علم المسيح

الفصل السادس



الفصل السادس

الفصل
السادس

المحاكمة
والحكم

149-
المحاكمة أثناء الليل

بمجرَّد
وصول المسيح مقبوضاً عليه إلى دار حنان- وهي نفس دار قيافا، إنما في الجناح القبلي
منها- اجتمع السنهدرين على عجل لمحاكمة مبدأية للمسيح، لأن محاكمة الليل معروفة
أنها غير قانونية. والوحيد الذي ذكرها هو ق. يوحنا في إنجيله، ويبدو من ذلك أنه
كان شاهد عيان، لكنه لم يسجِّل في هذه المحاكمة أي شيء إلاَّ أسئلة من حنان عن
تلاميذ المسيح وعن تعليمه: “أجابه يسوع: أنا كلَّمت العالم علانية. أنا
علَّمت كل حين في المجمع وفي الهيكل حيث يجتمع اليهود دائماً. وفي الخفاء لم أتكلَّم بشيء. لماذا تسألني أنا؟ اسأل
الذين قد سمعوا ما كلَّمتهم. هوذا هؤلاء يعرفون
ماذا قلت أنا. ولمَّا قال هذا لطم يسوعَ واحدٌ من الخدَّام كان واقفاً،
قائلاً: أهكذا تجاوب رئيس
الكهنة؟
أجابه يسوع: إن كنت قد تكلَّمت رديًّا فاشهد على الردي، وإن حسناً فلماذا
تضربني؟” (يو
18: 2023)

150-
المحاكمة في الصباح

أُحيل
المتهم إلى السنهدرين رسمياً من قِبَلِ حنَّان، فأصبح تحت رئاسة قيافا. حاول قيافا
محاولة حنَّان في ابتزاز أجوبة من المسيح من أي نوع، فلم يكن نصيبه أوفر، إذ لجأ
المسيح إلى الصمت إزاء كل الأسئلة. ولم يكن هذا غريباً الآن على ذهننا، فنحن قد
علمنا من صلاة جثسيماني أن المسيح قد قَبِلَ شرب الكأس حسب مشيئة الآب، ولم تكن
الكأس إلاَّ خطايا البشرية جميعاً. فها هو الابن يُسأل ظاهرياً عن خطاياه فلم
يَرُدّ إطلاقاً، لأنه لم يكن له خطية ولا كان في فمه غشٌّ. أمَّا هو فاحتُسب أمام
الآب السماوي أن كل ما سُئل عنه من أخطاء وخطايا هو أقل بكثير مما ارتضى أن يحمله.
فكان ردّه الداخلي منتهى الرِّضا والسرور بهذه الاتهامات الصحيحة والمزوَّرة- بآن-
لأنه أصبح في واقع نفسه وحياته خاطئاً بكل معنى الخطية- مع أنه بلا خطية وحده-
وقَبِلَها، لا كأنها استعارة، بل كمن يُحاكم بمقتضى اقترافها، لكي يصدر الحكم
الأخير بأنه نظير البشرية جمعاء خاطئٌ ومذنبٌ أمام الله والناس.

وقد
حاول قيافا بكل جهده أن يدافع عن نفسه كقاضٍ يبرِّر قضيته على المسيح كخاطئ، وقد
جرَّ شهود الزور الذين جمعهم، وكأنهم يشهدون على حق؛ ولكن، ولا كل محاولاته أصابت
هدفها. وأخيراً، لجأ قيافا إلى حيلة خطيرة لإحراج المسيح وإجباره على الكلام، بأن
ألقى عليه سؤالاً صحيحاً يمس صدق المسيح وواقع حياته وكيانه ووجوده، عالماً أنه
لابد وسيتكلَّم. وفعلاً ردَّ المسيح وتكلَّم، إذ قدَّم رئيس الكهنة لسؤاله بقسم
بالله: “أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟” (مت
63: 26). آه نعم، لقد أصاب الحقيقة التي طالما جاهد ليطمسها، والآن أصبحت دينونة
هذا الرئيس الكاذب المرائي الحالف باسم الله العظيم خلسة وخدعة ليُسقط المسيح في
قول الحق فقاله. فما كان منه إلاَّ أن أخذه مأخذ الغش والتجديف.. ردَّ عليه المسيح
باختصار إلهي مهيب: “أنت قلت” بمعنى هذا هو الحق، وأنا كذلك!! وأضاف
المسيح شهادة لهم وهي عليهم: “وأيضاً أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان
جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء” (مت 64: 26)، وهي تعني أنكم
سوف ترون كيف يتحقَّق هذا بالفعل، ولكنها يوم الدينونة التي ستعطون فيها حساباً عن
كل أعمالكم كلصوص. قالها ليثبت بها حقا أنه المسيَّا ابن الله لكي لا يكون لهم
مهرب مما سمعوا. ولكن رئيس الكهنة سدَّ أذنيه عن سماع الحق الذي سمع، وفتح قلبه
المملوء بالغش والخداع ليؤكِّد ما قد دبَّر له بأن يجعله ينطق مرغماً أنه ابن
الله، ليأخذها شهادة من فمه ضده، مع أنها
شهادة سيُحاكم بها هو وأُمته حكماً مرعباً يوم استعلان سرائر
الناس!

أمَّا
رئيس الكهنة فقد قام بتمثيلية قديمة: لأن رئيس الكهنة إذا سمع تجديفاً يُسرع بأن
يشق ثوبه شهادة دامغة أن جُرماً عظيماً حدث في إسرائيل، صارخاً: ها أنتم قد سمعتم!
“ما حاجتنا بعد إلى شهود. ها قد سمعتم تجديفه! ماذا ترون؟ فأجابوا وقالوا:
إنه مستوجب الموت!” (مت 26: 65و66). على أساس أنه ادَّعى كذباً أنه المسيَّا
وابن الله معطياً لنفسه مجد وكرامة الله! ولكن أين التجديف وأين الخطأ؟ وبناء عليه
اعتبر السنهدرين أن المسيح قد قُطع من مملكة إسرائيل والله، وهذا يعني أن يصير
طُعمة يتبارون فيه بالضرب والتعذيب إلى أقصى ما في وسع الأشرار!!

وكانت
هذه اللحظات بالنسبة للاهوت الفداء معجزة فلتت من أيديهم أن يُثبت المسيح بقسم أنه
هو المسيَّا الذي أتى، وهو ابن الله المتجسِّد أمامهم، وبآن واحد، توضع عليه خطايا
الخطاة ليلقى نصيبهم!! ويتألَّم قبل أن يموت. فالآن هو معه شهادة رسمية من أعلى
محكمة يهودية تمثل الله أنه خاطئ ومذنب، وعلى هذه
الصورة قدَّموه لبيلاطس لينطق بالحكم الأخير بالموت.

 

151- إنكار
بطرس

عندما قبضوا على المسيح وساروا به من جثسيماني إلى دار رئيس
الكهنة حنَّان، كان سمعان بطرس ويوحنا يتبعان يسوع، وكان ق. يوحنا معروفاً عند
رئيس الكهنة وأهل بيته وخدَّامه. لأن بعض الباحثين يقولون إن ق. يوحنا كان من
عائلة كهنوتية
([1]). فدخل
يوحنا مع المسيح في دار رئيس الكهنة، أمَّا بطرس فحُجز عند الباب؛ ولكن ق. يوحنا
خرج وكلَّم البوابة فأدخلته. فتفرَّست البوابة في بطرس، وقالت له: “
ألست أنت
أيضاً من تلاميذ هذا الإنسان (المسيح). قال ذاك (بطرس): لست أنا (الإنكار
الأول)” (يو
17: 18). وكون أن البوابة تكلَّمت مع ق. بطرس، فهذا يفيد
أنها تعرَّفت أيضاً على ق. يوحنا قبله، ولم يكن هناك اعتراض ما منها، فهي بوابة.
ولكن بهذا السؤال شعر بطرس أنه أصبح مكشوفاً، فكان مرتبكاً. ولمَّا انضم إلى الخدم
ليستدفئ معهم، إذ كانوا قد أشعلوا النار، ولمعت النار في وجه بطرس فكشفت أنه جليلي
من لبسه وسحنات وجهه، فرأته جارية أخرى. فلمَّا رأته وتطلَّعت جيداً في وجهه
وعرفته: “نظرت إليه وقالت: وأنت كنت مع يسوع الناصري! فأنكر قائلاً: لست أدري
ولا أفهم ما تقولين! وخرج خارجاً إلى الدهليز، فصاح الديك (الإنكار الثاني).. وبعد
قليل أيضاً قال الحاضرون لبطرس: حقا أنت منهم لأنك جليلي أيضاً ولغتك تشبه لغتهم.
فابتدأ يلعن ويحلف: أني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه! وصاح الديك ثانية
(الإنكار الثالث)، فتذكَّر بطرس القول الذي قاله له يسوع: إنك قبل أن يصيح الديك مرَّتين،
تنكرني ثلاث مرَّات.” (مر 14: 6772)

في كل
هذا، وبينما كان بطرس يستدفئ وابتدأ ينكر، كان المسيح قد انتهى من جلسة المحاكمة.
ولمَّا خرجوا به إلى دار الولاية مرُّوا من المبنى إلى الدهليز وعبروا على بطرس:
“فالتفت الرب ونظر إلى بطرس” (لو 61: 22)، وبها تذكَّر بطرس ما قاله
المسيح: “فخرج إلى خارج وبكى بكاءً مُرًّا.” (مت 75: 26)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى