علم المسيح

28- الصلاة بلجاجة: قصة صديق نصف الليل



28- الصلاة بلجاجة: قصة صديق نصف الليل

28- الصلاة بلجاجة: قصة صديق نصف الليل

يعطي
المسيح هنا قصة إنسان تحت الحاجة وشدة العوز التجأ إلى صديق في وقت غير مقبول في
نصف الليل، الميعاد الحرج لمجيء العريس والناس نيام، وقرع بابه خَجِلاً وَجِلاً،
وكانت الحاجة والعوز شديدين. وظلَّ يقرع ولكن الصديق المتأذِّي من هذا القرع
والنداء استيقظ ليسمع من جاره أنه محتاج إلى ثلاثة أرغفة عيش. فبمنتهى الضيق اعتذر
لأن استيقاظ أسرة بصغارها وأطفالها في نصف الليل شيء مزعج، فاعتذر أن يلبِّي طلب
الصديق الملحاح، ولكن الصديق لم ينثنِ فالحاجة ملحَّة، وكرَّر السؤال يسنده العذر والرجاء.
وأخيراً استجاب صاحب الدار وقام وأعطاه ما يريد. صورة جميلة للعوز الذي يسنده
الرجاء، هذا هو الذي نخرج به من هذه القصة، كيف استطاع المحتاج أن يفوز بحاجته رغم
صعوبة الطلب؟ هذا الوجه من الاستجابة تحت الإلحاح، والإلحاح الذي تحت شعور شديد
بالعوز يفوز أخيراً. والرب أراد بهذه القصة المُرتَجَلَة أن يصوِّر نفسه أو يصوِّر
الله بصاحب الخبز، والصديق الملحاح بالإنسان الذي استخدم هذا السلاح وهو اللجاجة.
وطلب المسيح أن نأخذ منه هذا التصوير على أساس أنه تعهُّدٌ من قِبَلهِ لاحترام
لجاجة الإنسان في الصلاة، إنما إن كانت حقا قائمة على عوز شديد. والقصة بجملتها
تقف على أساس أن تكون اللجاجة في صلاتنا عن حاجة صادقة وعوز في القلب شديد.

ثم قال لهم:

مَنْ منكم يكون له صديقٌ: ويمضي إليه نصف الليل ويقول له:
يا صديق أقرضني ثلاثة أرغفة”:

الصيغة اليونانية هنا تجيء بمعنى: “هل يمكن أن نتصوَّر
هذا”، باعتبار أن الإلحاح لابد مستجاب،
حيث
يصوَّر الصديق أنه الله والمحتاج أنت، والطلب ثلاثة أرغفة. أمر شديد العلاقة
بالحياة، فلا غنى
عن الخبز للجائع.
هكذا أراد المسيح أن يصوِّر لنا على أي مستوى تكون الصلاة التي نقدِّمها لله. وبأي

إحساس نتقدَّم بها بإلحاح، فالقصة تعطي
إحساساً أن المحتاج أرغمته الحاجة أن يخرج ويلتجىء إلى
صديقه في وقت حرج
وغير مناسب، ثم الإلحاح بعد الرفض. أرجو من القارئ العزيز أن يرفع إحساسه ليتوافق
مع القصة. فالمطلوب أن تكون الصلاة على مستوى صادق من الإحساس بالعوز الشديد، لأن
من هذا المستوى تدخل الصلاة إلى قلب الله. حتى ولو كانت صلاة شكر أو تسبيح يلزم أن
تكون بإحساس مَنْ يتوسَّل ليُقبَل شكره أو يُقبَل تسبيحه. فالله في ذاته غير محتاج
لا لشكر ولا لتسبيح، ولكن أنت المحتاج أن يدخل
شكرك إلى قلب الله وأن يصغى إلى تسبيحك ويرضى به.

وعلى
القارئ أن يلاحظ أن الصفة التي أعطاها المسيح لله ولنفسه هي “صديق”،
بمعنى أن صلاتك التي تقدِّمها له شعوراً منك بالعوز يتحتَّم أن تكون على أساس أنك
تطلب مصلِّياً إلى صديق، بمعنى أن يكون لك دالة حقيقية معه. وهكذا أعطى
المسيح شكلاً للصلاة المقدَّمة إلى الله وإليه بأن تكون بإحساس الحاجة والعوز
وبدالة مع الله والمسيح كصديق حقيقي وبلجاجة لا تفتر.

لأن صديقاً لي جاءني من سفر،
وليس لي ما أُقدِّم له”:

يصوِّر
المسيح هنا الحرج الشديد الذي يقع فيه الإنسان ويحاول إدخال الإحساس به إلى
قلوبنا، حيث من هنا تبدأ الصلاة. وهذا الحرج هو: كيف يتقدَّم الإنسان إلى الله وهو
تحت الشعور الشديد بالحاجة إلى ما يصلِّي لأجله، حتى ولو كان لراحة الآخرين؟ ويضع
المسيح هنا هذا الميعاد المتأخِّر من الليل ليزيد الحرج إلى أشد مستوى لتخرج
الصلاة من قلب منفعل بالحاجة والحرج معاً؛ بل والعدم، إذ ليس له ما يقدِّمه.كل ذلك
ليكسر حالة الجمود والبرودة وعدم المبالاة في الصلاة والروتين الذي ينهي على الروح
الجديَّة في الصلاة. المسيح هنا يحاول إيقاظ الإنسان المتكاسل في الصلاة والمتواني
وغير المكترث ليضعه في حالة الصلاة التي يطلبها الله.

فيجيب ذلك من داخل ويقول: لا
تزعجني!

الباب
مغلق الآن، وأولادي معي في الفراش. لا أقدر أن أقوم وأعطيك”:

يحاول
المسيح أن يصعِّب الاستجابة ويجعلها قرب المستحيل، ليرفع من لجاجة المصلِّي ويزيد
من التوسُّل، لأن الصعوبات التي وضعها هنا المسيح لا تنطبق على الله والمسيح، ولكن
أراد المسيح أن يصوِّر صعوبة استجابة الصلاة من أول مرَّة عند الله. فهو يهملها
ويهملها مرَّات ومرَّات حتى ترتفع حرارة اللجاجة والرجاء إلى المستوى الذي يساوي
استجابة الصلاة. ليس هذا قسوة من الله ولا هو يرجع إلى عدم استحقاق المصلِّي
للاستجابة، ولكن لكي يدخل الإنسان عملياً في سر استجابة الصلاة ويتدرَّب على معرفة
كيف يسمع الله الصلاة وكيف يستجيب؟ وهذا بحد ذاته أعظم أسرار العلاقة التي تربطنا
بالله عبر المسيح. فكل درجة نرتفع إليها في اللجاجة يقابلها درجة في الصعود على
سُلَّم السر الإلهي في الصلاة. وحينما تسمع بأن هناك رجال صلاة مرموقين ولهم قوة
ودالة، فاعلم أن هؤلاء تدرَّجوا طويلاً على سر سلم الصلاة: رفض ولجاجة ولجاجة ورفض
إلى أن ينفتح الباب. لأن الباب مغلق حقا ولا
ينفتح إلاَّ بعلامة السر. وعلامة السر هي اللجاجة بلا حدود إلى أن تبلغ
حدودها، وحينئذ يكون سر الصلاة قد صار مِلْكَ
قلبك: “يا سامع الصلاة إليك يأتي كل بشر.” (مز 2: 65)

أقول لكم: وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه،

فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاجُ“:

هنا
يكشف المسيح عن سر خاص يقوله ببساطة، ولكنه من أعجب أسرار الله والمسيح، وهو أن
الله له حدود في معاملاته مع أحبائه وأصدقائه بالروح؛ ولكن أُعطي للإنسان،
والإنسان فقط دون كافة الخلائق العليا، أن يجعل الله يتخطَّى حدود
“الصداقة” عندما تنفتح أحشاؤه بالحنان والرحمة ويعطي للإنسان ما هو ليس
من حقه. وكان أكثر الأنبياء استغلالاً لمحبة الله وصداقته هو “موسى”،
وقد استخدم موسى اللجاجة مع الله وربح في كل مواقعها، الذي بسبب لجاجته تراجع الله
عدّة مرَّات عن أن يفني الشعب الغليظ الرقبة في البرية:

+
“فالآن اتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم، فأُصَيِّرك شعباً عظيماً. فتضرَّع
موسى أمام الرب.. فندم الرب على الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه.” (خر 32: 1014)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى