علم المسيح

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل
الأول

الكنيسة
والنقد

 

 الأناجيل
مصدرنا الوحيد لحياة يسوع ة تعاليمه (1). وبما أن أموراً كثيرة تعتمد على شخص يسوع
فلا عجب أن تكون الأناجيل قد أخضعت لأدق بحث أدبي وتاريخي خلال القرنين الأخيرين.
ولا وجد وثائق أخرى قديمة قرئت وحللت بالاهتمام والدقة الذين استخدما في دراسة
الأناجيل الأربعة. بالطيع لم يكن النقد الكتابي مجهولاً في الكنيسة الأولى، لكن
التساؤلات النقدية التي هي مركز ظاهرة جديدة في حياة الكنيسة. أننا سنبحث في
الفصول اللاحقة بعض نتائج الأبحاث النقدية محاولين الإفادة منها. ولذا فستنعكس في
مناقشاتنا آراء العديد من كبار النقاد. وسنركز، بادئ ذي بدء، على المنهج التفسيري
ومن ثم تأتي الأنواع المختلفة للنقد الكتابي، كما سنولي التساؤلات التي يطرحها
النقاد حول تاريخ المادة الإنجيلية اهتماماً خاص، آخذين بعين الاعتبار دور الكنيسة
في تكوين الوثائق الإنجيلية وتحديدها.

 

المنهج
التفسيري في النقد الحديث

يقبل
كل من علماء الكتاب المقدس المنهج التفسيري ويستخدمونه، والمهمة الأولى للناقد
الذي يستخدم هذا المنهج هي أن يفهم ما يريد الكاتب نقله في فقرة وكتاب ما. عليه
أول، تحديد النص قبل استخراج معناه ودرس المقطع كله في سياق ما يسبقه وما يلحقه.
هذا قد يتطلب دراسة الفصل كله وحتى الكتاب بكامله. ثم يحاول الناقد تحديد مصدر
ومصادر الرواية التي يبحث فيه، هل تأتي هذه الرواية من مصدر يشترك فيه إنجيليان
وثلاثة؟ أم هي من مصدر خاص يستند إليه إنجيلي واحد فقط؟ ثم تأتي بعد ذلك الخطوة
التي تتعلق بالتفتيش عن الشكل غير المكتوب الذي عبر فيه عن تلك الرواية في التقليد
الشفهي، الأمر الذي يعني تجاوز المصادر الأدبية والتأكد من مكانة هذه الرواية في
حياة الكنيسة. وأخيراً يأتي السؤال عن أصل التقليد، أكان قولاً أم أعجوبة أم مثلاً
أم أي حدث خاص ذكر في الأناجيل، ترى هل أصوله في حياة الكنيسة أم أنها تعود إلى
يسوع نفسه؟

 

هذا
المنهج التفسيري يفترض أنواعاً عديدة من (النقد) أولها نقد النصوص. فلو كنا نملك
النسخ الأصلية لأسفار العهد الجديد لما كنا في حاجة للنقد النصي. ولكن هذه الأسفار
نسخت وحصلت أخطاء خلال ذلك فغدا على الناقد أن يستخرج لنا أفضل نص ممكن. ليست هذه
المهمة سهلة، فللأناجيل وحدها ما يتجاوز الألفي مخطوطة، وغالباً ما نجد قراءات
متعددة للآية الواحدة، فأية قراءة نعتمد؟ لذلك يجب أن يكون الناقد عارفاً معرفة
دقيقة ليس أسلوب الكاتب فقط بل لاهوته وذلك قبل الشروع بأخذ خطوة حاسمة في قبول
قراءة ورفض أخرى. والصعوبة التي ينبغي تخطيها هنا هي لاهوت الناقد، خاصة عندما
يتعارض ولاهوت صاحب النص الإنجيلي، لأن الناقد سيحاول فرض لاهوته هو على النص. لكن
بالرغم من كل الصعوبات، من تعدد النصوص التي تحير النقاد، فقد أدى النقد النصي خدمة
أساسية في فهم الكتاب المقدس لأنه ساعد في التوصل إلى نص جديد بالاعتماد (2).

 

كثيرون
ممن لا يرغبون بالنقد الكتابي بكل أشكاله، مستعدون تماماً لقبول ضرورة النقد النصي
ولتقدير نتائجه. فيقبلون (بالنقد الأدنى) ويتخذون موقف الحذر تجاه تقييم (النقد
الأعلى). وهذه البرودة تجاه هذا الأسلوب النقدي تبررها المواقف الاعتباطية التي
يتخذها أصحاب (النقد الأعلى) كأن يكتشفوا أحياناً ثلاثة مصادر في آية واحدة. وهذا
بالطبع يفقد السفر وحدته العضوية. لا شك في أن هذا الموقف متطرف لكن كثيراً ما
أغرى نقاد المصادر بإتباعه. لكل منهج حدود ومنهج نقد المصادر ليس مستثنى. ورغم ذلك
فعيوب هذا المنهج ليست مبرِراً كافياً لرفض قيمة (النقد الأعلى) رفضاً باتاً (3).

 

تبقى
مشكلة تحديد المصادر التي استقاها الإنجيليون في تدوين رواياتهم الإنجيلية. هذه
المشكلة كانت من أولى اهتمامات نقاد المصادر. بيد أن نتائج النقد المصدري مشكوك
بها أكثر من نتائج النقد النصي لأنها أكثر تجريبية وذاتية. مثال ذلك اهتمام نقاد
المصادر بالتساؤل حول أولية الأناجيل الأربعة. كثير منهم يعتبر إنجيل مرقس الأول
في الترتيب الزمني ويعتبر أن متى ولوقا استعانا به لكتابة إنجيليهما. كما استنتج
من وجود المادة المشتركة بين متى ولوقا أنهما استعملا إلى جانب مرقس مصدراً أخر
يشار إليه بالحرف
Q (Quelle كلمة ألمانية تعني مصدراً). غير أن هذه النظرية التي تقوم على
مرقس وعلى
Q قد شَكَ في صحتها علماء آخرون لا يقبلون بأقدمية إنجيل مرقس ولا
يؤيدون وجود مصدر مفترض هو
Q. هؤلاء يفترضون وجود عدة مصادر لكنهم يشكون في نظرية الاستعارة
قائلين بوجود احتكاك واتصال فيما بين المصادر الإنجيلية قبل أن يستخدمها
الإنجيليون.

 

نقد
الأشكال الأدبية

 لقد
طغى نقد الأشكال الأدبية على النقد الإنجيلي في القرن العشرين وبالتحديد منذ بداية
الحرب العالمية الأولى، لكنه لم يحتل مكانة النقد المصدري الذي كانت نتائجه قد
قبلت. في هذا المنحى النقدي يحاول العالم التغلب على كل ما من شأنه أن يبدو
انحرافاً أدبياً متطرفاً وذلك عن طريق تجاوز النصوص الأدبية والغوص في بحث التقليد
الشفهي، والسعي في تتبع نمو التقاليد المتصلة بيسوع، ووصف كيفية هذا النمو وفقاً
لاحتياجات الكنيسة الرسولية (4). أي أنه يهتم بالمرحلة الزمنية التي كانت فيها
روايات يسوع وأقواله ما تزال طافية على سطح التقليد الشفهي.

 

 إن
معرفة الشكل الأدبي مهم جداً لتفسير أي سفر كتابي إذ أن فهمنا للأناجيل يتوقف، إلى
حد بعيد، على الإجابة عن السؤال حول شكلها الأدبي. أهي سيرة (قصة) أم تأريخ
للأحداث أم أنها شهادة شهود عيان ليسوع؟ على الجواب يتوقف تفسيرنا للنص وما لم
نحدد الشكل الأدبي للنص لن نكتشف مغزاه. فلنأخذ، مثل، سفر يونان، فإذا أردنا معرفة
ما ينقله إلينا فلا بد لنا من التساؤل أولاً عن شكله الأدبي: هل هذا السفر سرد
حادثة حقيقية وهو مثل؟ (5).

 

ولا
يكفي أن نحدد الشكل الأدبي لكل إنجيل بكامله بل يجب أيضاً أن نحدد الأشكال الأدبية
للمقاطع الصغيرة الموجودة في كل إنجيل، لأن كل إنجيل يضم أنماطاً أدبية متعددة
كأقوال يسوع القصيرة والمعجزات وسرد الخبرات الشخصية ومدونات الشهود العيان وقصص
الطفولة وسلسة الأنساب وغيرها. لكن نقاد الأشكال الأدبية لا يتفقون حول تصنيف
المادة الإنجيلية. فمنهم من يفضل التكلم عن الأشكال الأدبية المختلطة أكثر من
الكلام عن الأشكال الأدبية الصافية. ومنهم من يعبر عن ارتيابه بالقيمة التاريخية
لبعض المقاطع الصغيرة. فمثلاً لم يصنف كبير نقاد الأشكال الأدبية رودلف بولتمان
الحادثة الواردة في (مر3: 1-6) والتي تدور حول شفاء رجل ذي يد مشلولة، كحادثة
عجائبية بل كرأي معبر عن موقف اليهود تجاه السبت. ولهذا يقول: أن الحادثة تصل إلى
ذروتها عندما يقول يسوع: “هل يحل في السبت عمل الخير أم الشر؟ إنقاذ نفس أم
إهلاكها” ويدعو بولتمان هذا النمط من القصص “الحكمة” و”قولاً
مأثوراً” لأن له ما يشابهه في الأدب اليوناني (6). أمثال هؤلاء النقاد،
كبولتمان، يعتبرون أن القول ليسوع ولكن الأعجوبة هي من صنع الجماعة الأولى.

 

لو
اقتصر نقد الأشكال الأدبية على تحديد الأشكال الأدبية وتصنيفها لأدى بذلك مهمة لا
غنى عنها (7). ولكنه تعدى ذلك إلى إصدار الحكم على القيمة التاريخية للمادة
المتجسدة في شكل أدبي معين. وهذا ما أثار جدلاً عظيماً. ففي حين يعتبر ديبيليوس أن
إعطاء مثل هذه الأحكام ليس من وظيفة نقاد الأشكال الأدبية، يرى بولتمان عكس ذلك.
ويذهب المتطرفون من يحذون حذو بولتمان إلى القول بأن عجائب شفاء المرضى في الإنجيل
تشكل نوعاً أدبياً يشابه قصص العجائب في العصر الهيليني. ويبينون أن قصص عجائب
الشفاء في الأناجيل وفي التراث الهيليني ترتكز على العناصر الثلاثة التالية:


وصف الوضع ولطبيعة المرض.


العمل الذي قام به الشخص الشافي، أي الطريقة التي بها شفى المرضى.


نتيجة هذا العمل.

 

 على
أساس هذا التشابه ينزع النقاد المتطرفون إلى الاستنتاج بأن عجائب الإنجيل ليست من
عمل يسوع بل اختلقتها الجماعة المسيحية الأولى ولذلك هم يرفضونها. لكن، هل التشابه
في الشكل الروائي سبب كاف لحذف العجائب من حياة يسوع؟ وهل بالإمكان رواية حادثة
شفاء بطريقة أخرى؟ (8).

 

عجائب
يسوع جزء لا يتجزأ من التقليد الإنجيلي الأولي، ولا يوجد أي مصدر إنجيلي بدون ذكر
أحداث عجائبية. وحتى يسوع نفسه فقد ذكر بوضوح أنه اجتراح العجائب:

 

“ويل
لك يا كورزين، الويل لك يا بيت صيدا! فلو كانت المعجزات التي جرت فيكما جرت في صور
وصيدا لتاب أهلها من زمن بعيد … وأنت يا كفرناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين
الى الهاوية” (لو10: 13-15، متى11: 20-24).

 

 وحتى
خصوم يسوع أنفسهم لم يرفضوا عجائبه. وهكذا يتضح لنا كيف أن آراء النقاد الخاصة
وفرضياتهم المسبقة يمكن أن تؤدي إلى رفضهم للعجائب (9).

 

إن
نقد الأشكال الأدبية يدل على أن حاجات الكنيسة لعبت دوراً هاماً في الحفاظ على
الروايات والأقوال الإنجيلية، وفي اختياره واستعمالها. وبذا يكون أهم إنجاز لهذا
النمط من النقد وإظهاره أن النقد الإنجيلي لم يوجد منفصلاً عن الكنيسة، وتأكيده أن
العهد الجديد هو كتاب الكنيسة.

 

لقد
عاشت الكنيسة الأولى في صلواتها كلمات الرب يسوع وأعماله. وكان المسيحيون الأولون
“يواظبون على تعليم الرسل وكسر الخبز والصلوات” (أعمال2: 42). وكانوا
يتذكرون ويفسرون كلمات يسوع وأعماله من خلال إقامة الافخارستيا. ويمكننا التصور أن
المعلمين في وعظهم كانوا يجيبون عن الأسئلة حول تعاليم يسوع ويعطون الأمثلة لشرح
موقفه من الشريعة والشيع والمؤسسات اليهودية. كما كانوا يوضحون تعاليمه بشأن ملكوت
الله وعن نفسه. ومع انتشار المسيحية وتزايد عدد الراغبين فيها قامت الكنيسة بإعداد
مجموعات من أقوال يسوع وتعاليمه وضعت في متناول العاملين في العليم الديني. فضبطت
بذلك نقل التقليد الإنجيلي واطمأنت إلى أن أعضاءها الجدد يتلقون بأمانة أقوال يسوع
وأعماله. وأصبح بإمكان كل كنيسة محلية أن تراقب تعليم الكنائس الأخرى. وهكذا أغلق
المجال أمام كل راغب في اختلاق روايات إنجيلية جديدة (انظر مثلاً أعمال 8: 14 و10:
11).

 

إن
احتياجات الكنيسة حددت ما يجب إدراجهم من تقاليد عن يسوع في النصوص المكتوبة. لم
تكن الاحتياجات تؤدي إلى اختلاق الروايات بل كانت تدعو إلى تقرير ما يجب انتقاؤه
وتطبيقه على الأوضاع الجديدة في الكنيسة. فالكنيسة لم تختلق أقوال يسوع وأعماله
إنما سعت إلى تفسيرها فقط. فمثل، عندما طرح (بضم الطه وكسر الراء)، أثناء انعقاد
المجمع الأورشليمي في السنة الخمسين بعد الميلاد، السؤال عن ضرورة إختتان الوثنيين
لخلاصهم، لم تجد الكنيسة في كلام يسوع أي جواب مباشر. فلو كان نقاد الأشكال
الأدبية محقين في إدعائهم بأن الكنيسة اختلقت الروايات الإنجيلية لكان من شأن الكنيسة،
مادامت الظروف مؤاتية أن تبتدع أقوالاً تنسب إلى يسوع وتختلق قصة تدل على موقفه من
ختان الوثنيين. لكن الكنيسة لم تخضع لأية تجربة من هذا النوع ولم تنسب إلى يسوع أي
قول غير مسنود (10). وهكذا انتهى الجدل الحار حول ختانة الوثنيين دون اختلاق قول
منسوب ليسوع،

 

و
أُتخِذ قرار ضد فرض الختان بعد دراسة وافية قام بها الرسل والشيوخ. إن النقد
الشكلي ساهم مساهمة فعالة في توضيح التقاليد الإنجيلية قبل صبها في شكلها النهائي
المكتوب. غير أن أتباع هذا النمط النقدي يميلون إلى أن ينسبوا إلى جماعة المؤمنين
مسؤولية في تكوين النص الإنجيلي أكبر مما يمكن إثباته. فيقللون بذلك من أهمية
الدور الذي لعبه الشهود العيان في نقل كلمات يسوع وأفعاله ويضعفون من مساهمة
الإنجيليين الشخصية في تأليف أناجيلهم (11).

 

ظهرت
حديثاً نزعة جديدة في نقد الأشكال الأدبية تعرف ب “نقد الإنشاء الأدبي”.
هذه النزعة تحاول تدارك النقائض في الطريقة السابقة فتشدد على دور الإنجيليين أكثر
من تشديدها على دور الجماعة. وفيها يهتم الناقد بالصفات المميزة لكل إنجيلي،
والطريقة التي استعمل بها المصادر المتوفرة لديه. لذلك نراه بعد تحديد الشكل
الأدبي لسفر ما يهتم بأسلوب الكتابة وطريقة التأليف ومراحل الوصول النهائي. إنه
يهتم بعمل الإنسان الذي كتب السفر إذ يعتبر أن الإنجيليين لم يكونوا فقط جامعين
لتقاليد الجماعة المسيحية بل مؤلفون لهم في نظرتهم الخاصة بدليل تصنيفهم المواد
الإنجيلية بطريقة تعبر عن اهتماماتهم اللاهوتية. ولقد توصل أحد أشهر نقاد الإنشاء
الكتابي ويللي ماركسن بتشديده على أهمية دور الإنجيليين إلى الاستنتاج بأن
الأناجيل الأربعة لا تنتمي إلى شكل أدبي واحد، وأن النموذج الإنجيلي المشترك قد
نقض (بضم النون وكسر القاف) لكثرة ما ابتكر كل من الإنجيليين من الأساليب الخاصة
في الكتابة حتى أصبح كل إنجيل قائماً بذاته (12).

 

بالرغم
من المواقف المتطرفة التي قد تنتج عن تطبيق أي من نزعتي نقد الأشكال الأدبية، كما
اتضح سابق، يبقى أن استعمال هذه النهج كأداة عملية محضة من قبل عدد آخر من النقاد
أعطى فوائد جلى وفتح أبواباً كانت ما تزال مغلقة. فساهم التصنيف الدقيق للأشكال
الأدبية والوصف الواضح لدور الإنجيليين في كتابة أناجيلهم إسهاماً كبيراً في تفسير
العديد من المقاطع الصغيرة وكلمات يسوع وأقواله الواردة في الأناجيل

 

المنهج
والموضوعية

لا
يتوصل دائماً مطبقو المنهج التفسيري إلى النتائج نفسها. وهذا لا يسبب اللوم للمنهج
بحد ذاته، إذ لم يظهر في عصر من العصور منهج مطلق ومكتف بذاته. فليس من منهج إلا
وتعرض لفراضيات العلماء وتحيزاتهم. وقد ذكرنا بهذا الصدد أنه حتى في حقل النقد
النصي لعبت دوراً مهماً في اختيار النصوص في اختيار نص ورفض آخر. ولذا فلا بد أن
يكون لآرائهم تأثير في الكنيسة والتقليد ومكانة الكتاب المقدس في الكنيسة وحتى في
تفسير نص إنجيلي.

 

كتب
الأب سرجيوس بولغاكوف أن هناك دوماً “بحثاً علمياً حقيقياً” من جهة
و”إنحيازات العصر” من جهة أخرى (13). وبالرغم من الإجحافات فقد ساهم
النقاد الكبار فعلياً في البحث العلمي لحل المشاكل الكتابية، وبالتالي ازدادت
معرفتنا بالإنجيل، وتعمق فهمنا لعمل الله في التاريخ. وإن كنا قد انتقدنا بعض
النزعات في علم الكتاب المقدس فهذا لم يكن بهدف اللوم على منهج نقد الأشكال
الأدبية بل للإشارة إلى الانحرافات التي وصل إليها بعض البحاثة. فالبعض منهم يعتقد
أن حياة يسوع يجب أن تكون مغايرة لما تبينه الوثائق الإنجيلية. وهم يريدون قبول
المسيح وقهم رسالته بطريقتهم الخاصة. وانجرافاتهم هذه ذات طابع عقلاني مشكك.

 

العقلاني
يعتبر الأناجيل بمثابة وثائق إنسانية وحسب ولا يمكنه أن يرى فيها أي طابع آخر.
وبالتالي لا يسعه أن يعتبرها إلهية وإنسانية لأنه يرفض، مبدئي، العنصر
“الإلهي” و”الفائق الطبيعة”، وينسب كل شيء إلى إيمان جماعة
مجهولة غير محددة المعالم. وهكذا يكون قد أبدى روحاً غير نقدية وأفضى به شكه
المتطرف إلى التسليم الساذج ببعض فرضياته. ولو استطاع كل البحاثة أن يكونوا
موضوعيين، بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لتوصلوا في آخر الأمر إلى تفسير واحد
للنص الكتابي. وبتعبير آخر لكانوا فهموا كل المعنى الذي أراد الكاتب أن ينقله إلى
قرائه (14). وهذا الأمر ممكن ولو نسبياً. ويمكننا الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن
عدداً من النقاد “الإنجيليين” و”الكاثوليك” يتوصلون اليوم في
أبحاثهم الكتابية إلى النتائج نفسه، وبذلك يساهمون في هدم الحائط القديم الذي كان
يفصل بينهم لدرجة يصعب تحديد هوية الناقد بالاستناد إلى أبحاثه ونتائجه، فالعالم
“الإنجيلي” لا يميز من الكاثوليكي والعكس صحيح. وفي العشرين سنة الأخيرة
تزايد عدد الكاثوليك الذين اتخذوا المواقف الأكثر تقارباً من الإنجيليين لا بل
المواقف نفسها في كثير من الأحيان. لا شك أن هذه المواقف تدل على درجة عليا من
الموضوعية. ولكن ليس المنهج التفسيري وحده يعلل هذا التقدم في الموضوعية بل الرؤى
الواحدة والمنهج العلمي الواحد والمنطلقات الواحدة هي التي تجمع بين هؤلاء النقاد.

 

يبقى
أن إحدى النتائج المشجعة للنقد الكتابي الحديث الاهتمام المتزايد بالدراسات
الكتابية، وبها تكتشف جماعات مسيحية عديدة أن بينها شركة في الرؤية أكثر بكثير مما
كانت تظن. ولقد أسهم النقاد المتطرفون في زيادة الاهتمام إذ أثارات تساؤلاتهم
نقاشاَ مجدياَ حول طبيعة الرواية الإنجيلية وتاريخه، وحثت علماء العهد الجديد على
إعادة النظر بتأن في النصوص والبحث عن أجوبة للمسائل المطروحة.

——————

حواشي
الفصل الأول

(1)
يرد ذكر يسوع في مصادر غير مسيحية. فكتب عنه المؤرخ اليهودي يوسيفوس(37-110
م)أنه”إنسان حكيم”و”فاعل لأعمال عجيبة”وأن بيلاطس حكم عليه
بالموت صلباً وذلك “بناء على الاتهام الذي وجهه أشخاص مسؤولون بيننا”(
Antiquities of the Jews،XVIII،63 f).

 

يشهد
الأدب الرباني أيضاً على اجتراحه للعجائب، لكنه يفسرها على أنها أعمال سحرية
“أغوت اليهود بالارتداد”. وورد في التلمود أن يسوع قد حوكم عشية الفصح
التي كانت عشية السبت. هذه الشواهد الموجودة في المصادر اليهودية نجدها منظمة
تنظيماً حسن ومبحوثة بتفصيل في كتاب الباحث هيرفورد
R.T.Herford الذي يحمل عنوان “المسيحية في التلمود والمدراش”

 

Christianity in Talmud
and Midrash
، Clifton،
N.JReference book
publishers
، 1966.

 

يوجد
أيضاً تلخيص جيد وتقييم صحيح لكل هذه الشواهد في:

 

Howard Clark Kee: Jesus
in History. An approach to the study of the Gospels
، New York، Harcourt، Brace &
World
،1970،pp.37-43

 

وفي
التلمود توجد شواهد أخرى أيضاً لكنها ليست ذات قيمة كدليل على تاريخية يسوع، لأنها
جدلية من حيث الروح، وهي ناتجة عن الصراع المرير المتتابع بين اليهودية والمسيحية
في القرون الأولى.

لعل
أهم المراجع في المصادر الرومانية عن يسوع هو كتاب المؤرخ تاسيتوس (55-117 م) الذي
كتب أن الأمبراطور نيرون اتهم المسيحيين بإحراق روما السنة 64 م لكي يبعد الشبهة
عن نفسه. ولقد أشار تاسيتوس إلى أن لفظة “مسيحي” تأتي من المسيح الذي
أسلم نفسه إلى الموت أيام حكم طيباريوس
Tiberius ونفذ الحكم فيه
وكيله بيلاطس البنطي (
Tacitus، Annals، XV،44).

 

لانستطيع
التأكيد على أن تاسيتوس قد اعتمد المصادر الرومانية الرسمية، لكن عدداً كبيراً من
العلماء يؤكدون أنه استمد معلوماته من مصدر مستقل عن المصادر اليهودية والمسيحية.

 

ثمة
مراجع أخرى اقل أهمية تشهد على كون يسوع شخصية تاريخية، إلا أننا فيما يخص حياة
يسوع وتعليمه لا نستطيع أن نركن إلا إلى المدونات الإنجيلية.

 

(2)
“نستطيع أن نؤكد بقوة أن نص الكتاب المقدس موثوق به كلي وخصوصاً نص العهد
الجديد”. راجع:

 

Frederic Kenyok: Our
Bible and the Ancient manuscript
،
London، Eyer &
Spottiswoode
، 1958، p.55.

 

(3)
{استعار العلماء لفظتي “أعلى” و”أدنى” من صورة النهر. فالناقد
“الأعلى” يسعى إلى التوغل في أعالي النهر، أقرب ما يكون من النبع (هذا
هو التدوين الأصلي للكتاب) … أما الناقد النصي فيهتم بأمور “أدنى” أي
ذات علاقة بفترة ما بعد كتابة الكتاب ونسخه وانتشاره}. راجع:

 

H.A. Guy: The Gospel of
Mark
، New-York،
st.Martin Press، 1968،
pp. 5-6

 

(4)
راجع:

 

Krister Stendahl:
<< Implication of Form-Criticism and Tradition-Criticism for Biblical
Inter pretation>>
،
Journal of Biblical Literature
77: 1
، 1958،34

 

{يستخدم
نقد الأشكال الأدبية أحياناً كأداة لاستعادة الكلمات نفسها التي لفظ بها يسوع. هذا
النقد في حد ذاته أداة يجب إضافتها إلى الأدوات المألوفة. لكنه كمنهج وكمدرسة
يتركنا تحت رحمة الكنيسة الأولى بتعاليمه وفهمه وحياتها”. إن وضع الإنجيل في
حياة الكنيسة يشار إليه بالتعبير الألماني
Sitz im Leben
(الوضع في الحياة). هذه العبارة “لا تفهم إلا إذا عدنا إلى شكلها الأصلي
Sitz im Leben der Kirche “الوضع في حياة الكنيسة”، أعني طقس الكنيسة الأولى
وكرازته وتبشيره ودفاعها ” وبالنسبة للعهد القديم الحياة الدينية والطقسية
لإسرائيل”. هذه العبارة يجب ألا تكون
Sitz im Leben Yesu
“الوضع في حياة يسوع”، بل ينبغي أن تعود لأعمال الجماعة}.

 

(5)
“إذا عرف القارئ أن سفر يونان هو مثل خيالي، سيعرف أيضاً أن المؤلف لا يقدم
عرضاً لتاريخ العلاقة بين إسرائيل وأشور ولا يريد أن تعتبر قصة يونان في جوف الحوت
كحدث واقعي”. راجع:

R.E. Brown: <<
Hermeneutics>>
،
Jerome Biblical Commentary 71: 27.

ما
يريد سفر يونان نقله هو أن الله يهتم بأهل نينوى وبشعب إسرائيل المختار سوية وأن
رحمته تتجاوز حدود فلسطين.

 

(6)
يدعو ديبيليوس هذا النمط من القصص أمثال “
Paradigms“،
لأنه يعتقد بأنها كانت تستخدم كأسلوب وكصور إيضاحية في التبشير. لا شك، أن
ديبيليوس وبوتمان هما أكثر نقّاد الأشكال الأدبية شهرةً وأقدرهم على الإبداع، لكن
طريقتهم لفهم تقليد الأناجيل السينابتية هي غير متشابهة. فبينما يستخدم ديبيليوس
ما يسمى “بالنهج البناء” أي يسعى لإظهار كيف يكون التقليد من خلال
“دراسة الجماعة وحاجاتها”، ينطلق بولتمان من “تحليل العناصر
الجزئية في التقليد”، محاولاً الوصول إلى الحاجات التي كانت السبب في تكوينه،
ونقله. هذان الأسلوبان لا يتعارضان، بل كما يقول بولتمان، “يكملان بعضهما
البعض”. ولكنها في أي حال يختلفان في الأحكام التي يتوصلان إليها بشأن حادثة
تاريخية إنجيلية م وقول ليسوع. راجع:

Rudolf Bultmann: The
history of the Synoptic Tradition
،
New York، Harper & Row، 1963،p.5.

 

(7)
يجب أن نؤكد من جديد على أهمية معرفة الأشكال الأدبية. فلقد أصيبت جماعة من الناس
بالذعر عندما سمعوا من الراديو أن رجالاً من المريخ قد غزوا العالم، إذ ظنوا أنهم
يستمعون إلى نشرة أخبارية، لم يدركوا أنهم كانوا يستمعون إلى تمثيلية إذاعية. هكذا
نبتت ردة فعلهم عن خطأ في معرفة الشكل الأدبي. راجع:

Celestin Charlier: The
Christian Approach to the Bible Westminster
، MdNewman Press، 1961،p.130.

 

(8)”يستخدم
إنسان يشكو الربو الشكل الأدبي عينه المستعمل في الأناجيل في قصص العجائب ليصف
شفاءه على يد الدكتور براون”. راجع

Alan Richardson: The
Miracle-Stories of the Gospels
،
London، SCM Press، 1952،
pp. 27-28.

وكتب
لوسيان سيرفو في هذا الموضوع ما يلي: “عندما يصف المراسلون الصحفيون حريقاً
نشب في مكان م، يلجأون في وصفهم إلى عبارات متشابهة، فهل هذا يعني أن الحريق لم
يحصل؟ نستميح عذراً لاستعمالنا حجة كهذه، لكن هذه هي المغالطة الرئيسية للمدرسة
التي تسمى نفسها “منهج تاريخ الأشكال الأدبية” والتي تنزع، من حيث
المبد، عن كل رواية أخذت شكلاَ أدبياَ كان مستخدماَ في السابق، أية حقيقة
موضوعية”. راجع:

Lucien Cerfaux: the
Four Gospels
، Westminster MD،. Newman Press، 1960،pp.122-123.

 

(9)
يلاحظ لويس أن رفض العجائب الإنجيلية ليس ناتجاً عن المعرفة التاريخية، ولكن من
“الافتراض الضمني بأن العجائب مستحيلة الحدوث، غير معقولة وغير لائقة”.
راجع:

C.S Lewis: Miracles: A
Preliminary Study
، New Yorkm Macmillan Co1967،
pp. 197.

 

(10)
تجد هذه المسألة معالجة جيدة في بحث “غير هاردسون” للإصحاح الخامس عشر
من أعمال الرسل. راجع:

Birger Gerhardsson:
Memory and Manuscript: Oral Tradition and Written Transmssion in Rabbinic
Judaism and Early Christianity
،
Uppsala 1961،
pp. 257 f.

 

(11)
كتب تيلور: “إذا كان نقاد الأشكال الأدبي على حق، لا بد أن يكون التلاميذ قد
انتقلوا إلى السماء فوراً بعد القيامة كما يرى بولتمان، تكون الجماعة المسيحية
الأولى كما في فراغ ومنعزلة عن مؤسسها بحائط من الجهل لا يمكن تفسيره. راجع:

V. Taylor: The Formation of the Gospel Tradition، London، Macmillan، 1949،p.41.

لكن
يخبرنا العهد الجديد، أنه بعد القيامة وحلول الروح القدس كان بعض التلاميذ فعالين
في إعداد الأسس لانتشار الكنيسة وكانوا مهتمين بإعلان الإنجيل ونشره.

 

(12)
بالنسبة إلى الباحث ماركس فإنه لا يوجد شيء اسمه “الأناجيل السينابتية”
من حيث الشكل الأدبي لهذه الأناجيل. راجع:

W. Marxsen: Mark the
Evangelist: Studies of the Redaction History of the Gospel
، New York، Abingdon Press، 1969،
p.217.

 

(13)
راجع:

S. Bulgakov: The
Orthodox Church
، London، Centenary Press، 1935،
p. 28.

 

(14)
هذا الأمر ممكن نظري، لأنه كما يصرح جون ماكينزي، “إن مؤلفي الكتاب المقدس لا
مفسروه حددوا معناه”. لكننا مازلنا بعيدين كل البعد عن الوصول إلى هذه
المرحلة من الموضوعية الكاملة، “ومن المشكوك فيه أن نصل إلى تلك الموضوعية
الكاملة قبل المجيء الثاني” . راجع:

 

J.L. Mckenzie: Problems
of Hermeneutics in Roman Catholic Exegesis
، Journal of
Biblical Literature 77: 20
،
1958،
199.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى