علم المسيح

57- إرسالية الاثني عشر إلى الجليل



57- إرسالية الاثني عشر إلى الجليل

57- إرسالية الاثني عشر إلى الجليل

بقية
وقت المسيح الذي أمضاه في الجليل خصَّصه لتلاميذه الاثني عشر في التعليم: حينما
اتَّبعوه أينما سار وحيثما علَّم، يشاهدون ويسمعون ويسألون ويتعلَّمون، ومن حين
لآخر كان يسألهم ليطمئن على ما استوعبوه وما تقلَّدوه منه للخدمة. وأخيراً أرسلهم
ليخدموا مع توصيات وتحذيرات للتعليم والتمرُّن وذلك في كل أنحاء الجليل بمدنه
وقراه. أما هم فلم يكونوا بعد على مستوى الكرازة بحقائق الخلاص. فهذه كانت مؤجَّلة
إلى ما بعد الوعد بحلول الروح القدس ونوال قوة من الله للخدمة. على أن المسيح كان
معلِّمهم الوحيد الذي يستقون منه المعرفة ويستلمون تدبيرات العمل. وكان عليهم أن
ينادوا بملكوت الله كمشتهى ما يطلبه الناس، ويشيرون لأهل الجليل نحو معلِّمهم
كمؤسِّس للملكوت الآتي. وكانت خدمتهم هذه تعبِّر عما ينتظرهم من الكرازة في كل
العالم بلا حدود، وذلك حينما يكمُل عمل الملكوت في داخلهم أولاً. وكان عليهم أن
يكتفوا الآن بالكلمة والروح والقوة التي يمنحهم إياها المعلِّم أولاً بأول جزئياً.

ودعا تلاميذه الاثني عشر
وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء أمراض. وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله
ويشفوا المرضى” (لو 9: 1و2). وهكذا يتضح لنا أن المسيح سلَّمهم بالفعل قوة
منحها من ذاته لتكريس نفوسهم وأرواحهم للعمل، إذ نالوا بالفعل قوة من منبع القوة
الإلهية التي له. وهكذا بهذه القوة التي نالوها مجَّاناً من المسيح بدأوا يبذلون
ويخدمون.

58- تعليمات
للاثني عشر من أجل الخدمة

خرج
التلاميذ من لدن المسيح محمَّلين بقوة غير عادية وحرارة وحب وفرح للخدمة، فكانت
خدمتهم ملتهبة ومؤيَّدة بالمعجزات من شفاء أمراض إلى إخراج شياطين. أمَّا التعليم
فقد التزموا فيه بالنداء بالأيام المباركة التي هلَّت عليهم والكشف عن الملكوت
بالآية والمعجزة، الأمر الذي سهَّل على التلاميذ أن يستمع لهم الشعب، إذ كان
التعليم مؤيَّداً بالآيات وأصبح قادراً أن يُشعر الناس بالحياة الجديدة التي
ينادون بها. أمَّا ماهية الملكوت ومعناه وعمله، فتركوه للمسيح الذي سيستعلنه على
العالم، إن بصليبه أو بروحه القدوس:

+
“ثم دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطاناً على أرواح نجسة حتى يخرجوها،
ويشفوا كل مرضٍ وكل ضعفٍ.” (مت 1: 10)

على
أن المسيح قد حدَّد لهم عملهم في دائرة الجليل فقط، واستثنى السامرة من خدمتهم،
وكذلك المدن التابعة للأُمم: “إلى طريق أُمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين
لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. وفيما أنتم ذاهبون
أكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السموات. اشفوا مرضى. طهِّروا برصاً. أقيموا
موتى. أخرجوا شياطين. مجَّاناً أخذتم مجَّاناً أعطوا.” (مت 10: 58)

نعم
كان ينبغي أن يُعرَّف بملكوت الله عند الشعب المختار والمعيَّن للملكوت أولاً قبل
أن يُستعلن للأُمم بواسطة التلاميذ، بعد أن تنفتح بصائرهم وتستضيء قلوبهم بالروح
القدس حتى يضيئوا في ظلمة العالم. وقد حرص المسيح أن يجعل نضجهم الروحي يسير
الهُوَيْنَى مع اتساع فكرهم وقلبهم وسخونة روحهم، ليليقوا بعدئذ أن يقذف بهم في
محيط العالم الواسع بكثافة ظلمته وعثراته. وكان يلزم أن يكونوا على مستوى الإنجيل
لينقلوه كما هو. لذلك حجز المسيح عنهم كل ما يختص بكرازة الأُمم إلى أن يحين
الميعاد ويصيروا قادرين على استيعاب الروح القدس وأعماله.

+”
إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأمَّا
متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق”
(يو 16: 12و13)

على
أن المسيح لم يُعلن لهم حتى الأسباب التي من أجلها حدَّد الكرازة بالجليل فقط، لأن
المسيح ترك أموراً كثيرة يرشدهم إليها الروح القدس عندما يتقدَّمون في الطريق.

أمَّا
على سبيل المثال، لماذا منع المسيح التلاميذ من الذهاب إلى السامرة؟ فواضح في سلوك
ابني زبدي بعد ذلك بمدة حينما رفض السامريون عبور المسيح من أرضهم في ذهابه إلى
أُورشليم، فغضب ابنا زبدي يوحنا ويعقوب أخوه قائلين: “أتريد أن نقول أن تنزل
نار من السماء فتفنيهم..” (لو 54: 9). وهكذا كانت غيرتهم غير مملَّحة بملح
النعمة، وكان المسيح يعلم مقدار محدودية روح التلاميذ التي بكل صعوبة كانت تليق
لخدمة اليهود أولاً.

أمَّا
منعهم من الذهاب إلى الأُمم، فمعروف في الفكر اليهودي أن الأُمم لا يدخلون الإيمان
بالله إلاَّ بعد أن يتهوَّدوا، لذلك كفاهم المسيح هذه التجربة التي دوَّخت ق. بولس
وكنيسة أُورشليم. ولكن من الملاحَظ بشدة أن التلاميذ كانوا آلات طيِّعة للمسيح
بسبب عدم احتكاكهم بأي تعاليم أخرى. فأميَّة التلاميذ هيَّأت لحكمة الروح مكاناً
مكرَّساً أميناً في قلوبهم بعيداً عن المفاهيم والمعلومات الغريبة التي تلوِّث
الحقائق الإلهية، خاصة في الابتداء. فالتلاميذ كانوا أوعية لائقة بالحكمة السماوية
واستيعاب الحق بالقدر الذي يُعلن لهم أولاً بأول.

مزيد
من التعليمات للتلاميذ من أجل الخدمة:

كانت أهم مقوِّمات كارز الملكوت أن لا يحمل من همِّ الدنيا
شيئاً خاصة بالنسبة لترحاله بين البلاد، وبالمقابل يكون الاتكال على الله الذي
يعيِّن ويدبِّر أمور الحياة كلها، وأن يكونوا مكتفين بما يُقدَّم لهم، ويستقروا في
المنزل الذي يقابلهم بسلام، ويمتدوا لخدمة كل ما حواليه. وقد وجدوا بالفعل صدق
معلِّمهم فيما لاقوه وجرَّبوه. وكانوا مسالمين ولم يشتبكوا مع المعارضين في
خدمتهم: “مجَّاناً أخذتم مجَّاناً أعطوا. لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً
في مناطقكم. ولا مزوداً للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا. لأن الفاعل مستحق
طعامه” (مت 10: 810)، “وأية مدينة أو قرية دخلتموها فافحصوا
مَنْ فيها مستحق، وأقيموا هناك حتى تخرجوا. وحين تدخلون البيت سلِّموا عليه، فإن
كان البيت مستحقاً فليأتِ سلامكم عليه، ولكن إن لم يكن مستحقاً فليرجع سلامكم
إليكم.” (مت 10: 1113)

 

59- أخبار
أعمال المسيح تنتشر بين الناس

قليلٌ
مَنْ أدرك أن المسيح مسيَّا حقا. والكثيرون ارتابوا، إذ ربطوا بين مجيء المسيَّا
وقيام مملكة داود للمحاربة، فعثروا في المسيح. والبعض ظنَّ أن روح المعمدان قد
ظهرت من جديد بعد قتله وأنه هو الذي يعمل هذه الآيات، ووصلت هيرودس هذه الظنون
فأقلقته لأنه هو الذي قتل المعمدان ظلماً وبلا رحمة: “فقال هيرودس: يوحنا أنا
قطعت رأسه. فمَنْ هو هذا الذي أسمع عنه مثل هذا؟ وكان يطلب أن يراه” (لو 9: 9)، وكان يقول: “هذا هو يوحنا المعمدان قد
قام من الأموات، ولذلك
تُعمل به القوات”
(مت 2: 14). وآخرون قالوا إنه إيليا أو واحد من الأنبياء قد ظهر ليعدَّ لمملكة
المسيَّا. والواضح أن الفكر العام كان يرى في أعمال المسيح شيئاً أعظم من يوحنا،
ولكن كان الكل غير مستقر على
رأي.

60- عودة
الاثني عشر وإشباع الجموع من خمس خبزات وسمكتين

الآن
يكون المسيح قد أمضى سنة كاملة في الجليل، وقد اقترب ميعاد الفصح وعاد التلاميذ من
إرساليتهم، والجموع لا تزال تتقاطر على المسيح بُغْيَةَ الشفاء وسماع الكلام
والتعليم. وابتدأت جماعات الحج في القدس إلى أُورشليم تتألَّف وتتزايد، ولكن
المسيح رأى أن لا يعرِّض نفسه للمقاومات في أُورشليم كما حدث سابقاً، ففكَّر إلى
حين أن يستمر في خدمته في الجليل وتعليمه للرسل، الذي كان همّه الأول أن يعدّهم
للخدمة من بعده، وكان يبحث عن مكان هادئ يجتمع فيه بهم ليسمع أخبار رحلاتهم التي
قاموا بها، ويعطيهم تعليم المستقبل الذي لاح قريباً: “واجتمع الرسل إلى يسوع
وأخبروه بكل شيء. كل ما فعلوا وكل ما عملوا. فقال لهم: تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلاً. لأن القادمين والذاهبين
كانوا كثيرين، ولم تتيسَّر
لهم فرصة
للأكل. فمضوا في السفينة إلى موضع خلاء منفردين.” (مر 6:
30-32)

فأقلعوا
من ساحل كفرناحوم من شاطئ جنيسارت إلى الشمال على سهول الجبال بالقرب من بيت صيدا
يولياس (بيت صيدا الأخرى هي على الشاطئ الشرقي).

ولكن
كان الشعب يرصد تحركاتهم، فحالما رأوا السفينة تبحر باتجاه بيت صيدا يولياس تبعوهم
مسرعين.

وهكذا
تجمَّعوا حوله وأمضوا اليوم كله حضوراً أمامه وهو يعلِّمهم ويتلاطف معهم، وقبل أن
يمسي عليهم اليوم رأى يسوع ضرورة إطعامهم وتلاميذه معهم أيضاً. وكانت معجزة الخمس
خبزات والسمكتين اللاتي وُجدت مع صبي دسَّتها أُمه في مخلته لعلَّه يأكل مع أحد
أصدقائه. وكانت هذه المعجزة قمة ما صنع المسيح من معجزات، لأن فيها عنصر التخليق
واضح مشتبكاً مع عنصر البركة والشكر، غير أن عنصر التخليق ليس بصورته المادية
الصرف حيث يخلق الله من لا شيء، بل هنا امتداد بالموجود ليغزو حدود العدد والكمية
والمعقول. فالمادة دخلها عنصر سماوي جعلها تتحدَّى الأعداد والكميات، وبثَّ فيها
عنصر الشبع وترك الفائض ليشهد على الصانع. بل ونلمح عنصراً آخر هو عنصر التحويل،
هذا ألمح عنه المسيح بصورة سرِّية عندما تقابل مع هؤلاء القوم لمَّا سعوا وراءه
بعد هذه المعجزة. فابتدرهم بالقول الكاشف لضعف فهمهم لِمَا حدث، إذ حسبوه خبز جسد
وهو خبز روح: “الحق الحق أقول لكم: أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات، بل
لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة
الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان، لأن هذا الله الآب قد ختمه” (يو 6: 26و27).
فهنا ألمح المسيح أنها كانت آية أكثر منها خبزاً للشبع، وأنها خبز باقي للحياة
الأبدية وليس خبزاً بائداً. ثم استعلن قليلاً السر الذي يربط هذا الخبز الباقي
للحياةالأبدية بشخصه إذ قال: “الذي يعطيكم ابن الإنسان. لأن هذا الله الآب قد
ختمه” حيث بعد قليل سيستعلن نفسه في الخبز استعلاناً إلهياً فائقاً للغاية
حينما يقول: “أنا هو خبز الحياة.. أنا هو الخبز النازل من السماء” (يو
6: 48و50)، “أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز
يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة
العالم.” (يو 51: 6)

وهكذا
وبهذا يكون المسيح قد كشف عن عنصر التحوُّل العجيب، أن الخبز كان بالسر هو: “جسد المسيح المكسور
لأجلنا”، لذلك كل مَنْ يأكل منه يحيا
إلى الأبد، لأنه يأكل جسد الفدية التي فدى المسيح بها الإنسان من خطية ومن
موت!

ولكن أكثر ما يدهش القارئ ويفرِّحه بآن واحد، أن المسيح لم
يترك لنا
معجزة
نعيش بها إلاَّ هذه المعجزة، نصنعها كلما اجتمعنا باسمه وكسرنا الخبز! يحضر في
الوسط ويكسر بيده ويعطي الآكلين السر. وبهذا يحوِّل لنا الحياة الحاضرة إلى الحياة
الأبدية من وراء المادة خلسة ومن وراء العالم. والمنظر “أَكْلٌ” ولكن
ليس لشبع الجسد، بل للامتداد إلى فوق لتذوُّق الحياة الأبدية كالعربون.

ومن
روائع هذه القصة الممتعة للروح أن التلاميذ في البداية أنكروا على الشعب هذا النوع
العالي من الأكل، فقالوا بأن يذهبوا إلى الحقول المحيطة والقرى ليجدوا ما يأكلون،
ولكن المسيح رأى غير ذلك، إذ رأى القوم في حاجة إلى أكل آخر لا يعرفه التلاميذ،
ولكن يلزم أن يعرفوه. فالقوم الذين سمعوا له ثم سعوا وراءه حول البحيرة لاهثين
ناسين أكلهم وشبعهم، كانوا يطلبون شيئاً آخر غير الطعام، ولو أنهم كانوا يجهلونه.
ولكن المسيح عرفه في الحال، فوفَّره لهم وأطعمهم إياه، لكي تنفتح أعينهم فيما بعد
مع التلاميذ ومعنا لندرك هذا الخبز الحقيقي الذي نطلبه بدموع ولا يستطيع أن
يوفِّره لنا العالم. صحيح أن الجموع لم تدرك قيمة الخبز كما هو بالسر، ولكن أدركوا
المسيح أنه يتحتَّم أن يكون ملكاً على الأقل ليعطيهم هذا الخبز كل حين ولو لم
يعرفوه، لأن الخبز أثَّر في نفوسهم ولا يعلمون كيف! لقد أدركوا بحسِّهم الروحي أنه
المسيَّا ويتحتَّم عليهم أن يعلنوه للعالم، ولكن لم تكن هذه الخطة البشرية داخلة
في خطة الصليب، فتركهم وذهب ليصلِّي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى