علم المسيح

36- التطويبات



36- التطويبات

36- التطويبات

ثمانية
تطويبات والتاسعة جزاءٌ للتعيير والطرد والشتيمة

[كان الفقراء والمساكين والحزانى أقرب الناس إلى قلب
المسيح، لأنهم
كانوا أكثر الناس احتياجاً إليه وإلى العزاء.] بابيني([1])

أبسط
تعليم يمكن أن نستخلصه من مجموعة التطويبات بحسب إنجيل ق. لوقا أنها مسألة موازنة
بين ميراث أرضي وميراث سماوي. فكل المؤمنين بالمسيح الذين حرمهم العالم والبشرية
الظالمة وجحود الرؤساء والحكومات من حق ميراثهم في الأرض
من راحة وسعادة وإقامة وأمان وهناء وعدل
وسلام
يعطيهم
المسيح مجاناً ميراثاً عنده في ملكوت الله!!
هذا بحسب إنجيل ق. لوقا.

ولكن
ق. متى يزيد على المحرومين من ميراث الأرض والعالم المؤمنين أيضاً بالمسيح
الودعاء والرحماء وأنقياء القلب وصانعي السلام. فمنطقياً وبحسب قياس ما جاء في
تطويب المحرومين، يكون هؤلاء المؤمنين أيضاً لهم نصيب في الميراث السماوي، لأنهم
كانوا عوامل إسعاد وفرح وراحة وسلام لإخوتهم المحرومين.

كذلك
فإن ق. متى أضاف على “طوبى للمساكين” عند ق. لوقا إضافة أخرجتها من معنى
الحرمان المادي حينما قال: “طوبى للمساكين بالروح” كذلك أضاف
“للجيَّاع والعطاش” ما أخرجهم عن فئة المحرومين مادياً إذ قال:
“الجيَّاع والعطاش إلى البر” وأدخل هؤلاء وأولئك في عداد
الأتقياء، ولكن ليس بالعمل بل بالإيمان بالمسيح والرجاء فيه فقط.

وهنا
في حالة التطويبات كما جاءت في إنجيل ق. متى بهذا الوضع الجديد، إنما تهدف إلى
تقديم صفات كأنها مطلوبة في المسيحية من شأن أصحابها أنهم يرثون ملكوت السموات.
فالفارق في تطويبات ق. لوقا واضح أنه للتعويض عن حرمان مما على الأرض بسبب مظالم
الناس وجحودهم، ولكن باحتساب المسيح كوسيط. أمَّا التطويبات عند ق. متى فهي صفات
وفضائل في المسيح تورِّث الملكوت. ولكن بالنهاية فإن الفئتين ترثان ملكوت الله عن
طريق المسيح بالإيمان والحب.

فالتطويبات
عند ق. لوقا يمكن التعبير عنها كما جاء في المزمور: “الذاهب ذهاباً بالبكاء
حاملاً مِبْذَرَ الزرع مجيئاً يجيءُ بالترنُّم حاملاً حزمه” (مز 6: 126)(
[2]). وهذا الاتجاه أصيل جداً في
تعاليم المسيح، ولكن على أساس” في المسيح يسوع”. لأن عظة الجبل برمتها
تُحسب إعداداً للملكوت على أساس المسيح كوسيط، وهي تعبِّر بالفعل عن ملكوت
الله في المسيح.

والتطويبات([3]) هي التي ابتدأ بها المسيح
العظة على الجبل، وعددها بحسب اعتبار مقصد المسيح للحالة الداخلية سبعة عند ق.
متى، ولكن إذا أضفنا إليها تطويب الذين يُضطهدون من أجل البر ومن أجل المسيح يصير
عدد التطويبات تسعة.

أمَّا
من حيث التطويبات عامة فعددها كثير ويليق بنا هنا أن نجمعها معاً، فهي جزءٌ لا
يتجزَّأ من فكرة العظة على الجبل:

+
“طوبى لعيونكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع.” (مت 16: 13)

+
“طوبى لك يا سمعان بن يُونَا، إنَّ لحماً ودماً لم يُعْلِن لك، لكن أبي الذي
في السموات.” (مت 17: 16)

+
“طوبى لمَنْ لا يعثر فيَّ.” (مت 6: 11)

+ “طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا
(يعطيهم طعامهم في حينه).” (مت 46: 24)

+
“طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه.” (لو 28: 11)

+
“طوبى للذين آمنوا ولم يروا.” (يو 29: 20)

وبينما
نجد إنجيل ق. متى يحتوي على 13 طوبى، نجد إنجيل ق. مرقس لا يحوي شيئاً منها.

ونحن
إذا عدنا إلى كتاب المزامير نجده يفتتح المزامير أيضاً هكذا، إذ يضع التطويبات
وبعدها الويلات على النمط الذي اتخذه المسيح في التطويبات على أنها تحمل نفس رنة
المزامير:

+
“طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي
مجلس المستهزئين لم يجلس، لكن في ناموس الرب مسرَّته، وفي ناموسه يلهج نهاراً
وليلاً. فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا
يذبل. وكل ما يصنعه ينجح. ليس كذلك الأشرار..” (مز 1: 14)

والقديس
أمبروسيوس يرى أن عدد التطويبات في إنجيل ق. متى ثمانية فقط، ويصف أسلوبها
ونغماتها بثمانية أجراس ذات أصوات متعدِّدة ولكن منسجمة في لحن واحد(
[4]).

والثمانية
تطويبات لا تصوِّر ثماني درجات للمختارين، ولكن ثماني مسرَّات وتطويبات مجتمعة
معاً في واحد هو قائلها. فالمسكين بالروح هو بلا شك وديع، وصانعو السلام هم رحماء،
والذين يجوعون ويعطشون إلى الملكوت يكشف جوعهم وعطشهم عن قلب نقي بلا جدال.
والمضطهدون من أجل البر هم باكون حتماً وحزانى، وبالنهاية يتعزّون بالضرورة.

وهكذا
الثماني تطويبات تكمِّل الكمال المسيحي في صور متعدِّدة ولكن متداخلة، وكأنها تنبع
من مصدر واحد هو الروح الذي يوزِّعها. ولا شيء يماثلها على الإطلاق في العبادة
اليهودية ولا الفلسفة الأُممية.

ولا
يعدم السامع من أن يكتشف رنة الألوهة والملوكية تسري فيها جميعاً كملك يوزِّع
الهدايا على رعيته مجَّاناً، وكإله يمنح بركاته بسرور على عبيده المتطلِّعين إليه
في شوق وسعادة وفرح غامر كأنهم في العيد، وكلهم تغمرهم فرحة مع عدم تصديق، لأنه
يُلقي في حجرهم بلا حساب كنوزاً لا يستحقونها. لقد تعوَّدت الآذان على سماع طوبى
للذين يحسنون على الفقراء، ولكن لم يُسمع قط أن “طوبى للفقراء”! كما
قالها ق. لوقا حرفياً!! قد يُطلب منَّا أن نبكي على حالنا، ولكن أن يُقال لنا طوبى
للباكين، فهذا أمر جديد غير مصدَّق. ولكن كما سبق ونبَّهنا، فإن السر الأعظم يبقى
في قائلها وهو المسيح الذي جاء ليحمل كل هؤلاء على كتفه ويدخل بهم السعادة
الأبدية: “لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة” (مت 13: 9)،
“محب للعشَّارين والخطاة” (مت 19: 11)، ويأكل معهم. “حينئذ غضب رب
البيت (الذي صنع الوليمة) وقال لعبده: اخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة (والعشوائيات)
وأزقَّتها، وأَدخِل إلى هنا المساكين والجُدْعَ والعرج والعمي، فقال العبد: يا
سيد، قد صار كما أمرت، ويوجد أيضاً مكان. فقال السيد للعبد: اخرج إلى الطرق
والسياجات (المطرودين خارج المدن) وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي.
(لو 14: 2123)

أيها القارئ العزيز هذه هي صورة الملكوت، وهذه هي وليمة
الملكوت بعينها!

فالفقير
والباكي والوديع بدون المسيح ينال نصيبه بجهاده، ولكن مع المسيح فالملكوت هو
نصيبه. لذلك فالتطويبات تلقي الضوء الكافي والكاشف لموضوع العظة كله، لأن العظة لا
تخص الذين يريدون أن يدخلوا ملكوت الله، بل القائمين فيه والمعيَّنين له على أساس
أن المسيح معهم وفيهم، فالمسيح جاء ورسالته أمامه، فقد سُمِّي من البطن
عمانوئيل أي الله معنا، فإن صار الله معنا فنحن في الملكوت. كان في القديم إذا
حلَّ الله في وسط الجماعة تتقدَّس الجماعة وتصير شعب الله. هكذا صارت البشرية التي
تطلب وجه الله في شخص يسوع المسيح، فالمسيح يحل في وسطها فتصبح جماعة الله، ملكوت
الله، الكنيسة، جسده! هكذا فالمسيح يرتاح في المساكين بالروح وفي الجياع والعطاش
إلى البر الآتين إليه، والمسيح لا يطلب منهم شيئاً ولكن يبشِّرهم أنهم صاروا من
خاصته.

ما
هو قصد المسيح من هذه العظة وهذه الأقوال العجيبة؟

الشعب
اليهودي مُعثَر في الله، والمعلِّمون استخدموا وصاياه وناموسه ليزيدوا الشعب همًّا
على همّه وقلقاً على قلقه وبؤساً على بؤسه. المسيح جاء ليكشف لهم قلب الله المحب
والرحيم، ويكشف عن الوجه الحقيقي للناموس أنه وُضع ليمسك أصلاً بيد الإنسان ليعبر
به من الظلمة إلى النور، فتعثَّر على أيدي المعلِّمين وعاش الشعب في ظلمة وخوف
وموت معاً. المسيح جاء ليقنع الشعب بأن الله غني، وغني جداً، لا يريد منهم شيئاً
ولا يطلب منهم شيئاً، إنما جاء ليعطيهم عطايا كانوا يتمنونها ولكن كانت كالخيال،
بعيدة بُعد السماء. المسيح جاء وحقَّق لهم بركات السماء وهُم على الأرض.

الطوبى
الأُولى: ” طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات”:

+
“لأنه هكذا قال العاليُّ المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه: في الموضع المرتفع
المقدَّس أسكن ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأُحيي روح المتواضعين ولأُحيي قلب
المنسحقين.” (إش 15: 57)

الله
هنا حاضر!! وبدون الله لا قيمة لأي شيء.

+
“ترنَّمي أيتها السموات وابتهجي أيتها الأرض، لتُشِد الجبال بالترنم، لأن الرب
قد عزَّى شعبه
وعلى بائسيه يترحَّم.” (إش 13: 49)

هذا
قاله النبي قديماً وهذا هو التحقيق من نفس أقوال النبي: “روح السيد الرب
عليَّ، لأن الرب مسحني لأُبشِّر المساكين..” (إش 1: 61). وأمَّا
المسيح الذي قال هذا هو نفسه أكمل القول: “اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في
مسامعكم.” (لو 21: 4)

أمَّا
الفقراء والباكون والمساكين في المسيح فليس لهم انتظار في الأرض ينتظرونه، ولكن
ينتظرون ما لله في المسيح “إليك رفعت عينيَّ” (مز 1: 123). وقد ألقوا
بأنفسهم على القدير وصرخوا: “حقِّي عند الرب” (إش 4: 49)، هم شحَّاذو
الله، مطرودو العالم والمدن والأحياء النظيفة، فقدوا كل عزاء على الأرض، باكون ولا
يمسح أحد دمعتهم(
[5]).

كان
منظر المسيح وهو جالس وسط العشَّارين والخطاة على مائدة زكَّا، صورة لهذا الملكوت.
وعودة الابن الضال إلى أبيه والأب فارد ذراعيه مرحِّباً، كان أيضاً صورة للملكوت(
[6]).

ولكن
يعطينا العالِم هيدلام(
[7]) معنى أكثر روحانية لكلمة
“المساكين”:

إن
كلمة “المساكين” هي اللقب السائد في العهد القديم الخاص بالمتدينين
والأتقياء الضعفاء: “قم يا رب. يا الله ارفع يدك لا تنسَ المساكين، لماذا
أهان الشريرُ الله.. إليك يسلِّم المسكين أمره.. احطم ذراع الفاجر..” (مز 10:
1215). واضح هنا أن المسكين هو الرجل التقي الذي يخاف الله بعكس
الشرير الذي لا يخاف الله. ومعروف أن في المزامير نغمة مبتكرة مؤدَّاها أن الله لا
ينسى المسكين، وأن الرب ملجأ للمسكين (انظر: مز 6: 14)، “أمَّا أنا فمسكين
وبائس. الرب يهتم بي. عوني ومنقذي أنت يا إلهي لا تبطئ.” (مز 17: 40)

أمَّا
الشرير فهو عدو المسكين، والعداوة هنا تأتي بسبب بُعد الأول عن الله وقرب الثاني
منه: “يكمن في المختفى كأسد.. يكمن ليخطف المسكين. يخطف المسكين يجذبه في
شبكته. فتنسحق وتنحني وتسقط المساكين في براثنه..” (مز 10: 9و10)

لذلك
فالمساكين إنما كلمة تعبِّر عن مجموعة الأشخاص الفقراء الذين تمسَّكوا بالله في
مقابل
الأغنياء المتسلِّطين والأشرار. المساكين مسرَّتهم كلها في اتِّقاء
الله
وصنع ما يرضيه، وتمسُّكهم بالله كحصن لهم أمام اضطهاد الأشرار
والمتسلِّطين عليهم ظلماً. ففي العهد القديم كانت كلمة الأتقياء
“حسيديم” تعني فئة خاصة من الناس متمسِّكين بالله، ومنهم الفقراء أي
المساكين، ومنهم أيضاً الذين انحرفوا فصار منهم الفرِّيسيُّون.

لذلك
يؤكِّد العالِم هيدلام أن المساكين هم الذين تخلُّوا عن الغِنَى والممتلكات
الأرضية وفضَّلوا الغِنَى السماوي. فهم فقراء بإرادتهم بسبب التقوى والتمسُّك
بالسمائيات.
وهم بطبيعتهم متواضعون. وهم الذين يجوعون ويعطشون من أجل البر.
وهم أمناء ومخلصون بقلوبهم لوصايا الله. قادرون أن يحتملوا الاضطهاد والفقر والجوع
من أجل الله حتى الموت.

لذلك
يسميهم القديس متى في إنجيله: ” المساكين بالروح”، وهي التسمية
الصحيحة التي تكشف عن واقعهم الحقيقي المتميِّز عن مجرَّد الفقراء والمساكين
البعداء عن الله والتقوى. فنظرة ق. متى نظرة تَمُتُّ إلى التراث اليهودي التقليدي
في العهد القديم. أمَّا ق. لوقا فلم يذكر “بالروح” بل المساكين فقط وهذا تعبير عن مساكين الأرض. وكلا النظرتين تدخلان
في نصيب ملكوت
الله. هؤلاء من أجل
تقواهم، وهؤلاء من أجل حرمانهم، ولكن هذا وذاك في
المسيح.

الطوبى
الثانية: ” طوبى للحزانى، لأنهم يتعزَّوْن”:

حتى
الباكون الذين كانوا يُحسبون عالة على الأخلاق الصلبة والسوية، فتح المسيح أحضانه
لهم، ناداهم لا تيأسوا ابكوا لا تخافوا، ابكوا لأني سمعت بكاءكم وفتحت لكم أبواب
مملكتي السمائية. ودموعكم هي التي أحدرتني من السماء، فجئت لآخذكم عندي. طوبى
للباكين الآن، لأنهم يتعزون في الملكوت؛ ولكن ليس الذين يبكون موتاهم أو أموالهم
أو حظوظهم، بل الذين يبكون من أجل الجوع إلى الله ومن أجل الرحمة ومن أجل البر
والقداسة، لشعورهم بالعجز والضعف والتقصير. فدموعهم هي قربانهم المقبول ولا يريد
المسيح معها شيئاً. ولكن لا فقر الفقراء ولا دموع الباكين أهَّلتهم للملكوت، بل
المسيح الذي من أجله افتقروا ومن أجله ذهبوا يبكون.

الطوبى الثالثة: ” طوبى للودعاء، لأنهم يرثون
الأرض”:

+”
تعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت 29: 11)

أمَّا
تطويب الودعاء، فأحاله المسيح على النصيب المذكور في المزامير(
[8]) أنهم يرثون الأرض (انظر: مز
11: 37)، باعتبار أن الأرض بمفهوم الملكوت هي أرض الميعاد الحقيقية بمفهومها
الأُخروي: “الأرض الجديدة” التي يسكن فيها البر، والتي هرب منها الحزن
والكآبة والتنهُّد في نور القديسين. والودعاء لا يمكن تفريقهم عن المساكين أو
الفقراء بالروح، إلاَّ أن المساكين بالروح قد بلغوا درجة العدم في الحرمان؛ أمَّا
الودعاء فلا يزال رصيدهم في الدنيا كبيراً يعطيهم القدرة على العمل والتملُّك،
ولكن لحساب الملكوت.

الطوبى
الرابعة: ” طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يشبعون”:

+” ومَنْ أكلني عاد إليَّ جائعاً” (ابن سيراخ 29:
24)

+” إن عطش
أحد فليقبل إليَّ ويشرب” (يو 37: 7)

الذي
يجوع إلى الخبز ولا يجده يهزل وربما يموت، هذا حال مَنْ يجوعون ويعطشون إلى
المسيح، فهو معيار الملكوت الذي لنا به علاقة وحقوق. وكما لا يمنع الأب الخبز عن
أولاده، يفعل الله كذلك، فالجوع إلى الله يقلق الله إن لم يملأه. فالشبع المادي من
الخبز هيِّن على الموسرين، والشبع الروحي لله أهون لأن الله غنيٌّ حقا:
“فمَنْ منكم، وهو أب، يسأله ابنه خبزاً، أفيعطيه حجراً؟.. فإن كنتم وأنتم
أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا (جسدية) جيدة، فكم بالحري الآب الذي من
السماء، يعطي الروح القدس للذين يسألونه” (لو 11: 1113).
ومن هذا التصريح الخطير نفهم بالحري أن الجياع والعطاش إلى البر يعطيهم الله الروح
القدس حتى الشِّبَع. مجداً لله!! نعم طوبى للجياع، وألف طوبى للعطاش. يا رب أعطنا
الجوع إليك والعطش لروحك!!

جاع
إشعياء لله جداً ذات مساء وبقي جوعه يطوي عليه نفسه حتى الصباح فأخذ يقول:
“بنفسي اشتهيتك في الليل. أيضاً بروحي في داخلي إليك أبتكر!” (إش 9:
26). ولكن منذ متى شبع أحد من الله، ومنذ متى ارتوى به إنسان؟ فيقول في سفر
الحكمة: “مَنْ أكلني عاد إليَّ جائعاً ومَنْ شربني عاد ظامئاً” (ابن
سيراخ 29: 24). لأن البر والحب ولطف الله يلهب قلب كل مَنْ أكل منه فيطلب المزيد، وروحه تؤجِّج النفس
بالعطش طلباً لمزيد: “أفغِر فاك فأملأه!” (مز 10: 81)

فالعظة
على الجبل تكشف عن مشيئة الله؛ كيف نحتال عليها بفقرنا، ونجتذبها بجوعنا، ونستولي
عليها بعويلنا، وروحه رهن العطاش!

الطوبى
الخامسة: ” طوبى للرحماء، لأنهم يرحمون”:

ما
أقسى الإنسان على أخيه الإنسان، سمعناها ونحن أطفال ووعيناها ونحن رجال واكتوينا
بها ونحن شيوخ!! ما أغلى هذه السلعة “الرحمة” في عالم الإنسان، وما
أندرها عند الرؤساء والمتولِّين! فلمَّا عزَّت الرحمة بين الإنسان والإنسان ولم
تجد رحمة الله لها مكاناً تستريح فيه بين الناس، وضع المسيح قانونها الذي حتَّمه
تحتيماً كما بقسم، أنَّ الذي لا يرحم أخاه لن يذوق من رحمة الله! وعليك أيها
القارئ العزيز أن تنتبه للمعنى، فالمعنى خصب وعميق، إذ هو يعني أننا نحن نستدر
رحمة الله علينا لو بادرنا برحمة الفقير والمسكين والضعيف والمظلوم.

فإذا اشتكينا أننا مظلومون، فالشكوى مردودة علينا بشكوى
أننا ظلمنا الآخرين؟

وإن عزَّت رحمة الله علينا فلأنها كانت شحيحة في قلوبنا،
وبالكيل الذي تكيلون به يُكال لكم ويُزاد.

بهذا
لا يتعجَّب القارئ أن ملكوت الله يُرحِّب بالذي جعل الرحمة طبعه ولذَّته وعمله
وهوايته، لأن هذه هي طبيعة الله! فإن كان العالم يحتاج إلى الدرجة القصوى في كل
شيء إلاَّ أن حاجته إلى الرحمة قد فاقت كل حاجة. فالرجال صاروا قساة حتى على
أطفالهم، والنساء فقدن حنانهن حتى على بناتهن! فمن أين نطلب رحمة الله وعلى مَنْ
يسكبها الله؟!

الطوبى
السادسة: ” طوبى لأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله”:

+”
مَنْ يصعد إلى جبل الرب ومَنْ يقوم في موضع قدسه؟ الطاهر اليدين والنقي
القلب”

(مز 24: 3و4)

وكأنها
النتيجة الحتمية لمجموع التطويبات الخمسة السابقة. وبهذه الصفة ليس فقط يكون لهم
ملكوت السموات، بل ويعاينون الله.

رآها
داود أنها سر معاينة الله = نقاوة القلب! على مستوى الصعود إلى ملكوت الله!

+
“مَنْ يصعد إلى جبل الرب ومَنْ يقوم في موضع قدسه؟ الطاهر اليدين والنقي
القلب
.. يحمل بركة من عند الرب وبرًّا من إله خلاصه.” (مز 24: 35)

الله
يُرَى ويُحَسّ ويُحَبّ بالقلب، فالقلب إذا تصفَّى من شوائب العالم ومعاثر الجسد
يصير كالبلورة الشفافة النقية، مَنْ حدَّق فيها يرى صورة الله. فالعجيب أن نقي
القلب ليس هو فقط الذي يعاين الله، بل يُرَى الله من خلاله ومن أحاسيس قلبه! كان
أقسى توبيخ يوبِّخ الله به الذين لا يشعرون به ولا يفهمون مقاصده، أنهم غلاظ
القلوب. فغليظ القلب هو معتم القلب لا يُرى فيه إلاَّ السواد، ولا يُرى به إلاَّ
ما تعكسه عليه الدنيا وأطماعه وشهواته.

القلب
النقي صفحة واحدة بيضاء شفافة تُرى عليها انعكاسات مضيئة من الإنجيل ومن أعاجيب
أعمال الله ونور وجه المسيح! لأن القلب النقي يرصد وجه الله: “وهم (أنقياء
القلب) سينظرون وجهه واسمه على جباههم” (رؤ 4: 22)، “أيها الأحباء، الآن
نحن أولاد الله، ولم يُظْهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أُظهِرَ نكون
مثله، لأننا سنراه كما هو.” (1يو 2: 3)

وقديماً
قال القديس إيرينيئوس: [إن رؤية الله تورِّث عدم الموت](
[9])، إنها تتم هنا لنأخذ عربون
عدم الموت؛ أمَّا هناك فتكون هي سعادة الأبد أو “طوبى الملكوت”

قلباً نقياً اخلق فيَّ يا
الله!” (مز 10: 51)، هكذا هتف داود من شدَّة شوق قلبه لرؤية الله وهو يرتد كل
مرَّة فيصرخ: “قلباً نقياً اخلق فيَّ يا الله” كان يستحيل على قلب
الإنسان أن يصل إلى النقاوة التي يرى بها الله أيام موسى النبي: “لأن الإنسان
لا يراني ويعيش” (خر 20: 33)، إلى أن دفع
الابن الوحيد ضريبة الموت من أجل الإنسان. إذن، فالقلب النقي مهما كانت نقاوته
فبدون
المسيح يستحيل أن يعاين الله.
وهذا هو استعلان الملكوت، أن يكون للإنسان قلب نقي ويرى الله ولا يموت!!

الطوبى
السابعة: ” طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدْعَوْن”:

علامة
بني الملكوت:

+”
اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها
لن يرى أحد الرب”
(عب 14: 12)

في
الرسالة إلى العبرانيين (14: 12) يجمع بولس الرسول السلام مع القداسة كمدخل لرؤية
الله: كل فعل منهما مختص بنوعيته، فالسلام مع جميع الناس والقداسة لله، لأن
القداسة وحدها تحتاج إلى شهادة الآخرين (1تي 7: 3). فالسلام أولاً مع الناس يعطي
للقداسة انطلاقها بلا عائق، لأن السلام مع الناس بمثابة إخلاء طريق الإنسان إلى
الله من العوائق. ويؤيِّد ذلك: “إن قدَّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكَّرت
أن لأخيك شيئاً عليك. فاترك هناك قربانك قدَّام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك،
وحينئذ تعال وقدِّم قربانك” (مت 5: 23و24). فالسلام مع الناس بمثابة إخلاء
طرف الإنسان من العالم، حتى يُقْبَل لدى الله. على أن القداسة لا يمكن أن نضحِّي
بها في سبيل السلام، فالسلام مع الناس خادم القداسة ويبرِّرها لتصلح أن تقدِّمنا
كأولاد لله.

المسيح
يُدعى رئيس السلام، لذلك فصانع السلام يمت بصلة سرِّية لرئيس السلام، وملكوت الله
الذي جاء ليؤسِّسه المسيح هو ملكوت السلام. فواضح أن صانعي السلام يعملون لحساب
الملكوت ويؤسِّسون مع المسيح ملكوته بين الناس. لذلك فقد صارت لهم هذه الطوبى أن
يُدعوْا أبناء الله أو أبناء الملكوت: “انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى
نُدعى أولاد الله. من أجل هذا لا يعرفنا العالم لأنه لا يعرفه” (1يو 1: 3).
جاء المسيح رئيساً للسلام، وأبغضه العالم لأنه ليس من العالم، لذلك كل مَنْ يصنع
السلام لا يعرفه العالم ويبغضه العالم: “إن كان العالم يبغضكم، فاعلموا أنه
قد أبغضني قبلكم” (يو 18: 15). والبنوَّة لله نلناها بالإيمان بابن الله
لمَّا قبلناه: “أمَّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد
الله” (يو 12: 1)، “الذين.. وُلدوا من الله” (يو 13: 1). فهنا سر
صنع السلام راجع لأنهم مولودون من الله، أبناء الله، أي لأنهم أبناء الله فهم
يصنعون السلام، أو يصنعون السلام لأنهم أبناء الله يُدعوْن.

ولكن
صنع السلام لا يهيِّئ الإنسان أن يصير ابناً لله، بل عندما يصير الإنسان ابناً لله
فهو يصنع السلام. فالطوبى هنا معقودة على أولاد الله فهم وحدهم الذين يصنعون
السلام.

وإذا
عدنا إلى أساس سر الطوبى كلها نجد سرها” في المسيح”، فالطوبى
“في المسيح” وسبق أن أوضحنا أن المسيح هو الذي أعطانا السلطان أن نصير
أولاد الله (صفحة 194) إذن، فطوبى
لصانعي السلام هذا “في المسيح” وهم أولاد الله يدعون هذا لأنهم “في
المسيح” فالمسيح بهذه الطوبى السابقة يعلن عن حقيقة الملكوت والمسيح الذي
أسَّسه.

وهكذا
في هذه التطويبات السبع يكون المسيح قد أعطى صورة الملكوت قائمة في الإنسان المسيحي الكامل. إن كان للمسكين بالروح، أو الباكي
من أجل الله، أو الوديع لحساب الله، أو
الجائع
أو العطشان إلى الله، أو الرحيم برحمة الله، أو النقي القلب الذي يرى الله، أو
صانع السلام
كابنٍ لله!

الطوبى الثامنة: ” طوبى للمطرودين من أجل البر، لأن لهم
ملكوت السموات”:

+
والعالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم” (يو 14:
17)

وهي
الأخيرة في التطويبات!

هنا ينبري العالم لمناوأة أصحاب الطوبى بكل أنواعها، لأنها
غير معروفة ولا مقبولة للعالم، لأن
حامل الطوبى هو لحساب
الله، ولكن العالم لا يعمل لحساب الله، “فالعالم لم يعرف الله” (انظر:
يو
25: 17)، وكل مَنْ هو ليس من هذا
العالم يبغضه العالم. لقد أبغض العالم المسيحَ وهو يبغض كل مَنْ هو
للمسيح.

هنا
اكتسب المسيح للإنسان المسيحي “إنسان الملكوت” طوبى جديدة ليست نابعة من
داخله، ولكنها شاهدة له. فإزاء اضطهاد العالم وبغضته لإنسان الملكوت الطوباني،
تضاف إليه الطوبى وتزداد. هذا هو مصدر التطويب الجديد، غير أن المسيح لا يعاقب
المضطهدين لأولاده لأنه “يحب العالم” ولا يزال له من بين المضطهِدين
أنفسهم أولاداً، فهو يعطي الطوبى للمضطهَد ويترك المضطهِدين إلى أن يأتي دورهم.

كذلك
فإنه يسمح بالطرد والإهانة والاضطهاد ليستطيع أولاد الله أن يمارسوا الصفح والصبر
وطول الأناة ومحبة الأعداء، فيزداد رصيدهم الروحي وتزداد تزكيتهم للملكوت. لذلك
فصاحب الطوبى الذي يقع تحت الاضطهاد والطرد ينال الطوبى مرَّة أخرى بالفائض ليستطيع
أن يثابر في موهبته شهادة للمسيح. بمعنى أن أصحاب التطويبات السبع مدعوون إلى مزيد
من الطوبى باضطهاد العالم لهم. والعجيب أن الذي يذوق الطوبى مرَّة لا يكف عن السعي
في إثرها: “بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع
ربي.. وأوجد فيه” (في 8: 3و9). هذا هو الإنسان المسيحي الكامل.

+
“لا تخف لأني فديتك، دعوتك باسمك أنت لي.” (إش 1: 43)

هذا
كله انطبق على التلاميذ والرسل القديسين، وهو ينطبق الآن وكل يوم على الكنيسة.
لذلك يعطي المسيح الطوبى الأخيرة واضحة للتلاميذ بالمخاطب:

الطوبى
التاسعة: ” طوبى لكم إذا عيَّروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة، من
أجلي، كاذبين. افرحوا وتهلَّلوا، لأن أجركم عظيم في السموات، فإنهم هكذا طردوا
الأنبياء الذين قبلكم”:

+”
والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا
يستهزئون به وهم يجلدونه، وغَطَّوْه وكانوا يضربون وجهه”
(لو
22: 63و64
)

هنا
جاءت “من أجلي” لتساوي “من أجل البر” وقول المسيح: لأنهم هكذا
طردوا الأنبياء، أُضيف إليها الآن: وهكذا المسيح أيضاً.

هنا
في الطوبى الثامنة والتاسعة ولأول مرَّة تأتي الطوبى جزاءً لعمل سلبي، لأن في جميع
التطويبات السبعة السابقة هي من واقع حال إيجابي وليست عِوَضاً لشيء أو لعمل. فأن
يُضطهَد إنسان لأنه ابن الملكوت وابن الله، فهذا أجره عظيم في السموات. هنا
الامتياز فوق الطوبى أو فوق المواطنة السمائية، لذلك كان الشهداء والمعترفون
والذين أُهينوا وأُذلوا من أجل البر (الملكوت) أو من أجل المسيح (صاحب الملكوت)
لهم امتياز في الكنيسة. والكنيسة تذكرهم بالفخار والمجد وتعيِّد لذكرى آلامهم!!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى