علم المسيح

17- مميزات تعاليم المسيح



17- مميزات تعاليم المسيح

17- مميزات تعاليم المسيح

[لقد
علَّم المسيح وكانت تعاليمه قوية وأصيلة، ولقد احتفظ التقليد بتسجيل دقيق ومتقن
لتعليمه، ويصفه القديس مرقس في اختصار: “كان يعلِّمهم كمن له سلطان وليس
كالكتبة” (مر 22: 1). وقد استرعى انتباه سامعيه الفارق بين تعليم المسيح الذي
يتكلَّم مباشرة باسم الله وبسلطانه، وليس كمثل الربيِّين الذين اقتصر تعليمهم
بالتعليق على الموجود في الأسفار المقدَّسة ونقل أقوال آباء قدامى.

أمَّا تعليم المسيح فإن مقدار الغِنَى الذي يحتويه جعله لا
يتأثَّر بشكل الآية وتغييرها من

إنجيل لإنجيل، فالانتباه يتركَّز بشدة ودقة على الحق الذي ينطقه المسيح. والواقع
أن كلمات المسيح تحمل مفارقة بالمقارنة مع أعظم ما أنتجته أفكار الأدباء بدرجة لا
يمكن أن تُجارَى.](
[1])

ويعلِّق
سفر العبرانيين على ما علَّم به المسيح هكذا:

+
“فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره قد ابتدأ الرب بالتكلُّم به، ثم
تثبَّت لنا من الذين سمعوا شاهداً الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس حسب إرادته.” (عب 2: 3و4)

كما
يصف العالِم الألماني ك. وايدل تعاليم المسيح قائلاً:

[إن
الشكل الذي يصبُّ فيه المسيح تعاليمه، والطريقة التي يُلْبِس بها حياته في الداخل
بكلمات يعلِّم بها، تحمل مهارة وذوقاً لم نألفه قط. فغِنَى الأسلوب الذي يتكلَّم
به فائق، فهو بمستطيع أن يقول قصصه بطريقة حيَّة مبسَّطة تمسك بالقلب قبل الفكر.
فهو قدير أن يُحرِّك عقول سامعيه بقوة، وعند الضرورة يصبُّ احتقاره بطريقة لا تخطئ
في الوقت الذي يستطيع أن يُعزِّي بلطف فائق، كما يخفِّض من كبرياء الذي يتحدَّاه
بسخرية مُرَّة، وحينما يغضب يسخط بقوة، وحينما يُسرّ يفرح بشدَّة. فبكل الوسائل
وفي كل الحالات يستعلن أصالته الخلاَّقة. ولكن كل شيء باختصار وكل كلمة مقالة
تُصيب هدفها بكل تماسك. فلا توجَّه له كلمة زائدة، وكل كلامه يبرهن بذاته على صدقه
ويطابق مقصده بالتمام. وكل هذا يكشف أن تعليمه يصدر من الداخل من واقع حي تلقائي.](
[2])

[والكلمة
والمقولة عند المسيح فطرية تلقائية لا يوجد فيها اصطناع، كما لا تهدف إلى أن تصنع
تأثيراً بحد ذاتها. فالمسيح لم يحاول أن يُبهر أو يُدهش سامعيه بفصاحة منمَّقة.
فالأسلوب عند المسيح منضبط بدقة مدهشة حتى لا يستولي على الانتباه، بل ينبِّه.
فالكلمات هادئة منزلقة شفافة تشف عن فكره، ولكن تسمو عنده البساطة وتعلو جداً عن
التفاهة. والبساطة عنده هي نتيجة كفاءة مقتدرة قادرة أن تصيغ أقوى المعاني الحيوية في أبسط أسلوب وبلا تكلُّف
لتحمل أعمق
الأفكار.

ولو
أن المسيح لم يستحدث أساليب للكلام إلاَّ أنها تحتفظ بأصالتها الخاصة، فهو لم
يستخدم تقاليد محفوظة بطريقة تقليدية. والمسيح لم يسبقه أي معلِّم كانت لديه هذه
القدرة على تطويع الأشكال والمضامين بالمرونة والدقة في التعبير التي أوتيها، مما
جعل للمسيح مزيداً من فرادة مطلقة في التعليم. ثم كون تعليمه يخلو من الاصطناع أو
طلب التأثير على السامع جعل تعليمه لا يفصله أي فاصل عن السامع غير الحق الذي فيه.
لهذا أصبح كل قول من أقواله يسمح لنا أن نرى ما بداخل المسيح، وكأنَّ كل جملة طاقة
تفتح على نفس المسيح من الداخل، أو استعلان صادق لشخصه. وهذا هو السبب الذي بالرغم
من أن شخصيته تظل متعمِّقة في سرِّها الخاص جداً على مستوى التاريخ، فهي في نفس
الوقت شفافة في تعليمه أقصى ما تكون
الشفافية.

على
أن المسيح يعتمد في خطابه على استدراج الإرادة وليس العقل، وإذا ألحَّ على الإقناع
فهو ليحظى بالطاعة والخضوع. لذلك اعتُبِرَت كلماته أفعالاً، وبآن واحد، لا يمكن
التفريق بين كلماته وبين ذاته وشخصه.. فكل مقولة للمسيح هي مجرَّد انسياب من
شخصيته الخفَّاقة بالحياة.](
[3])

أسلوب
المسيح في التعليم:

كان
أسلوب المسيح طيِّعاً في فمه، يرفعه ويخفِّضه على مستوى آذان سامعيه وقلوبهم.
والمسيح استخدم جميع طرق التعليم بكافة أصنافها المتداولة عند المتخصِّصين في
التعليم، لأنها في حقيقتها عبارة عن طرق كل منها يلائم موقفاً من المواقف ونوعاً
من السامعين ومعلومة من المعلومات. وفي أواخر أيام تعليمه استخدم الأمثال ليركِّز
فيها المعارف وخاصة ملكوت الله، وغرس فيها سر الملكوت الذي كشفه لتلاميذه ليكون
المثل بالنسبة لهم، مذكِّراً بحقيقة هامة من حقائق الملكوت لا تُنسى. فمَثَل الزرع
الجيد والزوان ينتهي بحقيقة هامة للغاية وهي أن البار يعيش مع الأثيم معاً بلا تفريق في المعاملة إلى يوم الحصاد أي الدينونة.
وبهذا المَثَل أعطى تنويراً شديداً للمؤمنين حتى لا
نفرِّق بين الناس هذا صالح وهذا شرير، فالذي سيفرِّق
هو الله هناك يوم الدينونة، أمَّا الآن فالكل يعيش تحت رحمة
الله في ظروف
واحدة بلا تفريق. وهكذا فكل مَثَل يُعطي درساً يأخذ طريقه في الحياة كأساس.

كما
استخدم المسيح طريقة الخطوة خطوة في الإعلان عن الحقائق ونقلها من وضعها في العهد
القديم إلى وضعها الجديد، وخاصة بالنسبة لملكوت الله، فاستطاع أن يُلْبِس الحقيقة
القديمة ثوبها الروحي الجديد.

 

18- المسيح
يضع بذور التعليم في أمثاله

ويشجِّع على
التعمُّق في المعرفة

أخبر
المسيح تلاميذه في نهاية تعاليمه عن انتهاء عصر الأمثال قائلاً: “قد كلَّمتكم
بهذا بأمثال، ولكن تأتي ساعة (بعد ذهابه) حين لا أكلِّمكم أيضاً بأمثال بل أُخبركم
عن الآب علانية” (يو 25: 16). والمعنى أنه كان يخفي الحقائق في الأمثال لأن
الوقت والظروف لا تسمح بالعلانية. ولكن تأتي ساعة، وقد جاءت بعد ذهابه وبواسطة
إرسال الروح القدس، يكون فيها تعليمه علانية، وبالأكثر فيما يخص العلاقة اللاهوتية
بين الآب والابن، التي احتفظت بها الكنيسة بالفعل، والتي تجلَّت أكثر بالاستنارة
التي فاضت على علماء الكنيسة وآبائها من الروح القدس. وكذلك فَهْم الأسرار في
أقوال المسيح وأمثلته السابقة لدى شُرَّاح الإنجيل والوعَّاظ. وهذا يجعلنا لا
نندهش من أن كثيرين من الذين عاصروه لم يفهموا كلامه، لأنه كان مخفياً إلى ما بعد
قيامته لمعرفته في الحين الحسن بالروح القدس. فهذا النوع من التعليم يجعل المعرفة
مؤجَّلة إلى ما بعد استعلان الحقيقة، وكأنها بذور يلقيها الزارع الذي خرج ليزرع.
على أن نمو هذه البذور معمول حسابه أن بعضه ينمو ربما لعشرة أو عشرين أو خمسين سنة
حسب ما كان يقيس المسيح ويدبِّر بالروح القدس. فكان يلقي بذاراً يمكن أن تنكشف
لنفس الجيل وممكن أن تبقى لجيل آخر، وهذا نوع فذّ في التعليم لا يمكن أن يُدرِك
أصوله وفنونه إلاَّ الله وحده. فلا نستغرب إن كنا الآن وبعد مرور ألفي سنة تقريباً
على تعاليم المسيح نكتشف معانٍ مدفونة وأفكاراً كانت مخفية، وهي تناسبنا الآن أكثر
من أي وقت مضى، وهذا الأمر أدركه العلاَّمة شلايرماخر وعلَّق عليه هكذا:

[إن
كل تقدُّمنا في معرفة الأمور الإلهية إنما يعتمد أساساً على مقدار ما نفهمه كل
مرَّة فهماً صحيحاً، وخاصة بما يناسب عقولنا بقدر ما نقترب إلى هذه الحقائق التي
للمسيح.](
[4])

ويقول
العلاَّمة نياندر معلِّقاً:

[إن
كل أصناف وطرائق تعليمه سواء كانت أمثالاً أو مبادئ مقرَّرة أو تناقضاً ظاهرياً،
كان المقصود منها مجرَّد حثّ العقل ليتَّجه إلى فهم أعمق للمقصود، حتى ينفتح الوعي
الإلهي داخل النفس، وبالنهاية يتعلَّم الإنسان أن يعرف حقيقة الأمور التي كانت في
البدء تتحدَّى العقل.](
[5])

وهكذا
كان يلقي المسيح أموراً في البداية تبدو غير مفهومة، ولكن القصد منها أن تضغط على
العقل وتتحدَّاه لينفتح لفهمها بقدر تعمُّق الإنسان في الحياة الروحية والانشغال
بالله. وهكذا تصير هذه الأمور عينها بعد ذلك منبعاً دائماً للنور الإلهي.

وبذلك
صارت كل العقائد الإلهية التي طرحها المسيح في تعليمه ليست مجرَّد عقائد وتقليد
فكري أو مفهومات محصورة، ولكن عندما نتقبَّلها باعتبارها “روحاً حيًّا”
ويتقبَّلها العقل بسرور ومشيئة راغباً في التعمُّق، فإنها تدخل الوعي وترتفع به
لأنها حقائق روحية حيَّة.

على أن رفض العقول المغلقة والآذان المسدودة لتعاليم المسيح
أصبح عاملاً منذراً لكي ننتبه نحن إلى ما تضمَّنته من معانٍ عميقة وحياة: مثل
حديثه عن الجسد المأكول والدم المشروب،
الذي حدا بجزء كبير من تلاميذه أن يتركوه ولم يعودوا يسيرون
وراءه بحجة أن هذا الكلام صعب مَنْ يحتمله.

 

19- روح
السامع والقارئ عليها المعوَّل الأول لفهم تعليم المسيح

كان
المسيح يعوِّل كثيراً على روح السامعين ويشدِّد بأن تنفتح الآذان جيداً لسماع
كلامه، وكان يعني من هذا أن يستيقظ فيهم الوعي الروحي ليكون على مستوى الحقائق
الروحية الكبيرة والهامة والخطيرة بالنسبة لحياتهم. وهذا ظلَّ إلى الآن عقدة هذا
الجيل، أنهم يريدون أن يفهموا كلام الحياة الأبدية والملكوت ومعرفة الروحيات
وأسرار المسيح والله على مستوى ما يقرأون وما يسمعون من أفكار وحوادث العالم في
الجرائد والمطبوعات الرخيصة. إنها مصيبة المتعلِّمين قبل أن تكون عثرة الجهلة
وضعفاء العقول، وهي بديهية ومفضوحة، إنهم يريدون أن تكون المعرفة في أمور الله
والخلاص والحياة الأبدية على مستوى لغة الجرائد والراديو.

والفارق
الكبير بين معارف الله والروح ومعارف الإنسان والعالم يقع داخل الإنسان وليس في
المقروء أو المسموع. فأمور الإنسان والعالم يكفي أن ينتبه لها الفكر ليستوعبها
جميعاً. ولكن أمور الله والروح والحياة الأبدية لا يمكن أن يقف عليها العقل
ويفهمها بأي حال من الأحوال، لأنها لا تخصّه ولكن تخص النفس والروح، لذلك فالعقل
ينتبه لها أولاً ويقف عندها إلى أن ينفتح لها وعي النفس أو الروح في الداخل لتستقر
في أعماق الشعور واللاشعور معاً حتى تستوعبها النفس. فالإنسان الذي يريد أن يستفيد
مما يقرأ عليه أن يقرأ، على مهل ثم يستعيد ما قرأ، على أن يقف عند الأمور الهامة ليستوعبها
جيداً ويستزيد من تعمُّقها وفهمها ليكشف المعاني المخفية فيها
أمَّا الذي يقرأ متعجِّلاً فهذا لن
يستفيد روحياً من القراءة مهما قرأ. فالله يخاطب الوعي الداخلي النفسي والروحي
للإنسان. والذي يقرأ ويفهم فهذا يحسبه المسيح صاحب أذن مفتوحة على القلب، يأخذ المعلومة
ويستودعها القلب لتختمر وتتفرَّخ وتنمو، لتصير معرفة ثابتة قادرة أن تؤثِّر
وتغيِّر في الحياة كلها. وصاحب الأذن المسدودة صاحب قلب غليظ أو قاسٍ في عُرف
المسيح، أمَّا صاحب الأذن المفتوحة فهو صاحب قلب مفتوح.

وأصحاب الآذان والقلوب المفتوحة يتعامل الله معهم
باعتبارهم ذوي الوعي الداخلي المفتوح
تعاملاً يزداد
ويرقى حتى يتدرَّب الوعي يوماً بعد يوم على الانفتاح حتى يصل إلى مستوى استعلان
حقائق وأسرار الإنجيل بسهولة.

وهكذا
أصبحت نتائج أحاديث المسيح وتعليمه متوقفة على درجة انفتاح الآذان والقلوب، ودرجة
الاشتياق والجوع والعطش إلى الكلمة الحية. ووفقاً لهذا الكلام كان المسيح يُقدِّم
تعليمه بطريقة مشوِّقة جداً في قصص وأمثال تجذب الفكر والقلب، وتشجِّع السامع على
التعمُّق للبحث عن المعنى المقصود. فكان المسيح في ذلك معلِّماً من طراز روحي
نفساني فريد، بسيط أقصى البساطة وعميق أقصى العمق. لأن هدفه هو تحريك النفس لتجديد
الروح: التوبة أولاً ثم التغيير ثم التجديد. فأصبح على القارئ أن يُتقن القراءة
والتعمُّق والفهم ليغتني من غِنَى كنوز التعليم التي تُشبع الروح وتسعد الإنسان.
وكان التلاميذ ينتهزون فرصة ذهاب الجموع لكي يسألوا المسيح عن المعنى المخفي، فكان
المسيح يحزن لذلك لأنه كان يريدهم أن يتدرَّبوا على انفتاح وعيهم ليفهموا بأنفسهم
بحسب النعمة التي أعطاهم: “أما تعلمون هذا المَثَل (مَثَل الزارع) فكيف
تعرفون جميع الأمثال؟” (مر 13: 4)، “قد أُعطي لكم أن تعرفوا (بالروح) سر
ملكوت الله” (مر 11: 4). وهكذا يكشف المسيح أن الإنسان المجتهد الذي يعطش إلى
الله ويجوع إلى كلامه الحي يفتح الله وعيه ليتقبَّل سر ملكوت الله، فيصبح قادراً
على معرفة كل أمور الله بروحه. أمَّا الذي لا يعطش ولا يجوع وترفض نفسه أقوال الله
ولا ترتاح نفسه إلى الإنجيل أو سماع الكلمة، فيظل وعيه الروحي مقفولاً، يسمع ولا
يفهم ويقرأ ولا يعي ما يقرأ، لأن قلبه مسدود من جهة الله. فهذا يكون هو المسئول عن
حرمانه من غِنَى الله وسر الملكوت.

 

20- تعليم
المسيح عن الملكوت ينمو

بمقدار نمو
الملكوت عند سامعيه

إن
طبيعة تعليم المسيح عن الملكوت كانت تُحدث انفتاحاً ويقظة روحية على الملكوت، وكان
المسيح يتمشَّى مع هذا الانفتاح عند تلاميذه، بحيث أنه على قدر نمو وعي التلاميذ
ترتفع درجة تعليمه. على أن تعليمه لم يكن مجرَّد كلام للفهم، بل توصيل حقائق ثابتة
قادرة أن تغيِّر وتمتد بالوعي في سر الملكوت. بحيث لو قنّنا درجة نمو الإحساس
بالملكوت فيهم نجد أنها كانت دائماً على مستوى نمو تعليم المسيح في قلوبهم.

والمُلاحَظ
هنا أن المسيح لا يسبق في تعليمه نمو الواقع عند السامع أو القارئ، فبقدر ما ينمو
السامع في استيعاب أمور وأسرار الملكوت يرتفع التعليم ويزيد وينمو ليعطي الأكثر
والأعلى. وكأن مستوى السامع في نموه هو الذي يحدِّد مستوى التعليم الذي ينبغي أن
يقدِّمه المسيح. وبهذه الصورة تنقطع معاملات المسيح في تعليمه وإرشاده وقيادته عن
النفس الرافضة للامتداد والنمو في معرفة أسرار الملكوت والحياة مع الله. وهنا تجيء
الآية: “فإن مَنْ له سيُعطى ويُزاد. وأمَّا مَنْ ليس له فالذي عنده سيؤخذ
منه” (مت 12: 13). لأن المتوقِّف في طريق الملكوت لا يظل متوقِّفاً بل
تتسرَّب منه مكاسبه وتضعف معارفه على المدى. فالنمو هو قانون الحياة الأبدية: بقدر
ما تنمو تأخذ وليس للأخذ نهاية وحتى في السماء. أمَّا البلادة والاستهانة
والاستهتار في التعامل مع تعليم الإنجيل فهي كفيلة بأن تفرِّغ قلب الإنسان من
الروح حتى يصبح الإنسان وكأنه بلا هدف ولا رجاء يحيا له.

 

21- إنجيل
ق. يوحنا متماسك التركيب

وعميق
الأحاديث وذلك لروحانية ق. يوحنا

على
ضوء ما سبق وتكلَّمنا نجد أن الذي يأخذ من المسيح ليكتب إنجيلاً سيكون حتماً
محصوراً ومتأثِّراً بأمرين أساسيين: الأول مدى عمق وانفتاح وعي الإنجيلي نفسه،
والثاني مقدار ما استوعب من شخصية المسيح وأحاديثه. فالثلاثة أناجيل المتناظرة نجدها
ذات طابع متقارب، سجَّلت الأحاديث كما هي واستوعبت من تعاليم المسيح قدراً
متساوياً، لا نستطيع أن نقول إنه بسيط أو عادي، ولا نستطيع أن نقول إنه عميق بما
يوازي حقيقة المسيح تماماً. فسواء أقواله المسترسلة الطويلة نوعاً ما أو القصيرة
ذات المعاني الواضحة العملية فكلها تحمل طابعاً واحداً من التعليم المدرسي اللائق
بملكوت الله. فإذا جئنا إلى إنجيل ق. يوحنا نجد منذ البداية العمق والحكمة، بل
والحكمة العالية جداً والأحاديث الطويلة العميقة الهادفة لأهداف قوية روحانية.
كذلك في التعاليم الخاصة بالحياة الروحية والملكوت نجدها عميقة لا تقل عمقاً عن
الأحاديث الطويلة، كل منها يهدف إلى غاية عالية
وكلها ذات ارتباط وهدف واحد منسجم وعميق. فلماذا هذا الفارق الكبير؟ هذا كان

موضوع نقاش وعراك بين العلماء الذين التزموا
بالروح والإلهام، وفسَّروا أن هذا هو طابع إنجيل ق.
يوحنا عن أصالة؛ والآخرين والنُقَّاد الذين أساءوا
إلى أصالة الإنجيل ووحدة منبعه وعصره وكاتبه.

ولكن
الذي يعي الكلام الذي قلناه بخصوص الأوصاف التي راعاها المسيح في تعليمه معتمداً
على سامعيه ومعتمداً على مدى تأثير الكلمة ونموها واستيعابهم لها، وارتفاعه أو
هبوطه بمستوى العمق والإيضاح بما يناسب الذين يسمعون ويتعلَّمون، يكتشف علة اختلاف
مستوى ومضمون وشكل الكلام الذي كان يقوله في الجليل والذي علَّم به في أُورشليم،
أو بين ما كان يعلِّم به الجموع الملتفة حوله على بحيرة طبرية، وبين نقاشه مع
الكتبة والفريسيين، ومع رؤساء الكهنة. ثم بين هذا كله وبين ما كان ينتهي إليه في
تعليم تلاميذه. والأمر نفسه نقوله بين تلميذ وتلميذ. فالحادث فيما يخص إنجيل ق.
يوحنا أن التلميذ نفسه وهو ق. يوحنا كان على مستوى من الروحانية والعمق والعاطفة
ما أهَّله أن يستوعب من المسيح القدر الذي أراده المسيح من العمق الروحي البديع،
وأيضاً وبالأكثر هذا مكَّن المسيح نفسه أن يفيض في الحديث معه ويسترسل في العمق
والروحانية والحكمة، وهو واثق أن الذي يسمعه هو على نفس المستوى من الوعي والحفظ.
هذا ويتحتَّم إضافة ما منحه المسيح خاصة من الحب ومعه عطية انفتاح البصيرة.
وباختصار كان المسيح بالنسبة للتلاميذ معلِّماً مدرسياً على مستوى روحاني، أمَّا
بالنسبة للقديس يوحنا فكان تعليم المسيح على مستوى الاستعلان الذي صادف قدرة هائلة
من ق. يوحنا في استقبال هذه الاستعلانات، أضف إليها الأسئلة من ق. يوحنا وأجوبة
المسيح التي كانت عاملاً كبيراً في توسيع مدارك ق. يوحنا واتساع دائرة رؤيته
وقدرته في السرد والرواية.

وباختصار،
وحتى الآن، فالإنسان المسيحي لا تقاس روحانيته ومعرفته الإلهية بمقدار تعلُّمه
واستذكاره، أو كثرة قراءته أو قدرته على الكلام والكتابة؛ ولكن تقاس روحانيته
وتُعلن قولاً أو كتابة على مقدار انفتاح وعيه المسيحي وقدرته على إدراك ما في
الاستعلان من أسرار. فالعمق في المسيحية ينادي
العمق الأكثر، والاستعلان هو لذوي القلوب المفتوحة والقادرة على الاستيعاب

كذلك.

فلو
دخلنا إلى التحليل في عرضنا لإنجيل ق. يوحنا بالنسبة للثلاثة أناجيل الأخرى، نجد
مثلاً أن الأمثال، وهي أقوال المسيح التي اعتمدت على النقل الشفاهي والتي كُتبت
بلغتنا، وهي صورة جيدة لوسيلة المسيح في التعليم الذي يُنقل شفهياً، فإن ق. يوحنا
وعلى مستوى إنجيله لم يذكر شيئاً من الأمثال الموجودة في الثلاثة أناجيل الأخرى. أولاً:
لأنها لا تتناسب مع أسلوبه وطريقة التعليم فيه الذي هو على مستوى الاستعلان
الذي قبله من المسيح. ثانياً: لأنه يَعْلَمُ بوجود الأناجيل التي اهتمَّت
بالتعاليم العامة المدرسية مثل إنجيل ق. متى. هذا وإنجيل ق. يوحنا لم يتخلَّ كلية
عن الأمثال، ولكنه قدَّم نوعاً من الأمثال يتمشَّى مع مستوى أسلوبه وإنجيله،
كمَثَل الراعي والخراف وكان مَثَلاً عميقاً مما أحدث أزمة في نفوس التلاميذ:
“هذا المثل قاله لهم يسوع، وأمَّا هم فلم يفهموا ما هو الذي كان يكلِّمهم
به” (يو 6: 10). وواضح جداً الآن أن ق. يوحنا فهمه وسجَّله، وأمَّا بقية
التلاميذ فلم يفهموه ولم يسجِّلوه ولا حفظوه، لذلك غاب عن الأناجيل الثلاثة!

فإذا
جئنا إلى مثل المسيح في إنجيل ق. يوحنا: أنا الكرمة وأبي الكرَّام وأنتم الأغصان،
فلأول وهلة نجد أنه من الاستحالة أن يكون التلاميذ قد فهموه، فهو يحوي أعمق سر
للاَّهوت الذي يجمع بين الآب والابن والكنيسة، حيث الأغصان هي جسم المسيح. لذلك
نجده قد غاب في الأناجيل الثلاثة. ولكن شكراً لله وللقديس يوحنا لأنه من دعائم
التعليم بسر المسيح والكنيسة.

 

22- توافق
المسيح مع إمكانيات سامعيه

لقد
تميَّزت تعاليم المسيح بالتنوُّع في العمق والمستوى. ففي الأساس يبدأ المسيح على
المستوى العام ويترفَّق بالجهال وضعاف الفكر، فينزل إلى أقل مستوى، الذي حينما
نواجهه نحن نتضجَّر، ولكن ما أن يحس أن السامعين قد استوعبوا الفكر، فإنه يرتفع
قليلاً قليلاً ليبلغ بهم الحقائق الهامة والجوهرية. فهو ينزل إليهم ليرفعهم إليه.
وهذا هو أسلوب الله نفسه مع كل البشرية. والمسيح يستخدم هذا الأسلوب من البداية
حتى وإلى أقصى ارتفاعه، فهو يتباسط مع الجاهل، ولكن يرتفع إلى مستوى العارف ويمدّه
بأرفع من معرفته ليرفعه هو الآخر إلى مستواه. وفي الطريق فإن الذي ابتدأ يعرف
يمدّه بقوة روحية كاشفة إضافية ليزداد في معرفته حتى النهاية. ونحن نقرأها في
نهاية تعاليم المسيح بالنسبة لتلاميذه: “حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب”
(لو 45: 24). فحتى إذا كانت هناك معلومة جديدة يودّ أن يُدخلها في أذهانهم، فإنه
يبدأ من مستوى الدرجة التي يعرفونها والمعلومة التي يكونون متأكدين منها، ومن هذه
يرتفع إلى الجديد والأعلى. بهذا الأسلوب بدأ مع تلاميذه لينير ذهنهم بالحياة
الأبدية. علماً بأن المسيح كمعلِّم إلهي كان يستخدم قدرته الروحية في توسيع مدارك
التلاميذ حتى يستوعبوا الأمور الإلهية: “إلى مَنْ نذهب؟ كلام الحياة الأبدية
عندك” (يو 68: 6). واضح هنا أن المسيح وضع بذرة المعرفة التي بدأت تفتح
ذهنهم. وإلى الآن فقارئ الإنجيل إن كان نشطاً وأميناً تنسكب عليه النعمة فينفتح
ذهنه ويُدرك أسراره، إنها نعمة الإنجيل الخاصة بمحبيه: “ليس أحد ترك.. لأجلي
ولأجل الإنجيل” (مر 29: 10). الإنجيل هنا هدف حياة!! ومعروف أنه لولا أن
المسيح تنازل إلينا متجسِّداً من علو مجده ما كان ممكناً للطبيعة الإلهية أن
تترفَّق بالإنسان هكذا، نزولاً وارتفاعاً لكي تتوافق مع إمكانياتنا الضعيفة لتبلغ
نفس الإمكانيات التي يريدها الله.

ولكن
تظل طبيعة المعلِّم الإلهي الفائقة العلو والقداسة قادرة أن تتنازل إلى خامات
معاكسة أو عقول كريهة، كالتي للكتبة والفرِّيسيين. فالتنافر كان على أشده حينما
كانت تبتدئ هذه العينات في المحاجاة والمعاكسة. فالكلمة عند المسيح روح وحياة، لا
تسكن إلاَّ في العقول والقلوب التي صارت على مستواها. فالتلميذ أو قارئ الإنجيل
الذي يريد أن يتعلَّم لابد أن ينقِّي قلبه وفكره أولاً لكي يرتاح فيه سر الإنجيل
وتسكن فيه قوة الكلمة والحكمة.

والمسيح
زارع حق، وزرعه لا ينبت ولا ينمو إلاَّ في التربة الجيدة التي تتوافق مع الحق،
وشمسه طاهرة لا تغذِّي بأشعتها الشافية إلاَّ مَنْ خضع لقداسة نورها وحرارتها،
وغيثه ينسكب منه ماء الحياة لا يسقي ولا يروي إلاَّ الذي توفَّرت لديه النعمة.

وقدرة
المسيح على تغيير القلوب والأفكار حاضرة ومستعدة دائماً، فالذي يُجبر الكسيح ليقوم
ويطفر، يُجبر عجز الطبيعة إن هي شاءت وخضعت، والذي أقام الميت بكلمة كم يكون
استعداده أن يقوِّم جهالة الجاهل إن هو سعى نحو الحكمة وطلبها باشتياق!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى