علم الله

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل الأول

الثالوث
الأقدس
في الكتاب المقدس

إنّ
وحي الثالوث الأقدس قد أتى إلينا عبر تاريخ الخلاص الذي بلغ كماله في شخص يسوع
المسيح. فعقيدة الثالوث ليست حصيلة تفكير بشريّ نظريّ عن الله، ولا نتيجة تطوّر
ديني بدأ في ديانات الشرق القديم. بل هي تعبير لاهوتي لسرّ الله الذي ظهر لنا
ظهوراً خلاصيّاً في شخص يسوع المسيح. فالمسيح قد أتى إلينا باس الله حاملاً إلينا
خلاص الله، ومن بعد قيامته أرسل إلينا روح الله. هكذا أوحى لنا الله بذاته آبًا
يرسل إلى العالم ابنه المخلّص وروحه القدّوس. لذلك سيكون محور بحثنا وحي الله
بذاته في العهد الجديد.

ولكن
قبل ذلك سنتساءل: بمَا أنّ تاريخ الخلاص قد بدأ في العهد القديم، ألا يمكننا أن
نجد وحي الثالوث الأقدس حتى في العهد القديم؟

أوّلاً-
تهيئة وحي الثالوث الأقدس في العهد القديم

لا
نجد في العهد القديم وحي الثالوث بشكل كامل، وذلك لسبب بسيط، وهو أنّ ابن الله،
الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، لم يظهر ظهورًا كاملاً إلاّ في العهد الجديد في
شخص يسوع المسيح. وكذلك الروح القدس لم يحلّ على التلاميذ وعلى كلّ إنسان إلا من
بعد قيامة المسيح. ولكن ألا نجد في العهد القديم عناصر مختلفة هيّأت لهذا الوحي؟

لا
بد، قبل المباشرة بالإجابة على هذا السؤال، من الإشارة إلى أنّ البحث في هذا
الموضوع ما كان ممكنًا لو لم يبلغ الوحي بالثالوث كما له في العهد الجديد.
فانطلاقًا ممّا أُوحي به إلينا في العهد الجديد، نستطيع أن نعود إلى العهد القديمِ
لنرى فيه تهيئة هذا الوحي. وبمَا أنّ عقيدة الثالوث الأقدس في العهد الجديد مرتبطة
ارتباطاً وثيقًا بعلاقة الله بالإنسان بواسطة الابن والروح القدس، فالبحث في تهيئة
تلك العقيدة في العهد القديم لا بدّ له أن يتمحور حول تلك العلاقة ذاتها في
نواحيها الثلاث.

1- علاقة
الله الآب بالإنسان

عندما
سأل أحد الكتبة يسوع: “أيّ وصية هي أولى الوصايا جميعًا؟”، أجابه يسوع: ”
الأولى هي: اسمع، يا إسرائيل، الربّ إلهنا هو الرب الوحيد. فأحبب الرب إلهك بكلّ
قلبك، وكل نفسك كلّ ذهنك؟ وكلّ قوّتك” (مر 12: 28- 30). تلك الوصية، التي
نجدها في سفر تثنية الاشتراع (6: 5)، والتي كان على كل يهودي أن يتلوها كل يوم،
توجز علاقة الله بالإنسان وعلاقة الإنسان بالله. فالله هو الإله الوحيد الذي يجب
أن يحبّه كلّ إنسان.

هذا
الإله الوحيد هو الله الآب الذي يطلب يسوع أن يثق به الإنسان ويحبّه ويقتدي به: “أحبوا
أعداءكم، وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات..
فأنتم إذن، كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل” (متى 5: 44- 48).

يظهر
الله الآب في العهد القديم في كلّ ما يقوله العهد القديم عن الله: الإله الواحد،
والإله الخالق، والإله القدوس، والإله المخلّص، والإله الذي اختار شعبه ليقيم معه
عهدًا منذ إبراهيم وإسحق ويعقوب حتى موسى وداود وسائر الأنبياء.

إلى
جانب هذه التسميات التي يدعو بها العهد القديم الله، يمكن أن نضع تسمية
“الأب”، كما نقرأ مثلاً في سفر أشعيا: “يا رب، أنت أبونا. نحن
الطين وأنت جابلنا، ونحن جميعًا عمل يديك” (أش 64: 8). ففي هذه العبارة يدعى
الله أبا، لأنه الخالق. وفي نصّ آخر يدعى الله أبًا لأنّه المخلّص والفادي: “أنت
يا رب أبونا وفادينا، منذ الدهر اسمك” (أش 63: 16). وفي تثنية الاشتراع نجد
علاقة بين تسمية الله “أبًا” وإيمان الشعب بأنّ الله هو الذي خلقهم واختارهم
نصيبًا له: “أبهذا تكافئ الرب، أيها الشعب الأحمق الذي لا حكمة له؟ أليس أنه
هو أبوك مالكك الذي فطرك وأبدعك؟ سل أباك ينبئك وأشياخك يحدّثوك، حين قسم العلي
الأمم.. لأنّ نصيب الرب شعبه، يعقوب حبل ميراثه.. الصخر الذي ولدك تركته، والإله
الذي أنشأك نسيته. فرأى الرب واغتاظ لما أغضبه بنوه وبناته” (تث 32: 6- 19).

وفي
تلك الأبوّة يجد الأنبياء حافزًا لدعوة الشعب إلى القداسة: فإنّ دعوة سفر الأحبار:
“كونوا قديسين، لأني أنا الربّ إلهكم قدوس” (أح 19: 2) تجد صداها في
نبوءة إرميا مع ذكر أبوّة الله لشعبه: “ارجعي إليّ، يقول الرب، أما دعوتِني
منذ ذلك الوقت: يا أبتِ، أنت مرشد صبائي.. إرجعوا أيّها البنون المرتدّون، فأشفي
ارتداداتكم” (إر 3: 1، 4، 19، 22). “يأتون باكين وأهديهم.. لأنّي أب
لاسرائيل، وأفرائيم بكر لي” (إر 31: 9). وفي ذلك يقول أيضاً النبي ملاخي: “الابن
يكرم أباه، والعبد يكرم سيّده، فإن كنت أنا أبًا، فأين كرامتي، وإن كنت سيّدًا،
فأين مهابتي؟” (ملا 1: 6). “أليس أب واحد لجميعنا؟ أليس الله واحد
خلقنا؟ فلِمَ يغدر الواحد بأخيه مدنّسًا عهد آبائنا؟” (ملا 10: 2).

وهوشع
النبي يجمع بين محبة الأب وحنان الأم: “اذ كان اسرائيل صبيًّا أحببته، ومن
مصر دعوت ابني.. وأنا درّجت أفرائيم وحملتهم على ذراعيّ، لكنّهم لم يعلموا أني أنا
أبرأتهم” (هو 11: 1- 2). وكذلك يقول أشعيا: “أتنسى المرأة مُرضَعها فلا
ترحم ابن بطنها؟ لكن ولو أنّ هؤلاء نسين، لا أنساكِ أنا” (اش 49: 15).

ان
الملك يدعى “ابن الله”، والله هو أب له بنوع خاصّ. فنقرأ في المزمور 88:
“وجدت داود عبدي، بدهن قداستي مسحته.. يدعوني: إنّك أبي وإلهي وصخرة خلاصي،
وأنا أجعله بكراً عليّا فوق ملوك الأرض” (مز 88: 21، 27- 28). وغي نبوّة
ناتان لداود النبي، ترد أيضاً الفكرة ذاتها: “إذا تمّت أيّامك واضطجعتَ مع
آبائك، وأقمتُ من يليك من نسلك الذي يخرج من صلبك، وأقررتُ ملكه، فهو يبني بيتًا
لاسمي، وأنا أقرّ عرش ملكه إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا”
(2 ملو 7: 12- 14). والمزمور الثاني يوضح تلك الأبوّة الخاصة ويؤكّدها: “قام
ملوك الأرض والعظماء ائتمروا معا على الرب وعلى مسيحه.. حينئذ يكلّمهم بسخطه
وبغضبه يروّعهم: إنّي مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي، لأخبرنّ بحكم الرب. قال لي: أنت
ابنى، أنا اليوم ولدتك. سلني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وأقاصي الأرض ملكًا لك”
(مز 2: 2- 8).

خلاصة
القول أنّ هناك مقاطع عديدة من العهد القديم تدعو الله أبًا للشعب، وبنوع خاصّ
للملك وللمسيح المنتظر، مظهرة محبة الله لأبنائه وداعية إياهم إلى الإيمان بتلك
المحبة وإلى الجواب عليها بمحبة متبادلة وسيرة مقدّسة.

2-
علاقة الله بالإنسان بكلمته وحكمته

إن
علاقة الله بالإنسان تظهر في العهد القديم بنوع خاصّ في كلمته وحكمته وروحه. فكل
ما قيل في العهد القديم عن كلمة الله وحكمته وجد تحقيقه في العهد الجديد في شخص
يسوع المسيح. وكل ما قيل عن روح الله وجد تحقيقه في الروح القدس. لذلك يمكننا أن
نرى في هذه المفاهيم تهيئة لظهور الابن والروح، الاقنوم الثاني والاقنوم الثالث من
الثالوث الأقدس.

ء)
كلمة الله

الكلمة
هي تعبير عن فكر الإنسان وتعبير عن إرادته. وفي حال غياب الإنسان تمثّل كلمته
نوعًا من حضوره. هكذا كلمة الله في الكتاب المقدس هي حضور الله في وسط شعبه.
ويتّسم هذا الحضور بثلاث سِمَات: فكلمة الله تكوّن الشعب، وتخلّصه، وتخلق الكون.

*
إن الله، بكلمته، يكشف لشعبة. علاقته به وتصميمه تجاهه. فهو الذي اختار شعبه
“ليكونوا له خاصة من جميع الشعوب”. وهذا ما أعلنه لموسى على جبل سيناء:

“وصعد
موسى إلى الله، فناداه الرب من الجبل قائلاً: كذا نقول لآل يعقوب وتخبر بني إسرائيل.
قد رأيتم ما صنعت بالمصريّين وكيف حملتكم على أجنحة النسور، وأتيت بكم إليّ. والآن
إن امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي، فإنّكم تكونون لي خاصة من جميع الشعوب، لأن جميع
الأرض لي، وأنتم تكونون لي مملكة أحبار وشعبًا مقدّسًا” (خر 19: 3- 6).

وعلى
جبل سيناء أوصى الله موسى أن يكتب “كلام العهد الكلمات العشر” (خر 34: 28)،
أي وصايا الله العشر التي ستكون القاعدة والأساس لحياة الشعب وعلاقته بالله.
فالشعب يكوّن وينشأ ويصير شعبًا مقدسًا لله بحفظه كلام الله. فكلمة الله هي إذن
التي تخلق شعب الله، أي تجعل من جماعة من الناس شعب الله المقدس.

*
ثم إن كلمة الله ترافق الشعب الذي خلقته لتقوده مدى تاريخه وتخلّصه. وذلك بواسطة
الأنبياء الذين لا يتكلمون من ذواتهم بل ينقلون إلى الشعب كلام الله. فيقول أشعيا:
“إستمعي أيتها السماوات، وأنصتي أيتها الأرض، فإنّ الربّ قد تكلّم” (أش
1: 2). ومعظم الأنبياء يبدأون نبوءاتهم بالعبارة التالية: “هكذا قال
الرب” (عا 1: 3، 11؛ 2: 1؛ 3: 1). وكلمة الله هذه التي تُلقى إليهم تصير
جزءًا منهم. وهذا ما يعبّر عنه إرميا وحزقيال بتعبير رمزيّ، “بأكل” كلمة
الله. يقول إرميا:

“إن
كلماتك قد بلغت إليّ، فأكلتُها، فكانت لي كلمتك سرورًا وفرحًا في قلبي، لأنّ اسمك
ألقي عليّ، أيها الرب إله الجنود” (ار 15: 6).

ويسمع
حزقيال صوت الله يقول له:

“يا
ابن البشر، إني مرسلك إلى بني إسرائيل.. فاسمع ما أكلّمك به.. افتح فك وكُلْ ما
أناولك”. ويناوله الله كتابًا فيأكله، “فيصير في فمه كالعسل” ثم
“ينطلق ليكلّم الشعب بكلام الله” (راجع حز 2- 3).

وعندما
تثقل كلمة الله على النبيّ لعدم إصغاء الناس إليها، يودّ ألاّ ينطق بها، بيد أنها
“تصير في قلبه كنار محرقة” (ار 20: 9)، ولا يستطيع إلاّ أن يتكلّم بها.

ولكونها
كلمة الله نفسه، فلا يمكن إلاّ أن تؤتي فعلها، حسب قول أشعيا:

“كما
ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع إلى هناك، بل يروي الأرض، ويجعلها تنشئ
وتنبت لتؤتي الزارع زرعًا والآكل طعامًا، كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا
ترجع إليّ فارغة، بل تتمّ ما شئت وتنجح في ما أرسلها له” (أش 55: 10- 12).

وكلمة
الله هذه تقود الشعب وعليه وتخلّصه، وإن شعر النبيّ بضعفه وتردّده إزاء التبشير
بها. فالله هو نفسه الذي يسهر على كلمته ليجريها. فعندما أعلن الله كلمته لإرميا
النبيّ، خاف إرميا وقال لله: “هاءنذا لا أعرف أن أتكلّم لأني صبيّ، فقال له
الرب: “لا تخف من وجوههم، فإنّي معدّ لإنقاذك”. ثم مدّ الرب يده ولمس
فمه وقال له: “هاءنذا قد جعلت كلامي في فمك. أنظر: إنّي أقمتك اليوم على
الأمم وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس”. ثم قال له الرب: “ماذا
أنت راءٍ يا إرميا؟”، فقال: “إني راءٍ قضيبا ساهرًا”. فقال له الرب:
” قد أحسنت في ما رأيت، فإني ساهر على كلمتي لأجريها” (ار 1: 6- 12).

لذلك
يرجو الشعب كلمة الله لأنها تخلّصهم: “أرسل كلمته فشفاهم ونجّاهم من
مهالكهم” (مز 106: 20). وتؤكد المزامير بنوع خاصّ رجاء المؤمن بكلمة الله
وحمده الله على كلمته: “أحمد الله على كلامه، أحمد الرب على كلامه” (مز
55: 11)، “ذابت نفسي شوقًا إلى خلاصك، إنّما رجوت كلمتك، كلّت عيناي من
انتظار أقوالك، وأنا أقول متى تعزّيني” (مز 118: 81، 114، 147)

*
انطلاقًا من كلمة الله التي تخلق الشعب وتخلّصه، توصلت أسفار العهد القديم الأحدث
عهدًا إلى القول إنّ كلمة الله أيضاً التي خلقت الكون. ففيمَا تصف رواية الخلق
الأقدم عهدًا أنّ الله جبل الإنسان من طين، تصف الرواية الأحدث أنّ الله خلق الكون
والإنسان بكلمته: “وقال الله: ليكن نور، فكان نور..” (تك 1: 3- 26).
ونجد هذا التعبير عن الخلق بالكلمة في المزامير والأسفار الحكمية: “بكلمة
الرب صنعت السماوات، وبروح فيه كل جنودها” (مز 32: 6). “الرب صانع
الجميع بكلمته” (حك 9: 1).

إن
كلمة الله التي بها يكوّن الله شعبه ويرافقه ويخلّصه، والتي بها يخلق الكون، تشير
في آن معًا إلى تسامي الله عن الكون والإنسان من جهة، وإلى حضوره في الكون وقربه
من الإنسان من جهة أخرى. وكل ما قيل عن كلمة الله في العهد القديم سيرى العهد
الجديد، ولا سيّمَا يوحنا الإنجيلي (يو 1: 1- 18)، تحقيقه تحقيقًا كاملاً في
المسيح الذي هو كلمة الله المتجسّد.

ب)
حكمة الله

هناك
علاقة وثيقة بين كلمة الله وحكمة الله. فكلاهما تخلقان الكون وتكوّنان الإنسان
وتقودانه وترشدانه إلى إرادة الله وإلى كل عمل مقدّس. هذا ما نقرأه في سفر الحكمة
الذي يجمع بين كلمة الله وحكمته، فيقول:

“يا
إله الآباء، يا ربّ الرحمة، يا صانع الجميع بكلمتك، وفاطر الإنسان بحكمتك، لكي
يسود على الخلائق التي كوّنتها، ويسوس العالم بالقداسة والبرّ، ويجري الحكم
باستقامة النفس، هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك ولا ترذلني من بين بنيك.. فإن كان
في بني البشر أحد كامل ولم تكن معه الحكمة التي منك لا يُحسب شيئًا.. فأرسلها من
السماوات المقدسة وابعثها من عرش مجدك، حتى إذا حضرت تجدّ معي وأعلم ما المرضيّ
لديك. فإنها تعلم وتفهم كلّ شيء، فتكون لي في أفعالي مرشداً فطينا وبعزّها تحفظني..
نحن بالجهد نتمثّل ما على الأرض وبالكدّ ندرك ما بين أيدينا، فمَا في السماوات من
اطّلع عليه، ومن علم مشورتك لو لم تؤتِ الحكمة وتبعث روحك القدوس من الأعالي، فإنه
كذلك قوّمتَ سبل الذين على الأرض وتعلّم الناس مرضاتك. والحكمة هي التي خلّصت كلّ
من أرضاك منذ البدء”. (حك 9: 1- 19).

تلك
الحكمة تراها الأسفار المقدسة موجودة الله منذ الأزل:

“الرب
حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء. من الأزل مُسحتُ من الأوّل قبل أن كانت
الأرض. ولدتُ حين لم تكن الغمار والينابيع الغزيرة المياه. قبل أن أقرّت الجبال
وقبل التلال وُلدتُ. اذ كان لم يصنع الأرض بعد.. كنت عنده مهندسًا.. طوبى للإنسان
الذي يسمع لي.. فانه من وجدني وجد الحياة” (أم 8: 22- 36).

وهي،
على مثال كلمة الله، قد خرجت من فم الله. “اني خرجت من فم العليّ بكرا قبل كل
خليقة، وجعلت النور يشرق في السماوات على الدوام.. قبل الدهر من الأوّل حازني،
وإلى الأبد لا أزول” (سير 24: 5- 6، 14).

ان
العهد الجديد سيرى في يسوع المسيح “حكمة الله” (1 كو 1: 24)،
و”ضياء مجده وصورة جوهره وضابط كل شيء بكلمة قدرته” (عب 1: 3).

في
العهد القديم كرز الأنباء بكلمة الله، وتكلّم سليمان بحكمة الله أمّا في العهد
الجديد، فقد حضرت إلينا كلمة الله وحكمته في شخص يسوع المسيح:

“رجال
نينوي سيقومون، في الدينونة، مع هذا الجيل، ويحكمون عليه، لأنهم تابوا بوعظ يونان،
وههنا أعظم من يونان. ملكة الجنوب ستقوم، في الدينونة، مع هذا الجيل، وتحكم عليه،
لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان، وههنا أعظم من سليمان” (متى 12:
41- 42).

3- روح الله
في العهد القديم

إنّ
حضور الله في الكون والإنسان يتّخذ نوعًا آخر، إلى جانب حضوره بكلمته وحكمته، وهو
حضوره بروحه. والروح، في العهد القديم، هو قدرة الله التي تظهر في الطبيعة وفي
الإنسان، ولا سيّمَا في من يختارهم الله من ملوك وأنبياء وكهنة، على أن تشمل جميع
الناس في الأزمنة الأخيرة.

ء)
الريح

إنّ
اللفظة العبرية للروح هي “رُوَح”، ترد 389 مرّة في العهد القديم،
ولكنّها لا تعني فقط الروح القدس أو روح الله، بل أيضاً “الريح”، أي
الهواء، أكان نسمة خفيفة أم ريحًا عاصفة. وتعني كذلك نَفَس الإنسان وروحه.

لقد
اختبر الإنسان أوّلاً عمل الريح في الكون ونسبه إلى الله. ” فالله هو الذي
أرسل الريح على الأرض لتتناقص المياه بعد الطوفان” (تك 8: 1)، وهو الذي جعل
الرياح تهبّ لينزل المطر مع إيليّا النبيّ (3 ملوك 18: 45)، وهو الذي “ساق
ريحًا شرقية على الأرض” حملت معها الجراد إلى مصر، ثم “ردّ ريحًا غربية
شديدة جدًا فحملت الجراد وطرحته في بحر القُلْزُم” (تك 10: 13، 19). وكذلك
عندما مدّ موسى يده على البحر، أرسل الرب ريحًا شرقية شديدة جفّفت البحر الأحمر
ليمر فيه العبرانيون (تك 14: 21). والريح خاضعة لسلطة الله، على غرار جميع
الكائنات، يستخدمها متى شاء: “هو الذي صنع الأزض بقوّته.. بصوته يجمع غمار
مياه في السماء، وينشئ السحب من أقصى الأرض، ويحدث البروق للمطر، ويبرز الرّيح من
خزائنه” (إر 10: 13). “الشعب قد يبس وزهره قد سقط لأنّ ريح الرب هبّت
فيه” (أش 40: 1)

ب)
روح الإنسان

فالمعنى
الأوّل للفظة “رُوَح” متعلّق إذًا بقوّة في الطبيعة تعطيها الحياة.
والمعنى الثاني مرتبط بقوة في الإنسان تعطيه الحياة. فالرُوَح هي نَفَس الإنسان
وروحه، نفخها الله ذاته في الإنسان، حسب رواية سفر التكوين: “وإنّ الرب الإله
جبل الإنسان من تراب من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفسًا
حيّة” (تك 2: 7).

لهذا
نرى أن الروح في العهد القديم أمر واقعيّ يمكن الإنسان، وإن لم يره، أن يشعر به
ويدرك فاعليّته. فكما يشعر بعمل الريح في الطبيعة، كذلك يشعر بذاته كائنًا يتنفّس
وروحه فيه.

ج)
روح الله

أمّا
المعنى الثالث للفظة “رُوَح” فهو روح الله لنفسه، الذي يستطيع الإنسان
أن يدرك وجوده من خلال عمله في الطبيعة وعمله في الإنسان.

إن
روح الله هو روح القدرة، الذي يعطي الحياة لجميع الكائنات. فهو الذي خلق كلّ شيء،
كما جاء في الآيات الأولى من سفر التكوين: “في البدء خلق الله السماوات
والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح الله يرفّ على وجه
المياه” (تك 1: 1-2)، وكما جاء أيضاً في المزامير: “الجميع يرجونك
لترزقهم القوت في حينه.. تحجب وجهك فيفزعون، تقبض أرواحهم فيموتون وإلى ترابهم
يعودون. ترسل روحك فيُخلقون، وتجدّد وجه الأرض” (مز 103: 27- 30).

وتؤكّد
مختلف أسفار العهد القديم أنّ روح الله هو الذي يعمل في الذي اختارهم ليقودوا شعبه،
كالقضاة والملوك والأنبياء. فعن عشنيئيل يقول سفر القضاة: “وكان روح الرب
عليه، فتولّى القضاء لإسرائيل” (قض 3: 10)، وعن شمشون، عندما برز أمامه شبل
لبؤة يزأر في وجهه: “فحلّت عليه روح الرب، ففسخه كما يفسخ الجدي، ولم يكن في
يده شيء” (قض 14: 6). وكذلك “حلّ روح الرب على شاول عندما مسحه صموئيل
بالزيت، فأخذ يتنبّأ” (1 ملوك 10: 6). وعندما مسح صموئيل داود “حلّ روح
الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا.. وفارق روح الرب شاول وزعجه روح شرّير من لدن
الرب” (1 ملوك 16: 13، 14).

إنّ
روح الرب يحلّ على الملوك فيمنحهم قوّة إلهيّة. وكذلك يحلّ على الأنبياء فيجعلهم
يعملون ويتكلّمون باسم الرب، فنرى إيليا يقوده “روح الرب” (3 ملوك 18: 12)،
وعند وفاته ينتقل روح الرب الذي كان حالاًّ عليه إلى أليشع: “ورآه بنو
الأنبياء الذين في أريحا تجاهه، فقالوا: قد حلّت روح إيليا على أليشع” (4 ملوك
2: 15). وميخا النبي يرى في روح الرب قوّة لإعلان كلام الرب: “لكنّي قد
امتلأت قوّة بروح الرب، وحكمًا وبأسًا، لأخبر يعقوب بمعصيته وإسرائيل
بخطيئته” (ميخا 3: 8).

د)
روح الله في الأزمنة الأخير

أمّا
الذي سيحلّ عليه روح الرب بشكل دائم فهو المسيح، كما جاء في نبؤة أشعيا: “ويخرج
قضيب من جذر يسَّى، ويَنمي فرع من أصوله. ويستقرّ عليه روح الرب، روح الحكمة
والفهم، روح المشورة والقوّة، روح العلم وتقوى الرب” (أش 11: 1، 2). ويرى
أشعيا الثاني روح الرب يحلّ على المسيح ليوصل رسالة الرب إلى جميع الأمم: “هوذا
عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سارت به نفسي، قد جعلتُ روحي عليه، فهو يبدي الحكم
للأمم، لا يصيح ولا يجلّب، ولا يُسمِع صوتَه في الشوارع. قصبة مرضوضة لا يكسر،
وكتّانًا مدخنًا لا يطفئ. يبرز الحكم بحسب الحق. لا يني ولا ينكسر، إلى أن يجعل
الحكم في الأرض، فلشريعته تنتظر الأمم” (أش 42: 1- 3)؛ “إنّ روح السيّد
الرب عليّ، لأنّ الرب مسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني لأجبر المنكسري القلوب،
وأنادي بعتق للمسبيّين وبتخلية للمأسورين، لأنادي بسنة الرب المقبولة” (أش 61:
1- 3).

وبواسطة
المسيح سيحلّ روح الرب على جميع الناس ليسلكوا بحسب وصايا الله. وهذا ما يعلنه
حزقيال، “نبي الروح”: “أعطيهم قلباً واحدًا وأجعل في أحشائهم روحًا
جديدًا، وأنزع من لحمهم قلب الحجر، وأعطيهم قلبًا من لحم، لكي يسلكوا في رسومي
ويحفظوا أحكامي ويعملوا بها، فيكونون لي شعبًا وأكون لهم إلهًا” (حز 11: 19،
20؛ راجع أيضاً 36: 26- 28).

وهذا
ما يتنبّأ به يوئيل للأزمنة الماسياوية الأخيرة: “وسيكون بعد هذه أني أفيض
روحيي على كلّ بشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبّانكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلامًا.
وعلى عبيدي أيضاً وإمائي أفيض روحي في تلك الأيام” (يوء 2: 28، 29).

وهكذا
لن يعود حلول الروح هبة خاصة بالملوك والأنبياء، بل يعطى لشعب الله بأجمعه. وهذا
الروح هو الذي سيجدّد قلب الإنسان من الداخل ليحمله على السلوك بحسب وصايا الله
فالخاطئ يُحزن الروح القدس: “لكنّهم تمرّدوا وأحزنوا روَحه القدوس” (أش
63: 10). لذلك يطلب المزمور الخمسون: “قلباً طاهراً فيّ يا الله، وروحاً
مستقيمًا جدّد في أحشائي. لا تطّرحني من أمام وجهك، ولا تنزع مني روحك
القدوس” (مز 50: 13). ويقول سفر الحكمة في هذا الصدد: “من علم مشورتك لو
لم تؤتِ الحكمة، وتبعث روحك القدوس من الأعالي؟” (حك 9: 17). وهذا الروح
القدس يدخل إلى أعماق الإنسان ويملأه حكمة: “انّ الحكمة مهندسة كلّ شيء هي
علّمتني. فإنّ فيها الروح الفهِم القدوس، المولود الوحيد ذا المزايا الكثيرة،
اللطيف السرج الحركة، الفصيح الطاهر النيّر السليم، المحبّ للخير، الحديد الحرّ
المحسن، المحبّ للبشر، الثابت الراسخ، المطمئن القدير، الرقيب الذي ينفذ جميع
الأرواح الفهمة الطاهرة اللطيفة” (حك 7: 21- 23).

وهذا
الروح لن يترك الإنسان: “هذا عهدي معهم، قال الرب: روحي الذي عليك وكلامي
الذي جعلته في فمك لايزول من فمك، ولا من فم نسلك، ولا من فم نسل نسلك، قال الرب،
من الآن وإلى الأبد” (أش 59: 21).

والروح
الذي سيرسله الرب في الأيام الأخيرة سيُحيي الأموات، كما جاء في نبوءة حزقيال على
العظام اليابسة:

“وكانت
عليّ يد الرب، فأخرجني الرب بالروح، ووضعني في وسط البقعة، وهي ممتلئة عظامًا..
وقال لي: تنبّأ نحو الروح، تنبّأ يا ابن البشر، وقل للروح: هكذا قال السيد الرب،
هلمّ أيها الروح من الرياح الأربع، وهبّ في هؤلاء المقتولين فيحيوا. فتنبّأت كما
أمرني. فدخل فيهم الروح، فحيوا وقاموا على أرجلهم جيشًا عظيمًا جدًّا جدّاً.. هكذا
قال السيد الرب: ها أناذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم.. وأجعل روحي فيكم
فتحيون” (حز 37: 1- 14).

خلاصة
القول انّ الروح في العهد القد يظهر على ثلاثة أوجه يظهر أوّلاً كقدرة حياة تحيي
كل خليقة، ويظهر ثانياً في كلام الأنبياء والمعجزات التي يقومون بها باسم الله،
ويظهر أخيراً كوعد للأزمنة الأخيرة التي فيها سيأتي المسيح ممتلئًا من الروح القدس،
وبواسطته سيحلّ الروح القدس على جميع الشعب وفي داخلهم، كقوّة قداسة وينبوع حياة
جديدة.

وفي
جميع هذه الوجوه، لا يبدو الروح كقدرة مستقلّة عن الله، بل كقدرة مرتبطة بالله.
وحضوره هو حضور واقعي وسرّي في آن واحد، فالله يعمل بواسطة روحه القدوس في قلب
العالم، ولكنّه يبقى متعاليًا عن العالم.

خلاصة

هكذا
أوحى الله بذاته في العهد القديم: إلها أبًا يخلق العالم ويخلّصه بكلمته وروحه.
وتلك هي التهيئة التي نجدها في العهد القديم لكشف سرّ الثالوث الأقدس في العهد
الجديد. فمَا يجب تأكيده هو أن الله لا يكشف ذاته إلا من خلال علاقته بالإنسان.
وقد ظهرت لنا تلك العلاقة علاقة ثالوثيّة: فالله هو الآب، والكلمة والروح هما قدرة
الله وحضوره اللذان يتّصل بهما بالعالم فيخلقه ويرشده ويخلّصه ويحييه. إنهما، كما
يقول القديس إيرناوس، “يدا الله”.

وهكذا
يتبيّن لنا ما قلناه في مستهلّ بحثنا أن أيّ محاولة لاهوتيّة للدخول في سرّ
الثالوث الأقدس يجب ألا تنطلق من التأمّل النظريّ الفلسفيّ في الذات الإلهية
لمعرفة تكوينها الباطنيّ، بل من وحي الله لذاته في تاريخ الخلاص. فالله في العهد
القديم من تاريخ الخلاص أوحى بذاته أباً يخلق ويخلص. “وروحه. وفي العهد
الجديد بلغ وحي الله كماله، إذ أرسل إلينا الله ابنه الوحيد، وبالابن عرفنا الآب
وعرفنا الروح القدس.

ثانيًا-
الثالوث الأقدس في العهد الجديد

توطئة:
منهجيّة البحث في الثالوث الأقدس في العهد الجديد

إنّ
من أراد البحث في عقيدة الثالوث الأقدس كما وردت في العهد الجديد يصطدم بصعوبات
وعقبات متعدّدة لا بدّ له من أخذها بعين الاعتبار لئلاّ يقع في مغالطات أو يطلق
أحكامًا غير مبنية على طرق علميّة.

1-
الصعوبة الأولى تأتي من أنّه يستحيل علينا تكوين صورة واضحة عن يسوع التاريخي
استناداً إلى تفسير حرفي للعهد الجديد. ذلك أن أسفار العهد الجديد كلّها هي شهادات
إيمان الرسل والتلاميذ الذين اختبروا المسيح القائم من بين الأموات. وكل منهم يروي
سيرة يسوع على ضوء إيمانه. ومع ذلك يجب التأكيد على أن ما يروونه ليس من اختراع
مخيّلتهم، بل هي أحداث واقعيّة عن يسوع الناصريّ الذي عاشوا معه وآمنوا به. فيجب
من ثمّ من الناحية المنهجيّة الأخذ بعين الاعتبار الناحيتين معًا: الرواية على ضوء
الإيمان، ورواية أحداث واقعيّة.

2-
الصعوبة الثانية هي في التمييز بين أساليب متعددة في النصّ الكتابي: فهناك العقيدة
الإيمانية، وهناك عبارات الكرازة، وهناك التفاسير اللاهوتية. لذلك يجب ألاّ يُعتبر
كلّ تفسير لاهوتيّ، وإن ورد في العهد الجديد، كأنه عقيدة إيمانية. وهذا التمييز
يصحّ أيضاً لتاريخ الفكر المسيحيّ على مدى العصور. فليس كل تحليل لاهوتيّ عقيدة
إيمان

3-
التحديات اللاهوتية، مهما كانت دقيقة، لا تستطيع الإحاطة بسر الإيمان ولا التعبير
تعبيرًا وافيًا عن عقيدة الإيمان. بل إن هناك مسافة دائمة ملازمة لكل يد لاهوتي،
بين التعبير والعقيدة الإيمانية المقصودة من خلال التعبير.

4-
إن التحديدات اللاهوتية التي عبّرت من خلالها المجامع المسكونية عن عقيدة الثالوث
الأقدس ليست جديدة بالنسبة لإيمَان العهد الِجديد. واستعمالها للألفاظ الفلسفية
كالطبيعة والجوهر والأقنوم سوىَ تعبير لإيمَان العهد الجديد ذاته بلغة يفهمها
العصر الذي وردت فيه. وهذا ما يجب إظهاره في البحث في إيمَان العهد الجديد
بالثالوث الأقدس وعلاقة الأقانيم الإلهية بعضها ببعض. وفي هذا البحث يجب التنبّه
إلى عدم استعمال تلك الألفاظ الفلسفية في تفسير أقوال العهد الجديد، بل الاكتفاء
بإظهار ملاءمة ما ورد في العهد الجديد مع جوهر العقيدة التي أعلنتها المجامع
المسكونية في تحديداتها اللاهوتية.

5-
ان عقيدة الثالوث قد أوحيت لنا من خلال شخص يسوع المسيح ورسالته وموته وإرساله
الروح القدس إلى تلاميذه من بعد قيامته. لذلك، للتعمّق في سرّ الثالوث الأقدس، يجب
ألاّ نزيح أيصارنا عن يسوع للتأمل في طبيعة الله السرمديّة. على العكس من ذلك،
بقدر ما نتعلّق بيسوع المسيح ونتعمّق في فهم شخصه ورسالته، ينكشف لنا سر الثالوث
الآب والابن والروح القدس.

اننا،
في أبحاثنا السابقة في تفسير قانون الإيمان، قد توسّعنا في نواح متعدّدة من هذا
الموضوع. ففي تفسير القسم الأول من قانون الإيمان: “نؤمن باله واحد آب ضابط
الكل”، عالجنا كيف يعبّر العهد الجديد عن ظهور الله الآب في تعليم يسوع
وحياته.

وفي
تفسيرنا للقسم المتعلّق بيسوع المسيح: “وبربّ واحد يسوع المسيح ابن الله
الوحيد”، رأينا كيف ظهر يسوع في شخصه وتعليمه، في العهد الجديد،
“المسيح”، و”ابن البشر”، و”الرب”، و”ابن
الله”، و”الكلمة”.

يبقى
لنا الآن أن نعود إلى أهمّ ما جاء في الجهد الجديد من نصوص توضح من جِهة علاقة
الابن بالآب، ومن جهة أخرى علاقة الروح القدس بالآب والابن، وعمل الروح القدس في
الكنيسة، لنستخلص منها إيمَان العهد الجديد بالثالوث الأقدس.

1- الآب والابن

ء)
الله أب لجميع الناس

لقد
أوضحنا في أبحاثنا السابقة كيف ظهر الله من خلال تعليم يسوع وعمله أبًا لجميع الناس:
فهو الإله القريب من الإنسان. وهو يعتني بهم أفضل ممّا يعتني بطيور السماء وزنابق
الحقل. وهو الأب الذي يعرف أن يمنح العطايا الصالحة لأبنائه. وهو الأب الرحيم الذي
يسعى بنفسه لطلب الخروف الضالّ، وينتظر عودة ابنه الشاطر ليعيده إلى فرح الحياة
معه.

وقد
أظهر يسوع في أعماله أبوّة الله هذه. فنراه يغفر للعشّارين والخطأة: لخلعّ
كفرناحوم، وللمرأة الزانية، ولزكا العشّار.

ب)
الله أب ليسوع بنوع خاص

لقد
صنع يسوع في حياته أموراً خاصة بالله. فغفر الخطايا، و”ما من أحد يقدر أن
يغفر الخطايا إلاّ الله وحده” (مر 2: 7). ونقض شريعة السبت التي وضعها الله
نفسه (مر 2: 29). وكان في تعليمه يتكلّم بسلطة إلهية: “سمعتم أنه قيل
للأقدمين.. أما أنا فأقول لكم..”

تلك
كانت نقطة الانطلاق للإيمَان بالثالوث الأقدس في بدء المسرحية. فلقد آمن تلاميذ
يسوع أنّ الله نفسه بكل قدرته قد ظهر لهم في شخص يسوع المسيح، وأنّه يمكن من ثمّ
لكل إنسان ملاقاة الله في شخص يسوع المسيح.

وقد
تثبّت هذا الإيمان بقيامة يسوع من بين الأموات. فبعد قيامة يسوع راح الرسل يكرزون
أنّ يسوع الناصريّ الذي صلبه اليهود قد أقامه الله، وبقيامته أعلن للعالم أجمع صدق
رسالته، وأدخله في مجده الإلهي، “وجعله ربّا ومسيحا” (أع 2: 36)، كما
يقول بطرس الرسول في خطبته الأولى بعد العنصرة.

لقد
آمنت الكنيسة الرسوليّة أن يسوع، بقيامته، قد حصل على أعلى كرامة إلهية. وهذا ما
تشير إليه الألقاب المختلفة التي دعته بها. فآمنت أنه هو “اِلمسيح”،
معبّرة بذلِك عن إيمانها بأنّ الله قد أقام فيه الملكوت الذي وعد به منذ العهد
القديم. ودعته “ابن البشر”، منتظرة أن يأتي من جديد للدينونة وقيامة
الأموات وبدء زمن خلاص جديد. ودعته “ابن الله”، وهذا اللقب هو، في الأصل
لقب من ألقاب المسيح، الملك الماسيوي، كما جاء في المزمور 2: 7: “أنت ابني،
وأنا اليوم ولدتك” (راجع أع 12: 33) ودعته “الرب”، وهذا اللقب هو
أيضاً أحد الألقاب الماسيوية، والدليل على أنّ الكنيسة الناشئة قد استعملته،
العبارة الليتورجية الآرامية “ماراناثا” (أيها الرب، تعالَ) (راجع 1 كو
16: 22؛ رؤ 22: 20؛ 1 كو 11: 26).

ماذا
تعلّمنا تلك الألقاب عن يسوع؟ اذا نظرنا إلى تلك الألقاب في ذاتها، قد نخلص إلى
القول إن الكنيسة الرسولية قدّ تطورت في التعبير عن إيمانها بيسوع. فانتقلت من
الإيمان بأن يسوع هو المسيح- وهذا الإيمان نشأ في محيط يهوديّ- إلى الإيمان بأن
يسوع هو ابن الله والرب، وهذان التعبيران هما من المحيط اليونانيّ. وهكذا قد يرى
البعض أنّ الجماعة المسيحية كانت ترى في يسوع مجرّد إنسان تبنّاه الله، ثم انتقل
هذا الإيمان إلى الجماعات اليونانيّة التي راحت تعلن أنّ يسوع هو ابن الله منذ
الأزل، وأن حياته على الأرض لم تكن سوى فترة قصيرة عاد من بعدها إلى المجد السماوي.

إنّ
هذا التفسير لإيمان العهد الجديد بالمسيح خاطئ، لأنه يستند إلى نقطة انطلاق خاطئة.
فالجماعات المسيحية الأولى بدأت بالقول إن المسيح الذي انتظره العهد القديم،
المسيح الذي هو ابن البشر وابن الله والرب، قد أتى. وهو يسوع الذي من الناصرة.
فالتعبير الإيماني الأوّل بدأ إذاً على الشكل التالي: ان المسيح الموعود به هو
يسوع وابن البشر المنتظر هو يسوع، وابن الله هو يسوع، والرب هو يسوع. وفي هذا
التعبير تبدو ألقاب المسيح وابن البشر وابن الله والرب ألقابًا مترادفة مع فروق
دقيقة. ولكن في ما بعد قُلبت هذه التعابير للتعريف بيسوع تعريفًا واضحًا فقيل يسوع
هو المسيح وابن البشر وابن الله والرب. وتحوّل مدلول تلك الألقاب وصارت كأنّها وصف
موضوعيّ ليسوع وتعبير واضح عن علاقته بالله.

أمّا
في الواقع فان تلك الألقاب لا تهدف إلى إزاحة الحجاب عن سر علاقة يسوع بالله، ولا
إلى إدخال تلك العلاقة في نظرة معهودة من تاريخ الديانات. فكل ما أكّدته الكرازة
الرسولية يبقي سرّ يسوع قائمًا، ولا يهدف إلاّ إلى إتاحة المجال للمؤمن للبلوغ إلى
المسيح الحيّ. وقيامة يسوعٍ قد ثبّتت هذا الإيمان: فبها أعلن الله أن كلّ ما عمله
يسوع وتكلّم به كان بقدرة الله، فهو إذاً مرسل الله ومسيح الله. وبقيامة يسوع أعلن
الله أنّ كلّ مؤمن يستطيع اليوم الوصول إلى الله بواسطة المسيح، الذي يملك الآن
أيضاً قدرة الله. وهذا ما تشير إليه العبارات التالية: “إن يسوع قد ارتفع
بيمين الله” (أع 2: 33)، و”جلس إلى يمين الله” (أع 2: 34، رو 8: 34)،
و”أُعطي كل سلطان في السماء وعلى الأرض” (متى 28: 18)، و”جُعل
ربًّا ومسيحًا” (أع 2: 36). لذلك “تجثو لاسم يسوع كلّ ركبة ممّا في
السماء وعلى الأرض وتحت الأرض ويعترف كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو ربّ لمجد الله
الآب” (في 2: 10- 11).

لا
ريب في أن الجماعة المسيحية الناشئة لم تبحث بشكل مفصّل بالعلاقة التي تربط المسيح
بالله كما ستفعله المجامع المسكونية الأولى، ولم تلجأ لذلك إلى التعابير الفلسفية
التي ستستخدمها الكنيسة في ما بعد. إلاّ أنها عبّرت عن العلاقة ذاتها بتعابير
وتصاوير أكثر واقعية: فجلوس المسيح عن يمين الله لا يعني شيئًا دقيقًا بالنسبة إلى
علاقة يسوع الكيانيّة بالله، إنّما هو صورة للتعبير عن أعلى مرتبة يمكن لإنسان
الوصول إليها. فيسوع قد أعطي سلطة الله نفسه، لذلك يتّخذ كلّ ما قاله وعمله على
الأرض بعدًا إلهيًا.

ج)
تحليل بعض نصوص العهد الجديد التي تظهر علاقة الابن بالآب

*
تجارب يسوع: “إن كنت ابن الله” (متى 4: 1- 11)

تبدأ
التجربتان الأوليان بقول المجرّب ليسوع: “إن كنت ابن الله فمُرْ أن تصير هذه
الحجارة خبزًا”، “إن كنت ابن الله، فألقِ بنفسك إلى ما أسفل، لأنه مكتوب:
إنّه يوصي ملائكته بك يحملك على أيديها، لئلاّ تصدم بحجر ما رجلك”. نحن هنا
بصدد المفهوم الصحيح للبنوّة الإلهية، لعلاقة الابن بالآب فتجربة الإنسان تقوم على
أن يرى في البنوّة الإلهية وسيلة لاستخدام سلطة الله في سبيل التحرّر من معطيات
الطبيعة البشرية وصنع الخوارق والمعجزات. تلك هي نظرة الأساطير اليونانية إلى
“أبناء الله”، أولئك الأبطال الذين ولدوا من تزاوج الإلهة وصاروا قادرين
على صنع الأعمال الخارقة. فابن الله في تلك النظرة الأسطورية يحلّ محلّ الله
ويستخدم قوة الله لمآربه الخاصة، بدل أن يكون هو في خدمة إرادة الله. وتبيّن
التجربة الثالثة نتيجة تلك النظرة الشيطانيّة للبنوّة الإلهية: “أعطيك ممالك
الدنيا ومجدها، إن خررت ساجدًا لي”. فما يَطلبه المجرّب من يسوع هو التخلّي
عن البنوّة الإلهية ليصير خادم الشيطان “ابي الكذب” (يو 8: 44).

إن
علاقة ابن الله بالآب، في الإنجيل، هي علاقة خضوع وخدمة. فالله يبقى، بالنسبة
ليسوع، الإله الذي من كلمته يحيا: “إنّه لمكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا
الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله”. كما يبقى أيضاً بالنسبة إليه
“الربّ الإله الذي لا يجوز أن يجرَّب: “لا تجرّب الربّ إلهك” إن
الجماعة المسيحية الأولى لا ترى أيّ تناقض بين كرامة البنوّة الإلهية وخضوع الابن
لله الآب.

وهذا
ما يبدو جليًّا في إنجيل يوحنا. فالابن يحيا بالآب (يو 6: 57). وطعامه أن يعمل
مشيئة الذي أرسله ويتمّم عمله” (يو 4: 34). “فإنّ الابن لا يستطيع من
نفسه أن يعمل شيئًا إلاّ ما يرى الآب يعمله. فما يفعله هذا، يفعله الابن
كذلك” (يو 5: 19). لقد لرأى اليهود في قول يسوع إنّه ابن الله تجديفًا،
لاعتبارهم أنّ ابن الله “يساوي نفسه بالله” (يو 5: 18). لذلك قالوا إنّ
فيه شيطانًا (يو 8: 48). أمّا يسوع فيجيبهم: “ليس بي شيطان، إنما أكرم أبي..
أنا لا أطلب مجدي” (يو 8: 49).

هذه
النصوص أنّ بنوة يسوع الإلهية تقوم أولاً على ارتباطه العمل بالله. فهو يحيا من
حياة الآب ويخدمه ويكرمه. لا يمكننا القول إن هذه النصوص لا تتعلّق بيسوع إلاّ من
حيث هو إنسان لا من حيث هو إله. لا شكّ أنّ هذه النصوص تتحدّث عن يسوع في حياته
على الأرض. ولكن يسوع الابن المتجسّد هو نفسه الابن الأزليّ. لذلك ما يقال عن
بنوّته لله وهو على الأرض يعرّفنا عن علاقته بالله الآب منذ الأزل.

بالابن
وحده نعرف الآب (متى 11: 25- 30؛ لو 10: 21- 22)

في
الفقرة السابقة، رأينا تركيز الإنجيل على خضوع الابن للآب. أمّا في النصّ الحاليّ
فالتركيز هو على وحدة الابن مع الآب.”فالآب قد دفع كلّ شيء إلى الابن”.
لذلك “ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابنُ ومن يريد
الابن أن يكشف له”. بالابن وحده يستطيع الناس الوصول إلى معرفة الآب. ان
الجملة الأولى ستجد صدى لها في قول يسوع لتلاميذه بعد قيامته: “لقد دُفع إليّ
كل سلطان في السماء وعلى الأرض” (متى 28: 18). وفي كلا النصّين تتحقّق نبوءة
دانيال عن ابن البشر الذي “أعطي سلطانًا ومجدًا وملكًا، وسلطانه سلطان أبديّ
لا يزول، وملكه لا ينقرض” (دا 7: 13- 14). فسلطان الابن يأتيه من الآب. وهذا السلطان
هو لإحلال ملكوت الله ونشر معرفة الله. والدخول في ملكوت الله ومعرفة الله أمران
مترادفان.

يعبّر
الإنجيل في مقاطع متعددة عن رغبة الإنسان في معرفة الآب. وقد عبّر عن تلك الرغبة
فيلبّس بقوله ليسوع: “يا رب أرنا الآب وحسبنا” (يو 14: 8)، كما عبّر
عنها اليهود أيضاً بقولهم ليسوع: “أين أبوك” (يو 8: 19). فكان جواب يسوع
لفيلبّس:

“أنا
معكم كلّ هذا الزمان، ولا تعرفني، يا فيلبس. من رآني فقد رأى الآب، فكيف تقول أنت:

أرنا
الآب؟ أفلا تؤمن أني أنا في الآب، وأنّ الآب فيّ؟ الأقوال التي أكلّمكم بها لا
أتكلّم بها من نفسي، بل الآب المقيم فيّ هو يعمل أعماله. صدّقوني أنّي أنا في الآب
والآب فيّ، وإلاّ فصدّقوا من أجل الأعمال” (يو 14: 9- 11).

يؤكد
يسوع وحدته مع الآب التي تظهر في أقواله وأعماله. فالأقوال التي يتكلّم بها لا
يتكلم بها من نفسه، والأعمال التي يعملها لا يعملها بقدرته. إنّما الآب المقيم فيه
هو الذي يتكلّم ويعمل أعماله فيه. وهذا أيضاً مايكرّره لليهود: “إنّكم
لاتعرفوني أنا ولا أبي، لو كنتم تعرفوني لعرفتم أبي أيضاً” (يو 8: 19).

وعندما
سأله اليهود: “حتّى مَ تريب أنفسنا؟ إن كنت المسيح، فقله لنا جهرًا، أجابهم
يسوع: “لقد قلته لكم، ولا تصدّقون. والأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد
لي”، ثم أضاف: “أنا والآب واحد” (يو 10: 24- 25، 30). فتناول
اليهود حجارة لكي يرجموه.

“فأجابهم
يسوع: لقد أريتكم أعمالاً حسنة كثيرة من عند الآب، فلأيّ عمل منها ترجموني؟، أجابه
اليهود: ليس لعمل حسن نرجمك، بل لأجل التجديف، ولأنك تجعل نفسك إلهًا، وأنت إنسان.
فأجابهم يسوع: أوَليس مكتوبًا في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة؟ فإن كان الناموس
يدعو آلهة أولئك الذين صارت إليهم كلمة الله- ولا يمكن أن يُنقض الكتاب- فأنا،
الذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم، تقولون لي: إنك تجدّف، لكوني قلت: أنا ابن
الله إن كنت لا أعملَ أعمال أبي، فلا تصدَّقوني. ولكن إن كنت أعملها، ولا تريدون
أن تصدّقوني، فصدّقوا هد الأعمال، لكي تعلموا وتعترفوا أن الآب فيّ وأ،ي في
الآب” (يو 10: 2- 38).

يتساءل
الناس اليوم أيضاً كما تساءل اليهود في زمن الكنيسة الرسولية الناشئة: ما معنى
القول إن يسوع هو ابن الله؟ الجواب على هذا السؤال هو في شخص يسوع نفسه: إن الله
قد ظهر لنا ظهورًا نهائيًّا في شخص يسوع، وأوحى لنا بذاته الوحي الأخير
(الاسختولوجي) في حياة يسوع وأعماله وأقواله. هذا ما يعنيه لقب الابن الذي يطلقه
العهد الجديد على يسوع. يسوع هو الابن الذي به عرفنا الآب. لذلك لا يمكن لأيذ
إنسان من بعد أن يتكلّم عن الله إلاّ من خلال الابن.

تلك
هي نقطة الانطلاق لعقيدة الثالوث الأقدس وفي العهد الجديد وفي المسيحية. فالإيمان
بالثالوث الأقدس ليس نظريّة فلسفيّة اخترعها الفكر البشريّ ولا تصوّرًا عقلانيا عن
الله. إنما هو تعبير عنّ ظهور الله ظهورًا ذاتيًّا في شخص يسوع المسيح. فالله هو
الآب، وقد ظهر لنا في ابنه يسوع المسيح.

ثم
إن تلك العقيدة لا تهدف إلى إرضاء فضول الإنسان وإشباع رغبته في معرفة أسرار الغيب
وأسرار العالم السماويّ. إنّما هي دعوة للدخول في حياة الله.

لذلك
يتابع ض متى: “تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والمثقّلين وأنا أريحكم. إحملوا
نيري عليكم، وكونوا لي تلاميذ، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا الراحة لنفوسكم.
أجل إن نيري ليّن وحملي خفيف”. فلا يكفي أن يعرف الإنسان أنّ يسوع هو ابن
الله، بل يجب أن يقبل إليه ليجد الراحة لنفسه. وكذلك، في ظهور يسوع لتلاميذه من
بعد قيامته، بعد قوله لهم: “لقد دُفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى
الأرض”، يضيف: “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن
والروح القدس. وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى
انقضاء الدهر” (متى 28: 18- 20).

لقد
أعطى يسوع سلطة الله ليُدخل جميع الناس في حياة الله. فبالابن ندخل حياة الآب.

*
يسو هو “كلمة الله” و”ابن الله”، الذي به نحيا من حياة الله
(يو 1: 1- 18)

ان
الدخول في حياة الآب من خلال الابن، تلك هي الفكرة الأساسية التي يدور حولها إنجيل
يوحنا من بدايته حتى نهايته. فينهي يوحنا إنجيله بقوله إنّ كل ما كتبه قد كتبه
“لتؤمنوا أنّ يسوع هو المسيح، ابن الله، وتكون لكم، إذا آمنتم، الحياة
باسمه” (يو 20: 31). وهذا ما يؤكّده في مطلع إنجيله، الذي هو أروع ما كتب في
علاقة المسيح بالله وعلاقة الإنسان بالله بواسطة المسيح. فالمسيح هو الوسيط الوحيد
بين الله والناس، حسب قول بولس الرسول: “إنّ الله واحد، والوسيط بين الله
والناس واحد، الإنسان، المسيح يسوع” (1 تي 2: 5).

يدور
مدخل إنجيل يوحنا حول فكرتين أساسيتين:

1)
علاقة المسيح الفريدة بالله: “فهو الكلمة الذي كان منذ البدء لدى الله”
(2) وهو إله: “وكان الكلمة الله”، “به كوّن كل شيء وبدونه لم يكن
شيء واحد ممّا كوّن”، “فيه كانت الحياة”، و”الحياة كانت نور
الناس”. إنّه ابن الله الوحيد الممتلئ من مجد الله: “وقد شاهدنا مجده،
مجدًا من الآب لابنه الوحيد، الممتلئ نعمة وحقًا” (14). وهو “الإله،
الابن الوحيد، الذي في حضن الآب” (18).

2)
المسيح هو الوسيط بين الله والناس: إنّه الوسيط في الخلق، إذ “به كوّن كلّ
شيء، وبدونه لم يكن شيء واحد ممّا كوّن”، “العالم كوّن” (10). وهو
الوسيط في الخلاص: فقد منح العالم الحياة والنور: “فيه كانت الحياة، والحياة
كانت نور الناس”، وبه يصير المؤمنون أبناء الله: “أما جميع الذين قبلوه،
فقد آتاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله، هم الذين آمنوا باسمه، الذين لم يولدوا
من دم ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله” (13). وبه نحصل على
النعمة والحق: “فإنّ الناموس أعطي بموسى، وأمّا النعمة والحق فبيسوع المسيح
قد حصلا” (17).

والجملة
الأخيرة توجز الفكرتين: “الله لم يره أحد قط، الإله، الابن الوحيد، الذي في
حضن الآب، هو نفسه قد أخبر” (18). فالمسيح هو ابن الله، وقد أخبرنا عن الله
الذي لا يستطيع إنسان أن يراه. الابن وحده، الذي في حضن الآب، أي الذي يعرف الآب
معرفة حميمة، يستطيع أن يعرّفنا بالآب ويقودنا إليه، ويجعلنا أبناء له، ويملأنا من
نعمته وحقيقته.

أما
السبيل الذي سلكه ابن الله ليقودنا إلى الله، فهو التجسّد: “والكلمة صار
جسدًا، وسكن في ما بيننا، وقد شاهدنا مجده، مجدًا من الآب لابنه الوحيد الممتلئ
نعمة وحقًا” (14). فيسوع هو المسيح، كلمة الله وابن الله، الكائن منذ الأزل
لدى الله: انه كلمة الله الذي يعبّر أصدق تعبير عن الله، وهو ابن الله الذي يوحي
الوحي الكامل عن الله.

تجلّي
ابن الله (لو 9: 28- 37)

ان
يسوع المسيح هو ابن الله منذ الأزل، وكونه إنسانًا لا يناقض كيانه الإلهي. فكيانه
الإلهي الذي ظهر في أقواله وأعماله، ظهر بكامل مجده في “التجلّي”.

يوضح
لوقا أنّ تجلّي يسوع أمام تلاميذه قد حصل “فيمَا هو يصلّي” (9: 29). ذلك
أن الصلاة، بالنسبة إلى يسوع، هي لقاء الابن مع الآب، فيه يضع الابن ذاته بين يدي
الآب، ويؤكّد الآب محبّته للابن.

“وفيمَا
هو يصلّي، تغيّر منظر وجهه، وصارت ثيابه بيضاء لامعة”. والتلاميذ الذين كانوا
معه “شاهدوا مجده”. واذا برجلين، موسى وإيليا، يخاطبانه، تراءيا في مجد،
وأخذا يتحدّثان عن موته الذي سيقاسيه في أورشليم”. إن يسوع، في وسط آلامه
وموته، يبقى الابن الممتلئ من مجد الآب. والتلاميذ، الذين يشاهدون الآن مجده
يسمعون في آنٍ معًا صوت الآب يعلن، من الغمامة (التي ترمز في كل الظهورات، إلى
الله). “هذا هو ابني، مختاري، فاسمعوا له”. إنّ الآب وحده يعرف الابن،
وها هو الآن يعلن أنّ “يسوع هو ابن الله”.

لقد
رأى بعض المفسّرين في الغمامة التي ظلّلت المسيح إشارة إلى الروح القدس، ويجدون في
التجلّي ظهور الثالوث. وهذا ما يقودنا إلى القسم الثاني من نصوص العهد الجديد، وهي
التي تظهر فيها الأقانيم الثلاثة.

2-َ الآب
والابن والروح القدس

ء)
البشارة بميلاد يسوع المسيح (لو 1: 26- 38)

يؤكد
هذا النصّ بوضوح الأقانيم الثلاثة وعملها في تاريخ الخلاص:

فالأب
هو الله الذي اختار مريم العذراء وملأها نعمة لتكون أمَّا لابنه: “السلام عيك
يا ممتلئة نعمة، الرب معك” (28)، “لقد نلت حظوة عند الله” (30).
وهو”الرب الإله الذي سيعطي المسيح عرش داود أبيه” (32). وهو الذي يرسل
روحه القدوس ليحلّ على العذراء ويظلّلها بقدرته لتحبل دون مباشرة رجل (35)، وهو
“الله الذي “ليس من أمر يستحيل عليه” (37).

ويسوع
الذي يولد من العذراء دون مباشرة رجل هو ابن الله منذ الحبل به، وليس بالتبّني: “انه
يكون عظيماً، وابن العليّ يدعى” (32). وعلى سؤال مريم: “كيف يكون ذلك،
وأنا لا أعرف رجلاً؟”، يجيب الملاك: “الروح القدس يأتي عليك، وقدرة
العليّ تظلّلك”، ثم يردف: “ومن أجل ذلك، فالقدوس الذي يولد منك يدعى ابن
الله” (35). وابن الله هو نفسه المسيح الخلّص ابن داود، الذي “سيعطيه
الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الدهر، ولن يكون لملكه
انقضاء” (32- 33).

والروح
القدس هو روح الله وقدرة الله، وهو الذي يظلّل العذراء (35). إنّ عمل خلاص البشر هو
عمل روح القدرة الإلهية. وهذا العمل يبدأ منذ الحبل بيسوع. وفي هذا أيضا يقول
إنجيل متّى: “يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم، فان الذي حبل به
فيها إنّما هو من الروح القدس. وستلد ابناً، فتسميه يسوع، لأنه هو الذي يخلّص شعبه
من خطاياهم” (متى 1: 20- 21).

إن
مجيء يسوع إلى العالم بقدرة روح الله في مريم العذراء هو حقًا. مجيء الله نفسه.

معمودية
يسوع (متى 3: 13- 17)

في
هذا النص أيضاً تظهر الأقانيم الثلاثة ظهورًا واضحًا: “فلمّا اعتمد يسوع، خرج
كل الفور من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، ورأى روح الله ينزل بشكل حمامة
ويحلّ عليه. وإذا موت من السماوات يقول: هذا ابني الحبيب، الذي به سررت” (3: 16-
17).

لقد
رأى بعض المبتدعين في هذا المشهد تأييدًا لقولهم إنّ يسوع هو مجرّد إنسان تبنّاه
الله يوم معوديته، إذ في تلك اللحظة نزل عليه روح الله، وأعلنه الآب ابنه الحبيب.
جوابًا على هذه النظرة الخاطئة، نقول إنّ النصوص الإنجيلية يكمّل بعضها البعض
الآخر، فيجب ألاّ يؤخذ نصّ بمعزل عن باقي الإنجيل. وقد رأينا في الفقرة السابقة
أنّ يسوع حُبل به من الروح القدس، وأنّه بالتالي ابن الله منذ الحبل به، أي في
صميم كيانه، وليس بالتبنّي. وما هذا المشهد سوى إعلان للملإ لمَا هو عليه يسوع في
شخصه، وإعلان لرسالته. وممتلئ من الروح القدس، وهو ابن الله في عمق كيانه.
فالأقانيم الثلاثة تظهر في بدء حياة يسوع العلنية، منبئة بأن عمل الخلاص الذي
سيقوم به المسيح ليس عملاً إنسانيًا وحسب، بل هو أوّلاً عمل الله في أقانيمه
الثلاثة.

ج)
المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس (متى 28: 19)

“اذهبوا
وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”. يرجّح مفسرو
الكتاب المقدس أنّ هذه الوصية التي وضعها الإنجيل على لسان يسوع ليست من يسوع نفسه،
بل هي موجز الكرازة التي كانت تُعدّ الموعظين للمعمودية، في الأوساط اليونانية.
فالمعمودية في السنوات الأولى للمسيحية كانت تعطى “باسم يسوع المسيح”
(أع 2: 38؛ 10: 48) أو “باسم الرب يسوع” (أع 8: 16؛ 19: 5). ففي الأوساط
اليهودية، لتمييز المعمودية المسيحية عن غيرها من طقوس التنقية والتطهير، كان يكفي
أن يلفظ اسم يسوع المسيح على المعتمد، دليلاً على أنه صار خاصة المسيح وخُتم نختمه.
أمّا في الأوساط اليونانية الوثنيّة، فكان يسبق المعمودية “تعليم أوّلي”
ينقل المهتدين “من عبادة الأوثان ليعبدوا الله الحيّ”، كما جاء في رسالة
بولس الأولى إلى التسالونيكيين (1: 3). وفي ذلك تقول الرسالة إلى العبرانيين: “فلندَع
التعليم الأوّلي عن المسيح، ولنرتفع إلى الكامل من غير ما عودة إلى ما هو أساسي: إلى
التوبة من الأعمال الميتة، والإيمان بالله، والتعليم بشأن المعموديات، ووضع الأيدي،
وقيامة الأموات، والدينونة العامة” (عب 6: 1- 2). كان هذا التعليم الأوّلي
يُعدّ الموعوظين فيعلّمهم أنّ الله سيرسل إلى قلوبهم روح ابنه ليستطيعوا أن يقولوا
بكل ثقة: “أبّا، أيّها الآب” (غلا 4: 6، رو 8: 15). من هنا يرجّح
المؤرخون أن صيغة المعمودية الثالوثية هي موجز للكرازة التي كانت تعدّ للمعمودية.

وهكذا
توسّع استدعاء اسم يسوع ليشمل أبوّة الله وموهبة الروح القدس. ونجد أيضاً ذكر
الأقانيم الثلاثة بمناسبة ذكر المعمودية في قول بولس الرسول: “إنّكم قد
اغتسلتم، قد تقدّستم، قد برّرتم باسم الرب يسوع المسيح وبروح إلهنا” (1 كو 6:
11). ففي المعمودية يصير الإنسان ابن الله بالتبنّي، بالإيمان بيسوع المسيح ابن
الله وبالمعمودية باسمه: “إنّكم جميعًا أبناء الله، بالإيمان بالمسيح يسوع،
لأنّكم أنتم جميع الذين اعتمدوا للمسيح، قد لبستم المسيح.. والدليل على أنّكم
أبناء كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه ليصرخ فيها: أبّا، أيها الآب” (غلا
3: 26- 27؛ 4: 6).

د)
عبارات ثالوثية في رسائل بولس الرسول

نجد
في رسائل بولس الرسول عبارات يذكر فيها الآب والابن والروح القدس في وحدة عمل
وتثليث أقانيم، دون ذكر لفظة “أقنوم”، التي لا وجود لها في العهد الجديد،
إنّما سيلجأ إليها اللاهوت المسيحي ابتداء من القرن الثالث عندما سيبدأ باستعمال
لفظة “الثالوث”.

في
ختام الرسالة الثانية إلى الكورنثيين، يقول بولس الرسول: “نعمة ربنا يسوع
المسيح ومحبة الله، وشركة الروح القدس معكم أجمعين” (2 كو 13: 13). يعتبر
معظم المفسرين اليوم أن هذه العبارة الثالوثية التي تذكر نعمة الله، أي الآب،
ويسوع المسيح، أي الابن، والروح القدس، تعود إلى اللّيتورجيا الأولى. ونجد مقابلها
عبارات مختلفة، يختم بها بولس رسائله، ويذكر فيها فقط يسوع المسيح الرب: “نعمة
الرب يسوع معكم” (1 كو 16: 23)؛ “نعمة ربنا يسوع المسيح مع روحكم”
(غلا 6: 18)؛ “نعمة الرب يسوع المسيح مع روحكم” (في 4: 23)؛ “نعمة
ربنا يسوع المسيح معكم أجمعين” (1 تسا 5: 28؛ 2 تسا 3: 18). إن الصيغة
الثالوثية لا تتوسعّ في تفسير العلاقة التي تربط “الأقانيم أحدهم بالآخر، ولا
تذكر لفظة “ثالوث”، ولكنّها تضع المؤمنين في نعمة الله التي تجلّت لنا
بشكل ثالوثيّ في ربنا يسوع المسيح الذي أظهر لنا محبة الله الآب، ويشترك فيها
المؤمنون بواسطة الروح القدس

وفي
الرسالة إلى الفيليبيين يعود بولس إلى الصيغة ذاتها، ولكن هذه المرة ليس في إطار
ليتورجيّ بل في إطار تحريض على المحبة والاتحاد بين المسيحيين:

“ومن
ثمّ أناشدكم بمَا في المسيح من دعوة ملحّة، وفي المحبّة من قوّة مقنعة، وفي الروح
من شركة، وبالحنان والرحمة، أن أتمّوا فرحي بأن تكونوا على رأي واحد، فتكون لكم
محبّة واحدة ونفس واحدة، وفكر واحد” (في 2: 1- 2).

تلك
الدعوة إلى الوحدة يبنيها بولس أيضاً على وحدة الآب والابن والروح في حديثه عن
مواهب الروح المتعددة. يقول: “ما من أحد ينطق بروح الله، ويقول: يسوع مبسل؛
ولا أحد يستطيع أن يقول: يسوع ربّ إلاّ بالروح القدس”. نجد هنا ذكر الله، أي
الآب، والرب يسوع، أي الابن، والروح القدس. ثم يتابع بولس:

“لا
جرم أنّ المواهب على أنواع، إلاّ أنّ الروح واحد، وأنّ الخدم على أنواع إلاّ أنّ
الربّ واحد، وأن الأعمال على أنواع، إلاّ أنّ الله واحد، وهو يعمل كلّ شيء في
الجميع” (1 كو 12: 3- 6).

يؤكّد
بولس أنّ مواهب الروح القدس، مهما تنوّعت، فمصدرها واحد، وهو الله، لأنّ الروح
هو”روح الله”، و”الله هو الذي يعمل كلّ شيء في الجميع”. وهذا
الروح عينه هو الذي يقود إلى الإيمان بأنّ يسرع هو رب.

من
هنا نخلص إلى القول أن الحياة المسيحية بمجملها تستند إلى محبة الله الآب التي
ظهرت لنا بالابن وفي الروح القدس والصيغة الثالوثية هذه لا نجدها في العهد الجديد
إلاّ لدى ذكر عمل الله الخلاصيّ تجاه البشر، وفي وصف اختبار المسيحيين لهذا العمل
الخلاصي. ففي الوعظ والإرشاد، كما في الليتورجيا الافخارستية، وكما في المعمودية،
نجد ذكر الله الآب والربّ يسوع المسيح والروح القدس في وحدة عمل. وهذا العمل هو تقديس
الإنسان وإشراكه في حياة الله الواحد. ولا يرى العهد الجديد أنّ ذكر الآب والابن
والروح القدس في العمل الخلاصي الواحد يشكّل أي خطر على وحدانية الله. ومجرّد عدم
طرح أيّ مشكلة من هذا القبيل هو دليل على وضوح الرؤية لدى الرسل ومدوّني أسفار
العهد الجديد في موضوع وحدانية الله، الإله الواحد الذي ظهر في تاريخ الخلاص
ثالوثًا: إلا وابنًا وروحًا قدسًا. أي إن الله، بواسطة الابن والروح، منحنا مغفرة
الخطايا وأشركنا في حياته الإلهية.

ه)
لاهوت الثالوث في انجيل يوحنا

لقد
رأينا في الفقرة السابقة كيف يؤكّد يوحنا علاقة الابن بالآب منذ مطلع إنجيله..
وكذلك في الفصل الأول من إنجيله يؤكّد علاقة الروح بالآب والابن:

“وشهد
يوحنا قائلاً: إنّي رأيت الروح نازلاً من السماء بهيئة حمامة، وقد استقرّ عليه.
فأنا لم أكن أعرفه. إلا أن الذي أرسلني لأعمّد هو قال لي: إنّ الذي ترى الروح ينزل
ويستقرّ عليه هو الذي يعمّد بالروح القدس. فذلك ما قد عاينت، وأشهد أنّ هذا هو ابن
الله” (1: 32- 33).

“إنّ
الذي أرسله الله ينطق بكلام الله، لأن الله لا يعطيه الروح بمقدار. الآب بحبّ
الابن، وقد جعل في يديه كل شيء” (3: 34- 35).

إن
الله، أي الآب، يحب الابن، وقد جعل كلّ شيء في يديه، وأعطاه الروح، “لا
بمقدار”، بل بكل ملئه. لذلك يستطيع الابن أن يعمّد بالروح القدس. ويفسّر
القديس كيرلس الاسكندري هذا النص بقوله: “إنّ الابن، الذي هو ممتلئ من الروح،
يعطي الروح “من ملئه الخاصّ”.

وهذا
ما يشير إليه النص التالي:

“وفي
اليوم الأخير العظيم من العيد، وقف يسوع وصاح قائلاً: إن عطش أحد فليأت إليّ،
وليشرب من آمن بي. فكا قال الكتاب: ستجري من جوفه أنهار ماء حيّ. قال هذا عن الروح
الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. فالروح لم يكن بعد قد أعطي، لأنّ يسوع لم
يكن بعد قد مُجّد (7: 37- 39).

إن
الروح سيعطيه يسوع للمؤمنين به بعد تمجيده، أي بعد قيامته. وهذا ما يبيّنه هو نفسه
لتلاميذه في حديثه الأخير معهم في العشاء الفصحيّ. إننا نجد في هذا الحديث توضيحًا
لعلاقة الروح القدس بالآب والابن، وأوّل موجز لاهوتي لعقيدة الثالوث الأقدس. يقول
يسوع:

إن
كنتم تحبوني تحفظون وصاياي، وأنا أسأل الآب فيعطيكم محاميًا آخر ليقيم معكم إلى
الأبد، الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنّه لا يراه ولا يعرفه، أمّا أنتم
فتعرفونه، لأنه يقيم معكم ويكون فيكم” (14: 15- 17).

“قلت
لكم هذه الأشياء وأنا مقيم معكم، وأما المحامي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب
باسمي، فهو الذي يعلّمكم كلّ شيء، ويذكّركم جميع ما قلت لكم” (14: 25- 26).

“ومتى
جاء المحامي الذي أرسله إليكم من لدن الآب، روح الحق الذي ينبثق من الآب، فهو يشهد
لي” (15: 26).

“إن
في انطلاقي لخيرًا لكم. فإن لم أنطلق لا يأتكم المحامي، وأما إذا انطلقت فإني
أرسله إليكم.. وعندي أشياء كثيرة أقولها لكم، غير أنّكم لا تطيقون الآن حملها.
ولكن، متى جاء هو روح الحق، فإنه يرشدكم إلى الحقيقة كلّها، لأنّه لن يتكلّم من
عند نفسه، بل يتكلّم بمَا يكون قد سمع، ويخبركم بمَا يأتي. انه سيمجّدني لأنَه يأخذ
ممّا لي ويخبركم. جميع ما للآب هو لي، من أجل هذا قلت لكم: إنه يأخذ ممّا لي
ويخبركم” (16: 7- 15).

من
هذه النصوص يمكننا استخلاص التعاليم التالية في الثالوث الأقدس:

1)
الروح القدس متميّز عن الآب والابن. فهو ليس شكلاً من أشكال، ولا حالة من حالات
الآب أو الابن. فالابن يسأل الآب أن يرسل الروح: “وأنا أسأل الآب فيعطيكم
محاميًا آخر” (14: 16)، “الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (14:
26). والروح يرسله الابن من لدن الآب، وهو في آن معًا ينبثق من الآب: “متى
جاء المحامي الذي أرسله إليكم من لدن الآب، فهو يشهد لي” (15: 26). فالمقصود
اذن ثلاثة أقانيم متميزة.

2)
أما عن علاقة الأقانيم بعضها ببعض، فنرى أولاً أ، علاقة الروح بالابن هي على مثال
علاقة الابن بالآب. فكما أنّ الابن يشهد للآب: “انّا ننطق بمَا نعلم، نشهد
بما رأينا” (3: 11)، “أنا أتكلّم بمَا رأيت عند أبي” (8: 38)، كذلك
الروح يشهد للابن (15: 26). وكما أن الابن يمجد الآب: “أنا مجّدتك على
الأرض” (17: 4)، كذلك الروح سيمجد الابن: “انّه سيمجدني..” (16: 14).
وكما أن الابن لايقول شيئاً من نفسه، بل يقول ما حدّده له الآب الذي أرسله”
(12: 49؛ 7: 16)، كذلك الروح “لن يتكلّم من عند نفسه بل يتكلّم بمَا يكون قد
سمع.. انه يأخذ ممّا لي ويخبركم” (16: 13- 14). وأخيراً كما أن الابن قد
أرسله الآب، هكذا الروح قد أرسله الابن (15: 26، 16: 7).

3)
إن علاقة الروح بالابن لا تنفي أوّليّة علاقته بالآب. فالابن يرسل الروح، ولكن
“من لدن الآب” (15: 26). ثم إن الابن يسأل الآب، والآب يرسل الروح.
والروح سيمجّد الابن: فيسوع يقول: “يأخذ ممّا لي ويخبركم”، ولكنّه يضيف:
“جميع ما للآب هو لي، من أجل هذا قلت لكم: انه يأخذ ممّا لي ويخبركم”
(16: 14- 15). فالابن هو ابن الآب، وقد أعطاه الآب كل شيء. وكذلك الروح
“ينبثق من الآب” (15: 16). فالآب هو مصدر ولادة الابن، ومصدر انبثاق
الروح.

3- الروح
القدس في الكنيسة

ء)
يسوع يرسل الروح القدس على تلاميذه

هذا
الوعد الذي وعد به يسوع تلاميذه قد حقّقه بعد قيامته. فمنذ ظهوره الأوّل لهم يوم
قيامته منحهم الروح القدس، كما جاء في إنجيل يوحنا: “قال لهم ثانية: السلام
لكم. كما أنّ الآب أرسلني، كذلك أنا أرسلكم. ولمّا قال هذا، نفخ فيهم وقال لهم: خذوا
الروح القدس. فمن غفرتم خطاياهم غُفرت لهم، ومن أمسكتم خطاياهم أُمسكتَ” (يو
20: 21- 22) إنّ سلطان مغفرة الخطايا هو سلطان إلهي. وهذا السلطان قد مارسه يسوع
في حياته (راجع مثلاً شفاء مخلع كفرناحوم: متى 9: 1- 8)، لأنّ روح الربّ كان عليه.
فالآن، كما أرسله الآب وملأه من روحه، يرسل بدوره تلاميذه ويمنحهم الروح القدس،
قدرة الآب وسلطانه الإلهي على منح الحياة الإلهية للناس بمغفرة خطاياهم ومصالحتهم
مع الله.

تلك
هي المعمودية بالروح القدس والنار، التي تكلّم عنها يوحنا المعمدان في تبشيره
بالمسيح: “أنا أعمّدكم بالماء للتوبة، وأمّا الذي يأتي بعدي.. فهو يعمّدكم
بالروح القدس والنار” (متى 3: 11). والنار هنا رمز التطهير من الخطيئة. وتلك
هي المعمودية بالروح القدس التي وعد بها يسوع تلاميذه قبل صعوده إلى السماء: “لا
تبرحوا أورشليم، بل انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه منّي. فإنّ يوحنا قد عمّد
بالماء، أمّا أنتم فستعمّدون بالروح القدس بعد أيام قليلة” (أع 1: 4، 5).

ويروي
لوقا في الفصل الثاني من أعمال الرسل كيف تمّت تلك المعمودية بالروح القدس والنار:

“لمّا
حل يوم الخمسين كانوا كلّهم معًا في مكان واحد. فحدث بغتة صوت من السماء كصوت ريح
شديدة تعصف، وملأ كل البيت الذي كانوا جالسين فيه. وظهرت لهم ألسنة منقسمة، كأنّها
من نار، واستقرَّت على كلّ واحد منهم. فامتلأوا كلّهم من الروح القدس، وطفقوا
يتكلّمون بلغات أخرى، كما آتاهم الروح أن ينطقوا” (أع 2: 1- 4).

ويفسّر
بطرس للشعب أنّ هذا الحدث هو تحقيق نبوءات العهد القديم:

“هذا
هو ما قد قيل عن لسان يوئيل النبي: وسيكون في الأيام الأخيرة، يقول الله، أني أفيض
من روحي على كلّ بشر، فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبّانكم رؤى، ويحلم شيوخكم
أحلامًا. أجل، على عبيدي وعلى إمائي أفيض، في تلك الأيام، من روحي فيتنبّأون..
فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعًا شهود بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ
من الآب الروح القدس الموعود به، أفاض ما تنظرون وما تسمعون” (أع 2: 16- 18،
32، 33).

ثم
يطلب بطرس من مستمعيه أن يتوبوا ويعتمدوا لينالوا موهبة الروح القدس: “توبوا،
وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس.
لأنّ الموعد هو لكم ولبنيكم، ولجميع الذين على بُعد، بمقدار ما يدعو الرب إلهنا
منهم” (أع 2: 38، 39).

ماذا
يعني في الواقع حلول الروح القدس على التلاميذ؟ وماذا يقصد التلاميذ بقولهم للشعب:
توبوا واعتمدوا فتنالوا موهبة الروح القدس”؟ كيف تظهر تلك الموجة؟ إنّ
التلاميذ، قبل حلول الروح القدس عليهم، كانوا خائفين، مختبئين، كما يقول يوحنا،
“في منزل أبوابه موصدة خوفًا من اليهود” (يو 20: 19). ولمَّا حلّ عليهم
الروح القدس، طفقوا يبشّرون بالمسيح بجرأة، “ويتكلّمون بلغات أخرى”، أي
يبشّرون بالمسيح لجميع الشعوب وفي كلّ اللغات. ويقول يوئيل في نبوّته التي يذكرها
بطرس: “أفيض من روحي على كل بشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم”. والتنبّؤ هنا
يعنىِ التكلّم باسم الله والشهادة لله.

فالروح
القدس الذي حلّ على التلاميذ منحهم أن ينطقوا باسم الله ويشهدوا للمسيح. وهذا ما
يؤكدونه أيضاً للشعب: إنّ من يتوب ويعتمد باسم يسوع ينال موهبة الروح القدس في، أي
إنّ روح الله يملأه لينطق باسم الله ويشهد لله وللمسيح.فموهبة الروح القدس هي إذاً
الامتلاء من روح الله، بحيث لا يعود الإنسان يفكّر بأفكار بشرية وينطق بأقوال
بشرية، بل إنّ روح الله الذي يملأه هو الذي يفكّر فيه وينطق فيه. وروح الله هو
أيضاً الذي يعمل فيه، لذلك إلى جانب الشهادة للمسيح نجد الرسل يجرون آيات وعجائب
في الشعب: “حتى إنهم كانوا يخرجون بالمرضى إلى الشوارع، ويضعونهم على فرش
وأسرّة، ليقع ولو ظلُّ بطرس، عند اجتيازه، على بعض منهم. وكان الجمع يبادرون، حتى
من المدن المجاورة لأورشليم، حاملين المرضى والمعذّبين بالأرواح النجسة، وكانوا
جميعهم يشفون” (أع 5: 15، 16).

إنّ
هذه الآيات الخارقة هي مواهب خاصة يمنحها الروح القدس لمن يشاء، كما يقول بولس
الرسول:

“كلّ
واحد إنّما يعطى إظهار الروح للمنفعة العامة. فالواحد يعطى من قبل الروح كلام
حكمة؛ والآخر كلام علم، بحسب الروح عينه؛ والآخر الإيمان، بذلك الروح عينه؛ والآخر
موهبة الشفاء، بالروح الواحد عينه؛ وآخر إجراء العجائب؛ وآخر النبوّة، وآخر تمييز
الأرواح. وآخر أنواع الألسنة، وآخر ترجمة الألسنة. وهذه كلّها يفعلها الروح الواحد
بعينه، موزّعًا، كيف شاء، على كل واحد خصوصًا” (1 كو 12: 7- 11).

إنّ
عمل الروح القدس لا يقتصر على تلك المواهب الخاصة، بل يشمل الحياة المسيحية في
جميع مرافقها. ويمكننا رؤية عمل الروح في وصف سفر أعمال الرسل لحياة الكنيسة
الأولى. فالمواظبة على تعليم الرسل والشركة في الصلاة وكسر الخبز، أي القربان
المقدس، والشركة في توزيع الخيرات، هي كلّها من عمل الروح القدس الذي كان يملأ
المسيحيبن الأولين:

وكانوا
مواظبين على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات، ووقع الخوف على كل نفس،
لأنّ عجائب وآيات كثيرة قد جرت على أيدي الرسل. وكان جميع المؤمنين يعيشون معًا،
وكان كل شيء مشتركًا فما بينهم، وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم، ويوزّعون
أثمانها على الجميع بحسب حاجة كل واحد مدنهم. وكانوا كلّ يوم يلازمون الهيكل بنفس
واحدة، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بابتهاج وسلامة قلب، ويسبّحون
الله، نائلين حظوة عند جميع الشعب. وكان الرب كل يوم يزيد في الكنيسة عدد
المخلّصين” (أع 2: 42-47).

ب)
الروح القدس يكوّن الكنيسة

وهكذا
يكوّن الروح القدس الكنيسة في كرازة الرسل فيها وانضمام المؤمنين إليها. لقد رافق
الروح القدس الكنيسة منذ نشأتها وفي جميع مراحل نموها لذلك دعي سفر أعمال الرسل،
الذي يروي نشأة الكنيسة ونموّها، “إنجيل الروح القدس”. الروح القدس هو
قدرة الله التي تدفع بالكنيسة الناشئة “إلى أقاصي الأرض” حسّب قول يسوع
لتلاميذه: “إنّكم ستنالون قوّة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهودًا
في أورشليم، وفي جميع اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض” (أع 1: 8).

لذلك
يقود الروح القدس الرسل في كرازتهم. فالروح هو الذي قال لفيلبس أن يقترب من مركبة
قيّم ملكة الحبشة (8: 29). والروح هو الذي قال لبطرس ألاّ يتردد في الذهاب إلى
كرنيليوس قائد المئة، ويفتح أبواب الكنيسة للأمم (10: 19- 20). والروح هو الذي
اختار بولس وبرنابا للرسالة (13: 2- 4). ونرى الرسل يصغون لإلهامات الروح القدس في
عملهم الرسولي. فبولس وسيلا “جازا في فريجية وبلاد غلاطية، إذ منعها الروح
القدس أن يبشّرا بالكلمة في آسية. ولما انتهيا إلى ميسية حاولا أن يشخصا إلى
بيثينية، ولكنّ روح يسوع لم يأذن لهما” (16: 6، 7).

ويصغي
الرسل لإلهامات الروح القدس في قراراتهم. لذلك في إعلانهم ما توصّلوا إليه في مجمع
أورشليم بشأن موضوع إخضاع الأمم لشريعة موسى، نسمعهم يقولون: “لقد رأى الروح
القدس ونحن” (15: 28)

يدعو
سفر أعمال الرسل الروح القدس أحيانًا “روح يسوع” (16: 7)، لأنّ الروح
القدس هو مواصلة حضور يسوع معهم. فالروح القدس هو الذي يعمل فيهم ما كان يسوع
يعمله عندما كان معهم قبل موته وقيامته: التبشير بكلمة الرب، والدعوة إلى التوبة،
وإجراء الأشفية. فالرسل يعلّمون باسم يسوع (4: 18)، ويدعون إلى التوبة والإيمان،
كما كان يفعل يسوع (2: 38؛ 6: 7)، ويجرون الأشفية والآيات والعجائب باسم يسوع (3: 6،
4: 10، 30).

الروح
القدس يعمل في الرسل ويعمل أيضاً في المؤمنين، فيجمع الشعب على اختلاف فئاته في
جسد واحد هو جسد المسيح، حسب قو بولس الرسول: “إنّا جميعًا قد اعتمدنا بروح
واحد لجسد واحد، يهودًا كنّا أم يونانيين، عبيدًا أم أحرارًا، وسقينا جميعًا من
روح واحد” (1 كو 12: 13).

الكنيسة،
حسب بولس الرسول، متحدّة اتحادًا وثيقًا باب فالمؤمنون يتبرّرون ويتقدّسون في
المسيح وفي الروح (1 كو 1: 2، 30؛ 2 كو 5: 21)، ويتبرّرون ويتقدّسون أيضاً في
الروح القدس (رو 14: 17). وكذلك في المسيح وفي الروح القدس يحصلون على السلام
والفرح (في 3: 1؛ 4: 7؛ رو 14: 17). ومحبة الله قد أفيضت في قلوبهم في المسيح (رو
8: 39)، وفي الروح القدس (كو 1: 8). ويؤكّد بولس: “المسيح فيكم” (رو 8: 10)،
“وروح الله ساكن فيكم” (رو 8: 9). والمسيحي هو ابن الله بالمسيح وبالروح
(غلا 4: 4- 7).

الروح
القدس يجعلنا أبناء الله: “لقد أخذتم روح التبنّي، الذي به ندعو أبّا! أيها
الآب! فهذا الروح عينه يشهد مع روحنا بأنّا أولاد الله” (رو 8: 15، 16).
“والدليل على أنكم أبناء، كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه، ليصرخ فيها: أبّا!
أيها الآب! فأنت إذًا لست بعد عبدًا، بل أنت ابنٌ، وإذا كنت ابنًا، فأنت أيضاً
وارث بنعمة الله” (غلا 4: 6- 7). “إنّ جميع الذين يقتادهم روح الله هم
أبناء الله” (رو 8: 14).

المسيحيون
هم أبناء الله وهياكل الروح القدس وأعضاء في جسد المسيح. يقوم عمل الروح القدس في
المؤمنين على أنّه يدخل أعماق الإنسان ليجعل منه عضوًا في جسد المسيح. لذلك يتكلّم
بولس عن سكنى الروح القدس في المؤمنين: “أوَما تعلمون أنّكم هيكل الله، وأنّ
روح الله ساكن فيكم؟” (1 كو 3: 16)، “أوَلا تعلمون أنّ أجسادكما هي هيكل
الروح القدس الذي فيكم، الذي نلتموه من الله؟” (1 كو 6: 19). أمّا بالنسبة
إلى المسيح، فالمؤمنون أعضاء المسيح: “أما تعلمون أنّ أجسادكم هي أعضاء
المسيح؟” (1 كو 6: 15). الكنيسة ليست جسد الروح القدس، بل جسد المسيح. فالروح
القديس هو روح الله الذي يسكن في المؤمنين ليوحّدهم بالمسيح، ويدخلهم في علاقة
المسيح بالآب.

الروح
القدس هو قدرة الله الخلاّقة. علاقة المحبة التي عندما تنسكب في قلوب المؤمنين،
تجعل منهم أشخاصاً مرتبطين بعضهم ببعض ومرتبطين بالله. الروح القدس هو علاقة الله
بالبشر، والقدرة التي تربط البشر بالله. كأنّ الله، بروحه القدوس، يخرج من ذاته
ويتّحد بالناس ليوحّدهم به. بالروح القدس يصير الإنسان والله واحدًا: “بهذا
نعرف أنّا ثابتون فيه وهو فينا: بأنّه قد أعطانا من روحه” (1 يو 4: 13).

وتلك
هي الكنيسة: حياة الله التي أتت بالمسيح وبالروح القدس تنسِكب في قلوب البشر،
فتجعلهم أبناء الله وهياكل للروح القدس، أي توحّدهم بالله وتوحّدهم بعضهم ببعض،
وتصيّرهم جسدًا واحداً للمسيح.

يقول
القديس إيريناوس: “كما أنّ الله قد نفخ روحه في الجسد الذي كوّنه، منح الحياة
لكل أعضاء الجسد، هكذا أعطى الروح للكنيسة. وهذا الروح الذي تسلّمته الكنيسة وأعطي
لها ونُفخ فيها، هو المبدأ الحي للإتحاد الصميم بالمسيح: هو ثبات إيماننا، والسلّم
الذي به نرتقي إلى الآب. وهو أخيرًا، وعلى الأخصّ، عربون وبذار لعدم الفساد حتى
اللانهاية، حيث نُعتَق إلى الأبد من أصل الموت وجموده. فحيث الكنيسة هناك أيضاً
روح الله، وحيث الله هناك الكنيسة وكلّ نعمة والروح هو حق: لذلك فانّ من لا يشترك
في الروح لا يستقي من جوف أمّه غذاء الحياة، لا ينال شيئًا من الينبوع الصافي الذي
يتدفّق من جسد المسيح” (ضد الهراطقة 3: 24، 1).

4- الحياة بالروح

يتوسّع
العهد الجديد، ولا سيّمَا بولس الرسول، في الحياة بالروح، التي يجب أن يحياها
أبناء الله: “إن كنّا نحيا بالروح فلنسلكنّ أيضاً بحسب الروح” (غلا 5: 25).
أي إن كانت حياتنا هي من الروح، فينبغي أن يكون سلوكنا بحسب الروح. “إن ناموس
روح الحياة في المسيح يسوع قد حرّرك من ناموس الخطيئة والموت” (رو 8: 2).
فالروح الذي أفيض في قلب المسيحي يصير مبدأ حياته. وكما أنّ الشجرة الصالحة تنتج
ثمرًا صالحًا، هكذا الروح الذي يملأ قلب المسيحي من الداخل يثمر فيه ثمارًا صالحة:
“أمّا ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام، وطول الأناة، واللطف والصلاح،
والأمانة والوداعة والعفاف” (غلا 5: 22، 23).

وهذه
الأعمال لا تُفرض على الإنسان من الخارج، بل تنبع من داخله بذاتيّة وحربّة. لا
لأنّه “حيث يكون روح الرب، فهناك الحرّية” (2 كو 3: 17). لا شكّ أنّ
الإنسان لا يصنع عندئذ إرادته بل إرادة الله. ولكن، بالروح القدس الذي أرض في قلبه،
الري سكن فيه، الذي صار مبدأ أعماله، تصير إرادة الله إرادته، ورغبة الله رغبته.

وهذا
لن يحدث دون موت وعذاب. فعلى المسيحي، حسب قول بولس، أن يموت مع المسيح ليستنّى له
أن يقوم معه إلى حياة الروح: “لقد قمتم مع المسيح، فاطلبوا إذن مما هو فوق،
حيث يقيم المسيحٍ جالسًا عن يمين الله.. لأنّكم قد متّم للعالم وحياتكم مستترة مع
المسيح في الله. فأميتوا إذا أعضاءكم الأرضية: الزنى والنجاسة والأهواء والشهوة
الرديئة والطمع” (كو 3: 1- 5). “أسلكوا بالروح، فلا تقضوا شهوة الجسد.
فإنّ الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد.. فإنْ كنتم تنقادون للروح فلستم بعد
تحت الناموس.. لأنّ الذين هم للمسيح يسوع صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات”
(غلا 5: 16- 24).

إنّ
هذا الموت عن الخطيئة هو الولادة الجديدة بالروح. فبالروح يصير المسيحي
“إنسانًا جديدًا”، “إنسانًا روحيًا” (1 كو 2: 15)، وبالروح
يحبّ، ويؤمن، ويرجو، ويصلّي، ويغلب العذاب والموت، ويحيا في الفرح والسلام.

ء)
روح المحبة

المحبة
أوّلاً هي حياة الله، هي روح الله. والمسيحي الذي يمتلئ من روح الله يمتلئ من
المحبة، “لأنّ محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه”
(رو 5: 6). والمحبة هي أوّلاً محبة الله لنا. والروح الذي يملأنا من المحبة التي
أحبّنا بها الله يصير فينا ينبوع محبّة لله وللآخرين. فالروح ليس كالناموس، لأنّ
الناموس يقيّد بأحكامه ووصاياه، ولكنّه لا يمنح أي قوّة لممارسة تلك الوصايا
والأحكام. أمّا الروح فيعلّمنا كيف نحب، ويمنحنا القوّة على المحبة. ومن يحب يميّز
ما يجب فعله: “لا تتشبّهوا بهذا العالم، بل تحوّلوا إلى صورة أخرى بتجديد
عقلكم، لكي يتهيّأ لكم أن تميّزوا ما مشيئة الله، وما هو صالح وما يرضيه وما هو
كامل” (رو 12: 3)؛ “لتكن محبتكم على نموّ صاعد في المعرفة والإدراك
التام، حتى يكون في وسعكم أن تميّزوا القيم الحقّة” (في 1: 9).

ب)
روح الإيمان.

المسيحي
هو من يؤمن أنّ محبّة الله قد أُفيضت في قلوبنا بيسوع المسيح. فالروح القدس يقود
إلى الإيمان بالمسيح. لذلك “ما من أحد يستطيع أن يقول “يسوع ربّ”
إلاّ بالروح القدس” (1 كو 2: 3). “بذلك تعرفون روح الله: أنّ كلّ روح
يعترف بأنّ يسوع المسيح قد أتى في الجسد، هو من الله، وكلّ روح لا يعترف بيسوع ليس
من الله، بل هذا روح المسيح الدجّال..” (1 يو 4: 2، 3).

لذلك
يدعو يسوعُ الروحَ القدس “روح الحق” (يو 16: 13)، وينبئ تلاميذه بأنّ
هذا المحامي “متى جاء فإنّه يفحم العالم بشأن الخطيئة والبِرّ والدينونة.
فبشأن الخطيئة، لأنَّهم لم يؤمنوا بي. وبشأن البر، لأنّي منطلق إلى الآب ولا تروني
من بعد. وبشأن الدينونة، لأن زعيم هذا العالم قد دين” (يو 16: 8- 11). فالروح
يفحم العالم أوّلاً بشأن الخطيئة، أي إنّه يظهر للعالم خطيئته التي قادته إلى صلب
المسيح، ثم يبيّن للعالم برّ الله: فالله قد برّر المسيح، إذ أقامه وأصعده إلى
السماء. وكلّ إنسان يمكنه الحصول على هذا البرّ بالإيمان بالمسيح وقبول المغفرة
التي منحنا إيّاها على الصليب. وأخيرًا يشهد لقيامة المسيح وانتصاره على قوى الشر.
وتلك هي دينونة العالم. وهكذا يُدخِل الروحُ القدس المؤمنين والعالمَ إلى سرّ
المسيح وموته وقيامته.

الكنيسة
الأولى كانت تدعو سر المعمودية سر الاستنارة. وبولس الرسول يرى أنّ الإنسان الروحي
يستطيع أن يرى ما لا يراه الإنسان الطبيعي:

“لقد
أعلنه لنا الله بروحه. لأنّ الروح يفحص كلّ شيء حتى أعماق الله. فمَنْ مِن الناس يعرف
ما في الإنسان إلاّ روح الإنسان الذي فيه؟ فهكذا أيضاً، ليس أحد يعرف ما في الله
إلاّ روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذي من الله، لكي نعرف ما أنعم
به علينا الله من النعم. ونتكلّم عينها لا بأقوال تعلّمها الحكمة البشرية، بل بما
يعلّمه الروح، معبّرين بالروحيات عن الروحيات. إن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما هو
من روح الله، فإنّه جهالة عنده، وليس في وسعه أن يعرفه، لأنّه بالروح يُحكَم فيه.
أمّا الإنسان الروحي فإنّه يحكم في كل شيء، ولا أحد يحكم فيه. لأنّه “من عرف
فكر الرب فيعلّمه؟ “أمّا نحن فعندنا فكر المسيح” (1 كو 2: 10- 16).

إنّ
الوحي، في المسيحية، لا يقوم على أنّ الله يكشف للإنسان حقائق يستحيل عليه إدراكها
بالعقل، بقدر ما يقوم على أنّ الله يخرج من ذاته، وذلك بروحه القدّوس الذي هو ذات
الله، ويلاقي الإنسان في صميم ذاته، حيث العقل والإرادة والحب. والإيمان الذي ينتج
من ذلك هو شركة محبة في الروح. والمعرفة التي تنجم عن ذلك ليست معرفة عقلية بقدر
ما هي معرفة كيانية تتخطّى كلّ عقل كما أنّ الحب يتخطّى كل إدراك.

ج)
روح الرجاء

“المسيح
فيكم رجاء المجد” (كو 1: 27). المسيحي الذي يصير بالإيمان إنسانًا جديدًا
يتّحد بالمسيح. ولكن هذا الاتحاد يبقى اتحادًا أوّليًا يبعث الرجاء في الاتحاد
الكامل. يذكّر بولس التسالونيكيين “بثبات رجائهم بربّنا يسوع المسيح” (1
تسا 1: 3). ويشكر الله “على أنّهم رجعوا إلى الله عن الأوثان ليعبدوا الله
الحيّ الحقيقي، وينتظروا من السماوات ابنه، الذي أنهضه من بين الأموات، يسوع الذي
ينقذنا من السخط الآتي” (1 تسا 1: 9، 10).

الرجاء
حركة مزدوجة فيها يقين وفيها رغبة. فاليقين هو اللقاء الحاصل مع الرب، والرغبة هي
في لقاء الرب لقاءً كاملاً. وكلا اليقين والرغبة هو عمل الروح القدس في الإنسان.
فما أعطي لنا هو “باكورة الروح” (رو 8: 23): “إنّ الله هو الذي
ختمنا وجعل عربون الروح في قلوبنا” (2 كو 1: 22)؛ “لقد خُتمتم بروح
الموعد القدّوس الذي هو عربون ميراثنا” (أف 1: 13، 14). إنّ الروح الذي نلناه
في المعمودية حاضر فينا حضور البزرة بالنسبة للشجرة (راجع مثل حبة الخردل: متى 13:
31، 32). الشجرة كلّها حاضرة في البزرة، والقوّة التي تنمي البزرة لتصبح شجرة
حاضرة فيها بملئها، ولكن يلزمها وقت لتنمو وتصل إلى ما هي عليه. كذلك الروح حاضر
فينا بملئه، وعمله فينا عمل دائم، ويقوم رجاؤنا على ترقّب بلوغه كماله فينا.

وتجدر
الإشارة إلى أنّ هذا الرجاء لن يتحقق بدوننا. فالله صار إنسانًا مثلنا، وأرسل
إلينا روحه الإلهي ليعمل فينا ومعنا على تأليه الكون. ولأنّنا نؤمن بحضور روح الله
فينا ونؤمن بأنّه سيقود العالم إلى كماله، نسهم معه في هذا العمل الإلهي. ويقوم
إسهامنا جوهريًا على أن نصغي إلى إلهاماته ونفسح له في المجال ليعمل فينا. وهذا ما
يعنيه بولس بقوله: “لا تطفئوا الروح” (1 تسا 5: 19)، “لا تحزنوا
روح الله القدّوس، الذي خُتمتم به لأجل يوم الفداء” (أف 4: 30).

اليقين
بحضور الروح فينا ينشئ فينا الفرح والسلام ويحملنا على العمل الدائم مع الروح.
والرجاء ينشئ فينا الحنين إلى تجلّي المسيح النهائي في المجد:

“إنّي
لأحسب أنّ آلام هذا الدهر الحاضر لا يمكن أن تُقابَل بالمجد المزمع أن يتجلّى لنا.
لذلك تتوقّع الخليقة، مترقّبة، تجلّي أبناء الله. لأنّ الخليقة قد أُخضعت للباطل،
لا عن رضى بل بسلطان الذي أخضعها، إنّما على رجاء أنّ الخليقة ستُعتَق، هي أيضاً،
من عبودية الفساد إلى حريّة مجد أبناء الله. فنحن نعلم أنّ الخليقة كلّها معًا
تئنّ حتى الآن وتتمخّض. وليس هي فقط، بل نحن أيضاً، الذين لهن باكورة الروح، نحن
أيضاً نئنّ في أنفسنا، منتظرين التبنّي، افتداء أجسادنا. لأنّا بالرجاء خلّصنا.
على أنَ رجاء ما يُشاهَد ليس برجاء، لأنّ ما يشاهده المرء كيف يرجوه أيضاً؟ ولكن،
إن كنا نرجو ما لا نشاهد، فبالصبر ننتظره” (رو 8: 18- 25).

د)
روح الصلاة

الصلاة
اتصال بالله واتّحاد به. ولكنّ الله نفسه، بروحه القدّوس، قد أتى إلينا وسكن فينا.
فصلاتنا هي إذًا اتحاد بالروح القدس الساكن فينا: “الروح يعضد ضعفنا. لأنّا
لا نعرف كيف نصلّي كما ينبغي، لكنّ الروح نفسه يشفع فينا بأنّات تفوق الوصف. والذي
يفحص القلوب يعلم ما ابتغاء الروح، لأنّه بحسب الله يشفع في القديسين” (رو 8:
26، 27). دخولنا في الصلاة هو استجابة لصلاتنا، لأنّ دخولنا في الصلاة هو دخول في
حوار الروح القدس مع الله، وبالتالي اشتراك في حياة الله نفسه.

فما
يجب أن نطلبه إذًا في صلاتنا هو الروح القدس: “إذا كنتم، مع ما أنتم عليه من
الشرّ، تعرفون أن تمنحوا العطايا الصالحة لأولادكم، فكم بالأحرى أبوكم السماوي
يمنح الروح القدس لمن يسأله” (لو 11: 13). وعندما يسكن الروح القدس فينا يصير
هو مبدأ حياتنا ومبدأ أعمالنا، فيتقدّس فينا اسم الله، ويأتي فينا ملكوته وتتمّ
مشيئته. في بعض المخطوطات القديمة ترد عبارة “ليأتِ روحك”، عوضًا عن
“ليأت ملكوتك”، في الصلاة الربّية. فالاتحاد بروح الله هو في الواقع
الدخول في ملكوت الله. ومع الروح القدس الساكن فينا نعمل على تقديس اسم الله
وإحلال ملكوته وتتميم مشيئته في الآخرين وفي العالم أجمع. لذلك يوصي بولس
الأفسسيين: “صلّوا كلّ حين، في الروح، كلّ صلاة ودعاء. إسهروا لهذا في مواظبة
لا تني” (أف 6: 18).

ه)
روح القيامة

العذاب
والموت شكٌّ للإنسان. ويسوع نفسه، في نزاعه في بستان الزيتون قد طلب أن تعبر عنه
كأس العذاب والموت: “يا أبتاه! إنّ كلّ شيء ممكن لديك، فأَجِزْ عنّي هذه
الكأس! ولكن ليس ما أريد أنا، بل ما تريد أنت” (مر 14: 36). عن صلاة يسوع هذه
تقول الرسالة إلى العبرانيين: “إنه هو الذي، في أيّام بشريّته، قرّب تضرّعات
وابتهالات، في صراخ شديد ودموع، إلى القادر أن يخلّصه من الموت، فاستجيب له بسبب
ورعه.. وبلغ الكمال (عب 5: 7- 9). استجيب له، لا بأنّه أُنقذ من الموت، بل بأنّه
أقيم من بين الأموات. وقيامته كانت بقدرة الروح: “إن المسيح بعد إذ أُميت،
استردّ الحياة بالروح” (1 بط 3: 18).

وكما
أقام الروح يسوع، هكذا سيقيمنا نحن أيضاً: “إنْ كان روح الذي أقام يسوع من
بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يحي أيضاً
أجسادكم المائتة، بروحه الساكن فيكم” (رو 8: 11). العذاب والموت لن يغيبا عن
حياة الإنسان، ولكن عندما يحلّ في قلبه الروح القدس، يزول عنه الشك، ويظهر له الله
إلهَ القيامة والحياة.

عندما
طعن الجند جنب يسوع بحربة، “خرج من جنبه دم وماء” (يو 19: 34). الدم
علامة الموت، والماء علامة الروح وعلامة الحياة: “إنْ عطش أحد، يقول يسوع،
فليأتِ إليّ ويشرب. من آمن بي فستجري من جوفه، كما قال الكتاب، أنهار ماء
حيّ”. ويضيف يوحنا: “قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن
يقبلوه. فالروح لم يكن بعد قد أعطي، لأنّ يسوع لم يكن بعد قد مُجّد” (يو 7: 37-
39).

إنّ
منح الروح القدس مرتبط بتمجيد يسوع، أي بقيامته وصعوده إلى السماء ودخوله في مجد
الآب. لكنّ يسوع لم يتمجّد بالروح إلاّ لأنّه قرّب نفسه للموت بالروح: “إنّ
المسيح، بروح أزليّ، تقول الرسالة إلى العبرانيين، قد قرّب لله نفسه بلا عيب”
(عب 9: 14). وهذا الروح هو روح الله، روح المحبة. لقد غيّر المسيح معنى الموت
عندما ملأ الموت بالمحبة، وأوصى تلاميذه أن يسلكوا كما سلك هو: “هذه وصيّتي: أن
يحبّ بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا. ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل الحياة عن
أصدقائه. فأنتم أصدقائنا إذا صنعتم ما أنا موصيكم به” (يو 15: 12، 13).
المسيحي، بالمعمودية، “يولد من الماء والروح” (يو 3: 5) لحياة جديدة هي
حياة الله، أي حياة المحبة، “لأنّ الله محبة” (1 يو 4: 8، 16). وهذا
الروح، روح الله وروح المسيح وروح المحبة، الذي يرافق المسيحي منذ ولادته الجديدة
ويعطي معنى لحياته، يرافقه أيضاً في وسط عذابه وموته ويضق عليهما معنى.

الإنسان
خلق ليحيا في علاقة، وبقدر ما تكتمل علاقته بالله وبالآخرين، بقدر ذلك يصير
إنسانًا. لذلك فإنّ الموت، الذي هو العزلة القصوى، يبدو وكأنّه يفرغ الإنسان من
ذاته. فبدون الله وبدون روح القيامة والحياة، مصير الإنسان الفراغ واليأس. في لوعة
هذا الفراغ وعمق هذا اليأس يتجلّى الروح القدس، المعزّي الصالح، فيملأ الفراغ من
ملء الله ويلاشي اليأس في خضمّ محبة الله. وإذّاك يتحوّل موت الإنسان إلى شركة
حياة مع الله. هكذا مجّد الله يسوع بالروح القدس، وهكذا سيمجّدنا نحن أيضاً معه: “إن
نحن متنا مع المسيح، فسنحيا معه” (2 تي 2: 11)، “إن كنّا نتألّم معه،
فلكي نتمجّد أيضاً معه” (رو 8: 17).

و)
روح الفرح والسلام

في
هذا الجوّ المفعم بالمحبة والإيمان والرجاء والصلاة والقيامة، لا يعود مكان للحزن
في قلب المسيحي. الفرح هو العلامة التي لا تخطئ على وجود الروح القدس في قلب
المسيحي: “إنّ ثمر الروح هو المحبة والفرح والسلام” (غلا 5: 22)؛
“إنّ ملكوت الله ليس أكلاً ولا شربًا، بل هو برّ وسلام وفرح في الروح
القدس” (رو 14: 17). إنّ حضور الروح يشعّ بالفرح والسلام: “أمّا
التلاميذ فكانوا ممتلئين من الفرح والروح القدس” (أع 13: 52). وبعد أن جلد
رؤساء الكهنة الرسل وأطلقوهم، يقول سفر أعمال الرسل: “أمّا هم فخرجوا من وجه
المحفل، فرحين بأنهم حُسبوا أهلاً لأن يهانوا من أجل اسم يسوع” (أع 5: 41).

لذلك،
في وسط المضايق والعذابات، يفيض بولس فرحًا: “إنّي أفيض فرحًا في كل
ضيقنا” (2 كو 7: 4)؛ “نفتخر حتى في الشدائد لعلمنا أن الشدّة تنشئ الصبر،
والصبر يُنشئ الفضيلة المختبرة، والفضيلة المختبرة تنشئ الرجاء. والرجاء لا يخزي،
لأنّ محبة الله قد أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطيناه” (رو 5: 3- 5).
وكذلك يوصي بطرس الرسول المسيحيين قائلا: “إذا ما أهنتم من أجل اسم المسيح
فطوبى لكم. لأنّ روح المجد، الذي هو روح الله، يستقرّ عليكم” (1 بط 4: 14).

الفرح
والسلام الداخلي علامة المسيحي المميّزة. ولكنّ الفرح والسلام لا يمكن المسيحي أن
يحصل عليهما بقوّته الذاتية. فكا أنّ النور هو إشعاع من الشمس، كذلك الفرح والسلام
هما إشعاع من الروح الساكن في قلب المسيحي. لذلك يميّز المسيح بين السلام الذي
يعطيه العالم والسلام الذي يعطيه هو، وبين فرح العالم وفرح تلاميذه:

“السلام
أستودعكم، سلامي أعطيكم؛ لست أعطيكموه كما يعطيه العالم. لا تضطرب قلوبكم ولا
ترتعد! (يو 14: 27)، “إنّي منطلق إلى من أرسلني.. ولكن، لأنّي قلت لكم ذلك،
ملأت الكآبة قلوبكم.. الحقّ الحقّ أقول لكم: إنَّكم ستبكون وتنوحون، والعالم سيفرح.
إنَّكم ستحزنون، ولكنّ حزنكم سينقلب فرحًا. المرأة، إذا ما حان وضعها، مخزن، لأنّ
ساعتها قد أتت، ولكنّها متى وضعت الطفل لا تعود تتذكّر شدّتها، فرحة بأن إنسانًا
ولد في العالم. وأنتم أيضاً، فإنّكم الآن في حزن، ولكنّي سأراكم من جديد، فتفرح
قلوبكم، وفرحكم هذا، لا يقدر أحدٌ أنْ ينتزعه منكم” (يو 16: 5- 7، 20، 22).

لمّا
قام يسوع ورآه التلاميذ من جديد، يقول يوحنا: “ففرح التلاميذ إذ أبصروا
الرب” (يو 20: 20). إنّ قيامة المسيح وحضوره فيهم بروحه القدوس هما أساس فرح
التلاميذ. المسيحي لا يمكنه أن يفرح فرحًا حقيقيًا دائمًا إلاّ بالرب: “إفرحوا
في الرب على الدوام، وأقول أيضاً افرحوا” (في 3: 4). فرحه هو بقوّة الرب
وبحضور الروح القدس، روح الرب، معه وفيه.

هكذا
ظهر لنا الروح القدس في الكتاب المقدس. وكما لاحظنا، لا نجد الكتاب المقدس تحليلاً
نظرياً ولا تحديداً عقائدياً لكيان الروح القدس. إنّ ما نجده هو حصيلة خبرة شعب
الله، في العهد القديم وفي العهد الجديد، لحضور روح الله وعمله في الكون وفي
الإنسان، ولملء حضوره وعمله في شخص يسوع المسيح ومن ثمَّ في الرسل والكنيسة.
فالروح القدس هو روح الله الذي يملأنا من حياته دون أن نستطيع إدراك سرّه. إنّه
“الرب المحيي”، إنه حيّ وفعّال، وإنْ لم نَقْوَ على الإحاطة به. إنّه
كالريح، حسب تشبيه المسيح لنقودموس: “الريح تهبّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، بيد
أنّك لا تعرف من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب. فهكذا يكون الأمر ممّن يولد من
الروح” (يو 3: 8).

الروح
القديس هو حضور الله فينا، يقودنا إلى ملء الله، ويقود الخليقة كلّها إلى تجلّي
أبناء الله. ويشمل عمل الروح القدس الخليقة في كلّ أبعادها المادية والروحية،
الحاضرة والمستقبلة، الأرضية والسماوية. فالروح القدس يحي التاريخ كلّه ويلقي ملء
نوره على تلمّس الناس حياةً أفضل وعلى سعيهم نحو الحق والعدالة والسلام وجميع
القيم الحقة، في انتظار ملكوت ليس من هذا العالم. فالملكوت يأتي في الحياة
والتاريخ عندما يملأ روح الله الحياة والتاريخ.

الروح
القدس هو روح الله نفسه، والعمل الذي يُنسَب إليه في الكتاب المقدّس لا يمكن أن
يُنسَب إلاّ إلى الله نفسه. لذلك أكّد آباء الكنيسة والمجامع المسكونية
واللاهوتيون على مدى القرون ألوهيّة الروح القدس، وأعلنوا أنّ الروح القدس هو أحد
أقانيم الثالوث الأقدس.

خلاصة

هذا
هو إيمان العهد الجديد بالثالوث. وهذا الإيمان لم يصل إليه الرسل بتأثير من
الديانات القديمة ولا من الفلسفة اليونانية. انما هو حصيلة اختبار روحي اختبروه في
لقائهم يسوع المسيح في حياته وبعد قيامته. ففي عمله رأوا عمل الله، وفي حضوره رأوا
حضور الله. ومن بعد قيامته ظهر لهم وأرسل إليهم روحه القدوس ليقيم معهم ويمكث يخدم
ويقودهم إلى الله. واستنادًا إلى هذا الإيمان راحت الكنيسة تبني عقيدة الثالوث
الأقدس. كيف تكوّنت تلك العقيدة؟ وكيف صاغتها الكنيسة على مدى العصور في تعاليم
الآباء وتحديدات المجامع المسكونية وتعاليم اللاهوتيّين؟

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى