علم المسيح

32- الأصول الأُولى التي نبعت منها الكنيسة الأُولى



32- الأصول الأُولى التي نبعت منها الكنيسة الأُولى

32- الأصول الأُولى التي نبعت منها الكنيسة الأُولى

حينما
قلنا تحت العنوان السالف إن المسيح حينما بدأ يجمع تلاميذه ليلقِّنهم سر الروح
ويعدّهم للخلاص والملكوت، كان في الحقيقة ينشئ أول “صورة” للكنيسة (لاحظ
أننا نقول صورة لا جوهر)، يتبادر للذهن هل ينطبق اسم الكنيسة “اكليسيا”
أيضاً على هذه البداية؟ والمعروف أن الاكليسيا في السبعينية مأخوذة أصلاً من
معناها العبري الذي يُنطق
kahal،
وهذه الكلمة تعني في اليهودية معنى الأُمة الإسرائيلية حينما تجتمع معاً أمام
الله.
وهذا يصوِّر المعنى الوارد في سفر التثنية حيث تجتمع كل الجماعة:
“فنطق موسى في مسامع كل جماعة إسرائيل بكلمات هذا النشيد إلى تمامه” (تث
30: 31). والمثيل له جاء في سفر الأعمال: “هذا هو الذي كان في الكنيسة في
البرية مع الملاك الذي كان يكلِّمه في جبل سيناء، ومع آبائنا. الذي قَبِلَ أقوالاً
حيَّة ليعطينا إياها” (أع 38: 7). ويقصد هنا كل الشعب مع موسى في حضرة الله،
وأيضاً: “أخبر باسمك إخوتي وفي وسط الكنيسة أُسبِّحك” (عب 12: 2). وهنا
الكنيسة تعني الشعب كله مجتمعاً يصلِّي، أو “الجماعة” في حضرة الله. ثم
تخصَّصت الكلمة قديماً في معنى “السيناجوج” أي الجماعة المخصَّصة للصلاة
للمثول أمام الله. وهذا ما كان المسيح يقصده عندما قال: “وإن لم يسمع منهم
فقل للكنيسة. وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشَّار” (مت 17: 18). حيث الكنيسة هنا هي المجمع المجتمع باسم
الله. على أن كلمة المجمع تعني جميع الشعب بلا استثناء. وبما أن المسيح كان يكلِّم
تلاميذه، فالمسيح كان يقصد ما سيتكوَّن من الرسل وغيرهم لتمثيل المجمع في
المسيحية.

وبذلك
يكون الرسل مع المسيح هم أول “صورة” لمجمع مسيحي أمام الله أي
kahal أي كنيسة. وبعد أن اتسعت دائرة الرسل
بعد المسيح أخذت الكنيسة “صورتها” الحقيقية الأُولى أي الشعب
المجتمع لعبادة الله. وهكذا تُعتبر الكنيسة على طول المدى هي التي صنعها المسيح من
روحه وسلَّمها للأجيال، مع دوام العلائق الحية التي تربط الكنيسة بالمسيح، خاصة
بالمعمودية والإفخارستية، حيث يُعمَّد العضو الجديد باسم الآب والابن والروح
القدس، بمعنى أن يحمل اسم الله ويتعهَّد بعمل وصاياه وهو حامل في كيانه الروحي جسد
المسيح ودمه. ومن هنا وضح غاية الوضوح أن الكنيسة هي جسد المسيح، وأن الروح القدس
يعولها ويرعاها ويدبِّرها، والآب ينظر عليها من فوق لأنها حاملة لصورة ابنه
الجوهرية. لذلك فالكنيسة بوضعها العام ملهمة بالروح القدس، أو كما نقول نحن إنها
مرتشدة بالروح القدس، وهي تحمل في طيَّاتها التاريخية الحية الآباء والأنبياء
والرسل. بمعنى أن الكنيسة جوهرها إلهي ومظهرها بشري. لذلك هي محسوبة كائناً حيًّا
على صورة الله في البر وقداسة الحق، ينمو نموًّا متواصلاً نحو مصدرها. فغاية
الكنيسة النهائية مربوطة ببداية مصدرها. فألِف الكنيسة
وياؤها هو المسيح، الأول والآخر فيها ولها لأنه رأسها. لذلك فجسمها جسم
المسيح على الأرض، ورأسها هو المسيح في
السماء.

والكنيسة زُفَّت إلى المسيح كعروس لعريس يوم ميلاد الرب من
العذراء القديسة مريم، ويومُ

عرسها توثَّق لما تخضَّب جسد المسيح بالدم على الجلجثة، وقد رفعها عريسها معه إلى
السماء ليُجلسها في مقرها الأبدي معه عن يمين القوة والعظمة والمجد للآب، لترث
ميراث الابن فيما لله الآب.

والكنيسة
تحمل في كيانها عملية فصل التبن عن القمح، فعريسها لا يزال يحمل مذراته، ولكن
تنكشف عملية تذرية (من المذراة) القمح من التبن في نهاية الدهور. فالكنيسة
المنظورة على الأرض تحمل الصالح والطالح، ولكن غير المنظورة هي جماعة الأبرار
القديسين الذين تجمَّعوا عَبْرَ الدهور في أهراء (صوامع القمح) السماء. وهي
ستُستعلن في نهاية الدهور لتظهر للعيان كأنوار أو كهالة من نور تنير المسير وتتبعه
أينما يسير.

جوهر
الكنيسة:

هذا كله من حيث مضمون الكنيسة، ولكن إذا بحثنا في نقطة
تلاقي وجودها بالمسيح أو لحظة خروجها من كيان المسيح، نستطيع أن نقول إن الكنيسة
خرجت إلى الوجود في العالم من جسم القيامة. لا كبداية زمن أو تاريخ، ولكن بداية
حياة وحركة وكيان حي. ومعروف على وجه اليقين أن الكنيسة أخذت مبدأ كيانها ووجودها
من الروح القدس المنسكب على التلاميذ يوم الخمسين. ومعروف أن يوم الخمسين هو اليوم
المنبثق من القيامة، فلولا القيامة ما كان يوم الخمسين. لذلك نكون منصفين أكثر لو
قلنا إن منشأ الكنيسة الحي والجوهري لم يبدأ بعمل المسيح على الأرض بقدر ما بدأ
بعمل القيامة عند انسكاب الروح القدس. فهي حقا تمثِّل جسد القيامة! ولو لاحظنا
التنبُّؤ الوحيد الذي تنبأ به المسيح عن الكنيسة أنه على هذه الصخرة
صخرة
منطوق إيمان بطرس: “أنت هو المسيح ابن الله الحي”
سيبني
المسيح الكنيسة كفعل مستقبل؛ نتبيَّن أن عملية البناء ستتم بعد عملية التعليم
والفداء على الصليب. كذلك قول المسيح الظاهر والعلني إن أبواب الجحيم لن تقوى
عليها، هذا من واقع أنها محسوبة أنها “جسد المسيح الحي القائم من الموت”
الذي لا يسود عليه الموت بعد!!

علماً بأن كلمة اكليسيا أي: “كنيسة” كما
قلنا
هي ترجمة للكلمة الأرامية kahal
وهي تعني: “تواجد الأُمة اليهودية عندما تجتمع مع الله”. فلو
علمنا أن المسيح اسمه بالميلاد “الله معنا” أي عمانوئيل، أدركنا أنه
يحمل حقيقة الكنيسة في جسده، أو كما علمنا مؤخراً أن الكنيسة هي جسده بالحقيقة
بمعناه الروحي “الله معنا”!! لذلك دأبت الكنيسة أن ترى ذاتها كشعب الله
الحاصل على شركة مع المسيح القائم من الموت، شعب يحمل واقعه الأُخروي، الذي رآه
دانيال شعب قدِّيسي العليِّ الذين سيرثون المملكة (دا 18: 7). وعلى هذا الأساس
تعيِّد الكنيسة كل يوم أحد عيدها الأخروي في شركة حيَّة مع المسيح كحالة قيامة
حقيقية معه، تطلب فيها بإلحاح أن يأتي المسيح وينتهي العالم: “ماران
أثا”

33- ظهور
المعمودية في الكنيسة “كطقس تأسيس”

المعروف
أن المسيح نفسه لم يكن يعمِّد، بل تلاميذه، لأن العماد ليس هو طقس تكريس بل طقس
ميلاد. ففي أيام المسيح كان التلاميذ يشتركون مع المسيح في كسر الخبز، فأصبحت لهم
شركة مع المسيح. وإلى الآن كل مَنْ يتناول من جسد المسيح ودمه يُعتَبر أنه دخل
حالة الشركة مع المسيح. ففي المعمودية تلد الكنيسة أعضاءً جدداً في جسد المسيح،
وبالإفخارستيا يدخلون الشركة مع المسيح، والشركة مع المسيح هي شركة مع المسيح
والآب بالروح. والروح القدس أصلاً هو الذي اضطلع بعملية الولادة من فوق والماء.
والكنيسة تحسبها خلقة جديدة عِوَض الخلقة القديمة التي فسدت بالخطية، وهي خلقة على
صورة الله في البر وقداسة الحق عِوَض الصورة التي مزَّقتها الخطية فوُجد الإنسان
متغرِّباً عن الله.

والمسيح
لمَّا أراد أن يعمِّد الكنيسة الأُولى بالروح القدس ممثَّلةً في تلاميذه أو رسله
القديسين، أعطاها طقس الاستعداد بالصوم والصلاة، الذي حدَّده الله من عنده بعشرة
أيام قبل حلول الروح القدس، الذي قام بتعميد الكنيسة بالروح القدس ونار. وكانت
ألسنة اللهب غير الحارق ظاهرة على رؤوس المجتمعين في العُليَّة. والنار هي تعبير
عن عملية الإحراق للتقديس والإحراق للتطهير، لا تعمل فيها النار للإفناء إلاَّ
لشوائب الخطية، أمَّا فعلها الإيجابي فهو الإنارة أو الاستنارة، وهي عملية داخلية
لإنارة كل خفايا أسرار الله وأعماله وفتح الذهن لفهم الكتب وكلام الله.

ولكن
التعميد بالنار مع الروح القدس كان للرسل فقط برسم الميلاد الطاهر للكنيسة بالروح
القدس، فأصبح الذي يولد من جرن معموديتها الذي هو برسم “بطن البتول”
يولد قدِّيساً وابناً لله برسم المسيح.
والكنيسة بجملتها محسوبة جسداً للمسيح قدِّيسة وطاهرة وبلا عيب، لذلك يُقال
وهو حق إن المُعَمَّد يعتمد للمسيح أي يُحسب
له.

كذلك
فالكنيسة احتسبت العماد بالتغطيس في ماء المعمودية هو بمثابة الموت والدفن مع
المسيح، وجعلته على ثلاث مرَّات باسم الثالوث الأقدس وكتعبير عن الموت الكامل
لثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وهذا هو عوض النار. فأن يجوز المُعَمَّد في ماء
المعمودية مدفوناً ومُقاماً يكون وكأنه جاز الموت والدينونة أيضاً وعقاب الخطية
(النار) وقام مبرَّراً قديساً متَّحداً بالمسيح. لأن في القيامة ينال الإنسان
الحياة الأبدية التي قام المسيح من بين الأموات ليعطيها لكل مَنْ يؤمن به.
ويمثِّلها في المعمودية إقامة المعمَّد من تحت الماء وإلباسه الثوب الأبيض.

وهكذا
يكون العماد في الكنيسة كعملية شركة في موت المسيح وقيامته تتم بسر الكنيسة،
ليكمِّلها المعمَّد بالإيمان بالروح وبالسلوك العملي في الموت عن شهوات العالم
لنوال إكليل الحياة الأبدية. وهكذا تضطلع الكنيسة بتكميل سر الموت والقيامة في
أعضائها الجدد، ثم بعدها تطعمهم من جسد المسيح ودمه بسر الإفخارستيا. وبذلك تكون
قد أعطت العضو الجديد كل ما يؤهِّله للملكوت إن هو سلك عملياً بمقتضى هذا الميلاد
الجديد وسر الشركة مع المسيح والآب. علماً بأن هذه الأسرار تهب نعمة وتؤهِّل
وتساعد الإنسان لتكميل عمل الكنيسة في حياته العملية.

لذلك
اعتُبر طقس العماد في الكنيسة كطقس تأسيس، أي تأسيس حياة مؤهَّلة للملكوت.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى