علم المسيح

91- مجيء ابن الإنسان



91- مجيء ابن الإنسان

91- مجيء ابن الإنسان

كان
من المعروف منذ أن بدأ المسيح الكرازة بقرب ملكوت الله، ثم الكرازة بدخول ملكوت
الله، أن المسيح كان يربط بين مجيئه الشخصي وظهوره بينهم وبين مجيء ملكوت الله.
فكان التعبير عن الملكوت وقربه والدخول إليه تعبيراً عن الإيمان بالمسيح وقبوله والدخول
معه في شركة. لذلك فشهوة التلاميذ بعد أن يرحل المسيح أن يروا يوماً من أيام ابن
الإنسان، كانت تعبيراً عن رؤية ومعاشرة ملكوت الله عن واقع حي ملموس ومسموع. لذلك
في مرَّة كشف المسيح عمَّا في قلبه من جهة هذا الأمر بالنسبة لخواصه التلاميذ
الذين أحبَّهم وقال لهم: “إن أنبياء وأبراراً كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم
ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا. ولكن طوبى لعيونكم لأنها
تُبصر ولآذانكم لأنها تَسمع!” (مت 13: 17و16). هنا ما رآه التلاميذ وما سمعوه
هو المسيح وهو الملكوت مشتهى كل الأُمم!

ومن
هذا الإحساس المرهف الرقيق المملوء بالانفعالات الإلهية المملوءة حبًّا، انطلق
المسيح يُنبِّئ بمجيئه ثانية على الأرض، وابتدأ يوعِّيهم أن لا يزيِّف أحد لهم هذا
المجيء أنه سريع أو أنه مكاني أو زماني؛ بل هو مجيء كلِّي يملأ الوجود والكيان
والزمان. ووصفه وكأنه البرق يملأ كل الأنحاء في لحظة. كذلك أيضاً يكون ابن الإنسان
في يومه، فلا يستطيع أحد أن يقول هنا أو هناك كما لا يستطيع أحد أن ينكره!

أمَّا
مجيئه فهو للدينونة لتفريق الإنسان البار من الشرير: “اثنان على فراش واحد،
يؤخذ الواحد ويترك الآخر” “اثنتان تطحنان على الرحى، تؤخذ الواحدة وتترك
الأخرى” ثم إذ تمادى التلاميذ في محاولة ابتزاز معرفة أكثر عن أين تكون
الدينونة؟ أعطاهم المسيح مثلاً، إذ ردَّ عليهم: “لأنه حيثما تكون الجثة،
فهناك تجتمع النسور” (مت 28: 24). ومعناها أن الجثة هي التي تجمع النسور
حولها، والشرح
كما سبق وقلناه إمَّا يؤخذ فردياً بمعنى أن جثة الجريمة
يجتمع حولها في الحال ضباط البوليس ذوو نياشين النسور (وهم ضباط الرومان)، أو
الجثة هي الجزء الساقط من كيان الكنيسة الذي ستُعقد عليه الدينونة. فالجزء الذي
سيُخطف ويكون مع المسيح يكون قد عَبَرَ الدينونة. والمعنى أن الدينونة لا تخص
ولا ينبغي أن تسترعي اهتمام أولاد الله.
والذي يؤكِّد هذا المعنى هو قول
المسيح: اثنان على فراش واحد، يؤخذ الواحد فلا يوجد، والآخر يُترك كالجثة تنتظر
النسور الجارحة، كذلك اثنتان على الرحى، تؤخذ
الواحدة فلا توجد، وتترك الأخرى كالجثة تنتظر
الدينونة.

معنى
انتظار مجيء ابن الإنسان بحسب الإنجيل:

انتظار
مجيء المسيح والسهر والاستعداد والصلاة تأخذ جزءاً كبيراً من حيز الإنجيل، ولكن
ليس بمفهوم انتظار مجيئه الثاني الذي هو يفوق المكان والزمان المحدود بساعاته
وأيامه وسنيه، ولكن ينصبُّ بالأكثر على مجيء المسيح في حياة الإنسان، حيث ينتقل
مفهوم الانتظار والسهر بالترقُّب إلى طلب المجيء والشوق إليه والحنين الذي يزداد
بالحب والصلاة والعبادة. وحينئذ يسهل أن نفهم لماذا هذا الإلحاح الشديد جداً على
انتظار العريس وسهر الليل والزيت والمصابيح ومراقبة الساعة في تحركها من المحرس
الأول إلى الأخير برجاء مجيء الرب! إنه انتظار ورجاء اللقيا: متى، ومتى يجيء
وتكتحل عيناي برؤية مَنْ تحبه نفسي؟ من إشعياء سمعنا هذا الحنين والشوق والشهوة
العارمة: “بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضاً بروحي في داخلي إليك أبتكر”
(إش 9: 26). من الليل إلى فجر النهار والشهوة تحرق قلبي متى يأتي وأنظره؟ هذا
التوتر البالغ الحساسية بين شهوة التمنِّي والتمادي في غياب الحبيب، هو محسوب
جزءاً حياً من اللقيا، إذ في كل مرَّة تنتشي النفس وفي توترها البالغ العنف تحس
بالراحة وكأنها رأته. ثم لجوع الروح التي لا تشبع تعود وتكرِّر المحاولة، وكأنها
لم تَرَ مع أنها رأت! فالمسيح المحبوب هو في حقيقته غائب حاضر للنفس التي تبحث
عنه. إذا حضر، نسيت النفس كل دموعها وتوسلاتها؛ وإذا غاب، تنسى حضوره البديع! لا
يمكن أن يغيب المسيح عن مجيئه، كما لا يمكن أن يوجد بالدرجة التي يفكر بها الإنسان
ويتمنَّى، ومهما رأته العين لا تقنع، ومهما أكلت
وشربت تعود إليه جائعة عطشانة. “وأنتم مثل أُناس ينتظرون سيدهم
متى يرجع من العرس (السماوي)، حتى إذا جاء وقرع يفتحون
له للوقت. طوبى
لأولئك العبيد الذين
إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين.. وإن أتى في الهزيع
الثاني أو أتى في الهزيع
الثالث ووجدهم هكذا، فطوبى لأولئك العبيد.. فكونوا أنتم إذاً مستعدين، لأنه في ساعة لا
تظنون يأتي ابن الإنسان.” (لو 12: 36-
40)

فلو
تأمل معي القارئ يجد أن الطوبى كلها في السهر!! وكلما طال طالت الطوبى!! فالمسيح
يرتاح في الساهرين له وكأن نقطة التلاقي في قمة السهر!! ولكن هذا لا يتضمن الزمن
كتحرّك عقارب الساعة، ولكن يحمل مضمون سهر النفس بالشوق الملتهب.

 

92- الأرملة
المظلومة وقاضي الظلم

“أفلا
يُنصف الله مختاريه؟”

أراد
المسيح أن يزكِّي عدله الرحيم لكل بائس ويائس ومظلوم، فأعطى هذه القصة: امرأة
أرملة والأرامل لحوحات لا يطاق لهن إلحاح، لأنهن يتسلَّحن بضعفهن، وسلاحهن المسكنة
ومَنْ يطيق؟ حتى قاضي الظلم الذي اشتهر اسمه في المدينة بهذا الوصف بسبب طبيعته
الظالمة التي لا يفلت من تحتها صاحب حق إلاَّ بشق الأنفس، جاءته بقضية رفعتها على
خصم لها، فأجَّلها، ثم أجَّلها، وهي كل مرة تأتي إلى المحكمة في الفجر وتقف على
بابه مع أن قضيتها مؤجَّلة دائماً إلى آخر الجلسة. ولكن يا ويله في هذه اللحظة
الذي ينادي باسمها: تبتدئ تسرد قضيتها من جديد مع ترافع لا يهدأ، وإذ يدَّعي
الإنصات يكون قد قفل أذنيه وانتظرها حتى تنتهي من كلامها ليؤجِّلها مرَّة أخرى. ولكنه راجع نفسه في هذه القضية، فوجد أنه هو الخاسر
فيها، فقد أتلفت
أعصابه وضايقت نفسه، فقال: إني أنصفها رغماً عن إرادتي،
وأنصفها لئلاَّ تزعجني.

ثم عاد الرب يخاطب تلاميذه: انظروا إلى إلحاح هذه المرأة
كيف حطمت به ظلم القاضي، واغتصبت بإلحاحها حقها من بين يديه. فما بالكم لو كانت
صلاتكم على هذا القياس: “أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً
وهو متمهِّل عليهم؟ أقول لكم إنه ينصفهم سريعاً!!” (لو 18: 7و8). وهكذا كشف
المسيح عن أهمية الإلحاح في الصلاة، ليس لأن الله قاضي ظلم لا يسمع من أول مرة،
ولكن مسرَّة الله كقاضٍ أن يسمع إلحاح مختاريه حتى يعطيهم فوق ما يستحقون. على أن
الإلحاح في الصلاة إلى عدم الملل ينشئ عند الإنسان دالة مع الله وقربى، وإن تمهَّل
فالاستجابة أقوى.

93- ادخلوا
من الباب الضيق- قبل أن يُغلق

أمَّا أن الباب ضيق، فهو ضيق حقا، ولكنه مفتوح الآن.
فاجتهدوا أن تدخلوا فيه قبل أن يُغلق، كل يوم وكل صباح هو فرصة. وطالما توجد مشيئة
ويوجد عزم، فالدخول ممكن، ولكن ماذا يكون بعد أن تصبح الأيام بلا صباح، وتُطلب
مشيئة الإنسان فإذا هي قد وهنت والعزم انحل! إن الباب يُغلق أمامنا هنا ونحن على
الأرض حينما لا يوجد جهد أو اجتهاد، فاجتهدوا طالما كان لكم اجتهاد أن تدخلوا من
الباب الذي يؤدِّي إلى السماء والحياة الدائمة الأبدية. الثمن رخيص الآن، ولكنه
بعد الأوان غالٍ جداً ولا يوجد، حينما يشتهي الإنسان أن يدخل ولا يقدر! والمسيح
الآن يدعو للوليمة وبابه مفتوح، ولكن حينما ينتهي زمان الدعوة ويأتي زمان الوليمة،
يُقفل الباب ولا يُسمع لأحد صوت رجاء ولا صراخ.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى