأقدس التي تتضمّن ثلاثة
أمور: شخصانية الله، وألوهية الأقانيم الثلاثة، وتميّز الأقانيم أحدها عن الآخر.

ء)
شخصانية الله: الله يتميّز عن العالم

الأمر
الأوّل هو تأكيد شخصانيّة الله، أي إنّ الله شخص وليس بمجرّد قوة مبهمة تعمل في
الكون. فالقول إنّ الله قوّة بهمة تعمل في الكون يقود حتماً إلى دمج هذه القوّة
بالكون وعدم تمييزها عنه. أمّا القول إنّ الله شخص في أقانيم ثلاثة فيزيل هذا
الخطر ويبقي على تميّز الله عن الكون. فكما أنّنا، عندما نقول إنّ الإنسان هو شخص،
نعني أوّلاً أنّه متميّز عن سائر الأشخاص، له كيانه الخاص وحرّيته الخاصة، بهما
يمكنه الدخول في علائق مع سائر الأشخاص، كذلك بطريقة مماثلة، عندما نؤكّد شخصانية
الله، نحافظ على تميّزِه عن الكون وعلى إمكان دخوله في حوار حريّة ومحبة مع الكون
والإنسان.

إنّ
مفهوم عقيدة الثالوث الأقدس على هذا النحو يظهر الله مرتبطاً بالعالم والإنسان دون
أن يتطابق معهما كما تقول الحلولية التي ترى تطابقاً بين الله والكون، فتعتبر أنّ
القوّة الكونيّة هي نفسها الله. إنّ المسيحية تؤكّد أنّ الله مرتبط بالعالم
والإنسان ولكنّه يتميّز عنهمَا.

ب)
ألوهية الأقانيم: الله يسمو الكون

الأمر
الثاني هو تأكيد ألوهية الأقانيم الإلهية. فالآب هو الله، والابن هو ابن الله،
والروح القدس هو روح الله. والابن والروح لم يخلقه الله، بل هما من جوهر الله
بالولادة والانبثاق. بهذا التأكيد تحافظ عقيدة الثالوث الأقدس على سموّ الابن
والروح وتعاليهما فوق العالم والتاريخ، رغم دخولهما في العالم والتاريخ. واستناداً
إلى هذا التأكيد لا نستطيع القبول بنظرية الفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831)
الذي يعتبر الله روحاً مطلقاً مندمجاً بالتاريخ إلى حدّ أنّ التاريخ، بتطوّره
وتفاعل عناصره بعضها مع بعض، يصيّره ما هو عليه ويوصله إلى المطلق. فالله، في
المسيحية، يعمل في التاريخ، إلاّ أنّه يسمو التاريخ. إنّ المحافظة على سموّ الله
وتعاليه بالنسبة إلى العالم والإنسان والتاريخ تبقي الإيمان الذي هو لقاء بين الله
الذي يكلّم الإنسان والإنسان الذي يجيب الله، وتحافظ على إمكان حوار الحرّية
والمحبة بين الله والإنسان.

ج)
تميّز الأقانيم أحدها عن الآخر

الأمر
الثالث الذي يؤكّد سموّ الله هو تميّز أقنوم الآب عن أقنومي الابن والروح القدس.
هذا ما أعلنته الكنيسة عندما حرمت بدعة الشكلانية التي تقول إنّ الآب والابن
والروح القدس ليسوا سوى أشكال مختلفة رأى فيها البشر الله الواحد حسب تطوّر
عقليتهم البشرية، وإن الأقانيم لا وجود لها إلاّ في فكرنا نحن لا في طبيعة الله
الواحدة. وهناك صيغة أخرى للشكلانية ترى تطوّراً وتحوّلاً في الله وتقول إنّ الله
كان في العهد القديم آباً، ثم صار بالتجسّد ابناً، وأخيراً بعد قيامته صار روحاً
قدساً.

إنّ
كلتا الصيغتين تنفي سموّ الله وتشوّه عقيدة الثالوث الأقدس. فالآب يتميّز عن الابن
والروح القدس بأنّه هو الذي أرسلهما. إنّ سموّ الآب يكمن هنا في كونه لم يتجسّد.
هناك بُعد في الله لا نستطيع الوصول إليه، وهو في الله الآب مصدر أقنوم الابن
وأقنوم الروح القدس.

ثمّ
إنّ الله لا يمكن أن يتطوّر ويتحوّل بظهوره في الزمن. إنّه “هو هو أمس واليوم
وإلى الدهور”، “إذ ليس فيه ظلّ دوران ولا تحوّل”. لذلك فإن كان ظهر
لنا في التاريخ آباً وابناً وروحاً قدُساً، فهو هكذا في ذاته منذ الأزل وإلى الأبد.

ينتج
من ذلك التمييز أنّه لا يمكننا القول إنّ يسوع المسيح هو “إله” دون أن
نوضح ماذا نعني بلفظة “إله”. فإذا عنينا بها “الله الآب” كان
قولنا بدعة وانحرافاً عن الإيمان المسيحي، لأنّ يسوع المسيح والله الآب ليسا
الأقنوم نفسه بل هما أقنومان متميّزان، أمّا إذا عنينا بها جوهر الألوهة وأكّدنا
أنّ يسوع المسيح هو ابن الله المتجسّد ومن جوهر الآب كان قولنا قويماً. هذا ما
أكّدته المجامع المسكونية التي حرمت بدعة التبنّوية التي كانت تعتبر يسوع المسيح
مجرّد إنسان تبنّاه الله.

فالتمييز
إذاً بين أقنومي الآب والابن لم نصل إليه انطلاقاً من تفكير نظري حول كيان الله بل
من كيان الله نفسه كما ظهر لنا في تاريخ الخلاص.

وكذلك
القول بالنسبة إلى التمييز بين أقنوم الروح القدس وأقنومي الآب والابن، إذ لا
نستطيع تأكيد هذا التمييز إلاّ من خلال ما ظهر لنا في تاريخ الخلاص من امتلاء يسوع
من الروح القدس حتى إرسال الروح القدس على التلاميذ وعلى العالم ليقدّسهم ويؤلّههم.

هذا
هو السبيل الوحيد للتوفيق بين سموّ الله وتعاليه من جهة ودخوله عالمنا البشري
دخولاً حقيقياً أي ذاتياً وجوهرياً من جهة أخرى. فسموّ الله وتعاليه تعبّر عنهما
عقيدة الثالوث الأقدس بقولها إنّ الله لم يتَّحد بالعالم في أقنوم الآب بل في
أقنومي الابن والروح. ودخول الله العالم واتّحاده به اتّحاداً حقيقياً أي ذاتياً
وجوهرياً تعبّر عنهمَا عقيدة الثالوث الأقدس بقولها إنّ الابن والروح القدس هما من
ذات جوهر الله الآب. والعهد الجديد يميّز بين هذين الأمرين، فلا يطلق اسم
“الله” (مع أل التعريف وباليونانية) إلاّ على الله الآب؛ أمّا عن الابن
فيقول إنه “ابن الله” و”كلمة الله” و”الرب” و”إله”
(دون أل التعريف)، وعن الروح إنّه “روح الله” و”روح المسيح”،
و”الرب”.

إن
اللاهوت المسيحي، بعودته إلى أصالة عقيدة الثالوث الأقدس كما عبّر عنها الكتاب
المقدّس، يتيح للإنسان المعاصر تقبّل العقيدة كأمر بنسجم وتطلّبات عقله البشري في
توقه إلى اللانهاية وفي رغبته في عدم التخلّي عن هذا العالم. ففي هذا العالم يلتقي
الإنسان الله الواحد الذي ظهر لنا في شخص ابنه يسوع المسيح مخلصاً وفادياً، وفي
روحه القدّوس ربًّا محيياً ومؤلّهاً. وفي هذا العالم يلتقي الله الإنسان ويعمل فيه
وبه على خلق بشرية جديدة على صورة الثالوث. إنّ عمل الله هذا هو
“النعمة”، والبشرية الجديدة هذه التي على صورة الثالوث هي
“الكنيسة”. والنعمة والكنيسة ستكونان موضوعي أبحاثنا في الفصول اللاحقة.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى