علم المسيح

دعوة التلاميذ



دعوة التلاميذ

دعوة التلاميذ

.
ولما كان لهذا المشروع أن يتسّع لنطاقات جديدة، كان لا بدّ للمسيح من أن يتخذ له
أعواناً. ولذا فقد اختتم هذه المرحلة الأولى من حياته، وهي مرحلة قصيرة لم تتعدّ
الأسبوعين أو الثلاثة- بتوجيه الدعوة، نهائياً، إلى رفاقه. كان المسيح قد اكتسب
ودّهم، أولئك الذين صادفوه عند ضفاف الأردن. وأماّ اليوم فهو يريدهم لنفسه أتباعاً
يتتلمذون له عن رضى وقبول. ولسوف يأتي يوم (متى 10) ينتدبون فيه لشرف الرسالة،
فينالون من المسيح قدرة تفوق قوى الطبيعة، ويصبحون، من الكنيسة، نواتها الأولى

 

. لقد
أثبت البشير لوقا، في هذا الموضع من سياق الأحداث، دعوة المسيح لتلاميذه.ويبدو ذلك
على جانب من المنطق. فالمسيح، بتعاليمه، في المجامع، وبآياته الخارقة، كان قد بين
لأولئك الذين أزمعوا اتباعه، معنى الرسالة التي انتدبهم لها. فالله لا يأتي الناس
غرّةً، والكنيسة لا تطمئن إلى الدعوات المفاجئة الي تمليها العاطفة وحدها. ولكَن
إذا تمّ للنفس أن تتأهب بالتأمل، وتتحقق طريقها، وتروز قواها، دفعها الروح إذ ذاك،
دفعة حاسمة

 

. إن
الإنجيل إنما يثبت لنا قدرة ذاك الحفز الإلهي، عندما يأتي على وصف الدعوة التي
وجهّها المسيح إلى سمعان وأندراوس ويوحنا ويعقوب، بحزم فائق، وانقيادهم لذاك
النداء انقياداً فورياً، معُرِضين عن كل شيء في سبيل اتباعه. ثلاثة منهم كانوا قد
تعرفوا به حق المعرفة، من أيام بيت عبَرَا، والعودة من أورشليم. وأما يعقوب،
رابعهم، فربّما صادفه عهد مروره الأول بضفاف البحيرة ج ولا بدّ أن أخاه يوحنا كان
قد فاتحه بأمره. ومهما يكن من أمر، فالثابت أنْ ما من أحد كان قد وطن النفس على
هجر الدنيا وما فيها للالتحاق به، وخوض تلك المغامرة العلوية، حيث ” من يريد
أن يخلصّ نفسه لا بدّ من أن يهلكها”. ومصداق ذلك أنهم كانوا قد انصرفوا عن
جماعة المولعين الذين باتوا يلازمون المعلّم، واستعادوا مهنتهم الأولى، ناظرين إلى
مصالحهم الدنيوية الزهيدة؛ وراح بعضهم يصلحون شباكهم عند شاطئ البحيرة، يشدّونها
من وتد إلى وتد، كما هي العادة حتى اليوم؛ وأوغل البعض الآخر، ليلا، في عرض البحر،
طلبا للصيد. أجل، لقد كانوا أبعد من أن يبذلوا كل شيء في سبيل الله وحده. إذ ذاك
جاء يسوع يستلحقهم.. إن رواية هذه الأحداث، في إنجيلي مرِقس (1: 11 -. 2 ومتى 4:
18 -23) هي في غاية الاقتضاب: مرّ يسوع بشاطئ البحيرة، فدعا سمعان وأندراوس ويعقوب
ويوحنا، فتبعوه جميعهم. بيد أن هذا النص -على ما فيه من اختزال – يصف وصفا
أخّاذاً، استحواذ القدرة الإلهية على تلك النفوس المصطفاة، استحواذاً صاعقاً.
وأمّا البشير لوقا، فقد استند إلى معلومات أوسع، فروى خبر ذاك الانتداب في معرض
كلامه عن ” الصيد المعجز ” الشي حقّقه المسيح لصالح تلاميذه. أجل، هناك
منَ يناقش موضع هذه الحادثة من سياق السيرة؛ إلاّ أنها، إذا احتلت محلّها في هذه
القرائن، فهي تكتسب قيمة فريدة، إذ تصبح رمزاً من أجلى الرموز، يتجلى، من خلاله،
مصير الرسل ” صيّادي الناس”

 

.
أفمجرّد رمز إذن؟ كلاّ! فهي تشُعر بأنها من وحي الحياة، بتفاصيلها الدقيقة،
وأوصافها الملموسة. لقد كان سمعان وأندراوس وزبدي مع ابنيه يعقوب ويوحنا شركاء في
مهنة الصيد، كما هي اليوم حالة البحّارين على شواطئ طبرية، ومواقع أخرى من شطأن
العالم.. فإن ضرورة اقتناء شباك ثقيلة الوقر، باهظة الثمن، وزوارق ومعدات أخرى
كثيرة، تحمل رجال البحر على التكتل في السعي والتشارك في المكسب. ويرى اليوم، فيَ
الموضع الذي تمت فيه المعجزة، رجال يتصيدون بشباكهم المستديرة: يسندوها إلى ساعدهم
الأيسر، وبيمناهم ينشرونها، قاذفين في البحر، في حركة سريعة محكمة، حواشيها
المثقلة بالرصاص. ويشاهد أيضاً، عند المساء، زوارقُ صغيرة، تبتعد ببطء عن الشاطئ،
وتنصب، في عرض البحر، شِراكاً عموديةّ، مثقلّة بالرصاص، في حواشيها السفلى،
ومجهزّة بعوّامات صغيرة في حواشيها العليا. فإذا ما انتصبت هكذا في اللجة، أخذت في
حبائلها ما يصطدم بها ليلاً من رفوف الأسماك. وكانت البحيرة، في ذلك العهد، كما هي
اليوم، مسْمكة جدّ اً. وكانت مواقع الصيد، على شطآنها، كثيرة، (على حدّ ما ذكرًه،
إفلافيوس يوسيفوس): منها كفرناحوم، وبيت صيدا، وعمّاوس، ومجدلا.. وفي الخليج
الواقع بين عين طابغة ومجدلا، تلتقي المياه الباردة، (وهي تنحدر إلى الأردن، عند
ذوبان الثلوج فوق منحدرات حرمون) والمياه الحارّة (وهي تنبع في كفرناحوم وترفد
البحيرة من مصابهّا السبعة)؛ وعند ملتقى المائين (البارد والحارّ)، تكثر السبخة
(هي ما يطفو على سطح الماء من أجسام حية، صغيرة وكثيرة جداً، ترعاها الأسماك)
ويغزر السمك

 

!..
كان ذلك، ولا ريب، في الصباح الباكر؛ فالقيظ، في أخريات أيار، يحول دون العمل
نهاراً. ولم يكن الضباب الأبيض قد بدأ يعوم فوق مياه البحيرة؛ فكان لها غبرة
لؤلؤية، ترتعش فوق صفحتها، بلمعان الفضة، أخاديد الزوارق الماخرة. وقد ازدهت، جبال
جلعاد، بزرقتها الكوبالتية، تتشّح، بين الفينة والفينة، وقبل أن تهمّ الشمس
بالبروز، بأوشحة قاتمة.. لقد ساد السكون، وراح البجع الأبيض والوردي يطفو ناعساً
فوق البحيرة، بينما ابتدأت غربان الماء حراستها الطويلة، تنتصب لها، صابرة، فوق
حصباء الشواطئ. وعاد الرجاَل، وفي أجسامهم إعياء، وفي قلوبهم أسى: فلقد قضوا الليل
كله في الصيد. وإذ عجزوا عن مراقبة مسالك الرفوف، بسبب إنحجاب القمر، عمدوا إلى
أخشاب ينفرّون السمك بقعقعتها، لعلها تؤخذ بحبائلهم.. ولكنهم باؤوا بالخيبة

 

.
وعاد سمعان من الصيد، مع فرقته، في أحد تلك الزوارق الرحبة التي كانت تتسع لثلاثة
عشر شخصاً (لوقا 8: 22- 25؛ متى 8: 23- 27؛ مرقس 4: 35-41)، فأبصر يسوع على الشاطئ
وقد طوّقه الجمع يلحّ ملتمسا كلاماً وآيات. وإذا بالمعلّم يفُلت منهم، ويثب إلى
السفينة، ويواصل منها كلامه إلى الجماهير الواقفة عند الضفّة

 

.
ألعلّ المسيح آنس من صديقه تجهّماً، وقد هدّ عزيمته جهادٌ عقيم طوال الليل؟ إن النفس
المجهودة تجد إلى الله تقرّباً، والكلمة الحلوة تعيد إلى الجسد المكدود قوّةً
وتأسية. قال له يسوع: ” ابعد إلى العمق، وألقوا شباككم للصيد “. ولكنّ
زعيم الصيّادين كان متيقناً أنها محاولة لا بدّ فاشلة. فأجاب: ” يا معلّم، قد
تعبنا الليل كلّه ولم نأخذ شيئاً! “. إلاّ أن ثقثه بذاك الذي تقدّم إليه
بالمضي في العمل، كانت من الرسوخ، بحيث استدرك قائلاً: ” ولكن على كلمتك ألقي
الشبكة! “. وطرح الشبكة في الماء فأخذ فيها من السمك ما أوشكت أن تتخرّق به
الحبائل. فأمسى لا بدّ من الاستنجاد بالزورق الآخر، والتكاتف في العمل، فملأوا
السفينتين حتى كادتا تغرقان!.. هكذا انطلقت تباشر معجزة أخرى، معجزة الملايين من
أبناه.الإنسان يؤخذون عبر الأجيال في شباك الرسل ” صيّادي النفوس “،
ويحملون، في سفينة المسيح، شطر الموانئ الأبدية

 

..
ويلفت النظر في هذه الحادثة، بروز شخصية بطرس. فهو رُباّن السفينة. إليه تتوجّه
أوامر المسيح، وعليه تنفيذها،. فهو في تلك المعجزة التي حرّجت عليه اتخاذ قرار
بالرفض أو بالقبول يضطرب ويتلعثم: ” أخرج من سفينتي يا رب، لأني رجل خاطئ!
“. ولم يكن زملاؤه بأمثل منه حالة؛ فنحن نوجس فيهم صراع المقُدمين على قرارات
حاسمة، والتزامات مصيرية. أجل، إنهم يدركون، بوجه الإجمال، ما يتوقّعه منهم
المعلّم؛ فلقد توفّر لهم مجال التفكر في ما عاينوا وسمعوا، ولم يقرّروا اتباع
المسيح، عن تهوّس أعمى، كما زعم بعض الوثنيين – فيما بعد- من أمثال برفريس
الفيلسوف، ويوليانس الإمبراطور الجاحد؟ ومع ذلك كله فقد كانت المخاطرة صعبة
والرهان ثقيلاً

 

.
وقال يسوع لسمعان: ” لا تخف، من الآن تكون، تصطاّد الناس! “. ولمّا جاؤا
بالسفينتين إلى البرّ، تركوا كل شئ، وتبعوه! وهكذا استطاع المسيح، بقدرته – هذه
المرّة أيضاً- أن يحقق ما لم يكن في طاقة الطبيعة أن تسلّم به. والذي يدعو إلى
العجب، أكثر من اختباط السمك داخل الزورقين، إنما هو ذاك الانقلاب المفاجئ الذي
تمّ في نفوس أولئك الأوفياء، فراحوا، من ثم، يحملون في الدنيا أعباء مهمة خارقة،
سوف يكونون لها أكفاء! أولئك الرجال الخاملون من أهل البحيرة، أولئك المساكين
الذين حُرموا كلّ علم وثقافة، على عواتقهم سوف تنهض الكنيسة الناشئة!.. ما كانوا
سوى بشر كغيرهم من أبناء الناس، إلى أن كانت إليهم نظرة وكلمة: وإذا بهم طلائع
المبشرين

 

10
سيبل:
Cybele وهي إلهة الأرض،
أو الإلهة الأم (وأحياناً أم الآلهة)، عرفت بهذا الاسم عند اليونان وآسيا الصغرى،
حتى القرن الخامس قبل الميلاد، وعرفت بأسماء أخرى كثيرة منها: عناة، عشتار،
إيزيس.. إلخ (معجم ديانات وأساطير العالم – إعداد د.إمام عبد الفتاح – مكتبة مد
بولي)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى