علم المسيح

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل
الثالث

الذهاب إلى
أُورشليم لحضور الفصح

من
قانا الجليل انحدر المسيح وأُمه وتلاميذه إلى كفرناحوم. إذن، فقد تركوا الناصرة
لأنه لم يلقَ كرامة في وطنه، ولكن بالأكثر لم يستطع أن يعمل هناك آيات لعدم
إيمانهم! ويلاحظ أنه لا يُذكر هنا يوسف ويُعتقد أنه قد انتقل في ذلك الوقت:
“وأتى فسكن في كفرناحوم التي عند البحر” (مت 13: 4). ومن الملاحَظ أن
إنجيل ق. يوحنا اختص بذكر خدمة المسيح في أُورشليم قبل أن يبدأها جديًّا في
الجليل. وقد ركَّز في أُورشليم على تعاليمه اللاهوتية حيث كانت محاجاته مع حكماء
إسرائيل من الكتبة والفرِّيسيين والناموسيين، المالكين لناصية المعرفة في التوراة
والتقليد اليهودي، لأنه كان يثق أن: “الخلاص هو من اليهود” (يو 22: 4)،
كما قال للسامرية. فإلى يهود أُورشليم وجَّه أقوى تعاليمه وآياته وحججه، أمَّا
تلاميذه في الجليل فقد سلَّمهم سر الملكوت الذي هو بحد ذاته قمة المعرفة والفهم،
وقد قبلوا ببساطتهم هذا السر في الوقت الذي امتنع عن حكماء إسرائيل بسبب عجرفتهم
وتمسُّكهم بالناموس الذي حجب عنهم بساطة الملكوت.

وتعليمه
في أُورشليم تركَّز في الأعياد، لأنه على خلفية الأعياد استعلن أعمق أسراره. ففي
عيد المظال لمَّا كانوا يملأون الجرَّة ماءً ليكسروها فوق المذبح ويصبُّوا الماء
عليه لتجري المياه وتفيض، تذكاراً للصخرة التي
تابعتهم في البرية؛ نادى المسيح قائلاً: “إن عطش أحد فليقبل إليَّ
ويشرب” (يو
37: 7). فلولا هذا العيد في أُورشليم بطقسه ما استلمنا
تعليم المسيح أنه هو ينبوع الماء الحي. وفي عيد
التجديد لما أوقدوا المنارات الذهبية لتضيء الهيكل وقف ونادى: “أنا هو نور
العالم” (يو
12: 8)، فلولا خلفية هذا العيد ما استلمنا حقيقة أن
المسيح هو النور الحقيقي وهو نور العالم.

والعجيب
أن ق. يوحنا كان يرى في أُورشليم المسرح الأهم في تعاليم المسيح، وأنه التجأ إلى
أُورشليم يعلِّم فيها قبل الجليل التي قوبل فيها أولاً بازدراء. فلمَّا ذهب إلى
أُورشليم وعلَّم فيها وعمل آيات، ثمَّ عاد إلى
الجليل، ارتفعت قيمته في أعين الجليليين جداً: “فلمَّا جاء إلى الجليل
قبله
الجليليون، إذ كانوا قد
عاينوا كل ما فعل في أُورشليم في العيد،
لأنهم هم أيضاً جاءوا إلى العيد.” (يو 45: 4)

كان
لابد أن يبدأ المسيح خدمته وإعلان ملكوته في اليهودية وليس في الجليل، وخاصة في
أُورشليم التي هي عاصمة اليهودية. فجميع النبوَّات أرسلت أضواءها في كل العصور
وعلى فم جميع الأنبياء وسلَّطتها على اليهودية وعلى أُورشليم المدينة المقدَّسة.

إشعياء
النبي:

+ “لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أُورشليم كلمة
الرب.” (إش 3: 2)

+ “الأمور التي رآها إشعياء بن آموص من جهة يهوذا
وأُورشليم.
” (إش 1: 2)

+
“الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم.” (إش 14: 3)

+
“ويكون أن الذي يبقى في صهيون والذي يُترك في أُورشليم يُسمَّى قدوساً. كل
مَنْ كُتب للحياة في أُورشليم.” (إش 3: 4)

+
“إذا غسل السيد قذر بنات صهيون ونقَّى دم أُورشليم من وسطها بروح
القضاء وبروح الإحراق.” (إش 4: 4)

+ “ويأتي الفادي إلى صهيون
وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب.” (إش 20: 59)

عاموس
النبي:

+
“الرب يزمجر من صهيون ويعطي صوته من أُورشليم.” (عا 2: 1)

إرميا
النبي:

+ “الرب من العلاء يزمجر، ومن مسكن قدسه
(الهيكل) يطلق صوته.” (إر 30: 25)

لذلك
كان من الأمور المتيقنة لدى منتظري الفداء لإسرائيل أن يظهر المسيَّا أول ما يظهر
في أُورشليم واليهودية أيضاً. ويقرِّر صوت النبوَّة أن المسيح يأتي إلى هيكله بعد
أن يُعِدَّ المعمدان طريقه: “هأنذا أُرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي، ويأتي
بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه.” (مل 1: 3)

إذن،
فالقديس يوحنا على حق حينما بدأ خدمة المسيح العلنية وظهوره في أُورشليم بعد بقائه
في الجليل أياماً قليلة. وبهذا يأخذ هيكل التعليم العام للمسيح أساسه اللاهوتي
العميق في أُورشليم أولاً، فهو لم يَكُفّ في كل تعاليمه في أُورشليم عن استعلان
علاقة الآب بالابن كأعمق ما يكون اللاهوت. ثم طرح الأسرار الإلهية سواء في
المعمودية بالميلاد الجديد الذي من السماء وهو عينه الذي من الماء والروح والمحسوب
أنه “خليقة جديدة للإنسان”(
[1])، أو تأسيس سر الإفخارستيا
ليلة العشاء الأخير، أو السر المنبثق منه بأكل الجسد وشرب الدم، وسر الخبز الحيّ
والماء الحي والنور الحقيقي والكرمة الحقيقية بعمقها الكنسي، عِوَض كرمة إسرائيل
التي جفَّت، والراعي الصالح وخرافه التي تسمع صوته وتتبعه. وهكذا أغنت أُورشليم
منهج المسيح التعليمي بأفخر وأعلى مستويات الروح.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى