علم المسيح

مضامين الوحي في اليهودية



مضامين الوحي في اليهودية

مضامين الوحي في
اليهودية

.
ولكن هل كانت مرحلةً جديدة في ميدان التعليم والتعريف بفكرة المسيح؟ نعم ولا. فإنه
ليس من جدل في أننا كلّما دنونا من خاتمة حياته الأرضية، تبينّ لنا، بصورة أوضح،
أنه آخذ في الإفصاح من فحوى رسالته والكشف عن مؤديات سرّه، وإعداد أتباعه لاكتناه
ذاك السرّ يومُ يختم عليه بخاتم التضحية. وأما جوهر تعليمه فما تطوّر، وما تبدّلت
عناصره. ولقد لاحظنا، من قبل، أن فكرة المسيح – بعكس ما تجري عليه فكرة سائر الناس
– لم تخضع، لذاك التبدّ ل الاعتضائي الذي ينتج، عند كل واحد منا، من مواصلة
تفكيره، وتجويد أساليبه، ومن ذاك الاعتمال الذي يلتزم به كل إنسان يعنى بمقتضيات
النشاط الذهني. فلقد ظهرت فكرة المسيح كاملة التكوين، منذ مستهلّ الرسالة العلنية،
ولبثت كتلة متماسكة بوسعنا أن نتبينّ عناصرها الرائعة في ” خطبة الجبل
“، أو في كلام المسيح عن ” خبز الحياة ”

 

. فالمضامين
التعليمية الكبرى التي انطوت عليها فكرة المسيح قد لبثت هي هي في الحقبة اليهودية
وفي مرحلة الرسالة في الجليل. فهي ما انفكت تستضيء بفكرة المحبة، بدليل ما جهر به
المسيح، في مثل ” السامريّ الصالح “، من درس خالد. فهو يدعو مستمعيه إلى
التبصّر في صنيع ذاك العابر الشفوق، ويلجئهم إلى التساؤل: ” لو كنت في وضع
ذاك الجريح فممّن أودّ أن تأثي نصرتي، وإلى من أتوجّه بشكري؟ “. ولسوف
يفقهون، من ثم، من هو – في نظركل واحد منا- ذاك ” القريب “، الذي نستنجد
به والذي علينا أيضا أن ننجده

 

.
ولكن المحبة والتوضع خدنان. وذاك هو الدرس الذي قذف به أولئك الذين ادّعوا على
المرأة الزانية. وكيف نستطيع أن نقسو على الآخرين، عندما نسبر أغوار الهوان الذيَ
نعيش فيه، ونستعرض الأسباب الوجيهة التي تقضي علينا بالعقاب. فمعرفة ما نحن عليه
من ضعف، والتنكّب عن الصور الزائفة التي نخدع الناس بها، ربما كان ذلك هو أرسخ
المبادئ الخلقية. فالمسيح ما انفك يأخذ على الفريسيين رئاءهم: أولثك الفريسيين
” المزيفّين ” – كما كان يقول الشعب – ” الذين يوهمون الناس أنهم
صدّيقون.. ولكن الرفيع عند الناس، رجس عند الله ” (لوقا 16: 15). ألا تبصّروا
في ذاك الفرّيسيّ الذي انتصب في الهيكل، وراح يصلي في نفسه هكذا: ” اللهم إني
أشكر لك أني لست كسائر الناس الخطئة الظلمة الفاسقين، ولا مثل هذا العشّار، الذي
لمحته في إحدى زوايا الهيكل. فإني أصوم مرتبن في الأسبوع، وأؤدي العشر عن جميع ما
أقتني.. “؛ ما أشد افتخاره بحسن سلوكه، بل بالتزيدّ على الشريعة؟ وكانت تفرض
الصوم يوماً واحداَ في السنة، والعشر على المحصولات الزراعية فقط! ” وأمّا
العشار، فأقام بعيداً، ولم يجرؤ أن يرفع ناظريه إلى السماء، بل كان يقرع صدره
قائلاً: ” اللهم! اغفر لي أنا الخاطئ! “.. أنيس العشّار أقرب من الفرّيسي
إلى قلب الله؟ أجل! ” لأن كل من يرفع نفسه يوضع، ومن وضع نفسه يرفع! “.
(لوقا 18: 9-14)

 

. لا
بدّ إذن من التخلي عن الذات بالتواضع، وبذل النفس للآخرين بالمحبة. وإنما هناك –
إلى جانب التواضع والمحبة- ثالثة الأثاقي الني يرتكز عليها التعليم الإنجيلي: ألا
وهي التجرد عن حطام الدنيا. كان المسيح قد قال في ” خطبة الجبل “:
” لا يستطيع أحد أن يعبد ربيّن! الله والمال “. وهو يعود إلى هذا
التعليم، في اليهودية، مراراً. ففي توجيهاته إلى الاثنين والسبعين، يوعز إليهم
بالتجرد التام؛ ويعلق بقول رهيب، -. بمحضر تلاميذه – على حادثة ذاك الشاب الغني
الذي حالت ثروته الضخمة بينه وبين طريق الخلاص: ” إنه أيسر على الجمل أن يدخل
في ثقب الإبرة، من أن يدخل غنيّ ملكوت الله! “. ويكرر نفس الدرس أيضاَ في بعض
أمثال كانت تترك في نفوس مستمعيه آثراً عميقاً. من ذلك مثَل الغني الذي كان يلبس
الأرجوان والخز ويتنعم كل يوم بأفخر الماكل، وفي يوم الدينونة – إذ كانت هوّة
الجحيم تتحفزّ لابتلاعه – رفع طرفه إلى السماء، فشاهد في أحضان إبراهيم فقيرأ كان
يشاهده – وهو بعد على الأرض – مطروحأ عند بابه، مضروباً بالقروح، وهو لا يلتفت
إليه (لوقا 16: 19 – 30). ومنها أيضاً ذاك المثل الآخر، المحفوف بالسرّ، والذي لا
يزال المفسّرون يجادلون في أوجهُ تأويله الحرفي: وهو مثلُ القيّم الخائن الذي هبّ
يصطنع له أصدقاء، متكرّمأ عليهم بأموال سيده!.. ومفادُه أنّ من واجب ” ابناء
النور ” – أي أتباع المسيح – أن يتصدقوا بثروة الدنيا الفانية، وكنوزها
” الأثيمة ” في سبيل الآخرة، وخيراتها المقيُمة

 

فالمحبة
والتواضع والتجرد، تلك هي خلاصة التعليم الإنجيلي. وفيما سوى ذلك فما على المؤمن
إلاّ الاعتصام بحبل الله. وكما كان المسيح قد استشهد، في الجليل، بالطيور
والأزهار، نسمعه، في اليهودية، يضمن لأتباعه عناية الله بهم: ” أليس خمسة
عصافر تبُاع بفلسين؟ ومع هذا فلا ينسى واحد منها أمام الله! فلا تخافوا، فأنتم
أفضل من عصافيركثيرة (لوقا 12: 6-7).

 

فلا
يسوغ القول إذن بأن التعليم الذي أذاعه المسيح في الجليل، قد خضع، في اليهودية،
لسنُةّ التطوّر أو النشوء أو التحوّل خصوصاً. وكل ما هنالك أن المسيح قد ألجئ
أحيانأ، إلى الإفصاح عن فكرته، وتطبيق مبادئه على بعض الأحوال المعينّة. وقد اتفق
له ذلك، مثلاً، يوم استوضحه الفريسيوّن رأيه في قضية الزواج والطلاق: ” هل
يحلّ للرجل أن يسُرّح امرأته لكل علّة؟ “. لقد جهلوا، ولا شك، أن المسيح، كان
قد تسلّف الجواب على معضلتهم، في ” خطبة الجبل “!.. أمّا نص الشريعة
الموسويةّ، فقد جاء فيه: ” إذا اتخذ رجل امرأة وصار لها بعلاً، ثم لم تحظَ
عنده، لعيب أنكره عليها، فليكتب لها كتاب طلاق، ويدفعه إلى يدها، ويصرفها من بيته
” (تثنية 24: 1). فالمرأة المصروفة على هذا النحو كان لها – مبدثياً- حق
التزوج ثانية. ولكنها، في معظم الأحوال، كانت ترجع إلى بيت أهلها. بيد ان المذاهب
الربينيةّ كانت على خلاف عظيم في شان الدواعي القاضية بالطلاق.. فالمتشدّ دون –
وعلى رأسهم رابي شمعي – كانوا يطالبون بأسباب خطيرة جداً، وفي مقدمتها الخيانة
الزوجية. وأما المتساهلون –وعليهم رابي هليّل – فكانوا يرخّصون للزوج في أن
يقَدُْر بنفسه خطورة تلك الأسباب. وكانوا يحسبون من دواعى الطلاق الكافية أن تبرز
المرأة بلا حجاب، أو أن يخرج في وجهها ثؤُْتُل، (وإن بغير شعر)، أو أن تشيط بسببها
القدر أو ينطب المرقُ!.. وذهب رابي عقيبة، في عهد لاحق، إلى أن الشريعة ترخص لزوج
في صرف امرأته كل مرة يجد أنها لم تعد تروقه اْو أنه عثر على أصلح منها! ففي عهد
المسيح لم يكد يكون في مِلةّ إسرائيل من يحرّم الطلاق إلا الأسينيين. (وكانوا هم
أنفسم ينصرفون عن الزواج). وقد جاء قي أحد نصوصهم: لا يزني كل من يتزوّج امرأتين
كلتاهما في قيد الحياة؛ ” ذكراَ وأنثى كوّنهما “: ذاك هو مبدأ الخلق!

 

.
جاؤوا إذن يستدرجون يسوع إلى أن يتخذ موقفاً من ذاك الجدال القائم، وأن يضع نفسه،
من ثمّ، في تناقض إماّ مع الشريعة، وإما مع التقاليد المرعية. ولم يتهرّب يسوع من
الجواب، بل انتهزها فرصة مواتية للتوسع في تعليمه حول قضية خطيرة.فأجاب، في سمو
رائع، أن القضية ليست بقضية تشريعية محضة: فالله الذي أبدع الرجل والمرأة، إنما
أرادهما جسداً واحداً: ” فما جمعه الله، فلا يفرّقه إنسان! “. قالوا: ”
وماذا عن الوصيةّ الموسوية؟”؛ فأجابهم: ” إنه لقساوة قلوبكم أذن لكم
موسى أن تطلقوا نساءكم “. فلا بدّ إذن أن يرتقي الدين الجديد بشريعة الزواج،
كما ارتقى بقانون ” العين بالعين والسن والسن “. ” فمن صرف امرأته،
وتزوجّ أخرى فقد زنى “. وإذ أفضى إليه الثلاميذ، على حدة، بأن هذا القرار
يبدو لهم على جانب فريد من الوعورة، أجابهم: ” إن من الناس من يصونون أنفسهم
من أجل ملكوت السماوات. فمن استطاع أن يفهم فليفهم ” (متى 19: 3-12؛ مرقس 10:
2-12؛ لوقا 16: 18).. وحسبنا أن نعيد تلاوة تلك الآية من ” موعظة الجبل
“، حيث صرح المسيح ” أن نظرة واحدة يشتهي بها الإنسان إمرأة غيره، يصبح
بها زانياَ “، حتى نتحقق أنه إنما أرجع معضلة العلاقات الجنسية إلى صعيدها
الحقيقي: صعيد الطهارة القلبية (متى5: 27-28) (1)

 

. ليس
إذن في تعاليم الحقبة ” اليهودية “، قضية إلاّ ونجد لها معالم في
مؤدّيات الحقبة السابقة. ومع ذلك فإن الإحساس الذي نوجسه، عند مطالعة النصوص التي
يروي فيها لوقا ويوحنا أحداث هذه الفترة، هو غير الإحساس الذي تبعثه الفصول
السابقة. ولعلّ ذلك ممّا يمتّ، بوجه مبهم، إلى ذلك المناخ العام، وتلك النية
المقدّرة في جميع أحدأث هذه الفترة. فنحن نشعر أنها قد حُمّت ساعة القدر، وأنها
أخذت تشتد، في السرّ، وطأة الترقب، فى انتظار خاتمة باتت تتأهب في كل لحظة.
فالمسيح الذي كان قد اعتصم، حتى ذاك، بشيًء من التحفظ في إعلان سرّه الأعظم،
مفضياً به جزئياً أمام نخبة من أتباعه، نراه، في الحقبة اليهودية، يسُقِطُ الستُرُ
الواحد تلو الاخر، ويُعدّ المؤمنين لرؤية الأضواء الأخيرة

 

. كان
المسيح قد صرّح بهوّيته أمام الجماهير التي التفت من حوله، في غضون عيد المظالّ.
ولقد ساء – ولا ريب – ذلك في عيون بعض المستمعين! ” ألعلّه المسيح، هذا
الناصريّ ابن النجّار؟!.. “؛ فأجابهم، بذاك التهكم الناعم الذي كان يعتمده
مراراً: ” أجل، أنتم تعرفونني، وتعلمون من أين أنا. مع أن الذي أرسلني لا
تعرفونه أنتم، أما أنا فأعرفه، لأني من لدنه، وهو الذي أرسلني ” (يوحنا 8: 28
– 29). فبدا لهم ذاك الجواب لوناً من التجديف.. بعد فترة، قال لهم أيضأ: ”
أنا نور العالم! من تبعني فلا يمشي في الظلام، بل يكون له نور الحياة ”
(يوحنا 8: 12)

 

. ولم
يكن معنى هذه العبارة ليخفى على أحد. ” فالنور ” هو من التعابير التي
كان يرمز بها الكتاب إلى المسيح. فقد جاء في أشعيا! ” قومي اسثنيري، يا
أورشليم، فإن نورك قد وافى، ومجد الرب قد أشرق عليك ” (أشعيا 60: 1). وكان
ذاك الملهم العظيم قد أورد، بصورة أجلى، كلام اللّه إلى عبده: ” إني قد جعلتك
نوراً للأمم ” (أشعيا 49: 6). وقد استعاد سمعان الشيخ نفس العبارة، في لحظة
من مثل ذاك الإلهام النبوي، يوم حمل الطفل بين نراعيه

 

. وسوف
ينتهز المسيح مناسبات كثيرة، فيما بعد، للكشف عن هويته. فعندما رجع الاثنان
والسبعون، وقد أخذتهم النشوة بما أكرمهم به المعلّم من قدرة مذهلة، ” تهلل
يسوع في الروح القدس “؛ – الروح القدس! وكأن الأقانيم الئلاثة قد اشتركت في
ذاك الوحي! – وقال: ” لقد دفع إليّ كل شئ! فليس أحد يعلمَ من الابن إلاّ
الآب، ولا من الآب إلاّ الابن، ومن يريد الابن أن يكشف له ذلك ” (لوقا 10:
21-22). تصريح خطير، أساسي! ولا بدع فهو يعَزل عن معرفة الله المباشرة كل الكائنات
المخلوقة، ويعلن بين يسوع والله وحدة تامّة في الجوهر، وتبادلَ معرفة لا يشاركهما،
فيها أحد. فالمسيح، بهذه العبارات الوجيزة، لم يسقط الحجب فقط عن واقع ماسويته، بل
عن سرّ لاهوته أيضاً

 

! كان
المسيح قد أبى، في الجليل، أن يصنع للشعب آية اشترطوها عليه، ولم يكن لهم فيها من
عائدة سوى إرضاء الفضول. (مرقس 8: 11- 13؛ متى 16: 1 – 4). وأما في اليهودية فقد
راح يجهر في الناس أن الآية الراهنة إنما هي ذاته، ووجوده في الأزض؛ وأنّ هي إلا
لاحقة من لواحق ذاك الحدث المذهل السامي، وهو أن الله قد أوفد ابنه إلى الأرض
مسيحاً وفادياً. ومن ثمّ فلا بدّ لهذا الجيل الذي أُكرم برؤية ابن الله عائشاً،
فيما بينهم، عيشة الناس، من أن يخضع في يوم الدين، لقضاء خاصّ. كيف لا، وقد تنكّر
لآية المسيح.. وإذا به يسثعيد، ههنا، صورة كان قد عرضها على أهل الجليل: فكما خرج
يونان من جوف الحوت، بعد ثلاثة أيام، لا بدّ للمسيح أيضاً أن يفلت يوماً من قبضة
وحش اخر، ومن ابتلاغ آخر (لوقأ 11: 29-31؛ متى 12: 38-42). ولكنّ هذه الاية أيضا
سوف يتنكرّ لما أهل هذا الجيل

 

.
إننا نلمس في يسوع – طوال مقامه في اليهودية- شبه لجاجة قدسيةّ. فذاك اليقين بأنه
مخلص العالم، إلامَ تمادي الناس في إبائه؟ وشعلة الحب التي رفع في العللم سراجها،
أما آن لها أن تضطرم؟.. ” لقد جثت لألقي على الأرض ناراً، وكم أودّ لو تكون
قد اضطرمت! ” (لوقا 12: 49). وقد جاء في حديث مأثور: ” من كان في قربي
فهو في قرب النار، ومن نأى عني فقد نأي عن الملكوت “. ويجب ألا يغيب عن ذهننا
أن تلك التصريحات، وتلك النداءات الممعنة في الإلحاح، كان يسوع يطلقها وسط أمة
شانئة في سوادها، تترصد كل كلمة من كلماته، فتستغلها في سبيل سعايات رًهيبة. وليس
من مشهد – قبل أن تحلّ الكارثة الأخيرة- أشدّ وقعأ في النفس، من ذاك الذي نرى فيه
المسيح، في عيد التطهير، يجابه خصومه، ويدافع، معآ، عن جوهر تعليمه؛ وذلك برباطة
جأش وإقدامٍ يدعوان كلاهما إلى العجب. وقد ثار ثائر الشعب، والتمس حجارة ليرجم ذاك
الذي ادّعى الألوهية. فقال لهم: ” أو ليس مكتوباً في ناموسكم: ” أنا قلت
إنكم الهة؟ “. أجل، إن كل إنسان يحمل، في ذاته، صورة العلي، على حدّ ما يمكن
أن يؤُخذ من المزمور 81، بل حتى من الفصول الأولى من سفر التكوين (1: 26). ولكن هل
كان قصد المسيح أن ينوّه فقط بما يتفرّد به الإنسان، دون مخلوقات الأرض، من شرف
منُيف؟ كلا! بل توخى أبعد من ذلك. فإن كان الناموس يدعوكم آلهة، فذاك ” الذي
قدّسه الآب، وأرسله إلى العالم “، لا يجدّف إذا قال عن نفسه إنه ابن الله..
ولكنّ يسوع، بذلك، قذف. القلق والحيرة في نفوس مستمعيه، وزعزع تصلبّهم!.. كلاّ!
ليس هو بذاك المسيح الذي يتوهمون: ويجب ألاّ يحسبه هؤلاء المتهوّسون واحدأ من
المشاغبين السياسيين!.. أجل، إنه يدري أن الموت يترقبه. وإنما لا بدّ أن يكون
لتضحيته معناها الصميم وأن يشهد بها للحقيقة السماوية. ومن ثمّ فقد راح يوالي
التصريح بأن الاب فيه وأنه هو في الآب. وأنه ابن الله! ” إن كنتم لا تريدون
أن تصدقوني فصدقوا هذه الأعمال ” (يوحنا 10: 31-38). ولكن ألم يكن قد جاهر
بذلك من قبل؟.. بيد أنّ من الناس من لهم آذان لكي لا يسمعوا، وعيون لكي لا
يبصروا!..

 

.
فالذي تجلىّ إذن من تصرّفات المسيح، وازداد وضوحاً مع توالي الأيام، إنما هو – مع
تلك الرغبة المضطرمة في فداء العالم – وقوفه المحزون على تصلب الناس!.. ومذ ذاك
أخذ يضغط على تلك الأمّة، ويتّضح يوماً بعد يوم، وعيدٌ بما يجرّه مثلُ ذاك العناد
من عقاب وقضاء هاثل. ونرى ذلك الانذار، في الانجيل، يتكرّرفصلاْ بعد فصل. حذار!..
سوف يرجع السيدّ بعد رحلة طويلة!.. ” فطوبى لأولئك العبيد الذين، إذا ما وافى
سيدهم، وجدهم ساهرين! ” (لوقا 12: 37). ” كونوا مستعدّين لأنكم لا تعلمون
في أية ساعة يأتي ابن البشر ” (لوقا 12: 40). ألا تنبهّوا! واعرفوا علامات
الأزمنة! إنكم تتأوّلون وجوه الأرض والسماء، وتتنبأون بالصحو والمطر، استناداً إلى
ألوان الشفق، واتجاه الرياح، أفما وعَيتْم أنّ ما أنتم فيه أخطرُ بكثير من تقلّبات
المطر والصحو؟!.. ” هذا الزمان كيف لا تفهمونه؟ ” (لوقا 12: 56). لقد
حان لكم أن تلتمسوا رضى الربّ كما يسعى الغريم إلى استرضاء خصمه، قبل أن يتنافذ
وإياه إلى القاضي (لوقا 12: 57 – 59). لقد بلغكم نبأ أولئك الجليلين الذين مزج
بيلاطس دماءهم بدم ذبائحهم؛ وخبر أولئك الذين سقط عليهم البرج بقرب سلوام وقتلهم؛
أفتظنون أنكم أقلّ إثماً من الذين نكبوا بمثل ذلك؟ (لوقا 13: 1 – 5). ها قد مضى
على التينه ثلاث سنوات ولم تعط أكلها. فقد آن الأوان لأن تجتثّ من أصلها! (لوقا
13: 6-9)

 

.
ولكن هل حصر المسيح كلامه في أهل زمانه؟ إن التصلب أبداً يعمل في قلوب البشر. وما من
إنسان إلاّ ويحمل في ذاته إنذاراَ بالقضاء الذي لا بدّ يومأ أن يفضع أخطاءه،
ويبتّ، آخر الأمر، في مصيره الأبدي. ” إن ملكوت الله فيما بينكم! “..
لا! لن ينال اليهود ما حلموا به من أمجاد ترابية (لوقا 17: 20- 21)؛ بيد أن كل
إنسان يعرف يقينا، هل استقرًّ الملكوت في قرارة قلبه، وهل حلّ سلام الله في داخله.
ولسوف يأتي يوم لن يكون فيه ابن البشر ذاك الوديع الحليم الذي جعل من محبته
الواسعة نداءً للعالم إلى الحب. ففي يوم الدين سوف يقوم سلطان الرعب الداهم. ولن
يكون فيه للناس ملاذ بالفرار، لأن مضارب سيف الله سوف تهوي عليهم بلا تمييز..
(لوقا 17: 22-37؛ متى 24: 24- 27؛ 37- 41). وقد عاد يسوع مرة أخرى- في غضون
الأسبوع الأول – وبأسلوب أشدّ مهابة، إلى الإنباء بملكه الأخير، ورجعته المجيدة من
السماء، على مناكب السحاب، وإحلال العقاب بالمنافقين.. وهكذا انكشف ذاك السرّ
الأخير، فبدأت تلوح من خلال ملامح ” الراعي الصالح “، تلك الصورة
الرهيبة التي رسمها ميكال آنج، على جدار السكستين: صورة ” ابن البشر “،
في يوم الدين

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى