علم المسيح

الفصل السابع



الفصل السابع

الفصل
السابع

من
هو يسوع؟

 

سؤال
لا يمكننا التغاضي عنه إذ بجوابه بتعلق تفسيرنا للأناجيل. إحدى الطرق التي تمكننا
من وصف يسوع تكمن في تحليل الأسماء التي أطلقها عليه الآخرون والتي أطلقها هو على
نفسه. وهنالك طريقة أخرى تعتمد دراسة أقوال يسوع وأفعاله. سنتناول في هذا الفصل
معنى أمساء يسوع وفي الفصل التالي تعليمه كما وصل إلينا بالأمثال والعجائب.

مقالات ذات صلة

 

عندما
حاول معاصرو يسوع الكشف عن هويته، كانوا يتحدونه بإحدى الشخصيات المرتبطة
بالتوقعات الماسيانية التي كانت منتشرة بين اليهود. فظنه أناس بأنه يوحنا المعمدان
وظنه آخرون بأنه إيليا وذهب البعض الآخر إلى أنه “أحد الأنبياء” (مر 8:
27 وما يوازيها). قطع هيرودس انتيباس ابن هيرودس الكبير رأس يوحن، ولكن “الكل
آمنوا أن يوحنا كان نبياً” (متى 21: 26) وإنسان “بار وقديساً” (مر
6: 20). وكان من المتوقع أن يأتي إيليا ثانية قبل ظهور ماسيا. وحسب تقليد العهد
القديم هناك رجلان لم يموت، هذان الرجلان هما إيليا واخنوخ. فاخنوخ سار مع الله
و”أخذه الله” دون أن يمر بتجربة الموت (تكوين 5: 24).وأما إيليا
“فصعد في مركبة إلى السماء” (2ملوك 2: 11).

 

هذا
التقليد قوي الاعتقاد بأن ابليا سيرجع “قبل أن يأتي يوم الرب العظيم
والمخيف” (ملاخي 4: 5) (1). ومما اعتقده اليهود أن يسوع هو النبي الذي كان
موعوداً به في الأيام الأخيرة، عندما يقيم الله نبياً مثل موسى (تثنية 18: 15)
يكون “النموذج الأول للنبي الحقيقي” (تثنية 34: 10-11). لذلك أعتقد
الشعب أن يسوع كان ذلك النبي وموحداً مع يوحنا القائم من بين الأموات وإيليا.
وبالتالي فليس هو الماسيا بل إشارة إلى أن العصر الماسياني آت قريباً.

 

سأل
يسوع تلاميذه: “وأنتم من تقولون إني هو” – والتشديد هنا على
“أنتم” (
hymeis) – فأجاب بطرس الناطق باسم الجماعة: “أنت المسيح” (مر8:
29) أي أنت المنقذ المنتظر.

 

هذا
الاعتراف الذي جرى في قيصرية فيلبس يمثل تحولاً أساسياً في حياة التلاميذ. فإذا
كانوا مقربين إليه، رأوا فيه أكثر مما رأى الآخرون واعترفوا به أنه المسيح. لكن
هذه التسمية وحدها لم تكن كافية لوصف شخص المسيح وعمله. وبدون أن يرفض أقرانه
بالملك الماسياني الذي كانت تتوقعه الأوساط اليهودية الشعبية، أخذ يسوع يعلم حقيقة
ماسيانيته، فاختار وجمع وحول أسماء ماسيانية قديمة ليخرج منها شيئاً جديداً (2).

 

المسيح
(في اليونانية
Christos والعبرية Mashiah)

كلمة
“مسيح” تعني الممسوح أي المنتظر الذي سيأتي من نسل داوود. فالله وعد
داوود بأن بيته ومملكته وعرشه سيقومون إلى الأبد (2صموئيل7: 12 …). وسيعود
إسرائيل إلى سابق عهده، فتتحد الأرض المقسومة مرة ثانية ويحكمها ملك واحد.
“سيكون خادمي داوود ملكاً عليهم، وسيكون لهم جميعاً راع واحد” (حز37:
24)، أي سيكون داوود ملكاً على إسرائيل الموحد إلى الأبد (حز 37: 25). فيما بعد
وعندما قوى التعلق بالقومية اليهودية، وخاصة في العصر الهليني، أخذ الرجاء
الماسياني معانٍ سياسية. فكان معاصرو يسوع يتوقعون مجيء زعيم قومي وملك قوي يلعب
دور مسيح الرب ويخلص شعبه من النير الروماني ويعيد الملك إلى إسرائيل. وكانت
الجموع التي تقبلت بغبطة كلام يسوع وتلاميذه تشارك في هذا المفهوم لمجيء ماسيا.
وقد استمرت في هذا الفهم وهذا الرجاء حتى نهاية.

 

عندما
دخل يسوع أورشليم على ظهر الحمار، الحيوان المسالم، أوضح للجميع أنه ملك لا يريد
استخدام السيف، لكنه يحمل للعالم سلام وسيوجد علاقة جديدة بين الله والإنسان. لكن
الجموع كانت ما تزال تتطلع إلى ملك من نوع آخر. ولقد أشار الإنجيليون إلى التوتر
بين التوقعات الماسيانية للشعب والماسيانية التي حققها يسوع. وقد انعكس هذا التوتر
في تصرفات الجمهور تجاهه والهتافات التي استقبلوه بها. “والجمع الكثير فرش
ثيابه في الطريق … وكانوا يهتفون قائلين اوصنا لابن داوود، مبارك الآتي باسم
الرب” (متى21: 8-9).

 

فالجموع
أرادت ملكاً يختلف عن ذاك الذي يمثله يسوع الراكب على أتان (زخريا9: 9). وتوقعت أن
يكون يسوع ملكاً مثل ياهو (2ملوك9) الذي فرش الجمع أمامه ثيابهم ونفخوا بالبوق
وصرخوا “ياهو هو ملك” (2ملوك9: 13). كان ياهو هذا ملكاً ثورياً دموياً.
وهذا ما أرادته الجماهير أن يكون يسوع ملكاً لا يتردد في استعمال السيف لتحقيق
أحلامها القومية. هذا الشعور شارك به التلاميذ. وبطرس الذي اعترف بأن يسوع هو
المسيح لاقى صعوبة في فهم تعليم يسوع عن ابن الإنسان وآلامه. وبما أن التوقعات
الماسيانية آنذاك لم تكن تربط الآلام والألوهة بماسي، هكذا فعل التلاميذ بالنسبة
ليسوع. أنا يسوع فظهر مسيحاً متألماً ومتآلهاً بآن وبالتالي كشف عن نفسه بطريقة
غير متوقعة.

 

وحتى
في اليوم “الأول من الأسبوع” الذي هو يوم قيامة المسيح، كان رجاء الخلاص
القومي مازال يدور في خلد التلاميذ. وكان اثنان منهم في حالة من اليأس جعلتهما غير
قادرين على تصديق النسوة اللواتي وجدن القبر فارغاً بأن يسوع حي كما قال الملاك.
“وكانا يتحادثان عن تلك الحوادث كله وفيما هما يتحادثان ويتساءلان، دنا منهما
يسوع نفسه وكان يسير معهما. ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته”. فأخبره أحدهم وهو
كليوباس عن إدانة يسوع الناصري وصلبه وعن خيبة الآمال التي كانت معلقة عليه:
“كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل” (لو24: 13). الإيمانبالقيامة
وحده يمكنه التغلب على هذه “الآخروية القومية” ويضمدها.

 

يفترض
البعض أن السؤال التالي الذي وجه إلى المسيح قبل صعوده بقليل: “يا رب أفي هذا
الزمان ترد الملك إلى إسرائيل؟” (أعمال1: 6)، يتعلق أيضاً بمطامع قومية. لكن
جواب المسيح: “ليس لكم أن تعرفوا الأوقات والأزمنة التي جعلها الآب في
سلطانه” (أعمال1: 7) يعيد السؤال إلى يوم الدينونة الأخير وليس إلى إعادة
السلطة السياسية إلى إسرائيل. وهكذا أراد يسوع إفهامهم أن السؤال لا يمت بصلة إلى
إعادة الملك الأرضي لإسرائيل بل إلى مجيء المسيح الثاني (3). ويكون بالتالي قد
استفاد من المناسبة لتصحيح آراء تلاميذه الماسيانية ونقلهم عن معتقداتهم التقليدية
إلى المفهوم جديد وأرفع لماسيا.

 

لقد
ارتضى يسوع أن يطلق عليه لقب المسيح. ومع المرأة السامرية قبل اللقب دون تحفظ
(يو4: 25-26). لعل ذلك يعود إلى أن مفهوم السامرية للماسيانية لم يكن يحمل معاني
سياسية وإن حمل فقليلاً جداً (4). فكلمة “المسيح” كما كانت تستخدم أيام
المسيح لم تكن تعبر بشكل صحيح عن ماسيانية يسوع وشخصه، لكن الكنيسة استخدمت هذه
الكلمة، بعد العنصرة، دون أي تخوف من أن تحمل معنى سياسياً.

 

ابن
الإنسان وخادم الرب المتألم

استخدم
يسوع عبارة “ابن الإنسان” ليبين معنى كلمة “المسيح”. ووحد بين
“ابن الإنسان” و”خادم الرب المتألم” ليحمل إلينا فكرة الآلام
والسيادة بآن، وعندما سأله رئيس الكهنة “هل أنت المسيح؟”، أجاب:
“أنا هو. وسترون ابن الإنسان جالساً عن يمين القدرة” (مر14: 61-62). إن
عبارة “ابن الإنسان”، في تعليم يسوع، لها الأولوية على عبارة
“المسيح”. ومن المهم الملاحظة أن تعبير “ابن الإنسان” ورد في
الأناجيل الأربعة وفي كل مصادر التقليد (مرقس،
L،M،Q)
وأن يسوع وحده استعمل هذا التعبير. وقد وردت هذه العبارة أكثرة من 82 مرة على لسان
يسوع. فعندما كان يتكلم عن عذابه وآلامه وموته كان دائماً يشير إلى كونه “ابن
الإنسان”. ولما وصف وضعه الإنساني المتواضع استعمل عبارة “ابن
الإنسان”: “للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أعشاش، وأما ابن الإنسان فليس
له موضع يسند إليه رأسه” (لو9: 58، متى8: 20). هذا أحد معاني عبارة “ابن
الإنسان”. ويمكن استنتاج معان أخرى في أقوال يسوع التي تشير إلى سلطانه على
مغفرة الخطاي وسيادته على البشر وأخيراً مجيئه الثاني: “ومتى جاء ابن الإنسان
في مجده وجميع الملائكة معه فحينئذ يجلس على عرش مجده”أقةو (متى25: 31). لقد
كان مجيء ابن الإنسان الأول متواضع، لكن مجيئه الثاني سيكون بمجد. هذان الحضوران
يجمعهم ويوحدهما شخص واحد عاش في فقر مدقع لكنه يجلس الآن “عن يمين
الآب” وسيأتي في ملء مجده. إذن فلقب “ابن الإنسان” يعبر عن ناسوت
يسوع وعن ألوهيته.

 

تشير
الأناجيل إلى أن يسوع لفت انتباه أتباعه إلى بعض الآيات في العهد القديم التي
تساعدهم على فهم دوره ومكانته في تدبير الله الخلاصي. في تنبؤ عن موته وقيامته دمج
يسوع نصين في العهد القديم هما الإصحاح 53 من أشعي والإصحاح السابغ من سفر دانيال.
لعل هذين النصين أكثر النصوص أهمية في العهد القديم لفهم رسالة يسوع وشخصه.
الإصحاح ال 53 من أشعيا يتألف من 12 آية، واحدة منها فقط غير مستخدمة في العهد
الجديد. أما الآيات الأخرى فإما أن تكون مستشهداً به ومشاراً إليها في الأناجيل
وأعمال الرسل ورسائل بولس ورسالة بطرس الأولى. وفيما يتعلق بالإصحاح السابع من
دانيال فهناك رجوع إليه في كل الأناجيل ورسائل بولس وسفر الرؤيا بالإضافة إلى
التلميح غير المباشر في مقاطع أخرى (5).

 

أما
الآيات الأساسية في الإصحاح السابع من دانيال فهي:

“ورأيت
في رؤى الليل. فإذا بمثل ابن الإنسان آتياً على سحاب السماء فبلغ إلى قديم الأيام
وقرب إلى أمامه، وأوتي سلطاناً ومجداً وملك، فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه
وسلطانه سلطان أبدي لا يزول وملكه لا ينقرض” (7: 13-14) ولكن ابن الإنسان
الذي ينصر “قديسي العلي” (7: 18) يعطى ملكاً أبدياً. وابن الإنسان هذا
هو ملك الملك الأبدي وماسيا.

 

وفي
الكتب الأبوكريفية اليهودية وخاصة أخنوخ الأول المعاصر لدانيا (160 ق.م.) يصور
“ابن الإنسان” على أنه فرد أكثر منه شخصية جماعية. وسواء أكان التشديد
على الجماعة أم على الفرد فإن ابن الإنسان يظهر كائناً متعالياً وسماوياً. كل هذا
يناقض التوقعات الماسيانية الشعبية في أيام يسوع بالرغم من تأكيد يسوع في جوابه
لبيلاطس أن مملكته “ليست من هذا العالم” (يو18: 36).

 

الانتقال
من الشخصية الجماعية إلى الشخصية الفردية يرى (بضم الياء) في أناشيد خادم الرب
المتألم (أشعيا42: 1-4، 49: 1-6، 50: 4-9، 52: 13-53، 53: 12). من هو هذا الخادم
المتألم؟ إنه شعب الله وفرد في آن. فهو أحياناً واحد مع إسرائيل وأحياناً أخرى فرد
يتجاوز دوره دور الأمة وإمكاناتها وحتى دور “البقية المقدسة”. في هذه
الأناشيد نجد تقلصاًَ مضطرداً للشخصية الجماعية يرافقه تعاظم متزايد للشخصية
الفردية.

 

في
الأناشيد الثلاثة الأولى لا تعرف متى يقصد النبي في حديثه الأمة ومتى يقصد الفرد.
ففي النشيد الأول يطغى الطابع الجماعي أما في الثاني والثالث فيتضاءل هذا الطابع
تدريجياً إلى أن تذوب شخصية الجماعة كلياً في النشيد الثالث في شخصية فردية. أما
النشيد الرابع فيتكلم بوضوح عن شخص آلامه جزء رئيسي في رسالته وليست نتيجة لها
(6).

 

لقد
أطلق يسوع على نفسه لقبي “ابن الإنسان” و”الخادم المتألم”
مماثلاً نفسه مع الصورة الرفيعة لابن الإنسان ومتمماً دور خادم الرب المتألم.
بيسوع ظهر إلى الوجود شعب جديد لله. وأصبح يسوع بداية ورأس وممثل هؤلاء الذين
يتبعونه ويشاركون في مصيره. هذا هو الشعب المتألم والخادم المتألم الذي سينصره
الله في النهاية.

 

وقد
وحد يسوع في حياته على الأرض بين “ابن الإنسان” و”الخادم
المتألم”. وكان هو ابن الإنسان الذي أتى ليتألم. أما في دانيال وأخنوخ فلا
يقدم لنا ابن الإنسان كشخص. وأما في الأناجيل فهنالك إشارات ضمنية عديدة إلى آلام
يسوع المستقبلية وإلى موته، وكذلك تنبؤاته العلنية عن رذله وآلامه وموته وقيامته.
في النبوءات الثلاث عن الآلام نجد أن “ابن الإنسان” هو “الذي
سيتألم كثيراً” (مر8: 31) و”سيسلم إلى أيدي الناس” (مر9: 31)
و”إلى رؤساء الكهنة والكتبة” (مر10: 33). وفي هذه النبوءات يتكلم يسوع
عن آلامه الشخصية. فهو كالخادم المتألم “رذل ورفض من الناس” وصار
“رجل أوجاع، جرح من أجل معاصينا” (أشعيا53: 3-5). وكالخادم “أذل
وأهين لكن لم يفتح فاه” (53: 7). مشيئة الرب أن يُضرب الخادم ويحزن وهي أيضاً
في أنه “سيرى ذريته وستطول أيامه” (35: 10). وهذا ما حصل لابن الله
المتجسد. فقد “طالت أيامه”لأن الله أقامه وحرره من سلطان الموت “إذ
لم يكن ممكناً أن يمسكه الموت” (أعمال2: 42). ومجرى الأحداث في أشعيا 53 من
إهانات وإدانة وطول العمر نجدها تنعكس تماماً في النبوءات الثلاث عن آلامه. ففي كل
منها يشير يسوع إلى آلامه وموته وقيامته (7). ولقد استخدم يسوع نفسه في تفسير
رسالته الماسيانية صورة ابن الإنسان الذي أتى من العلى وصورة خادم الرب الذي
“حمل خطايا كثيرين، وابتهل من أجل العصاة” (أشعيا53: 12).

 

في
الإنجيل الرابع وفي الأناجيل السينابتية يتحدث يسوع عن إدانته وقيامته. وفي الإنجيل
الرابع نجد الأقوال الثلاثة التالية تتنبأ عن الآلام: “و كما رفع موسى الحية
في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان ” (3: 14)، “إذا رفعتم ابن
الإنسان فحينئذ تعرفون أني أنا هو ولست أفعل شيئاً من عندي ولكن كما علمني الآب
كذلك أقول” (8: 28)، “إذا ارتفعت عن الأرض جذبت إلى الجميع” (12:
32). المقاطع الثلاثة تشير إلى أن ابن الإنسان مزمع أن يدان ويتمجد. ويستخدم
الإنجيل فعل ارتفع
hypsothenai بمعنيين مختلفين، الأول يدل على صليب يسوع والثاني يعني تمجيده
الذي سيكتمل بالقيامة والصعود. ويشير المقطع الأخير وكذلك الاثنان الأولان إلى أن
ابن الإنسان بالرغم من أنها لم تسمه. فيبدأ المقطع هكذا: “قد أتت الساعة التي
يمجد فيها ابن الإنسان” وينتهي: “تكلم يسوع بهذا ثم مضى وتوارى
عنهم” (12: 36). وبعدما تكلم يسوع للمرة الثالثة عن “رفعه”، أضاف
يوحنا: “إنما قال هذا ليل على أية ميتة كان مزمعاً أن يموتها” (12: 33).
فاحتجت الجموع: “قد سمعنا من الناموس أن المسيح يدوم إلى الأبد (8) فكيف تقول
أنت أنه ينبغي، يرتفع ابن الإنسان. من هذا ابن الإنسان؟” (12: 34). لقد فهمت
الجموع أن يسوع يتحدث عن موته وفي ذهنها يستحيل الربط بين ماسي والموت.

 

لا
تكشف نبوءات يسوع عن آلامه أية رغبة مرضية في الاستشهاد لأن هدفه كان أن يعمل
مشيئة الآب ويتمم الرسالة التي أرسله الآب من أجلها (9). لقد أراد يسوع ما أراده
الآب جاعلاً مشيئة الآب مشيئته. “إن الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً إلا
ما يرى الآب يعمله لأنه مهما يعمله ذلك فهذا يعمله الابن أيضاً على مثاله”
(يو5: 19). عندما تنبأ يسوع عن موته أشار في الوقت ذاته إلى قيامته. فكانت حياته
رحلة تبدأ من الآب وتنتهي إليه. كذلك تكلم عن النصر الذي سيحرزه على الصليب
وبواسطة الصليب. والقيامة كشفت عما تحقق على الصليب. أما الجموع فلم تستطع أن تعي
بأن موت يسوع سيكون ذروة رسالته العامة وبداية نوع جديد من الحياة.

 

ابن
ورب

لم
تقتصر ألقاب يسوع على “المسيح” و”ابن الإنسان” و”الخادم
المتألم”، بل تجاوزتها إلى ألقاب منها لقبان يكشفان أمور جديدة عن يسوع
وماسيانيته وهما: “الابن” و”الرب”.

 

تحتل
البنوة الإلهية مكانة بارزة في إنجيل القديس يوحنا. فالله الآب بذل ابنه الوحيد
لأجل خلاص العالم، “لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما يعمل وسيريه أعظم من
هذه الأعمال لتتعجبوا أنتم لأنه كما أن الآب يقيم الموتى ويحييهم كذلك الابن يحيي
من يشاء لأن الآب لا يدين أحد بل أعطى الحكم كله لابنه” (يو5: 20-22). والابن
يمجد الآب الذي “لم يراه أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو
أخبر” (يو1: 18). وكما في إنجيل يوحنا نجد في الأناجيل السينابتية أن موضوع
البنوة الإلهية قد طرق. “كل شيء قد دفع إلي من أبي، وليس أحد يعرف الابن إلا
الآب ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن يريد الابن أن يكشف له” (متى11: 17،
لو10: 22) (10).

 

لقد
عبر يسوع عن يقينه المطلق (متى11: 27) بأنه يعرف الله معرفة كاملة (11)، معرفة
تفوق كل ما ادعاه أنبياء العهد القديم. فهؤلاء قالوا بأنهم “رأواأ” يهوه
“وسمعوه” لكنهم لم يدعوا إطلاقاً بأنهم “عرفوا” يهوه (الله).
معرفة يسوع هذه لم تكن تاريخية ولا فلسفية ولم تأتِ نتيجة إلهام بل نتيجة إتحاد
شخصي: “أن والآب واحد” (يو10: 30).

 

لقد
ظهرت بنوة يسوع الإلهية في أحداث حياته ومن خلال أمثاله. فدعاه الآب أثناء
المعمودية والتجلي ب “ابنه الحبيب” (مر1: 11، 9: 7). وسمى نفسه في مثل
الكرّامين الأشرار “الابن الحبيب” (مر12: 6). وكان لهذا المثل طابع
السيرة الذاتية، ولم ينقض أسبوع على إعطائه حتى حكم على “الابن الحبيب”
بالموت.

 

عندما
كان يسوع يعلم في الهيكل استشهد بالمزمور 110 سائلاً: “كيف يقول الكتبة أن
المسيح هو ابن داوود؟”، ما دام داوود نفسه قد قال: “قال الرب لربي اجلس
عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك”. ثم أضاف قائلاً: “فداوود نفسه
يدعوه رباً فكيف يكون هو ابنه؟” (مر12: 35-37). يظهر من تساؤل يسوع أن لقب
“ابن داوود” الذي كانت له جذور عميقة في التوقعات الماسيانية الشعبية لم
يكن كافياً للتعبير عن ماسيانية يسوع ولم يعطِ الطريق الصحيح لإيجاد جواب قاطع عن
هوية يسوع وهدفه عمله الخلاصي. فمن دون أن يرفض يسوع لقب “ابن داوود”
قاد سامعيه إلى الإيمان بأن ماسيا هو أرفع من ابن داوود لا بل أنه رب داوود.
وبجمعه لقبي “ابن داوود” و”الرب” يكون قد رفض الصبغة السياسية
التي كانت تحيط بكلمة “ابن داوود”. وكذلك حذت الكنيسة الأولى حذو يسوع
في هذا التفسير معرفة يسوع “بالرب وأنه ابن داوود “بحسب الجسد”

 

كان
لقب “رب” أقدس اسم يمكن للكنيسة أن تطلقه على المسيح القائم من بين
الأموات (12). وأولى الصلوات الآرامية كانت تحوي العبارة: “ماران أث، أيها
الرب تعال” (1كور16: 22). فباستعمالها كلمة “رب تكون الكنيسة في أورشليم
ألحقت بالمسيح المجد الإلهي الذي كان يخص في السابق يهوه وحده. لكن بعض علماء
العهد الجديد يؤيدون الرأي القائل بأن لقب “الرب” (كيريوس) قد أطلقته
على المسيح الكنائس اليونانية وليست كنيسة أورشليم. وبالتالي فالكنائس ذات الأصل
اليهودي لم تستعمل هذا اللقب إطلاقاً. ولكن أسفار العهد الجديد كلها لم تشر إلى أي
جدل قام بين الكنيسة الأم والجماعات المسيحية اليونانية الأصل حول منح يسوع لقب
كيريوس (13). ليس مستغرباً أن يكون اليهود المتدينون في العالم الهليني آخر من
يستطيع الاعتراف بأن المسيح هو “رب”. وكان لا بد من حدوث شيء فوق العادة
في حياتهم وأوساطهم حتى يؤدي بهم إلى مثل هذا الاعتراف. وعندما قبلوا بيسوع واتخذوه
رباً أصبح اليهود مؤمنين مسيحيين. وعليه فالبحاثة الذين يعتقدون أن “اليهود
قساة الرقاب” لم يطلقوا على يسوع لقب “الرب” قد تجاهلوا إيمان
هؤلاء اليهود بالمسيح (14).

 

ولقد
اتخذت الكنيسة تفسير يسوع للإصحاح السابع من سفر دانيال وللإصحاح الثالث والخمسين
من سفر أشعيا النبي. أن مجرى الأحداث المدونة في الإصحاح 53 من أشعيا يوجد أيضاً
في نشيد الكنيسة الأولى الآرامية. وقد أدرج بولس الرسول هذا النشيد الذي يتحدث عن
يسوع في إطار يجمع بين “ابن الإنسان” و”خادم الرب المتألم”
ويعلن “أن يسوع المسيح هو رب” (فيلبي2: 5-11). كذلك وحدت الكنيسة في
عبادتها بين “ابن الإنسان” و”الرب” كما فعل يسوع أثناء حياته
الأرضية (15).

 

السر
الماسياني

لقد
لفت يسوع الناس إليه كابن لله في أفعاله ومن خلال أقواله، ولكنه في نهاية بشارته
كشف نفسه كلياً. مع ذلك يؤكد مرقس على أن يسوع حاول جاهداً معظم حياته أن يبقى
ماسيانيته سراً. فعندما صرخ الرجل الذي فيه روح نجس قائلاً: “ما لن ولك يا
يسوع الناصري أأتيت لتهلكنا؟ قد عرفتك من أنت، أنك قدوس الله”، انتهره يسوع
قائلاً: “اخرس واخرج من الرجل” (مر1: 24). “و أخرج شياطين كثيرة
ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه” (مر1: 34). “وكانت الأرواح النجسة إذا
رأته تخر أمامه وتصرخ قائلة: إنك أنت ابن الله. فينتهرها كثيراً ألا تظهره”
(مر3: 11-12). وعندما أقام ابنة يايرس: “أوصاهم كثيراً بأن لا يعلم أحداً
بهذا” (مر5: 34). وكذلك أوصى تلاميذه “أن لا يقولوا عنه لأحد” (مر8:
30)، وبعد التجلي “أوصاهم ألا يخبروا أحداً بعد إلا متى قام ابن الإنسان من
بين الأموات” (مر9: 9).

 

كانت
لهذه الحيطة أسبابها الموجبة. فوجود شهود غير مستحبين كان الباعث على طلب يسوع أن
يلزموا الصمت. وهكذا تجنب إثارة حماس الجماهير كان وراء منع أي كلام عن إقامة ابنة
يايرس. ولأنه كان يعلم ما يدور في خلد الشعب عن الاعتقادات الماسيانية طلب إلى
تلاميذه عدم البوح بأنه المسيح. لقد رفض دور ماسيا السياسي لأنه أتى ليخلص الشعب
من خطاياه ويدخله ملكوت الله، لا ليقيم مملكة أرضية لإسرائيل بعصيان منظم ضد
السلطة الرومانية. ومع أن ظل الصليب كان حاضراً عند التجلي (16)، ولكن معناه
الحقيقي لن يتضح قبل القيامة، وجب على التلاميذ الثلاثة أن يلزموا الصمت حتى يوم
انتصاره على الموت.

 

بين
علماء العهد الجديد من يزعم أن يسوع لم يعلن أبداً أنه ماسي وإنما الكنيسة اخترعت
بعد القيامة “السر الماسياني”. ويقولون بأن العبارات الماسيانية المدونة
في الأناجيل ليست ليسوع بل من وضع الكنيسة محاولة بذلك تفسير عدم اعترافها قبل
القيامة بيسوع كماسيا. ويضيف العلماء أن الكنيسة آمنت بأن يسوع هو ماسيا. ولكن بما
أنها لم تجد في أقواله ما يدعم إيمانها لجأت إلى وضع العبارات الملائمة له وادعت
بأن يسوع طلب من تلاميذه أن يبقوا خبر ماسيانيته سراً. ويقول ويرد “إن لمرقس
حصة الأسد في ابتداع هذا “السر”. بيد أن هذا الابتداع ليس عملاً فردياً
بل انجاز جماعي” (17).

 

لو
كان السر الماسياني بالفعل من خلق “دوائر معينة” في الكنيسة الأولى
لتوقعنا تطبيقاً دقيقاً لهذه النظرية في كل ما يتعلق “بتاريخ يسوع”.
ولكننا لا نجد هذا التجانس في التطبيق في إنجيل مرقس، فنجد في بداية الإنجيل يسوع
يعطي صلاحيات إلهية عند شفائه المخلع، فيقول: “يا بني مغفورة لك خطاياك”
(مر2: 5). وقد اعتبر الكتبة ذلك تجديفاً إذ “من يقدر أن يغفر الخطايا إلا
الله وحده” (مر2: 7). وهكذا لم يخفِ يسوع ذاته في هذا المقطع ومقاطع أخرى بل
أعلن هويته. ويبدو جلياً أن يسوع كان يكتم أحياناً سر ماسيانيته ويظهر هذا السر في
أحيان أخرى.

 

ولعل
الإنجيليين نقلوا منن المصادر التي اعتمدوها كل ما يتعلق بماسيانية يسوع، وتبدو
لأول وهلة هذه المواد على شيء من التناقض. إعلان حين وإخفاء حيناً! ولكن هذا الأمر
يطابق كثيراً سر الإعلان الإلهي الذي لا نستطيع التعبير عنه بدقة بواسطة الأحداث
والكلمات. ماسيا أتى ولن يستطيع العيش حتى النهاية وكأنه ماسيا “سري”،
فكان لا بد له من أن يكشف عن نفسه بطريقته الخاصة ويعلن أنه “أكثر” من
ماسيا الذي كان ينتظره الشعب.

——————

حواشي
الفصل السابع

 

(1)
تعتبر الأناجيل السينابتية أن إيليا قد آتى في شخص يوحنا المعمدان. فعندما سأل
الرسل يسوع بعد التجلي: “لماذا يقول الكتبة آن إيليا ينبغي آن يأتي أولاً؟”
أجابهم يسوع قائلاً: “ايليا آتى، فعملوا به على هواهم، كما جاء عنه في
الكتب” (مرقس 9: 13). ونجد أيضاً في إنجيل متى تماثلاً واضحاً بين يوحن
وايليا: “فإذا شئتم أن تصدقو، فاعلموا أن يوحنا هو ايليا المنتظر” (متى
11: 14). إن المعمدان أتم رسالة ايليا (لوقا 1: 17، 26)، وكان مصيره مشابهاً لمصير
ايليا: “وكان كلام الرب إليه يقول له ما لك ههنا يا ايليا؟ فقال قد غرت غيرة
للرب اله الجنود لأن بني إسرائيل تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف،
فبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ليأخذوها ” (1 ملوك 19: 10). من الطبيعي أن
ايليا لم يرجع بصورة حسية (متى 17: 10 ومرقس 9: 9 …)، ولذلك يستطيع يوحنا
المعمدان أن يقول عن نفسه أنه ليس هو ايلي، كما ورد في الإنجيل الرابع (يوحنا 1:
19). فيوحن، وفقاً للأناجيل السينابتية، لم ينسب إلى نفسه دور ايلي، لكن يسوع هو
الذي نسب إليه هذا الدور، لأنه كان يعرف دور يوحنا في تاريخ الخلاص لكن يوحنا لم
يكن يعرف ذلك. وهناك تفسير آخر لإنكار يوحنا أنه ايليا. فبالنسبة لبعض النقاد
“ايليا كان صورة أخروية معادلة لصورة ماسي، إذ يجب أن نتذكر ما ورد في سفر
ملاخيا (4: 5) بان ايليا لا يسبق ماسيا بل يسبق يوم الرب. فايليا ليس السابق
لماسيا بل المساوي له: أنه المرشد في يوم الرب”. لذلك رفض المعمدان قبول
“دور مساو للدور الماسياني” .

 

راجع:

C.F.D. Moule: The
Phenomenon of the New Testament
،
Naperville، IllA.R. Allenson، Inc1967،
p.71.

 

(2)
راجع:

Harald Riesenfeld:
“The Mythological Background of New Testament Christology”
، The Gospel
Tradition
، Philadelphia، Fortress Press، 1970،
pp. 3-49.

 

يبحث
هذا الكتاب في موقف يسوع من الرجاء الماسياني. فقد حرر يسوع نفسه من الفكرة
القومية المتعلقة “بالملك المثالي” واستعمل لقب “ابن
الإنسان”. لكن “لا نجد في الأناجيل شيئاً من إنتاج الخيال كما كانت
الحال في الأدب الرؤيوي اليهودي” (ص 44). لقد قبل بعض عناصر الكتاب المقدس
وقسماً من الأدب اليهودي المتأخر، ورفض البعض الآخر، معلماً عن ذاته بالاستناد إلى
خليط من عناصر وأفكار تقليدية. فصورة “ماسيا” وصورة “ابن
الإنسان” وصورة “خادم الرب المتألم” جمعت في صورة واحدة، وبذلك
تغيرت. “وهذا التغير هو بالحقيقة أساس الخليقة الجديدة التي تسمى بلغة العهد
القدين “الملء”. المسيح هو الملك، ومجده ليس نتيجة لقوته بل لخدمته.
ولقد حقق النصر … بطاعته وآلامه” (ص 46).

 

(3)
أوضح هذه النقطة

 

Richard J. Dillon and
Joseph A. Fitzmyer in Acts of The Apostles
، Jerome Biblical
Commentary 45: 11
.

 

الآب
وحده يعرف “ذلك اليوم وتلك الساعة”، هذا ما قاله يسوع لتلاميذه (مر13:
23). وقد عكس الرسول بولس تعليم يسوع هذا في رسالته إلى أهل تسالونيكي عندما قال:
“وأما الأزمنة والأوقات فلا حاجة لكم، أيها الأخوة، أن أكتب إليكم عنه، لأنكم
تعرفون جيداً أن يوم الرب يجيء في الليل” (ا تسا 5: 1-2، متى 24: 43-44).

 

(4)
راجع:

 

R.E. Brown: The Gospel
According to St. John
،
Anchor Bible Commentary، New York، Doubleday، 1966،
p.84.

 

(5)
راجع:

 

C.H. Dodd: The Old
Testament in The New
،
Philadelphia، Fortress Press، 1963،
pp. 12، 14.

 

(6)
راجع:

 

H.H. Rowley: The
Servant of the Lord and Other Essays
، London، 1952،
pp. 50-53.

 

بناء
على هذه الدراسة، النشيد الأول هو أقرب ما يمكن إلى “المقاطع المتعلقة
بإسرائيل التي هي خارج نطاق الأناشيد”. يسيطر فكر النبي هنا “الخادم
الجماعي أعني إسرائيل الذي اختير ليحمل نور الدين الحقيقي إلى كل العالم”.
وفي النشيد الثاني يبدو وكأن النبي مكتشف أن البقية الأمينة المتطهرة من إسرائيل
فقط تستطيع تأدية هذه الرسالة. فلذلك ستمتد الرسالة ليس فقط إلى جميع الأمم من
خلال إسرائيل بل إلى إسرائيل نفسه أيضاً.

 

يتكلم
النشيد الثالث عن الآلام التي سيتحملها خادم الرب المتألم في تأدية رسالته.
“وليس واضحاً إذا كان يفكر النبي هنا بشخص جماعي وبممثل فرد قائد”. أما
في النشيد الرابع فيظهر أن “الخادم هو “بكل تأكيد فرد أحد”. ويضيف
روليه قائلاً: “يبدو لي بوضوح أن الصورة ليست سوى صورة مستقبلية”
(ص50-53).

 

(7)
للإطلاع على هذا التحليل راجع:

 

A. Feuillet، p. 775.

 

ولمعرفة
المراجع في إنجيل يوحنا راجع:

 

A.M. Hunter، p. 92.

 

(8)
يستند هذا التصريح إلى المزمور (89: 3) القائل: “قطعت عهداً مع مختاري، حلفت
لداوود عبدي، إلى الدهر اثبت نسلك وابني عرشك إلى دهر الداهرين” وإلى نبوءة
أشهيا (9: 6-7) المتعلقة بحكم ماسيا الأبدي وبعهد السلام والازدهار الذي سيبدأه
والذي يدوم إلى الأبد.

 

(9)
هذا ما بحثه “مرش” (في الصفحة44) فيلاحظ أن الأناجيل الأربعة تبدأ بقصة
حياة يسوع ومن ثم تركز على قوته، لأنها تعتبر “موت يسوع قمة حياته”
وبداية حياة جديدة.

 

(10)
في رأي جرمياس إن الآية 17 من الفصل الحادي عشر من متى “تتضمن تصريحاً أساسياً
ليسوع عن رسالته”، إذ أنه باستعمال كلمة “أبي” أشار إلى
“الإعلان الفريد والسلطة الفريدة” اللذين أعطيا له.

 

J. Jeremias: The
Prayers of Jesus
، Naperville، IllAlec R.
Allenson
، Inc. 1967،
pp. 51، 53-56.

 

{فتنقل
إذن كلمة “أبي” إعلان، يمثل التعبير الأساسي عن رسالة يسوع}(ص53). خاطب
يسوع نفسه الآب بكل بساطة بعبارة “آبا” (أب). يشير جيرمياس إلى أن
اليهود لم يخاطبوا قط في أيام يسوع الله بكلمة “آبا”، في حين أن يسوع
كان يستخدمها دائماً ما عدا في (مرقس15: 34) حيث استشهد بالمزمور (22: 1) قائلاً:
“ايلي ايلي لما شبقتني؟” (متى 17: 46، مرقس 15: 34).

 

في
استعمال يسوع لكلمة “آبا”، نملك بدون شك علامة واضحة عن صوت يسوع
الحقيقي (ص 57). هذا الاستعمال يشير أيضاً إلى “التسليم الكلي من قبل الابن
لمشيئة الآب” (مرقس14: 36، 11: 25) (ص62). “آب، يا أبي أنت قادر على كل
شيء، فابعد عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أريد بل كما أنت تريد” (مرقس14:
36). استطاع المسيحيون فقط بعد إتمام يسوع لعمله الخلاصي وحلول الروح القدس على
التلاميذ أن يدعوا الله آبا.

 

لذلك
كتب بولس إلى أهل رومية قائلاً: “والذين يقودهم روح الله هم جميعاً أبناء
الله، لأن الروح الذي نلتموه لا يستعبدكم ويردكم إلى الخوف، بل جعلكم أبناء الله
وبه نصرخ إلى الله: آبا أيها الآب، وهذا الروح نفسه يشهد مع روحنا أننا أبناء
الله” (رو8: 14-16). إن الإنسان لا يستطيع بروحه مخاطبة الله كأب له، ولكن
“الله أرسل روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً أيها الآب” (غلا4: 6).

 

(11)
مع أن يسوع هو ابن الله الوحيد فيبدو من خلال الأناجيل وكأن معرفته محدودة بشأن
بعض الأمور. نذكر هنا بصورة خاصة، ما قاله عن عدم معرفته بموعد نهاية
الأزمنة(مرقس13: 32). لكن آباء الكنيسة يرون في هذه الأقوال علامة على عظمة تنازله
الإلهي وعلى حقيقة التجسد الذي مع ذلك لم يلغ وعيه المستمر بأنه ابن الله،

 

(12)
إن اسم الله في العهد القديم، أي “يهوه” يتألف في اللغة العبرية من
أربعة أحرف ساكنة
YAWY وبالتالي لم يكن يلفظ. فاليهودي كان يقول أدوناي (أي السيد) بدل
“يهوه”، لأن اليهود كانوا يحترمون اسم الله كثيراً. نقلت الترجمة
السبعينية هذا الاسم إلى اليونانية مستخدمة كلمة “كيريوس” الاسم الذي
أعطي ليسوع بعد القيامة. يقول كولمان في هذا الصدد: “إن المسيحيين الأول
أعطوا يسوع لقب “كيريوس” مؤكدين بذلك أنه لا ينتمي إلى الماضي في تاريخ
الخلاص وليس فقط المبتغي في المستقبل بل إنه حقيقة حاضرة وفاعلة، يمكن لنا الاتصال
به، والتوجه إليه بالصلاة وتقدر الكنيسة أن تتوسل إليه في عبادتها”. راجع:

 

O. Cullmann: The New
Testament: An Introduction for the General Reader
، Philadelphia، Westminster Press، 1968،
p. 42.

 

لقد
عنى دائماً الاعتراف بيسوع كرب الإيمان به وعبادته.

 

(13)
راجع في هذا الموضوع:

Arthur W. Wainwright:
The Trinity in New Testament
،
London، SPCK، 1962،
p. 87.

 

(14)
راجع:

R.E. Brown: Jesus: God
and man
، Milwaukee،
Bruce Publishing Co1967،
p. 29.

 

يبدو
أن استعمال يسوع لعبارة “أنا هو” في الإنجيل الرابع (يوحنا 6: 20،28،56،
13: 19، 18: 5، 6، 8) هو إشارة إلى (خروج3: 13- 14) حينما أعلن الله لموسى أن اسمه
هو: “أنا هو الذي أنا هو” وهذا هو المعنى الاشتقاقي لكلمة
“يهوه”. ولكي نفهم استخدام يسوع لعبارة “أنا هو” يجب العودة
إلى (اشعيا 43: 25): “أن، أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا
أذكرها”، وإلى (51: 12): “أن، أنا هو معزيكم”، و(52: 6):
“لذلك يعرف شعبي اسمي، لذلك في ذلك اليوم يعرفون أني أنا هو المتكلم،
هاءنذا”.

 

السبعينية
ترجمت كل هذه العبارات “بأنا هو” (
ego eimi).
راجع:

 

David M. Stanley and
Raymond E. Brown: “Aspects of New Testament Thoughts”
، “Jerome Biblical Commentary”، 78: 58.

 

إن
اسم “أنا هو” و”أنا الذي هو” هو اسم الله وهو اسم يسوع أيضاً.
ولا يعبر هذا الاسم عن ألوهيته فحسب، بل يؤكد أن الحضور الإلهي لم يفارقه في وضعه
البشري. “فإنه فيه يحل ملء اللاهوت جسدياً” (كولوسي 2: 9).

 

(15)
لا يوجد “سبب منطقي لرفض” الدليل الإنجيلي على أن يسوع قد “جمع بين
الرب الجالس عن يمين الآب وبين “ابن الإنسان” الموصوف في سفر داني، الذي
بدا غاية في الأهمية في الفكر المسيحي”. راجع:

 

C.H. Dodd: According to
the Scripture
، New York، Charles
Scribner’s Sons
، 1953، p. 110.

 

(16)
لقد وافق الله، أثناء التجلي على الاعتراف بيسوع في قيصرية فيليبس، وعلى تنبوئه
الأول عن الآلام. إذ أن ما اعترف به بطرس وجد صحيح، وما تنبأ به يسوع عن آلامه
العتيدة كان حقيقياً كذلك. يورد الإنجيلي لوقا في روايته عن التجلي، أن موسى
وإيليا اللذين ظهرا معه، “تكلما عن خروجه الذي كان عتيداً أن يكمله في
أورشليم” (لوقا 9: 31). الكلمة اليونانية للخروج هي
exodus،
وقد قصد بها لوقا الموت كما كان يقصد (بضم الياء) بها في الأدب المسيحي الأول.
ومعنى هذا القول أن يسوع سيقوم “بخروج” آخر في أورشليم، ومن خلال موته
سيخلص شعبه من عبودية الخطيئة. إذن في اللحظة التي أظهر فيها عن مجد ماسيا’، كشف
أيضاً عنه أنه سيتألم. بعد التجلي، علم يسوع تلاميذه عن آلامه. ولكن التلاميذ،
بدون رفض هذه الفكرة لم يتجرأوا هذه المرة أن يسألوه شيئاً (مرقس 9: 31-32). ولما
أعلن ثالثة عن نوع الميتة التي كان مزمعاً أن يموته، “لم يفهم الرسل من ذلك
شيئاً وكان هذا الأمر مخفياً عنهم ولم يعلموا ما قيل” (لوقا 18: 34)، لأنهم
لم يزالوا تحت تأثير المفاهيم الماسيانية، ولم يستطيعوا القبول بأي نوع من أنواع
الآلام الماسيانية.

 

لذلك
ملأ التعليم عن موت ماسيا قلوبهم حزناً وعقولهم “بالهواجس المظلمة، فلم يعد
عقلهم يتحرك إلى ابعد من هذه الفكرة”. راجع:

 

A.M. Ramsey: The
Resurrection of Christ
،
London، Collins Press، 1961،
p. 41.

 

(17)
يوجد وصف مفصل لكتاب:

 

Wrede: The Messianic
Secret in the Gospels
،
1901.

 

في
كتاب

Albert Schweitzer: The
Quest of the Historical Jesus
،
New York، Macmillan، 1961،
pp. 330-348.

 

قبل
أكبر ممثلين لحركة النقد الحديثة المعروفة بنقد الأشكال الأدبية، بولتمان
وديبيليوس نظرية ويرد. يعتقد بولتمان أن المسيح لم يؤمن أنه هو الماسيا. هذه
النظرة أصبحت “عقيدة مدرسة بولتمان”، وتبين الكثير من طريقة تفسيره
للإنجيل. يعتقد أتباع بولتمان أن “السر الماسياني” لا يمت بصلة إلى حياة
يسوع وتعاليمه “بل أنه يمثل نتيجة تأمل وتفسير الكنيسة بعد الفصح”. راجع:

 

Gunther Bornkamm: Jesus
of Nazareth
، New York،
Harper and Row، 1960،
p. 171.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى