علم المسيح

ليل يهوذا



ليل يهوذا

ليل يهوذا

. ما
كان رأي يهوذا في جميع تلك الأحداث؟ لقد كان ثمة، مع الآخرين، ولم يكن أحد قد أطلع
علي مسعاه. ولا شك أن بعض الأقوال كانت قد أثارت كوامن حقده – وما كان إلا ليحكم
فهم مراميها ” الآخرون يكونون أولين “، فباتت تتأكله الرغبة في استعجال
الخاتمة.. وكان المسيح قد ألمع مرتين إلي خيانته، ولكن بأسلوب لم يدركه سواه:
المرة الأولي، عند غسل الأرجل، إذ قال لتلاميذه: ” أنتم أنقياء، ولكن لا
جميعكم! “، والمرة الأخري، بعد لحظات، إذ أعلنهم ثانية بتحقق قول الكتاب:
” إن الذي يأكل خبزي، قد رفع علي عقبه!” (يوحنا 13: 10-18) ثم صرح
المسيح بشكواه، وقت الطعام، قائلاً: ” الحق الحق أقول لكم: إن واحداً منكم
سيسلمني! “. فاستولي علي الرسل حزن شديد، وشرع كل واحد يقول له: ” العلي
أنا، يا رب؟”، لم يجب المسيح، بل تابع كلامه، في شيه إنذار أخير: ” إن
ابن البشر ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذاك لرجل الذي يسلم ابن البشر! “،
فقد كان خيراً لذلك الرجل أن لا يولد!”، وسأله يهوذا – أما متحديا وإما
مستخفاً: ” العلي أنا، رابي؟ “، أجاب يسوع – فكان جوابه إيماءة، وكلمة
موشوشة، لم يدركها إلا ذاك الذي توجهت إليه: ” أنت قلت! “، عبارة
مألوفة، متداولة جداً في لغة اليهود، وقد أجاب بها موسى فرعون، ملك مصر (خروج 10:
29)

 

. في
ردهة الطعام – وكانت تجز علي طريقة الموائد الرومانية كما يمكن مشاهدتها في بومبيه
– كان الآكلون يتوزعون علي ثلاثة متكآت محيطة بالمائدة من جوانبها الثلاثة. وأما
الجهة الرابعة فكانت تترك برحاً لاستقدام الطعام. وكان وسط المائدة، من لجهة
المحاذية للفراغ، هو محل الشرف، والمحل لتالي من جهة اليمين كان يدعي ” حضن
رب البيت ” {كان الآكلون، يتكئون، متمدين حول المائدة علي سواعدهم اليسرى،
ولمتكي أما غيره كانوا يقولون عنه متكي في حضنه.}، وكان متكئاً فيه، آنذاك، يوحنا
الرسول ” الذي كان يسوع يحبه “. وكان بطرس، ولا بد، إلي اليسار. وأما
يهوذا، فقد اتخذ – علي الأرجح – محلاً في طرف أحد المتكأين الآخرين، بصفته قيماً،
عليه أن يتمكن من الخروج من غير أن يزعج المتكئين. وطفق لتلاميذ ينظرون بعضهم إلي بعض
وهم في اضطرب متصاعد. فأومأ بطرس إلي يوحنا، قائلاً: سله، عمن يتكلم؟ “.
فاستند يوحنا إلي صدر يسوع، وقال له: ” رب، من هو؟ “، فأجابه يسوع:
” الذي أعطيه اللقمة التي أغمسها “، وغمس اللقمة وناولها يهوذا بن سمعان
الاسخريوطي ” (يوحنا 13: 23 – 26) وأما في رواية متي، فيسوع يومئ إلي الخائن
بأسلوب آخر: ” إن الذي غمس يده في الصحفة، هو يسلمني! ” (متي 26: 23).
قد ورد في نص من مخطوطات البحر الميت: ” إذا اجتمعوا للطعام، وحضرت المائدة
المشتركة، ومزج الخمر، فلا يمدن أحد يده إلي اللقمة الأولي ولا إلي الخمر، قبل الكاهن
“. ومثل هذه العادات لا تزال مرعية،؛تي اليوم، في بعض البلاد الشرقية. فوضع
اليد، مع رجل لآخر، في الصحفة، لا يجوز، مثلاً، عند عرب سورية والأردن، إلا لأغراض
شعائرية معلومة. ويتعوذ المرء إذا ود لقمة واستبقه إليها رجل آخر

مقالات ذات صلة

 

هل
توخي المسيح، من عمله هذا، أن يأتي بمحاولة أخيرة لانتشال يهوذا من هذه جحيمة؟
هناك ساعات تكون فيها النفس من شدة العنف والحقد بحيث لا تجد في مثل ذاك لتودد
طريقاً إلي لنور، بل سبيلاً إلي الإمعان في مهاوي الظلمة.. ” وبعد اللقمة،
دخل فيه الشيطان!”.. كل هذا المشهد، لم يكن – ولاشك – قد أدركه إلا يوحنا
وصاحب الأمر، فأضاف يسوع، قائلاً: ” ما أنت فاعله، فافعله عاجلاً! “،
فلم يفهم أحد من المتكئين لم قال له ذلك. وخطر لبعضهم – إذ كان الكيس بيده – أن
يسوع إنما أوعز إليه بأن يبتاع بعض حوائج العيد، أو بأن يتصدق بما كانت تقضي به
الشريعة الفصحية. ” فلما تناول يهوذا اللقمة، خرج لساعته، وكان ليل!..”

 

..
” كان ليل!..”. فالبدر لم يكن بعد قد أطل، وتلط ملاحظة بليغة من شاهد
عيان رأي الباب ينفتح علي الظلمة، والخائن يسعى إلي هلاكه في غياهب الليل! بيد أن
تلك الملاحظة – وهي خليفة بكاتب عظيم – ألا تبعث في النفس صورة أخرى؟ صورة ليل أشد
كثافة، قد ارتمي فيه 1اك الرجل المتصلب في عناده، يجرفه قدر هائل، وتسيره خطيئة
عمياء!..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى