علم المسيح

ابن الإنسان وابن الله



ابن الإنسان وابن الله

ابن الإنسان وابن
الله

آن
لنا، ولا شك أن نُقدم على رسم صورة منسّقة لذاك الذي ما تمّ لنا استكشاف شخصيته،
حتى الآن، إلا من خلال شهادة أعماله. والحقيقة أن ما هنالك من تجاوب كامل ما بين
تعليم يسوع وحياته وخُلُقه، يمهّد لنا التعرّف به من غير ما تعنّت في التحديد.
وإننا لنجد في أي صفحة من الإنجيل ما يكشف عن شخصيّته كشفاً وافياً. ذاك الوصف
الواقعي الذي يتعملّ في إصابته أمهرُ الروائيين، نلمسه في رواية الإنجيل، وقد
وُفّق إليه أولئك الكتبة الأميوّن، قي يسر خارق. فيسوع، في الإنجيل، حي بأكمل ما
تكون الحياة، نشعر بحضوره شعوراً راغماً في أصغر الأحداث التي نظهر فيها صورته.
وإذا رجعنا، بالفكر، إلىَ الطريقة التي اتّبعتْ في وضع الأناجيل، وما اسُتعمل،
لتصنيفها، من تقاليد مختلفة، بضعَ عشرات من السنين، بعد موت المسَيح، ازداد منّا
العجب لما بات لتلك الصورة من قوّة الأداء، وصمود الملامح، على ما هنالك من تعدّ د
في الروايات. فكان لا بدّ إذن أن يكون النموذج من بعُد الوقع في نفوس كتبة الإنجيل
–على شدة اختلافهم – بحيث جاءت الصورة على جانبٍ خارقٍ من البلاغة والتماسك.ومع
ذلك فإذا حاولنا أن نجمع، جنباً إلى جنب، المؤدياّت التي يمكننا الوقوع عليها قي
متن الإنجيل، وان نحشد جميع ما يمكننا الوقوف عليه من مشاعر يسوع وأخلاقه وطباعه،
كانت نتيجة ذاك المجهود خيبة ذريعة. إن فيَ سيرة العباقرة والقدّيسين شيئا يتحدّى
كل تصنيف وتحليل: وذاك الشيء إنْ هو إلاّ القداسة والعبقرية! وأما يسوع -وهو أكثر
من عبقريّ وقديس – فالسرّ الجوهري الذي تنطوي عليه شخصيته، إنما هو سرّ الألوهية.
وهكذا يتضح العجز الأساسي الذي تتردّ ى فيه الأوصاف ” البسيخولوجية “،
وتبطل معه الألفاظ. وإنها لتصِبحّ هنا، كلمة ” فرا أنجيلكو” (1) – بكل
ما تنطوي عليه من معان – حيث قال: ” من رام أن يصوّر المسيح، عليه أن يعيش مع
المسيح! “. ومفاد هذه العبارة التي نطق بها واحد من الفنانين العظام، أن من
يطمح إلى تصوير الكمال بالذات لا بدّ أن يشعر بعجزه، فتفلت الريشة من يده. وإنما
هناك عجز آخر: وهو أن الوسائل المعهودة عند أهل الفن والأدب، تمسي، في وصف المسيح،
فاشلة. فإذا بلغ الإنسان منه حدود التحليل، وجد نفسه أمام حُجبَ من السرّ، لا ينفع
فيها العقل واللسان، بل الصمت والعبادة.

 

.
” إله حقيقي، وإنسان حقيقي معاً “: عبارةُ تثب! ما تنطوي عليه تلك
المهمةّ من وعورة تفوق قوى الإنسان. فيسوع – من حيثْ هو إنسان كباقي الناس – يخضع
لأنماط البحث النفساني. ولكن ما إن نعمد إلى إثبات ملمح من ملامح وجهه الإنساني
حتى تداهمنا ضرورة التنبهّ للاتصالات السامية التي تربطه بالناحية الأخرى من
كيانه، تلك الناحية التي بها تتفسّر كل ميزّة من ميزّات إنسانية المسيح، والتي
تبقى فوق مستوى الإدراك. وحسبنا، تفاديا من المز الق، أن نعمد إلى لقب ” ابن
الإنسان”، فنجد فيه – من جهة – إشارة إلى رجل مثلنا، مولود من امرأة، مجبول
من طينتنا؛ وتعبيراً – من جهة أخرى- عن حقيقة سامية يخشع فيها سرّ ماسويّة الإله
الحي.. لقد حجب التلاميذ الثلاثة وجوههم، عند تجليّ المسيح، وقد صعقهم الذهول،
فهابوا أن يتوسّموا، في ذاك الكائن السني، وجه صديقهم وأليفهم.. فهكذا كل من يحاول
وصف المسيح يلقي نفسه – مع حفظ الفوارق – في شبه ذاك الوضع: يلتمس إنسانا، وإذا به
يصادف، خلال الإنسان، إلهاً متأنساً يخطف البصر سناه

مقالات ذات صلة

 

. فليس
لنا إذن أي حيلة في وصف المسيح وصفة كاملاً وافياً؛ فإن هناك ناحية جوهرية من
كيانه، تبقى لهّا فوق متناول الإدراك. ولسوف نحاول أن نثبت ملامحه الإنسانية،
ونجتزئ، بعد ذلك، بالوقوف على ما كان يجول في وجدانه الإنساني، من آرائه الشخصية
في ألوهيته. وإنها لمحاولة شبه يائسة أن نعمل على استكشاف العلاقات القائمة، في
ذاته، بين ألوهيّته وبشريته. وكل ما هنالك إشارات نادرة، وملاحظات مبهمة، ليس من
شأنها أن تقودنا بعيداً في ذاك المسلك المدلهمّ. ولو كان بإمكان البشر أن يوغلوا
فيه، لبطَلُ سرّ التجسّد، وتجلىّ لنا الثالوث

 

. وينضاف
إلى هذه العقبات التي يتعذّر التمكن من بعضها، معضلة أخرى: وهي أن الإنجيل ليس
كتابا تاريخياً بالمعنى العلمي، كما أنه ليس مصنّفا من مصنفات ” علم النفس
“. فإن متى ومرقس ولوقا ويوحنا ما كانوا ليتوخّوا ممّا كتبوه عن المسيح، وصفا
تصويريّا: بل كان غرضهم أن يرسوا ركائز الإيمان في نفوس مستمعيهم، ويدعموا الشهادة
التي راحوا ينادون بها. هذا، وما كانوا، لعمري، رجال منطق ولا أقطاب لاهوت.وكما
أنهم لم يُعنوا أيّ عنايةٍ بمقتضيات التوهيم والتصنيع الفنيّ، كذلك أهملوا تنسيق
العناصر التصويرية، ولم يكترثوا لجمع معالم تلك الشخصية، ولا لإلغاء متنا قضاتها
وعُقدها. والغريب أنهم، بذلك كله، قد أفرغوا فيها صفة الحياة. لقد توفقوا، بصورة
عفوية، إلى اكتشاف الأساليب التي يعمد إليها كل روائيّ صَناع! فالروائي، يستغلّ
الصمت كما يستغل الكلام؛ وفي وسط تحليلاته نراه يختم مناطق السرّ، تاركاً للقارئ
أن يلُمّ بما يخشع فيها من اختبارات حاسمة. أجل، لم يكن الإنجيليون من طبقة الكتبة
الماهرين؛ ومع ذلك فإنه يخيّل إلينا أنهم عمدوا إلى تلك ” الأسرار ”
المهنية، وعرفوا كيفُ تحترم مواضع الصمت. ولا شك أن الإسراف في الإيضاح والتنسيق
لا يؤدّي إلاّ إلى مسخ تلك الصورة الرائعة المحفوظة في الإنجيل، تمثالاً هزيلاً
كمثل تلك التماثيل التي تشوّه كثيراً من معابدنا. فلئن كان الإنسان العادي،
تتجاوَرُ في وجوده مناطق الحضور النيرّ ومجاهل السرّ، في تلاصق صميم، فكم ينبغي أن
يكون الأمر كذلك في حياة المسيح، حيث تشابُكُ الظلال والأضواء، إنما هو انعكاس سرّ
وجود الخالق والمخلوق في كائن واحد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى