علم المسيح

أحد الشعانين



أحد الشعانين

أحد الشعانين

الأيام
الأخيرة

الأسبوع
المقدس

. لا
تعرف الكنسية، في جميع مراحل ” الدورة الليتورجية ” وما يتخللها من أبهة
ورموز، أسبوعا أبهى رونقاً وأحفل مغزى من الأسبوع الذي تقييم فيه ذكري الأيام
الأخيرة التي قضاها يسوع المسيح علي الأرض.” الأسبوع المقدس “!.. ليس من
مسيحي علي وجه البسيطة إلا وتثير فيه هاتان اللفظتان ذكري أعياد متعارضة، يتناوب
فيها البهجة والأسى، ويتعاقب النشيد الصادح والصمت الكئيب. وتسمي فيها
الكاتدرائيات والكنائس والمعابد الراعوية البسيطة، مسرحاً تتجدد عليه المأساة كل
سنة

مقالات ذات صلة

 

.
ويبتدئ الأسبوع المقدس في غمرة غضيضة من السعف وأغصان الزيتون. وما إن تغيض ألحان
التسبيح والنشيد حتى يخيم عليه خشوع الصلوات المسائية حيث قراءة ” النبوءات
” الطويلة وترتيل ” المزامير ” المتناوبة يذكران بالمأساة المتحفزة
والمواعيد الدهرية التي سوف تكون المأساة خاتمة تحقيقها. ويأتي الخميس العظيم
المقدس – يوم الافخارستيا – فيعترض درب الجلجثة بدفقة من نور، بيد أ، ”
القربانة” المخبوءة ما بين الأزهار والشموع، إنما هي تجسد تلك الأضحية التي
بات الشعب يعبدها جاثياً علي ركبتيه. ثم يدهمنا الظلام، بأجراسه الخرساء، ووطء
أقدام الجماهير الحزينة، السائرة علي ” دروب الصليب “. وحتى المعابد،
بتماثلها المحجوبة، ومذابحها الخالية، تبدو، اذ ذاك كأنها تشاطر العالم حزنه وأساه
وتظل إلى أن ينفجر أخيراً، في صحوة النهار المعجز، هتاف الأمل والحبور: ”
المسيح قام”

 

فذاك
التناوب ما بين الظلال والأضواء أو قل: ذاك التساوق الآني ما ببن البهجة والآسي
إنما هما انعكاس الشعور الذي يتركه في النفس، الوقوف علي أخريات حياة المسيح، كما
جاء تدوينها في الأناجيل الأربعة فهناك في مؤخرة الأحداث، وفي ظلام الدسيسة
والبغضاء، أخذت تنعقد انعقاداً نهائياً المؤامرة التي وهمت أنها سوف تقضي عليه.
وقد عرف المسيح ذلك، فلم تراوده فكرة التملص – بالهروب – من أولئك الذين راحوا،
باغتياله، يعدون له نصراً مبيناً.. لقد اقتربت الساعة – ساعة الظلمة!.. – وأوشك
السر القاني أن يحقق للناس فداءاهم، فلم تفارقه سكينته المهودة، يل نراه – حتى في
تلك اللحظات الحاسمة – يجود بأروع كلام وأجود نطق. بيد أن الإنسان فيه قد ارتعش
أحياناً، وانتفض فيه الشباب والجسد، لما بات يترقبه من موت شاءه الله فيه!! أسبوع
تميز بظاهرتين من ظاهرات المجد: الاستقبال الشعبي، ووضع سر ” الافخارستيا
” ولكنه أيضاً هو الأسبوع الذي انطلقت فيه الكلمة الحاسمة: ” أ، لم تمت
حبه الحنطة!..” أجل، هو أسبوع النزاع والتخلي والصليب!..

 

.
وترك يسوع التستر، فكان يقيم تارة في عنيا، وتارة في جبل الزيتون – وكان قربهما من
أورشليم يسهل عليه تنقلاته إلي المدينة ذهاباً وإياباً.. ولقد كان اليهود الشاخصون
من الأردن إلي أورشليم في قوافلهم يعتقدون – ولا شيك – أنهم مقبلون علي عيد مثل
سائر الأعياد ولن يكون صلب أحد المتمردين، عند جدران المدينة، بالحدث المفاجئ بيد
أن ذاك التواقع بين ذكري نجاه الشعب المختار واستشهاد المسيح، لم يكن مجرد صدفه
ومحض اتفاق، وذلك أمر لاشك فيه: ففي ألامس كان المسيح قد لاذ بإفرائيم تحامياً من
شر أعدائه، وها هو اليوم يدفع بنفسه إلى أيديهم. ليس آذن من ريب في أن احدث هذا
الأسبوع قد صدرت عن نيه صريحة بينة

 

.
وهذا التوافق بين عيد اليهود ومصرع المسيح يخلف للتاريخ معلماً نفسياً ومستنداً من
أوثق المستندات الإخبارية لسيرة المسيح، فلقد أجمع جييون الأربعة علي أن يسوع قد
فارق الحياة نهار الجمعة (متي 37: 62، مرقس 15: 42، لوقا 23: 54، يوحنا 19: 31).
فإذا عولنا علي مؤديات الإنجيل الرابع – وهو يمتاز بدقة معلوماته التاريخية – توثق
لنا أن موت المسيح قد وقع في ذات النهار الذي وجب فيه تناول الفصح (يوحنا 18: 28)
أي في 14 نسيان، بموجب التقويم اليهودي ونعلم من جهة أخري أن وقوع الفصح نهار
الجمعة لم يتحقق، في عهد المسيح آلا في 11 نسيان سنة 27، 7 نسيان سنة 30، و4 نسيان
سنة 330 فإذا قارنا هذا بما ثبت لنا من المعلومات المتعلقة بتاريخ ميلاده ومدة
الرسالة العلنية، انتفي الافتراض الأول والثالث وبقي الثاني (أي 7 نسيان سنة 30)
{إذا تقيدنا بأن النهار عند اليهود، كان يحسب ابتداء من الغروب حتى غروب الناهر
التالي، استقام لنا هذا التوقيت} ” الأسبوع العظيم ” فبيدأ إذن النهار
الأحد به ” غوتي ” حيث قال: إني أوثر الظلم علي البلبلة “! وإنما
يبقي أن نعرف هل الظلم، وإ،، مفرداُ واستثنائياً، لا يقذف في كيان المجتمع بأسره
جرثومة فناء تعرضه لافدح المكاره؟ منذ آلفي سنة، ويزال السؤال معلقاً، وإنما من
يسوع إلى اليوم، قد أمست طويلة جداً لائحة الذين احترمتهم البشرية بحجة المصلحة
العامة!

 

بيد
أن قضية المسيح لم تكن لتنحصر ضمن ذاك الحيز الضامر، وقد لفت يوحنا النظر إلى ذلك
لفتاً حازماً، مثبتاً ان قياقا بكلامه ذاك إنما كان صوتاً نبوياً. وقد ذهب فيلون –
وهو من معاصري تلك الحقبة – إلى، النبوة هي من امتيازات رئيس الكهنة، يعطاها مع
الافود المقدس. وجاء في تاريخ إفلافيس يوسيفس أنه قد اتفق ليوحنا هرقان أن تنبأ
أحياناً. فقيافا أيضاً، ومن غير علم منه، قد أنبا بحدث هو أجل من أن يكون مجرد
اعتقال أحد المشاغبين. فقد كان لا بد من أن يموت المسيح عن الأمة، ” وليس عن
الآمة فقط، بل ليجمع أيضا في الوحدة، أبناء الله المتفرقين ” (يوحنا 11: 51 –
52). ومن ثم فما كان أولئك السياسيون المتيقظون سوي آلات بين يدي القدير!

 

! وقد
التأمت هذه المجالس أكثر من مرة. ونحن نتصور فيها مدي الارتباك، ولا بدع فالقضية
تقتضي حيطة وعناية: فهل ينبغي اعتقال ذاك المضل في وسط الجماهير؟ وإذا نجم عن ذلك
شجار وسفك دماء، فما يكون موقف رومة؟ لا بد إذن بادئ الأمر، من الاحتيال عليه وهدم
نفوذة، إذ ذاك ينفسح المجال للتمثيل به. وقد جاء في التلمود، عن رابي عقيبة، قوله:
” أوقعوا بالعلماء المضلين في مواسم الحج الكبرى!” فذاك أوقع في النفوس!
أجل لم يكن من الحيلة بد، بادئ ذي بدء، وقد تدبروا الأمر مرارا وبحثوا أيضاً –
بطريق العرض – في ضرورة التخلص من لعازر – وقد أمسى وجوده دليلاً حياً علي قدرة
يسوع الخارقة – والإجهاز عليه، هذه المرة، إجهازا مبرماً. (يوحنا 12: 10 – 11).
وانهم لفي تساؤل وتلمس ونقاش، إذ ظهر المشاغب، ثانية، في أورشليم، بجرأة لا تصدق،
هازئاً بالكتبة والعلماء والشيوخ والكهنة والسنهدربن برمته

 

الموكب
الفخيم

لا
بد، منذ الآن من أن نتأثر المسيح، يوماً بعد يوم لا بل ساعة فساعة في سعيه شطر
القرار الأخير.. هو الاحد، 2 نيسان إننا نتمثل تلك الصبيحة من صبائح الربيع في
اليهودية، وذاك الشفوف الأثيري الذي تنجلي من خلاله الآفاق البعيدة، وذاك الهواء
العليل، الحافل بأريج الأعشاب، والسائل مع تغريد القبرة في نغماتها.المتكررة بلا
انقطاع، وكل ما هنالك مما يبعث في النفس شبه إحساس بجوار نعمة الله. وكان جمع غفير
قد غدا باكراً، علي طريق بيت عنيا، لسماع يسوع. ولم يكن من لسان آلا وبات يلهج
بخير معجزاته، والأعميين الذين أفاء إليهما البصر في أريحا، وخصوصاً بلغازر الذي
أعاده إلى ذيه، بعد أن كان قد انتن في القبر!.

 

.
وكان يسوع هو أيضا في الطريق شاخصاً إلى أورشليم.. وينهد الطريق مصعداً في المنحدر
الشرقي من جبل الزيتون، فيخلف القمة يساراً، ويفضي – بعد لف وانعطاف – إلى مشرف
يطل منه النظر علي المدينة إطلاله رائعة.. وتألف موكب من ذاك الخليط من الفضول
والإعجاب. وكانت هناك، قبيل الشعب، قرية صغيرة، تدعي بيت فاجي (أي بيت التين)، قد
تناثرت علي حفافي الطريق. اذ ذاك أقدم يسوع علي عمل لم يفقه الجمهور توا ًخطورته،
بيد أن الإنجيلين كلهم قد أشاروا إليه. (متي 21، مرقس 11، لوقا 19: 29، يوحنا 12:
14). قال المسيح لاثنين من تلاميذه: ” امضا إلى القرية التي أمامكما، فتجدا،
في الحال، أتاناً مربوطة، وجحشاً معها، لم يعله أحد بعد. فحلاهما واتياني بهما.
وإن قال لكما أحد شيئاً، فقولا: ” الرب يحتاج إليهما، وسيردهما سريعاً ”

 

.
دابة؟.. ألعله، عن تعب، أمر بها؟ ولكن المسيح – علي ما يبدو من خلاله الانجيل كله
– كان صبوراً علي التعب، جلوداً في السير! ام إنه ركوبة، مثل هذه، لم يكن لها، من
الأبهة، نصيب كبير!.. ومهما قيل من أن الحمار الشرقي قوي جميل، لا يخلوا من
الكرامة واللياقة حتى بذوي المناصب، كما يتبين ذلك من سفر القضاة (10: 4، 12: 14)،
ومن سيرة أبشالوم الذي لاقي آجاكس بأنه ” رائع كالحمار “- فأنه يبقي
ثابتاً، مع ذلك أن خيالاً رومانياً، علي حصان أصيل، كان ربما نظر بشيء من الشفقة
إلى ذاك الزعيم الشعبي الوافد علي أغراض أعمق. فالجحش – في تاريخ العهد القديم –
هو رمز السلام والحياة الوادعة، المتواضعة، بينما الفرس رمز الحرب والأبهة والغزو.
وقد أخذ الأنبياء – مراراً – علي الملوك، تمسكهم الشديد بالخيانة! فالمسيح ملك –
ولا ريب! – ولكنه ملك مسالم!.. وأما الإشارة إلي أن الجحش ” لم يعله أحد
بعد”. فهي دليل علي ” قدسية ” ذاك الاختيار فقد كان يعتقد القدامى
أن كل حيوان أ, متاع استعمل لأغراض دنيوية، لا يعود صالحاً للوظائف المقدسة. (عدد
19: 2، 21: 3، صموئيل 6: 7). وهناك خصوصاً آية، في نبوءة زخريا، جاء فيها: ”
هوذا ملك يأتيك صديقاً مخلصاً وديعاً راكباً علي أتان وجحش ابن أتان ” (9:
9). فالمسيح قد توخي أذن، من اختياره لتلك الدابة الوضيعة، أن يوتي الناس آية
ماسوية. فالنصر الذي بات علي الأبواب، أنما هو نصر ذاك الملك الموعود في كتب
الأنبياء، وكان لا بد أن يعلن علي وجه الملأ في اليوم الذي أخذ ينعقد فيه كل شي!

 

..
نصر، ولا شك، زهيد، وبعيد كل البعد عما ألفه الرومان في احتفالاتهم من مشهد الظافر
فوق عربته، والجيوش بجحافلها الجرارة، والأسري موثقين في مؤخرة الموكب. وأما موكب
المسيح فقد توفق فرا إنجيليو إلى اكتناه بساطته وعظمته الوادعة.. فقي شبه انطلاقه
عفوية انتظم الناس حوله، من معجبين وفضوليين، موكباً شعبياً.” وفرش جماعات من
الشعب ارديتهم في الطريق. وكان الجموع الذين قدامه والذين وراءه يهتفون قائلين:
” هوشعنا لابن داود، مبارك آلاتي باسم الرب! هوشعنا في الأعالي!”..تلك
الأعشاب الوضيعة، أعشاب اليهودية الخضراء المشحمة، في نيسان، والحافلة بالأريج،
أغصان الزيتونة، شجرة السلم، سعف النخل الذي لابد منه للاحتفال بأعياد النصر
احتفالاً لائقاً.. كل تلك الأعشاب، تري فيها الكنيسة رمزاً إلي الحسنات التي ينبغي
أن نستقبل بها المسيح، ونطرحها عند أقدامه.. وأما عادة فرش الثياب تحت أقدام من
يرغب في إكرامهم، فهي عريقه في الشرق، تلمع إليها غير واحدة من قصص ” ألف
ليلة وليلة “..و قد روي سفير إنكليزي في دمشق، منذ مئة سنة، أنه كان مجتاز
ببيت لحم، لحم فجاء لملاقاته مئات أقدام فرسه، وهم يتوسلون إليه أن يتشفع لهم إلى
الوالي المصري. وكانوا قد أثاروا حفيظته بفتنة قاموا بها

 

.
وكان للفريسيين عيون في كل مكان، فدهموهم بالنبأ المثير.. لقد كانوا علي يقين من
أن المسيح سوف يقصد إلي أورشليم للفصح، ولكنهم كانوا يرجون أن يلتزم، كما في حجاته
السابقة، حدود التفطن، واذا به يفد علي المدينة وفود الظافرين، منتحلاً، جهاراً،
انه المسيح رب المجد..فقالوا له، ساخطين: ” يا معلم! زجر تلاميذك!”
فأجابهم يسوع: ” أقول لكم: إن سكت هؤلاء، صرخت الحجارة!” (لوقا 19:
39-40)

 

. عند
قمة الجبل، وفي الموضع الذي ينفرج فيه الشعب وتفضي منه الطريق إلي المنحدر الغربي
فتهبط فيه هبوطاً سريعاً، توقف يسوع. وكانت المدينة أمام عينيه، منبسطة، رائعة ملكية!
وليس أصلح من منحدرات جبل الزيتون للإشراف عليها، ولكأنها، في قاعدتها من الغرب
إلي الشرق، تستسلم للنظر استسلاماً، فإذا بها – من وراء وهدة قدرون – كتلة صفيقة،
مضر سه. ولم تكن آنذاك مثل ما نعهدها اليوم، فهي الآن، في وسط أسوارها المفرضة،
الملونة بألوان البرفير والبنفسج / مدينة من مدن القرون الوسطي، وضعت يد التاريخ
فوقها قبة كاملة التكوير، ذات زرقة فاتنة، تذكاراً للخليفة عمر، وغرست، ما بين
ركامات بيوتها الصهباء، مسلات المآذن الإسلامية. وأما عهد المسيح، فقد كان لها –
ولا شك – منظر أروع. لقد كانت، مثلها اليوم، مدينة الحجر، لا تدين آلا لناموس
الصخر والمعدن. وكأنها – علي حد ما وصفها شاتوبريات – مجموعة مبهمة من الضرائح،
قذفت بها يد الحدثان في جوف الصحاري.. ولكن ما كان أروعها – يوم ذاك – تلك العاصمة
الدهرية التي كان هيرودس الطاغية قد خلع عليها، من بذخه، حلة قشيبة ّ.. كانت بيضاء
حجارة الركائز التي قامت فوقها الجدران العملاقة، وكان بيضاء يسيل علي جبهنة
الهيكل الذي بدا. في تلك اللحظة، قائماً نصب عيني المسيح. وقد احتل المقدس، من ذاك
المشهد، نقطته المركزية. بكتلته الضخمة وساحاته وأسواره وأبراجه المنتظمة في شبيه
تصاعد رمزي. وقامت ” الانطونيا ” علي يمينه – وهي ثكنة الحامية
الرومانية – ببنائها المربع المهيب. وتناثر، هنا وهناك ما شادة الأحبار والولاة من
صروح باذبخة. وانتصب ” حصن داود ” في البعد خفيراً علي الأبواب التي
كانت تفضي إلي البحر، وكان هيرودس قد أعاد بناءه – إلي جانب قصره – فوق أسس تلك
السطوح العاية، حيث كان الملك الشاعر – في سالف الزمان – ينشد مزاميره، أمام رب
الازل. وكان لذاك الحصن برج منيع يبلغ طوله خمسين متراً وسوف يتحصن فيه – أربعين
سنة بعد المسيح – آخر حماة إسرائيل في مجابتهم لجيوش تيطس

 

.
وجاش في صدر المسيح، لدي هذا المشهد المترامي إزاء عينه، ومن جري ما أنطبع في نفسه
الآهلة بالروح من صور النوازل المتربصة، إيجاس مربع. كل ذدرياته كانت ههنا، ماثلة
أمام ناظرية. ذكريات أمته وشعبه. لقد ملك آباءه في هذا الموضع المقدس. وهم اليوم
راقدون في قعر هذه الوهدة المنفرجة إلي شماله، ما بين ركامات الضرائح البيضاء،
وحراب السرو القائمة. وهذا الهيكل الذي بات وحده، في الدنيا، معبداً للإله
الحقيقي، لقد كان أدري الناس بمراميه السامية. فعلام تحتم أن يؤول ذلك كله إلي
مأزق فاجع؟.. ولم سمح الله، في عنايته، أن يكون ذاك العناد وذاك التعامي؟.. وإذا
به يجهش بالبكاء! ” أوه! يا أورشليم، لو علمت، أ، ت أيضا، في هذا اليوم،
رسالة السلام! ولكن قد خفي ذلك عن ناظريك! فستأتي عليك أيام يحيق بك فيها أعداؤك
بالمتارس، ويحاصرونك، ويضيقون عليك من كل جهة، ويمحقونك أنت وبينك الذين ف6يك، ولا
يتركون فيك حجراً علي حجر، أنك لم تعرفي يوم افتقادك ” (لوقا 19: 41 – 44)
كلمات غريبة، محفوقة بالسر! ولم يأت المسيح، فوراً علي تفسيرها

 

.. لا
بد أنه ولج المدينة من ” الباب الذهبي ” (و قد ضرب الصليبيون عليه
جداراً، وبنوا فيه معبداً)، وكان يفتح، يوم الشعانين، فيدخل منه البطريرك راكباً
جحشاً وسائراً في موكب مهيب وسط هتافات الجمهور، وفوق بساط من الثياب والأغصان.
وكان ” الباب الذهبي ” أقرب الأبواب إلي الهيكل: فشخص إليه. واذا به
أمام ذات المشهد الذي كان قد أثار حفيظته، قبل سنتسن. فإذ إن التجارة والعبادة
كثيراً ما يتفاهمان ويتواطآن، فالأروقة كانت قد تحولت إلي مصاريف، والباحات إلي
أسواق، والقاعات المقدسة إلي حوانيت. وكان ينبعث من ذاك الحرم جلبة حادة: صياح
الناس وثغاء البهائم في اختلاط هجين. فاجتاح يسوع من الغضب مثل ما اجتاحه سالفاً،
وهب يضرب يميناً وشمالاً، ويرغم الناس علي إخلاء الطريق أمامه.. كلا! لن يبقي
دخوله أورشليم حدثاً مطوياً!! ولقد يسر ليسوع أن يعمد إلي مثل هذه السطوة، ذاك
الموكب الذي سار به حتي الهيكل. وقد تضخم عدد الماوكبين، لحظة بعد لحظة، منذ
خروجهم من بيت فاجي: ولم يكونوا كلهم من ذوي العقيدة والولاء، فالفضول، في مثل هذه
المجاهرات، نصيب وافر! ولكن الحمية كانت عظيمة. وكان الأطفال يهتفون له بأصواتهم
الصافية. (متي 21: 15 – 16) فأخذ الفريسيون، من الحزب المعارض، يزدادون قلقاً
واضطراباً، ويقولون بعضهم لبعض: ” ترون أنكم لا تستفيدون شيئاً!.. فها هوذا
العالم في إثره!” (يوحنا 12: 19) أجل! حتى بعض الوثنيين من الأمم – ربما من
أولئك ” المتقين ” الدخلاء علي دين التوحيد – أقبلوا علي فيليس واندراوس
يلتمسون منهما مواجهة يسوع {جاء في التقاليد الأسطورية الوثنيين كانوا رسل الأبحر
ملك الرها، وقد أوفدهم الي يسوع، يستضيفه في ولايته الصغيرة، ويقال إن يسوع شكر له
التفاتته، وأهداه رسمياً له أعجوبياً. لماذا التمسوا تلك المواجهة ربما لأن يسوع
كان، حينذاك – في ” ساحة المؤمنين ” وكان يحكم بالموت علي كل أغلف
” وثني غير مختوم ” يقدم عي الولوج في ذاك الركن المحظور من الهيكل}
(يوحنا 12: 20 – 26). لقد كان يسوع رجل الساعة!..

 

. بيد
أنه في غمرة ذاك المجد الذي برز فيه للملأ، وسط أورشليم، وفي تلك الفترة التي كان
فيها اسمه علي شفة، يردده جميع الشعب المحتشد للعيد، لم يكن ليذهل لحظة عن المصير
المتربص به، والخاتمة التي شاءها..و لما جاءه التلميذان يكلمانه في مواجهة أولئك اليونانيين
الذين أبدوا، في طلبه والتعرف به، رغبة ودية أجابها قائلاً: ” لقد حانت
الساعة التي يمجد فيها ابن البشر ” ولربما وقف علي ما كان يلج، في نفوس
أتباعه من ترقب النصر الدنيوي، فعاد مرة أخرى إلي إيضاح فكرته والكشف عن حقيقة ذاك
المجد وشروطه الراهنة.أجل ” لقد حانت الساعة التي يمجد فيها ابن
البشر!”و لكن.. ” الحق الحق أقول لكم: إن حبة الحنطة التي تقع في الأرض.
إن لم تمت، فإنها تبقي وحدها. وأما إن ماتت، فهي تأتي بثمر كثير..

 


من أحب نفسه، فأنه يملكها، ومن أبغض نفسه، في هذا العالم فأنه يحفظها للحياة
الأبدية ” (يوحنا 12: 24-25)

 

في
تلك الساعة التي بدا فيها أصحاب الموكب، من يهود ووثنيين الثمن الذي يقتضيه بعث
تلك البشرية الجديدة.. لقد انتصب سر الفداء، حيال ذهنه، مخضوباً بالدماء. ولم يكن
أتباعه ليفهموا بعد، ما هو المجد الذي وعدهم وما كانوا ليفهموا ما معني ذاك الرهان
العلوي، حيث ” الكاسب دري.. واذ كان انساناً، وانساناً صميماً فقد غشي نفسه
اضطراب الأليم اضطراب الإنسان حيال ذاك الآتي القريب المروع. ولقد غشيه مثل ذلك
وقت التجربة في وحشة ” جبل الأربعين ” يوم جابه الخصم! ولسوف بغشاه أكثر
من ذلك أيضا، مساء الخميس في بستان جتسماني، ساعة الأزمة الكبرى. وقد كشف لنا
القديس يوحنا، في بضعة أسطر، عن ذاك الصراع العنيف: ” الآن نفسي قد اضطربت،
ماذا أقول؟..يا أبتاه أنقذني من هذه الساعة! ولكن لأجل هذه الساعة قد جئت ”
(يوحنا 12: 27) اذ ذاك سمع دوي أشبه بهزيم الرعد في عواصف الربيع. وواصل يسوع
قائلاً، في انطلاقه خضوع كامل: ” أيها الأب، مجد اسمك!” فكان من الله.
في عليائه، جواب!

 

.
هكذا انطوي في جو القلق البهيم، ذاك النهار أطل علي الدنيا في إشراقه من النصر
الأغر. وقد سمع الجمهور ذاك الدوي الذي هبط عليه من الغيب، فذهب البعض إلي أنه صوت
ملاك: فقال يسوع ” ليس من اجلي كان هذا الصوت، بل من أجلكم!.. لقد حمت ساعة
الحساب! ألان رئيس هذا العالم يلقي خارجاً، وأنا متي رفعت عن الأرض رفعت إلي
الجميع!”. لقد خفي عن اليهود ما انطوي عليه استعمال هذا الجناس من إنذار
رهيب. أو لم يرد في النصوص المقدسة أن المسيح يثبت إلي الأبد؟ فكيف ينبئ اذن
بموته؟ فما معني قوله: ” ينبغي أن يرفع!” ومن هو ابن البشر هذا؟..
(يوحنا 12: 29-35) لقد تبعوا النبي. منذ الصباح، وها بعضهم قد اخذوا – من الإعياء
– ينسحبون شيئاً فشيئاً. وجاء الظلام – وقد غابت الشمس نحو الساعة الخامسة والنصف،
منحدرة في المغرب القاني، وراء أبراج ” فزائيل ” ومريمنه ” و”
هيبيكس ” ” وكان هيرودس قد رفهعها تخليداً لذكري ثلاثة أحبهم!) وظل يسوع
في إحدى باحات الهيكل، وقد تضاءل الناس من حوله. ولا بدع فالحياه لا بد أن تعود
إلي مجراها والمهام اليومية أن تنال نصيبها وهناك فوق جرود موآب البنفسجية، أخذت
تتسحب أواخر أضواء النهار. كان سمعان الشيخ – يوم قدم يسوع للهيكل طفلاً صغيراً –
قد أنبأ ” بالنور المنجلي!” (لوقا 2: 29 -32) وقال يسوع في نصح أخير:
” إن النور معكم بعد إلي حين، فسيروا مادام معكم، لئلاً بغشاكم الظلام، لان
من يمشي في الظلام لا يدرى أين يذهب! فما دام النور معكم فأمنوا بالنور، لتكونوا
أبناء النور {أبناء النور تعبير مألوف في كتابات الاسينيين} (يوحنا 12: 35-36)

 

. أخذ
المؤمنون يخلون الهيكل شيئاً فشيئاً. ورجع الكهنة لإقامة ذبائح التقديم، وها هم –
حفاة – يعرجون في مراقي الحرم، وحب مع الليل، نسيم بارد.. ما كانت هواجسهم، يا تري
أولئك الاثنا عشر الذين باتوا حول المسيح؟ لا! لن يكون اليوم موعد الثورة واستنهاض
الشعب، وإلجاء قيافا إلي أن يمسح ملكاً هذا المسيح الغريب الأطوار!.. ثم ما لبثوا
أن انحدروا، في إثره، إلي الباب الذهبي وذهبوا في طريق بيت عنيا

 

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى